الإسلام السياسي بالمغرب وأفول النموذج (دفاعا عن الديمقراطية) الجزء الأول


فئة :  مقالات

الإسلام السياسي بالمغرب وأفول النموذج (دفاعا عن الديمقراطية) الجزء الأول

الإسلام السياسي بالمغرب وأفول النموذج

(دفاعا عن الديمقراطية)

الجزء الأول

ملخص:

تعمل هذه الورقة البحثية على تفكيك خطابات الإسلام السياسي من أجل دحض تصوراته التي تقوم على استلهام نموذج الماضي من أجل إعطاء المشروعية لنفسه، وبالتالي، فإن خطابات كهذه إنما هي خطابات ذات وظيفة استقطابية تعمل من خلالها جماعات الإسلام السياسي على دغدغة عواطف الناس. والحال أن جماعات الإسلام السياسي لا تمتلك مشروعاً سياسيا أو اقتصاديا. لذلك تجد خطاباتها ذات حمولة عاطفية، أقل ما يقال عنها، إنها خطابات شعبوية تتغذى من الاعتقاد بوجود مؤامرات والادعاء أن هناك حربا كونية يتحالف فيها اليساريون مع الرأسماليين من أجل الحيلولة دون وصولهم للسلطة.

لا تحيد خطابات الإسلام السياسي بالمغرب عن هذه القاعدة، حيث تتمحور كلها حول الاعتقاد بوجود مؤامرات وترجع للتاريخ، بهدف البحث عن "النموذج" لتغترب بذلك عن إشكالات الواقع في نوع من "النوستالجيا" العاطفية كما لا تتردد في شن هجوم على الديمقراطية ومفاهيمها مثل الحرية والعلمانية. وفصل السلط.

إن الجماعات الإسلامية في المغرب، إما أن تحتفظ بنفس المفاهيم، وبالتالي، تبقى خارج دواليب السلطة وإما أن تراجع مفاهيمها وتقبل، بالتالي، بالدخول في تحالفات مع قوى أخرى، وتتصالح مع السلطات العليا وهذا سيكون - بالطبع- على حساب مرجعيتها. الأمر الذي يعني أن هذه الجماعات ستنتهي حتما إلى القطع مع "النموذج" الذي تحاول استلهامه وهذا ما اصطلحنا عليه "الأفول".

على سبيل التوطئة:

عادة ما يتم استعمال مصطلح "الحركات الإسلامية" للإشارة إلى الحركات التي تولدت فترة السبعينيات من القرن الماضي. لقد لعبت الشبيبة الإسلامية دورا حاسما فيما بات يعرف الآن بحركة التوحيد والإصلاح، وهي الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية، والتي دخلت في دواليب السلطة بمجرد ما أن أدركت استحالة تغيير المشهد السياسي عن طريق الثورة العنيفة، والعدل والإحسان وهي جماعة دينية سياسية تراهن على تقديم الدولة تنازلات من أجل مشاركتها في الشأن السياسي، ومن بين أهم هذه التنازلات إعادة تقسيم وتنظيم السلطة في المغرب، بالشكل الذي يعطيها صلاحيات واسعة في تدبير الشأن العام.

يقوم فكر "حركة العدل والإحسان" على الاستفادة من مكاسب الديمقراطية، من أجل الوصول لدواليب السلطة، ومن ثمة الانقلاب عليها، نظرا لأن الإيديولوجيا التي تتبناها هذه الحركات لا تسمح بوجود معارضة، فهي نوع من "التفكير الخلاصي" الذي يرى في نفسه النموذج الذي يقدم تصورا شاملا لمختلف مجالات الحياة. فهل يمكن اعتبار ذلك مبررا لرفض الديمقراطية من قبل هذه الجماعة؟ وما هي السمات المميزة لخطاب هذا النوع من الجماعات؟ وهل لا يزال القول بنظام الخلافة ممكنا في ظل التحولات التي عرفها العالم على المستويات السياسية والاقتصادية والحقوقية؟ أليس الدفاع عن "أخونة" الدولة يجعل المجتمع خارج إطار التقدم، وربما يجعل المجتمع يسير في اتجاه معاكس تماما لمسار الإنسانية؟

1: العدل والإحسان بين نقد الديمقراطية والحنين لنموذج الخلافة:

إذا كانت التوحيد والإصلاح قد قبلت بالفعل بمقولة "التغيير عبر المشاركة"، فإن جماعة العدل والإحسان لا زالت تتحفظ ليومنا هذا من هذه المشاركة، وإذا كانت الجماعة الأولى قد تصالحت مع مفاهيم الديمقراطية بسبب الأدوار التي فرضها عليها الواقع السياسي، فإن الجماعة الثانية لا تزال لحدود هذا اليوم رافضة للديمقراطية من منطلق أنه صناعة غربية "غريبة" عن الأمة "الإسلامية"، بل وتنظر إلى الديمقراطية على أنها مظهر من مظاهر الانحلال، وخطرا ينذر بتفكك وأفول القيم الحضارية. لذلك، نجدها تستعمل مفهوم الشورى، باعتباره مفهوما نشأ من الحاضنة الإسلامية، رغم أن هذا التصور يتأسس على خلط ومغالطات خطيرة سنعمل على تفنيدها تارة انطلاقا من واقع الحركة نفسه، وتارة أخرى انطلاقا من التاريخ الإسلامي الذي يثبت بما لا يدع مجالا للشك بطلان ادعائهم.

بداية يجب أن نعلم أن جماعة العدل والإحسان لا تنظر للديمقراطية على أنها غاية للممارسة السياسية، بل ترى فيها مجرد وسيلة للوصول إلى السلطة، وذلك لأنه إذا كانت الديمقراطية يمكن أن توصلها للتحكم في دواليب السلطة (خاصة مع الوسائل الشعبوية التي تعتمدها هذه الحركات)، فإن الديمقراطية هي الكفيلة بخلق معارضة سياسية حقيقية لها، وهو ما لا تقبله هذه الحركات.

تحاول هذه الحركات تبرير "الانقلاب" على الديمقراطية من منطلق "ديني" فهي لا تقول صراحة بأن الديمقراطية تشكل خطرا على وجودها في السلطة، خاصة وأن مثل هذه الجماعات لا تحمل مشروعا سياسيا واقتصاديا قادرا على إرضاء الشعب، بل تدعي بأن مفهوم الديمقراطية هو مفهوم غريب عن الثقافة الإسلامية. لذلك نجد مرشد الجامعة السيد عبد السلام ياسين يشن هجوما على دعاة الديمقراطية من خلال كتابه "حوار مع الفضلاء الديوقراطيين" قائلا: "لعل ما نبدأ به الحوار مع المغربين اللايكيين الديمقراطيين أن نلتمس منهم الاعتراف بحقنا أن تكون لنا عقيدة راسخة"[1]

نلاحظ كيف يصف السيد عبد السلام ياسين أنصار الديمقراطية بالاغتراب، وهذا الموقف نابع من تصور الجماعة للديمقراطية نفسها، فالديمقراطية واللائكية لا ينفصلان، وهما معا حسب تصورهم يعبران عن أهواء النفس التي تنزع نزوعا نحو التحرر من كل ما هو ديني وأخلاقي.

لا يكتفى مرشد الجماعة عند هذا الحد، بل يبلغ هجومه مبلغا يجعله يصف أنصار الديمقراطية بالردة قائلا "... بل متى وكيف تنزل رحمة الله على البعاد. فيرجعوا عن ردتهم وتلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وما نزل من الحق بالوحي والرسالة والشريعة، والبشارة بالفوز في الدار الآخرة للمؤمنين وبالنذارة بسوء العاقبة وبالنار لمن أبى واستكبر وكان من الكافرين".[2]

نلاحظ أن مؤلف الكتاب لا يسوق حججا واستدلالات نظرية تفند "مزاعم" الديمقراطيين اللائكيين، بقدر ما يوجه كيلا من الاتهامات مثل الخيانة والردة والعمالة للغرب والرأسمالية. إن الأخلاق والقيم الفاضلة وفق هذا الفهم تغدو خاصية لصيقة بالإنسان المسلم والمؤمن.

يعتقد أحد الباحثين المتخصصين في الحركات الدينية أن هذا الادعاء ليس ثمة ما يؤكده في الواقع؛ وذلك لأن الاعتقاد بوجود قيم أخلاقية هو اعتقاد كوني قد يتشارك فيها المؤمن والملحد على حد سواء معطيا المثال بفرنسا، ففي فرنسا مثلا "لا يقوم التعارض بين المؤمنين والملحدين على قضية القيم بالضرورة؛ لأنهم يتقاسمون ضبط تناسق الحركة نفسه، لا يزعم غير المؤمن امتلاك قيم أخرى، بل يدعي على العكس أنه "أخلاقي" بمقدار رجل الدين إن لم يكن أكثر منه، هو المحاط بشبه النفاق".[3]

في المجتمعات الديمقراطية، ليس ثمة اختلاف بين المتدين وغير المتدين حول أهمية الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل إنك لتجدهما معا يناضلان ضد عقوبة الإعدام؛ لأنهما معا مقتنعان بفكرة الكرامة البشرية، سواء أكان مصدر هذه الكرامة العقل البشري أو الله الذي خلق آدم على صورته. فالكرامة البشرية واحدة، وإن اختلفت سبل الدفاع عنها، كما نجدهما معا يقفان بجانب الحرية، إذ ما أن توجب سلطة تكره الناس على الاعتقاد عن طريق العقاب، حتى يتحول هؤلاء إلى منافقين يركزون على المظاهر أكثر مما يستدعيه الاعتقاد الصادق.

ترى الحركة أنه إذا كانت الديمقراطية تسعى لما فيه خير الدولة، فإن هذا المفهوم لا يختلف في جوهره عن الشورى، إذ يرى بأن الديمقراطية ليست سوى المبدأ الذي يجعل من ولاية ما مشروعة، وبالتالي يذهب للقول إنهم يسمونها "شورى ونسميه دينا قيما، ونسمي حركتنا اقتحاما وقومة، لا نخلط في اللفظ؛ لأنه لا خلط عندنا بحمد الله في الحقائق".[4]

إذا كانت الديمقراطية إذن حسب هذا التصور هي التي تؤسس لشرعية الحكم، فإن المسلمين مارسوها، ولاسيما في دولة الخلافة. ولا يقف المؤلف عند هذا الحد، بل يحاول تفكيك الطبيعة الذهنية والنفسية لأنصار الديمقراطية، فهم حسبه لا يعرفون لله وجودا، ولا لأنفسهم معنى، فهم من وجهة نظره مطمئنون "إلى ما لقنته الثقافة المؤرخة الشبكية الشمولية الوجودية العبثية من أبجديات المعرفة، ونهايات البحث، وحقائق ما هنالك".[5]

لما كانت الديمقراطية واللائكية حسب جماعة العدل والإحسان تقومان على فصل الدين عن المجال العام، فإنها تقصي فئة عريضة من المسلمين، وبالتالي تجردهم من حقهم في المشاركة في تدبير الشأن العام، حيث يغدو المسجد هو المكان، بل ويصير الإنسان "المسلم" من وجهة نظرهم منفعلا لا فاعلا، عاجزا لا قادرا الأمر الذي يفضي إلى هلاك الأمة وضياعها.

حتى نكون منصفين الجزء الأول من كلام المؤلف صحيح؛ ذلك أن النظام الديمقراطي-اللائكي ولكي يحترم حقوق الإنسان، فهو ملزم بترك الدين بعيدا عن المجال السياسي، وهذا لا يعني عزله أو شن حرب عليه، بل إن القصد هو إتاحة الفرصة لجميع الأديان من أجل التعايش مع بعضها البعض، وبالتالي، فإن الديمقراطية تستلزم حماية حق الأفراد في التمتع بنفس الحقوق دون أن يكون لأحدهم حقوق أكثر من غيره، وبعبارة أخرى، إن الحق في دولة ديمقراطية علمانية، إنما يتأسس على المواطنة وليس على الاعتقاد بصحة هذا الدين أو ذاك، وهو ما لا تصرح به الجماعة، لأنها تعلم علم اليقين، أن قوتها إنما تكمن في تخوين والتهجم على كل من لديه مشروع سياسي يتأسس على الديمقراطية والحرية.

وبالفعل، هذا ما نلمسه في كتاب "العدل"، حيث يتم وصف الديمقراطيين العلمانيين بأنهم متنصلون من "دينهم يصفون الإسلام المتحرك المجاهد، الهاجم بنصر الله على معاقلهم الخربة بأنه خلط إيديولوجي يتميز به الخطاب المتطرف الذي يخبط خبط عشواء حين يحمل المعطى الديني على المعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية ليعطي لأنصاف المثقفين تفسيرا محرفا للواقع ماضيا وحاضرا، وليرسم للمستقبل خطا معاديا لخير الإنسانية، مجافيا لمقتضيات التقدم والحضارة والرقي".[6]

2: الإسلام السياسي بالمغرب ونظرية المؤامرة:

نلاحظ من خلال هذه الاستشهادات أن هذه الجماعات بدل أن تدافع عن تصور تؤسس من خلاله لشرعية عقلانية[7]، فإنها تشن سلسلة من الهجمات على مخالفيها، وتصور نفسها كما لو أنها ضحية مؤامرة كونية، حيث تتهم اليساريين بتزعمها تارة، وتارة أخرى تتهم الليبراليين والرأسمالين. وهذا الخطاب يمكن اعتباره السمة المشتركة لكافة حركات الإسلام السياسي، سواء في المغرب أو تونس أو مصر أو الأردن.

والحالُ أن الاعتقاد بوجود مؤامرات أو "خصوم وهميين" هو آلية تعتمد عليها كل الحركات الشعبوية في العالم، بما فيها حركات الإسلام السياسي من أجل الاستقطاب، سواء في الولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا أو دول العالم الإسلامي. فهذا النوع من الخطابات، إنما يستهدف العواطف والانفعالات الإنسانية، وهو بذلك يعكس غياب تصور واضح حول كيفية تدبير الشأن العام.

والواقع أنه لو ذهبنا مع هذه الحركة إلى أبعد الحدود، من أنه ليس هناك انفصال بين الديني والسياسي، وبأن الإسلام هو تشريع سياسي وأخلاقي علاوة على كونه عقيدة فبماذا نفسر الحروب التي نشأت بين الخلفاء؟

من الصعب على أنصار الحركة تقديم جواب واضح، وذلك ما يدفع السيد عبد السلام ياسين إلى القول إن هذا الصراع كان مقدرا من الله، فما الخلافات "بين الصحابة رضي الله عنهم التي أدت إلى المقاتلة بالسيف إلا صنع من صنع الله تعالى لنعتبر ونتعلم أن المواقف الصامتة لا تكون إلا بين الأموات والمقهورين المسلوبين صوت الحرية"[8] فهل نفهم من ذلك أن المجتمعات الأكثر استقرارا هي المجتمعات التي تفتقد الحرية؟ وتعيش، بالتالي، تحت نير الاضطهاد؟ أليست الحرية من حيث هي أساس النظام الديمقراطي هي التي تسمح بالتعامل مع الأفراد لا باعتبارهم "أشياء" أو مجرد كائنات منفعلة، بل باعتبارهم أشخاصا أحرارا، فاعلين؟ أليست المجتمعات التي تعاني القهر والاضطهاد هي نفسها التي تكون على أهبة الانفجار الاجتماعي، وبالتالي قيام الثورات العنيفة؟ وهل من المقبول القول إن الهدوء هو نتيجة لغياب الحرية؟ أم إن غياب الحرية هو الدافع إلى قيام الثورات؟

3: التاريخ يفند ادعاءات الإسلام السياسي:

يشير الباحث سلامة موسى في كتاب "الثورات" إلى أن ثورة العبيد مثلا، والتي قامت في العراق ما بين 255هـ 270هت وتزعمها علي ابن أحمد، إنما كانت النتيجة المنطقية للاضطهاد الذي عاشته هذه الفئة رغم أنها اتخذت قناعا دينيا.[9]

لقد اتخذ ابن أحمد الدين وسيلة لشن حرب على الخليفة، والذي كان يتمتع بمكانة دينية في مجتمع متشبع بالقيم والمعتقدات الإسلامية، وقد كان ذلك ضروريا من أجل قيادة ثورة على النظام، وبالتالي كان في حاجة إلى وجود شرعية دينية، فهو "لذلك طالبي، من سلالة علي بن أبي طالب، أي إنه كفء لأن يقف ضد الخليفة، وأن يبرر لنفسه السيادة للمجتمع الإسلامي[10]" ما الذي يمكن أن نستشفه إذن من هذا الاستشهاد للرد على ما ورد حول أسباب الصراع؟

نعتقد اعتقادا راسخا أن من بين أبرز أسباب الصراع في التاريخ الإسلامي، وبالتالي قيام الثورات العنيفة إنما هو الصراع على السلطة، وليس السعي نحو تحقيق مقاصد الإسلام كما تزعم الجماعات الإسلامية. هذا الصراع غالبا ما كان يتغذى من المعتقدات الدينية التي كان يجد فيها الأرضية الخصبة لتبرير قيامه، ولإضفاء الشرعية على نفسه. فلو لم يكن هناك هذا النزوع نحو السلطة لدى هذه الجماعات، ولو كانت الحرية ممكنة في ظل حكمهم، مع ما تقتضيه من احترام للكرامة الإنسانية، ما كان السيد علي ابن أحمد في حاجة لدخول مواجهة ضد الخليفة، أو على الأقل ما كان ليجد شرعية تخول له إقناع الجماهير المستعبدة. فالمعتقدات الدينية هي التي كانت تضفي الشرعية على الصراعات من أجل السلطة، وآية ذلك أن الصراع بين العباسيين والأمويين كثيرا ما كان يأخذ شرعيته من الدين، ففي الحرب بين العباسيين والأمويين ترأس أبو سلمة الخلال[11] زعامة الدعوة في الكوفة "وقام بعدة زيارات إلى خراسان حيث زار جرجان والتقى بالمسؤول عن الدعوة...كان العرب من أهل خراسان يتوقون إلى أمر يجمعهم، وكانت الدعوة العباسية هي ذلك الأمر الذي نجح في جمع شملهم....فكثر من استجاب لهم".[12]

من غير الممكن إذن، حسب هذه الشهادات التاريخية تفسير الصراعات التي عرفها التاريخ السياسي للمسلمين إنها كانت نتيجة قدر إلهي لا راد له، بل كانت نتيجة منطقية لمحاولة الوصول للسلطة، وفي كثير من الأحيان- إن لم نقل كلها- كان يستعمل الدين مطية لنزع الشرعية عن الخصم. لعل ذلك هو ما يفسر الملل والنحل المختلفة التي تزعم كلها الانطلاق من النص الديني لكنها تختلف، بل وتقتتل مع بعضها البعض، فكل فريق يدعي أنه على الصراط المستقيم، لكن مثل هذا الادعاء، إنما يخفي طياته طموحا نحو السطلة والاستفراد بالحكم.

ما يؤكد أن الصراعات في تاريخ المسلمين كانت سياسية واستعمل فيها الدين كمصدر لإضفاء الشرعية هي الرواية التي ينقلها لنا البلاذري[13] والتي تؤكد على الاستفسار الذي قدمه عمر بن الخطاب لأبي بكر الصديق من أن جيش حروب الردة قد يكون شن حربا على مسلمين، حيث تقول الرواية: "يقال إن مالكا قال لخالد: إني والله ما ارتددت وشهد أبو قتادة الأنصاري أن بني حنظلة وضعوا السلاح وأذنوا، فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما: بعثت رجلا يقتل المسلمين، ويعذب بالنار"[14]

نحن نعلم أن عمر بن الخطاب كان من كبار الصحابة، وهو أحد المبشرين بالجنة وكان مقربا من النبي، فلماذا يشك في أن خصوم أبي بكر كانوا مرتدين؟ هل يعقل أن يكون هذا القول عرضيا غير مقصود؟ لا نعتقد ذلك؛ ذلك أن عمر كان يعلم علم اليقين بأنه ليس ثمة ما يؤكد ردة رافضي الزكاة عن الإسلام. وإلا لكان قد بارك تلك الحرب وهو المعروف عنه الشدة والغيرة على الإسلام حسب الروايات الإسلامية[15]. هذا من جهة، ومن جهة أخرى نلاحظ بأن عمرا حسب رواية البلاذري استعمل عبارة "بعثت رجلا يعذب بالنار" وهذا قول خطير فيما لو صح لماذا؟

لسبب بسيط، وهو أنه تعبير بشكل ضمني عن الفكرة القائلة إن الحروب لم تكن لغايات دينية خالصة، بل كانت حروبا سياسية من أجل توطيد السلطة، وتثبيتها وهو ما لا ينكره الدكتور علي عبد الرازق، حيث يرى أن الملك في تاريخ الإسلام، إنما قام على أسنة الرماح وبطش السيوف.[16]

يترتب عن ذلك، أن حروباً وصراعات "الجماعات الإسلامية" مع بعضهم البعض لم تكن قدرًا من الله ولحكمة هو يريدها كما ترى جماعة العدل والإحسان في محاولة لتفسير معركة صفين[17] فلو كانت مثل هذه الحروب مشروعة من منطلق أنه تحمل غايات دينية وأخلاقية، ولو أنها كانت تعبر عن حكمة إلهية ما كان عمر بن الخطاب ليحتج على حروب الردة أو يشكك في شرعيتها.

يبدو أن السمة الغالبة على جماعات الإسلام السياسي هي التمويه اللغوي ومحاولة إرباك المتلقي، حتى لا يصل إلى الدافع الحقيقي الذي يحركها والمتمثل في الوصول إلى السلطة والاستفراد بها. فلو كانت لهذه الحركات غايات أخلاقية بعيدة عن ممارسة السلطة ما بلغنا من الاختلاف في تفسير النصوص الدينية مبلغا بات معه من الصعب توحد هذه الجماعات.

قد يتم الاعتراض علينا من قبل أنصار هذه الجماعات بالقول وما العيب في ذلك إذا كان الاختلاف مبدأ حميد وإنساني؟

مثل هذا السؤال يتعمد التغليط ومحاولة تمويه النقاش، فهل يا ترى كانت الجماعات الإسلامية تؤمن بحق الآخرين في تشكيل تصور مخالف لها على المستوى السياسي خاصة، عندما تكون تلك الجماعات في السطلة؟ إن ادعاء الاختلاف من قبل هذه الجماعات لا يبرره سوى ضعفها ومحاولة كسب المزيد من المؤدين الجاهلين بالتاريخ. إنه التاريخ الذي يبين أن الصراع بين هذه الجماعات كثيرا ما كان صراعا دمويا، هذا ما لا تفصح عليه جماعات الإسلام السياسي، فكلها ترفع شعار الإسلام الذي يشكل الواجهة لأهداف سياسية يتم إخفاؤها عن قصد.

4: مستقبل الإسلام السياسي بالمغرب نحو الأفول

لا جرم أن المتتبع للشأن السياسي بالمغرب، يدرك أن الوصول للسلطة لا يكون إلا عبر التحالفات. لذلك، نعتقد بأن جماعات الإسلام السياسي التي تنهل مفاهيمها السياسية من الماضي هي في حاجة إلى مراجعة تلك المفاهيم إذا أرادت الوصول إلى السلطة. هذه الحركات ستجد نفسها أمام ثلاثة سيناريوهات لا رابع لها:

1. المصالحة مع السلطة العليا في البلاد ومن ثمة الاندماج في الحقل السياسي السائد.

2. التحالف مع قوى المعارضة الأخرى خاصة القوى اليسارية الديمقراطية ويمين الوسط

3. البقاء في موقع المعارضة "الراديكالية" وبالتالي ستقبى خارج المشهد السياسي لعقود وعقود.

إذا قبلت جماعة العدل والإحسان بالمشاركة في السلطة فعليها أن تنفصل عن "الدعوي" لأن ممارسة السياسة والبقاء في ارتباط بالدعوي من شأنه أن يفقد الجماعة مصداقيتها الدعوية أما إذا بقيت في المعارضة فإن ذلك لن يجعلها تكسب شيئا، بل إن فشل قوى سياسية أخرى متصالحة مع السلطة العليا سيجعل الناس يشككون بشكل أو بآخر في مصداقية كل الحركات الإسلامية التي تتبنى مشروعا سياسيا.

خاتمـة:

يمكننا أن نسجل الآن، وبوضوح تام، أن كل الحركات السياسية ذات "المرجعية الإسلامية"، إنما تشتغل وفق نفس الآليات، وتعمل على استقطاب أتباعها عبر بلورة خطاب عاطفي ينطلق من نظرية المؤامرة الكونية التي تحاول من وجهة نظرهم عرقلة وصولهم للحكم. هذا وتسعى الحركات السياسية ذات المرجعية الدينية[18] إلى محاولة استلهام نموذج "من الماضي" من أجل تحقيق مقاصد الشريعة حسب زعمها، رغم أن أمهات كتب التاريخ تثبت أن الصراعات عبر التاريخ الإسلامي لم تكن لأهداف دينية خالصة، بل تحكمت فيها أهداف سياسية واقتصادية. ومن طبيعة الحال هذا لا يمنع من أن تتخذ هذه الصراعات غطاء دينيا من أجل أن تكتسب المشروعية الأخلاقية.

ليس هذا فحسب، بل إن هناك من يعتبر الجماعات الإسلامية السياسية مجرد وسيلة في يد الإمبريالية ضد الحركات التحررية- التقدمية التي تسعى إلى دفع عجلة التقدم للإمام، إذ تتنكر تلك الجماعات للحاضر والمستقبل على حد سواء، وترتبط بالماضي تماما مثلما يفعل النموذج الأرستقراطي الذي يتخذ من الأصالة والتاريخ منطلقا لتبرير مزاعمه[19].

إن تعلق جماعات الإسلام السياسي بالمفاهيم التقليدية، و"بالنموذج التاريخي" سيجعلها بلا ريب خارج مجال السلطة بحكم خصوصيات المشهد السياسي بالمغرب، ومن ثمة فهذه الجماعات مدعوة لمراجعة مفاهيمها من أجل عقد تحالفات تمكنها من أن تكون في مركز اتخاذ القرار داخل الدولة، وهذا سيكون بطبيعة الحال على حساب "نموذجها" الذي لطالما تغنت به. وفي حالة ما إذا رفضت ذلك ستظل خارج السلطة، وهذا ما سيجعلها تفقد قوتها مع مرور الوقت بسبب التغيرات التي يفرضها الواقع السياسي والاقتصادي بالمغرب.

 

المصادر والمراجع:

ü      ياسين عبد السلام، حوار مع الفضلاء الديموقراطيين، مطبوعات الأفق الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1994

ü      ياسين عبد السلام، العدل: الإسلاميون والحكم، الطبعة الأولى، 1420هجرية-2000 ميلادية

ü      روا أوليفييه، الجهل المقدس، زمن دين بلا ثقافة، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، الطبعة الأولى2012

ü      موسى سلامة، كتاب الثورات، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، جمهورية مصر العربية، طبعة، 2012

ü      الدكتور عمر فاروق، الثورة العباسية، سلسلة الموسوعة التاريخية الميسرة، الطبعة الأولى لسنة 1988

ü      البلاذري أحمد ابن يحيى ابن جابر إبن داوود، من كتاب فتوح البلدان، اختصر النصوص وعلق عليها وقدم لها الدكتور شوقي أبو خليل منشورات وزارة الثقافة، الجمهورية العربية السورية، دمشق، 1997

ü      الدكتور علي الصلابي محمد، سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، سيرته وعصره، مؤسسة اقرأ للنشر وللتوزيع، الطبعة الأولى، 2005

ü      عبد الرازق علي، الإسلام وأصول الحكم، بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام، مطبعة مصر شركة مساهمة مصرية الطبعة الثانية 1925

ü      جلال العظم صادق، ما بعد ذهنية التحريم، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الثانية 2004، دمشق-سوريا.

الهوامـــش:

7- نستعيرهذا المفهوم (الشرعية) من عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، ذلك أن مثل هذه الشرعية لا تتأسس على الخوارق أو العادات وإنما على الإيمان بصلاحية دستور ما، وبالتالي فهذا النوع من الشرعية هي الركن الأساسي الذي تأسس عليه الدولة الحديثة (أنظر كتاب العلم والسياسة بوصفهما حرفة لماكس فيبر)

11- أبو سلمة الخلال ولد بالكوفة وتوفي سنة 132 هجرية واسمه حفص ابن سليمان الهمداني، يعتبر من أهم دعاة بني العباس في بداية دولتهم، تسلم الرئاسة بعد أن تم دحر قوات الأمويين وقد كان صلة الوصل بين خراسان والحميمة، وقد كان يهدف إلى تسليم الخلافة لثلاثة من العلويين وهم جعفر الصادق، وعبد الله ابن الحسن المثنى وعمر الأشرف بن علي زين العابدين، إلا أن طلبه قوبل بالرفض.

13- البلاذري أبو الحسن، وقيل أبو بكر أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري مؤرخ مسلم انتقل بين بلاد الشام والعراق وعمل في بلاط الخلفاء العباسيين، توفي في بغداد سنة 892 ميلادية-279 هجرية من أهم أعماله: فتوح البلدان وأنساب الأشراف.

17- معركة وقعت بين جيش علي ابن ابي طالب ومعاوية ابن ابي سفيان في شهر صفر سنة 37 هجرية وانتهت بالتحكيم في نفس السنة.

18- نقول ذات المرجعية الدينية؛ لأن كل الحركات السياسية الدينية لها نفس الخصائص ومن السهل إدراك التشابه بين النموذج الإسلامي والنموذج المسيحي؛ ذلك أنه إذا كان النموذج المسيحي يرفع شعار إقامة مملكة الرب على الأرض، فإن النموذج الإسلامي يرفع أيضا شعار "خلافة على منهاج النبوة" وكلا النموذجين يستهدف عواطف الناس خاصة في الفترات التي تعرف أزمات، حيث تجد مثل هذه الخطابات البيئة الحاضنة نتيجة تسرب اليأس في النفوس إزاء النظم السياسية.

[1]- عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديموقراطيين، مطبوعات الأفق الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1994، ص 21

[2]- نفس المصدر، ص 23

[3]- أوليفييه روا، الجهل المقدس، زمن دين بلا ثقافة، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، الطبعة الأولى2012، ص 184.

[4]- حوار مع الفضلاء الديموقراطيين، مصدر سبق ذكره، ص 21.

[5]- نفس المصدر السابق، ص 22.

[6]- عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم، الطبعة الأولى، 1420هجرية- 2000 ميلادية، ص 18

7- نستعيرهذا المفهوم من عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، ذلك أن مثل هذه الشرعية لا تتأسس على الخوارق أو العادات وإنما على الإيمان بصلاحية دستور ما، وبالتالي فهذا النوع من الشرعية هي الركن الأساسي الذي تأسس عليه الدولة الحديثة.

[8]- العدل، الإسلاميون والحكم، ص 137 مصدر سبق ذكره.

[9]- سلامة موسى، كتاب الثورات، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، جمهورية مصر العربية، طبعة، 2012 ص.30

[10]- المرجع نفسه، ص 30

11- أبو سلمة الخلال ولد بالكوفة وتوفي سنة 132 هجرية واسمه حفص ابن سليمان الهمداني، يعتبر من أهم دعاة بني العباس في بداية دولتهم، تسلم الرئاسة بعد أن تم دحر قوات الأمويين وقد كان صلة الوصل بين خراسان والحميمة، وقد كان يهدف إلى تسليم الخلافة لثلاثة من العلويين وهم جعفر الصادق، وعبد الله ابن الحسن المثنى وعمر الأشرف بن علي زين العابدين إلا أن طلبه قوبل بالرفض.

[12]- الدكتور فاروق عمر، الثورة العباسية، سلسلة الموسوعة التاريخية الميسرة، الطبعة الأولى لسنة 1988 ص ص 84-85.

13- البلاذري أبو الحسن، وقيل أبو بكر أحمد ابن يحيى ابن جابر ابن داود البلاذري مؤرخ مسلم انتقل بين بلاد الشام والعراق وعمل في بلاط الخلفاء العباسيين، توفي في بغداد سنة 892 ميلادية-279 هجرية من أهم أعماله: فتوح البلدان وأنساب الأشراف.

14- أحمد ابن يحيى ابن جابر إبن داوود، البلاذري، من كتاب فتوح البلدان، اختصر النصوص وعلق عليها وقدم لها الدكتور شوقي أبو خليل منشورات وزارة الثقافة، الجمهورية العربية السورية، دمشق، 1997-ص ص 156-157

15- الدكتور علي محمد الصلابي، سيرة أمير المؤمنين عمر إبن الخطاب، سيرته وعصره، مؤسسة إقرأ للنشر وللتوزيع، الطبعة الأولى، 2005م، القاهرة، ص 98.

[16]- علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم: بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام، مطبعة مصر شركة مساهمة مصرية الطبعة الثانية 1925

[17]- معركة وقعت بين جيش علي ابن ابي طالب ومعاوية ابن ابي سفيان في شهر صفر سنة 37 هجرية وانتهت بالتحكيم في نفس السنة.

18- نقول ذات المرجعية الدينية لأن كل الحركات السياسية الدينية لها نفس الخصائص ومن السهل إدراك التشابه بين النموذج الإسلامي لهذه الحركات والنموذج المسيحي، ذلك أنه إذا كان النموذج المسيحي يرفع شعار إقامة مملكة الرب على الأرض، فإن النموذج الإسلامي يرفع أيضا شعار "خلافة على منهاج النبوة" وكلا النموذجين يستهدف عواطف الناس خاصة في الفترات التي تعرف أزمات، حيث تجد مثل هذه الخطابات البيئة الحاضنة نتيجة تسرب اليأس في النفوس إزاء النظم السياسية.

[19]- صادق جلال العظم، ما بعد ذهنية التحريم، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الثانية 2004، دمشق-سوريا، ص265.