الإسلام والمشترك الكوني


فئة :  قراءات في كتب

الإسلام والمشترك الكوني

1

تأتي أهمية هذا الكتاب عن "الإسلام والمشترك الكوني" للدكتور عبد الله بوصوف، من اعتبارين اثنين:

+ الاعتبار الأول، ويرتبط بتخصص المؤلف ذاته؛ إذ يعدّ الدكتور بوصوف من الباحثين القلائل في التاريخ الوسيط، وفي تاريخ الحضارات على وجه التحديد، لا بل هو من ضمن من اشتغل مبكرا، لا سيما برسالته للدكتوراه، عن العلاقات المتوسطية (في القرن الثاني عشر) مهد الحضارات والديانات السماوية بامتياز. ليس هذا فحسب، فالرجل استطاع الاطلاع عن قرب على واقع الإسلام والمسلمين بالغرب بحكم تواجده بأوروبا لسنين طويلة، واعتبارا لخبرته الدقيقة بسياسات الاندماج التي اعتمدت بهذا البلد أو ذاك، فتمكن بالتالي من تحديد تصور واقعي عن آفاق التواصل والحوار بين طرفي المعادلة.

+ أما الاعتبار الثاني، فيرتبط بالكتاب في حد ذاته؛ إذ هو ليس كتابا "منظوميا" بالمعنى الأكاديمي الصرف، يشتغل على أطروحة محددة، يبحث لها على فرضيات ومنهج بحث ودروب استقصاء، ويخلص إلى تفنيد هذا القول أو ذاك. على العكس من ذلك تماما، إذ الكتاب إنما هو مجموعة من الأفكار والرؤى، المجردة تارة والذاتية تارة أخرى، حاول المؤلف من خلالها أن يقارب ما يسميه ب"المشترك الكوني"، باعتباره الخيط الناظم لعلاقة الإسلام والمسلمين بالآخر في الزمن والمكان.

المشترك الكوني، بنظر عبد الله بوصوف، ليس تعبيرا طوباويا أو مثاليا قد يستعصي على المرء ضبطه أو تمثل مفاصله. إنه ببساطة "تلك القيم الإنسانية الفاضلة التي هي شأن مشترك بين مختلف الأديان والثقافات والحضارات، بما هي نابعة من حاجات الإنسان الفطرية، بغض النظر عن لونه أو جنسه أو عرقه أو لغته أو معتقده"...هي "فضائل راقية ومبادئ سامية مركوزة في جوهر النفس البشرية، تتجاوز الخصوصيات الحضارية والهويات الثقافية والجنسيات المختلفة".

أما ما يدخل في باب المشترك الكوني، فيعدده المؤلف كالتالي: "حب الخير للناس جميعا، وإقامة العدل، ورفع الظلم عن المظلوم، وتحقيق المساواة قولا وفعلا، والنزوع نحو الحرية، ونصرة المظلوم، والعدل، والإيمان في المساواة، وإنصاف المظلوم، وبغض الظلم، وتحقيق الحرية، واحترام كرامة الإنسان...أي بعبارة جامعة: كل ما من شأنه حفظ النفس الإنسانية، وتأمين حاجاتها من القيم المشتركة التي تسهم في رقيها وسموها، والتي ليست حكرا على أمة معينة أو دين معين أو حضارة أو ملة من الملل المختلفة".

الأصل في العلاقات الإنسانية بنظره، وفي ضوء القواعد الربانية التي يقرها القرآن الكريم، هو "التعارف لا النكران، والتعارف لا العداوة، والتفاعل لا التقاتل، والتعاون لا التصادم، والود والسماحة والبر لا العدوان والبغي والقهر"...

2

ينقسم كتاب "الإسلام والمشترك الكوني" إلى مجموعة من الدراسات العميقة والمركزة، يمكن أن نهيكل خيطها الناظم حول الأفكار الأساسية التالية:

+ الفكرة الأولى: التعايش والإحسان في الإسلام. يلاحظ المؤلف بهذه النقطة، أن القرآن الكريم نص جهارة على قيم التسامح، عندما قال بخصوصه تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"... والقصد هنا أن الله تعالى لا ينهاكم عن البر والصلة والمكافأة بالمعروف والقسط للمشركين، من أقاربكم ومن غيرهم، حيث كانوا بحال لم ينتصبوا لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم، فليس عليكم جناح أن تصلوهم، فإن صلتهم في هذه الحالة لا محذور فيها ولا مفسدة.

لم يقتصر التوجيه القرآني في التعامل مع غير المسلمين على الترغيب في العدل والإقساط فحسب، بل أضاف إلى ذلك مستوى آخر يتمثل في البر والإحسان إليهم، سواء تواجدوا بمجال جغرافي محدد أم بمجالات جغرافية متباعدة. والبر من حيث المفهوم هو كلمة جامعة لكل معاني الخير، لا بل إنه يختزلها جميعا، فتكون العلاقة بين الأوامر والمصالح تلازمية، تماما كما هي تلازمية العلاقة بين النواهي والمفاسد.

+ الفكرة الثانية: العدل عماد الدين، يقول الدكتور بوصوف بهذه النقطة: "العدل سنة الله في الكون والعالم والخلق، وقيمة من القيم الربانية العليا؛ فعليه قامت السماوات والأرض، ومنه تشكل الملك. والعدل عماد دين الإسلام، وهو قانون وشرط قيام الاستخلاف في الأرض، وبالعدل تنتظم باقي قيم الشريعة الإسلامية المثلى؛ فبالعدل تتحقق الطمأنينة في الأرواح والأبدان والبلدان، وبالعدل يتحقق التقوى الذي هو مناط الشريعة وعمدتها في تمثل الأحكام وتنزيلها، وبالعدل يتحقق التراحم والرحمة بين الناس، وبالعدل يشيع الاحترام والتقدير والمحبة بين الناس...".

إن التحلي بقيمة العدل، في نظر الكاتب، إنما هو مسلك قرآني أصيل ومركزي، لإدراك دائرة "كمال التقوى"، أو على الأقل الاقتراب منها. وعليه، فإن الجنوح للتقوى هو قمة ركوب ناصية العدل بين الناس، كل الناس.

+ الفكرة الثالثة: التعارف؛ والتعارف الذي دعا إليه الإسلام، إنما غايته وحدة الإنسان وعدم التمييز بين الأفراد، وتجنب الصراعات والاقتتال أو التفاضل بين هذا وذاك. لذلك دعا القرآن الكريم إلى التعارف بين الناس والشعوب والقبائل، مخاطبا كل الناس وليس المسلمين فحسب: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".

يلاحظ الكاتب، بهذه الجزئية الجوهرية، أن العلماء لم يختلفوا في تفسير التعارف، إذ ردوه إلى جذره اللغوي الذي هو المعرفة؛ والمقصود هنا "المعرفة الحقيقية بالآخر والبعيدة عن التمثلات والصور النمطية التي نشكلها عن الآخر، من دون أن نكلف أنفسنا عناء الإصغاء إلى التقديم الذي يعطيه عن نفسه، بل نكتفي بالاعتماد فقط على الصور الذهنية المركوزة في مخيالنا، مما يؤدي في الأخير إلى سيادة ثقافة الصدام والعنف والكراهية".

+ الفكرة الرابعة: التسامح؛ يقول الكاتب بهذا الخصوص: "في الوقت الذي كان الاضطهاد الديني سائدا في أرجاء العالم، وكانت الصدامات الدينية والحروب ذات الطبيعة العقائدية مهيمنة على حياة الناس، شكلت الدول المتعاقبة على المناطق الإسلامية منذ الخلفاء الراشدين، استثناء في مجال احترام الحقوق الدينية، حيث تركت للمسيحيين واليهود كامل الحرية في اختياراتهم الدينية، وحفظت أماكن عباداتهم وفرضت احترام رموزهم المقدسة".

لقد ضمن الإسلام، يتابع الكاتب، لأهل الذمة حرية المعتقد من خلال تفعيل فضيلة التسامح الديني، "مما مكن المسيحيين واليهود من ممارسة حياتهم بشكل عادي ومن دون مضايقات، وهو ما خول لهم بلوغ مناصب عليا في العديد من المجالات، وبصمت شخصيات من أهل الذمة التاريخ الإسلامي، خصوصا في العصر الأموي والعباسي، وكذلك في مختلف مراحل الإمبراطورية العثمانية".

3

إذا كان الإسلام، دينا وتاريخا، قد نص وأكد على فضائل العدل والحوار والعدل والتسامح، فما الذي يجعله اليوم في "فوهة بركان" هذه الجهة أو تلك؟ يجيب الكاتب: بسبب جهل هذه الجهات مجتمعة لروح الإسلام، أو لاعتبارات ذاتية محكومة بحسابات بعيدة كل البعد عن تثمين المشترك الإنساني والدفع بقيمه وفضائله.

يقول عبد الله بوصوف بهذه النقطة: إن "دعاة صدام الحضارات لم يجدوا ما يسعفهم لا في نصوص الإسلام ولا في التاريخ، من أجل تبرير هذه الأطروحات، لأن التاريخ الإسلامي...لم يشهد مجازر دينية ولا تطهيرا عرقيا ضد طائفة أو مجموعة إثنية. وأما وقائع العنف والتقتيل التي تلطخ بعضا من أوراق هذا التاريخ، والتي يريد البعض أن يجعلها مقرونة بالدين الإسلامي ويصور دوافعها على أنها كانت دينية، فما هي سوى وقائع ذات خلفيات سياسية مرتبطة بأصحابها، وتخدم مصالح فئوية ضيقة لطائفة دون أخرى".

إن رسالة المؤلف، في هذا الكتاب، إنما مؤداها الحاجة إلى نشر فكر التسامح والعيش المشترك...والكف عن إراقة المزيد من الدماء بسبب وبدون سبب. هل لو كان لهذا الفكر أن ينتشر ويروج، نكون بكل هذا العنف المتأتي من الحركات المتطرفة، ومن العنف المضاد التي تحمله في ثناياها هذه المجموعة المتشددة أو تلك؟

إننا، يقول الدكتور بوصوف، بقدر ما نحن بحاجة إلى الدفع بالمشترك الكوني، فنحن بحاجة أيضا إلى الدفع بفكر إنساني، لا يضع حدودا ولا متاريس بين الديانات أو الثقافات أو الحضارات. ليس من شك في أن المسألة مسألة تواصل بامتياز، إذ ثمة جهات لا يروقها القول بوجود مشترك بين الناس. إنها نفس الجهات التي أدمنت "شيطنة" القيم، واعتبارها غير صالحة للتعايش ولا للتسامح. ولذلك، فلو كان ثمة من مطلب ملح لتثمين قيم التعايش الإنساني، فيجب أن نبحث عنه دون أفكار مسبقة ولا تمثلات نمطية تقتل المشترك أكثر ما تعمل على تثمينه...