الإسلاميون والسلطة


فئة :  مقالات

الإسلاميون والسلطة

أحب أن أوضح بداية طبيعة عملي، فمجال عملي هو "السجون" حيث إنني أدرس مكامن المقاومة في خطابات السلطة، وسبب اهتمامي واهتمام كثير من المنظرين والمفكرين بالسجون هو أن السجن آلية لإنتاج الذات وإنتاج الفرد وإمكانية نجاح أو فشل هذه التجارب على مر السنين. عندما تمت دعوتي لإلقاء كلمة حول الإسلاميين وقضية السلطة تعمدت أن استخدم الإطار النظري نفسه الذي أستخدمه في تحليل قضية تشكيل الذات ومقاومة قضية تشكيل الذات في التعامل مع الخطاب الإسلامي في مصر. أود أن أشير إلى أنني أرفض الزعم بأن من الصعب أن نتكلم اليوم عن الخطاب الإسلامي لأنه ليس خطابًا إسلاميًا واحدًا موحدًا، فأنا أتحدث عن الخطابات الإسلامية في الدولة الحديثة التي تأسست في مصر، خاصة تلك الحقبة منذ عام 1952 حتى الآن، لم يظهر، في هذه الدولة الحديثة، خطاب إسلامي واحد، فقد ظهرت عدة خطابات إسلامية وهذه الخطابات ظهرت استجابة وليس منتجًا أصيلاً. ظهرت هذه الخطابات استجابة لظهور أنماط من التدين خرجت خارج الإطار الشخصي، وبدأت في أن يكون لها تأثير على المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فخروج أنماط التدين الشخصي للمجال العام صاحبه ظهور خطابات إسلامية مختلفة تحاول تفسيره. وهناك مشكلة في تحديد تعريف الخطاب الإسلامي فهل يتم تعريف كلمة "الخطاب الإسلامي" بالمعنى الإيدولوجي كفكرة كبرى مثل الليبرالية والاشتراكية تهتم بالعلاقات السياسية والعلاقات الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية وعلاقة الحاكم بالمحكوم؟ أم هو خطاب بالمفهوم الغربي، لغة ونمطًا يجمع بين الأفراد لتفسير حركتهم في المجتمع؟ في رأيي هذه قضية محورية. لا بد أن يتم تحديد ماهية مصطلح الاخطاب الإسلامي عندما نتحدث عن الخطاب الإسلامي، فما هو المقصود بمصطلح "الخطاب الإسلامي"؟ أناقش في ورقتي البحثية هذه الخطابات الإسلامية وليس الخطاب الإسلامي، لأنه في رأيي لا يمكن التحدث عن خطاب إسلامي واحد في مصر أو في العالم العربي. فأنا أريد الإجابة عن سؤال أساسي هو: هل الخطاب الإسلامي منتج للسلطة أي منتج سلطوي؟ أم هو أفق للتحرر والانعتاق؟ وللإجابة عن هذا السؤال تتضمن الورقة ثلاث محاور رئيسية:

أولاً: علاقة الخطابات الإسلامية بالدولة، ودور الدولة في إنتاج الموضوع.

ثانياً: كيف تم استبطان فكرة السلطة في الخطابات الاسلامية؟

ثالثاً: فكرة المقاومة والحرية اللتان أعتبرهما مرادفتين للمعنى synonymous ؟ هل فكرة المقاومة والحرية موجودة في هذه الخطابات الإسلامية؟ أم أنها موجودة في مساحات أخرى غير هذه الخطابات؟

بناء الإطار النظري

إن الإطار النظري الذي أستخدمه مبني في الأساس على أفكار الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر، جوديث بتلر طورت فكرة سيغموند فرويد عن المقبولية الاجتماعية social acceptability، إذ تقول إن الدولة الحديثة وأنماط السلطة فيها تقوم بعملية استدعاء للفرد. وبدلاً من الخوض في تحليلات نظرية سوف أقدم مثالاً مباشراً واضحًا يبين ما هو المقصود بقضية "استدعاء الفرد". أما المثال فهو قضية القبض على بعض المتدينين في المساجد، ويتم تفسير الظاهرة على أنها مجرد محاربة للإسلاميين ومحاربة للخطاب الإسلامي ومحاربة لحركات التدين التي تظهر في المساجد في مصر. و لكن بنظرة عميقة إلى فأنه لا يتم القبض دائمًا على المتدينين في كل مرة يصلون في هذه المساجد. ولكن يجب ألّا تكون صورة الدولة وهيبة الدولة موجودة وحاضرة في كل الفضاءات وكل المساحات التي يتخيل الفرد أنها خارجة عن نطاق الدولة، أي أن حضور الدولة شيء أساسي. فحضور ضابط الشرطة أو أمين الشرطة عند المسجد حتى إذا لم يتم القبض على أي فرد يؤدي إلى نقطة في غاية الخطورة وهي أنه يعيد توجيه سلوك الفرد، فالفرد يعيد توجيه سلوكه بما يتواءم مع مجموعة من الصور ومجموعة من الذكريات الموجودة في ذهنه. وعليه فإن وجود ضابط الشرطة خارج المسجد يؤدي إلى توجيه سلوك الفرد في اتجاه معين. وهذا هو ما يطلق عليه سيغموند فرويد مصطلح المقبولية، ففكرة استدعاء الفرد التي نتحدث عنها أهميتها في أنها لا تتعامل مع جسد الفرد، فهي تتعامل مع نوع جديد من العنف هو representation؛ أي كيف تمتلك الدولة المقدرة على أن تعيد تمثيل الفرد، حيث إن الدولة تقدم للفرد تصنيفات categories، فيجد الفرد نفسه مجبراً على اتباع هذه التصنيفات بشكل أتوماتيكي أو بشكل آلي بدون محاولة المقاومة. هذه هي الفكرة الأساسية التي أتحدث عنها في فكر جوديث بتلر، وفكرة علاقة الخطابات بالدولة.

عن علاقة الخطاب بالدولة

هل الدولة في مصر، حيث إنني أتحدث عن case study وهي مصر، حاربت الإسلام؟ هذه النقطة كانت من السرديات narratives التي اعتمدت عليها كثير من القوى الإسلامية في زعمها أن الدولة في مصر كانت تحارب الدين. والإشكالية هناهي أن هذا يتعارض مع طبيعة الدولة الحديثة، لأن الدولة الحديثة لا تحارب الدين، بل على العكس، فالدولة الحديثة تحارب الفضاء الخارج عن مجال هيمنتها ومجال سيطرتها. ففي عهد الرئيس جمال عبد الناصر أو الرئيس السادات أو الرئيس حسني مبارك لم يكن هناك حرب ضد الدين. وإنما كانت الحرب الأساسية ضد فكرة الفضاء، كيف يمكن جعل هذه المساحات واقعة تحت هيمنة الدولة. ،إن مشكلة الدولة الحديثة أنها غير قادرة على السيطرة على جميع القضاءات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. إن الدولة في التطبيق العملي غير قادرة على السيطرة على جميع الفضاءات الموجودة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فتحاول الدولة أن تتخلل العلاقات وتتخلل الخطابات وتهيمن على الخطاب الذي يصدر من أفراد أو جماعات أو قوى، بحيث تتم منهجة سلوك الفرد مع ما ترتضيه الدولة، أي كيفية التزام الفرد بالتصنيفات والتعريفات التي تضعها الدولة للمواطن. أما النقطة الأخرى التي تثير اهتمامي في فكر جوديث بتلر فهي الموضوع الإنساني human subject. ففكرة الموضوع الإنساني فكرة معقدة جداً لأنها تتحدث عن الذات، وهل تقوم الذات بإنتاج نفسها؟ أم تقوم الصياغات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تنشأ فيها الذات بإنتاج هذه الذات؟ هذا سؤال فلسفي مطول سأقوم بتبسيطه في السؤال التالي: هل بقي الشخص على حاله منذ ثلاثين عاماً؟ وإذا لم يكن هو الشخص نفسه، فما معنى ذلك؟ تكمن علاقة هذا السؤال بالخطابات الإسلامية - الإشكالية الدراسية - في أن الخطابات الإسلامية تستحضر صور الماضي وتحاول وضع وإسقاط هذه الصور على الواقع. وقضية إسقاط الماضي على الواقع تواجه مشكلة وهي أنها لا تتعامل مع الذات على أنها ذات متغيرة ومتجددة، وأنه يمكن أن لا تكون الذات التي كانت موجودة منذ فترة هي نفس الذات الموجودة حالياً. هذا التحول في الذات لم يتم مناقشته أو طرحه في تعامل الخطابات الإسلامية مع الفرد. ومن المنطلق نفسه ارتباط فكرة الذات بفكرة الاستمرارية، واستمرار الفرد على أداء دور محدد وفقاً لما تطرحه الدولة أو وفقاً لما تقطر له الدولة حيث إنه يعتمد على التكرار، تكرار سرديات محددة والتزام الفرد بهذه السرديات. كيف تنشأ علاقات السلطة إذا لم يكن هناك تصور عن طرح سرديات جديدة لإنتاج الذات؟ وعندما أتحدث عن إنتاج الذات يجب أن أسأل ما هي الذات الموجودة حالياً والتي نشأت بعد الثورة في مصر في ميدان التحرير؟ عندما أتحدث عن موضوع الذات، وهذا نقد أوجهه لفكرة جوديث بتلر، فكيف يمكن اجتماع الذوات، أي اجتماع أكثر من شخص في ميدان التحرير، كيف يمكن تفسير ذلك؟ الخطابات الإسلامية لم تتعامل مع "كيف تم اجتماع هذه الذوات"، وكيف تم الاستفادة من اجتماعهم في فضاء ميدان التحرير، وكيف يتم استغلال هذه اللحظة في تأسيس علاقة سلطوية جديدة، علاقة بين الحاكم والمحكوم، وعلاقات سلطة جديدة. لم يتم التعامل مع هذه الفكرة، ولكن تم التعامل مع الدولة وأصبحت الدولة هي الهدف والسردية الأساسية التي تحكم الخطابات الإسلامية في مصر.

الخطاب الإسلامي وسردية الدولة وإشكالية المقاومة

سأتحدث الآن عن مكامن المقاومة، إن مشكلة الخطابات الإسلامية في أنه إذا ما كانت السردية التي تحكم هذه الخطابات سردية الدولة ستظل إمكانية التجاوز محجومة. ومن المفترض أن الخطابات الإسلامية تتحدث عن الحرية وأن الحرية هي المقصد الاساسي للشريعة، ولكن الخطابات الإسلامية الآن لا تتحدث عن الحرية. أنا أعرف أنها كانت متواجدة تاريخيًا، ولكن في نطاق الدولة الحديثة استنبطت الخطابات الإسلامية أفكار وأنماط السلطة الموجودة في الدولة الحديثة. وعليه أصبحت الدولة هي الهدف، والشريعة تخاطب الدولة ولا تحاول تجاوزها ولا تحاول طرح الفضاءات التي يتحرك فيها الأفراد، وكيف يمكن استغلالها لطرح علاقات سلطة جديدة. أود أن أتوقف سريعاً عند فكرة ميدان التحرير ولماذا مثل ميدان التحرير فرصة potential للمجتمع المصري عموما وكيف يتم من خلال الخطابات، عندما تستبطن الخطابات أفكار السلطة، خسارة ما تم اكتسابه من خلال الميدان. طرحت فكرة المظاهرات نفسها تحديًا للسلطة وتحديًا لخطاب السلطة، وعجز خطاب السلطة عن السيطرة على هذه التظاهرات، وقدرة مزاولة السلطة مع هذه الحشود وهذه الجموع والمتظاهرين قد فشلت، فمع فشل قدرة النظام على أن يطرح خطابًا يعيد تشكيل تحرك الأفراد في الفضاء سقط النظام، هذه نتيجة منطقية، ولم يظهر نظام بديل. إن اللحظة الفاصلة interval ما بين سقوط النظام ونشأة نظام جديد هي اللحظة التي يتحدث عنها كثير من المفكرين، وهي لحظة الإرادة الجماعية وليست إرادة فردية أو إرادة اتحادية لأن الأفراد لم يتحدوا و لم يتخلوا عن سلطتهم من أجل سلطة أكبر. و لكن وجدت إرادة جماعية كبيرة لم ينتج عنها خطاب يعيد تأسيس علاقات سلطة ويعيد تأسيس علاقات اجتماعية داخل المجتمع. إحدى النقاط التي أحاول أن أمثل بها إشكالية السلطة في الخطابات الإسلامية، وهي نقطة أثيرت كثيراً ، هي حرية المرأة. يقول كثير من المفكرين العلمانيين إن المرأة غائبة في الخطابات الإسلامية. ولكن من وجهة نظري فإن المرأة غير غائبة في الخطابات الإسلامية، فقضية المرأة في الخطابات الإسلامية ليس غيابها بل هي تنميطها normalized. هناك أنموذج طرحه المفكر البولندي زيجمنت بومن وهو يتحدث عن عروض الأزياء، فعروض الأزياء تتعامل مع المرأة بشكل آخر، وهو أنه يجب أن لا يكون جسد المرأة أو حتى وجهها هو الشيء الذي يجذب عين الناظر eye-catching بل الزي الذي ترتديه ومساحيق التجميل make-up هو الذي يجب أن يجذب عين الناظر. فوجد في أن الناس، في بعض الدراسات والاستفتاءات التي أجراها عن هذا الموضوع، حتى من كان حاضراً في عروض الأزياء، لا تتذكر شكل الفتيات العارضات، و لكن تتذكر الأزياء التي كن يرتدينها أو مساحيق التجميل make-up، أما تذكر شكل العارضة فيصبح قضية معقدة جداً. هذه هي قضية التنميط normalization ؛ أي أن الجميع يصبح نمطاً واحدًا، وأنا أتفق مع بعض الإسلاميين في أن المرأة ليست غائبة بل موجودة في الخطابات الإسلامية. لكن قضية تحديد دور للمرأة هذا هو مدخل السلطة، أي كيفية تحديد دور للفرد، وهذه هي نفس فكرة جوديث بتلر عن performativity؛ أي يتم تحديد مجموعة من الاختيارات للفرد لا يستطيع أن يتجاوزها، والفرد لا يستطيع أن يتجاوز هذه الاختيارات ليس نتيجة عجز من قبله بل نتيجة لأن هذه الاختيارات هي المطروحة فحسب. والخطاب الإسلامي يقع في هذه المعضلة فهو يحدد أن المرأة لها دور. لماذا لها دور؟ و ما هي ضرورة أن يكون لها دور؟ و ما هو الضرر الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي الذي سيسقط على المجتمع من تحرر المرأة من فكرة الأدوار؟ فكرة الأدوار هي مدخل السلطة للهيمنة على الفرد، حيث يتم تحديد دور لكل فرد وبالتالي يدخل المجتمع في مرحلة تنميط normalization أي لا يوجد فروق بين الأفراد. وكذلك لا يوجد فرق بين الرجل و المرأة. إن إشكالية السلطة هي أنها تلغي الفروق بين الرجل والمرأةن لكن في الحقيقة هناك فروق يجب أن تكون واضحة بين الرجل والمرأة، ومشكلة الخطابات التي تسبطن السلطة هي أنها تقول أنها لا تريد أن يكون للمرأة حضور بارز أو أن يكون لها تميز عن باقي أفراد المجتمع أو عن الرجل، فهي تريد نمطاً واحداً، وهذه هي فكرة عروض الأزياء نفسها.

الخطابات الإسلامية بين ثنائيات الدولة

أود أن أختم بثنائية الديني والعلماني في مصر بصفة خاصة، ويرجع ذلك للطرح الذي كان يتحدث عنه كثير من المحللين. إن الدولة في مصر والدولة الحديثة في العموم قائمة على ثنائيات، ففكرة الثنائيات هي فكرة أصيلة في الدولة مثل الثنائية بين الديني والعلماني أو الثنائية بين العام والخاص أو الثنائية بين الرجل والمرأة. وتحاول الدولة من خلال هذه الثنائيات تمرير أفكار السلطة؛ أي التنميط. على سبيل المثال عندما نتحدث عن محاربة الدولة للدين، الدولة لم تكن تحارب الدين. الدولة كانت تحارب أي خطاب ليس به حضور للدولة، ولذلك نشاط جماعة مثل جماعة الإخوان المسلمين يجب ألّا ينظر إليه على أنه كان ثورة ضد الدولة، بل إنه ارتضاء لتأدية دور في سياق الدولة وفي سياق أنماط السلطة التي أتاحتها الدولة لأي فرد بغض النظر عن انتماءاته وتوجهاته.