خطورة الدعوة إلى العامية وأهداف دعاتها


فئة :  مقالات

خطورة الدعوة إلى العامية وأهداف دعاتها

خطورة الدعوة إلى العامية وأهداف دعاتها

عادت من جديد إلى الانتشار دعوة يستوجب التصدي لها والقضاء عليها، والأخذ على أيدي دعاتها وأنصارها، وهي دعوة فكرية هدَّامة بالمعنى الشامل للهدم؛ تلك الدعوة التي يقوم عليها أعداء العروبة والإسلام، ويستخدمون في تنفيذها بعض العرب والمسلمين، وهي الدعوة إلى نشر اللهجات العاميَّة لتكون بديلًا عن اللغة الفصحى، وقد عادت هذه الدعوة إلى الظهور تزامنًا مع الاحتفالات باليوم العالمي للغة العربية، فكأنما جاءت كدعوةٍ مضادةٍ أو كمعولٍ يحاولون به -عبثًا- هدم لغتنا العربية أو التقليل من شأنها، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنهم لن يبلغوا شيئًا من مرادهم.

وما هذه الدعوة التي يدعون إليها إلا امتداد للدعوة الشُّعوبيَّة التي ظهرت في العصر العباسي؛ وهي الدعوة التي قال عنها الجاحظ [ت: 255هـ] في بيان نشأتها وقبيح فكرها وسوء مآلها: «فإنَّ عامَّة من ارتاب بالإسلام، إنما كان أوَّل ذلك رأي الشُّعوبية والتمادي فيه، وطول الجدال المؤدِّي إلى القتال، فإذا أبغَض شيئًا أبغض أهله، وإن أبغض تلك اللغة أبغض تلك الجزيرة، وإذا أبغض تلك الجزيرة؛ أحبَّ مَن أبغض تلك الجزيرة، فلا تزال الحالات تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام؛ إذْ كانت العرب هي التي جاءت به، وكانوا السَّلف والقدوة»([1]).

وقد كان أولئك الشُّعوبيُّون شديدي الحقد على العروبة والإسلام، وبُغضِ أهلهما، حتى إنهم نظموا الأشعار في الفخر بأنفسهم وذمِّ العرب، والعجيب أنهم نظموا أشعارهم تلك بالعربية، كدُعاة العامِّيَّة الآن يتكلمون بعربيَّتنا كلامهم الذي يدعون فيه إلى هجْر العربية ونشر عامِّيَّتهم، وربما أرادوا أن يُظهِروا معرفتهم بالعربية، حتى لا يُتَّهموا بأنَّ عجزهم عنها هو الذي دعاهم إلى حربها، غير أن فساد ألسنتهم يفضحهم في كل حال.

ودُعاة العاميَّة اليوم يفخرون بأنَّ العاميَّة لها فنونها من زَجَل وفلكلور ونحوهما، ويزعمون أنها هي صمام الأمان، ولا أدري ما يقصدون بذلك ولا عن أيِّ أمانٍ ييتحدثون؛ فالأمان الحقيقي في التَّمسُّك بِدِينِنا وعروبتنا، وليس في الانسلاخ من لغتنا العربية التي هي لغة القرآن، وبها يُفهَم الشرع وتُستنبَط الأحكام؛ ولو أن أولئك الدعاة إلى العاميَّة أحسنوا النُّطق بالعربية الفصحى، وعرفوا شيئًا من فضلها ومفاخرها، لما قاموا بدعوتهم الخاسرة تلك، أو ربَّما علموا ذلك كله ثم دفعتهم الأحقاد والضغائن، ولكن المؤسف أن بعض أبناء العروبة والإسلام يهرعون إلى تلك الدعوة الذَّميمة، وينسلخون من هويَّتهم، طمعًا في مصالح شخصية يؤمِّلونها لدى أعدائنا الذين يستخدمونهم في نشر دعوتهم.

وأما ما يفخرون به ويركنون إليه مِن أزجال العاميَّة، وما يزعمون لها من آداب؛ فإن العرب الأقدمين كانوا -على فصاحة لهجاتهم القبَليَّة- قد اتَّخذوا لهجة قريشٍ لغةً موحَّدة بينهم، ينظمون بها أشعارهم، فكانت هي لغة الأدب، التي اجتمعت عليها القبائل، «فكان الشاعر من غير قريش يتحاشى خصائص لهجته، ويتجنَّب صفاتها الخاصة في بناء الكلمة وإخراج الحروف وتركيب الجملة ونحو ذلك»([2])، و«عن حماد الراوية [ت: 155هـ] قال: كانت العرب تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوا منه كان مقبولًا، وما ردوا منه كان مردودًا»([3])، ولم تفكر قبيلة من قبائل العرب في الاستغناء عن لغة قريشٍ اكتفاءً بلهجتها الخاصة، فضلًا عن أن تدعو إلى هجرها ومقاطعتها أو ذمِّها كما يفعل الآن دُعاة العاميَّة في حربهم الخاسرة ضد العربية الفصحى.

ومن حرصهم الشديد على لغة القرآن «قال عمر بن الخطاب [ت: 23هـ] لعبد الله بن مسعود [ت: 32هـ] حين بلغه أنه يُقرئ الناس: (عتى حين) -بالعين المهملة- يريد: (حَتَّى حِينٍ) [الصافات: 174]: إن القرآن لم ينزل بلغه هذيل؛ فأقرِئِ الناس بلغه قريش»([4]).

إن الدعوة إلى نشر العاميَّة وهجْر الفصحى في بلدةٍ من البلدان تدلُّ على غلَبة الضعف العلمي على أهل هذه البلدة، وأقلُّ ما يمكن أن يقال: إنه لا مكانة لأهل العلم فيها وإنْ كثُروا؛ فإنَّ مِثل هذه الدعوة الخبيثة لا يمكن أن تستفحل إلا في مناخٍ يفتقر إلى كلمة أهل العلم؛ لأن العِلم يتطلَّب العربية ويحتاج إليها، وبعض العلوم لا يستقيم أمرها إلا بالعربية، ولا يمكن لأحد أن يسْبر أغوارها ويتمكن منها إلا إذا كان عالمًا بالعربية، وعلى قدْرِ عِلمِه بالعربية وتبحُّره فيها يكون عِلمُه وتبحُّرُه في تلك العلوم.

ولو أن أصحاب هذه الدعوة المُغرضة قرؤوا تاريخ أدبنا العربي، لعلموا أن أسلافنا قد بلغوا من حبِّهم للعربيَّة وخوفهم عليها؛ أنهم كانوا يستنكرون أن تتسرَّب إلى أدبيَّات اللغة لفظة عاميَّة وإن كان لها وجهٌ فصيحٌ، قال ابن سنان [ت: 466هـ]: «ومثال الكلمة العامية قول أبي تمام [ت: 231هـ] [البسيط]:

جَلَيْتَ والموتُ مُبْدٍ حرَّ صفحَتِهِ

 

وقَدْ تَفَرْعَنَ في أفعالِه الأجَلُ

فإنَّ (تفرعن) مشتق من اسم فرعون، وهو من ألفاظ العامة.

ومنه قول أبي نصر عبد العزيز بن نباتة [ت: 405هـ] [الطويل]:

أقامَ قِوامُ الدِّينِ زَيغَ قَناتِهِ

 

وأنضَجَ كَيَّ الجُرحِ وهْو فَطِيرُ

فتأمَّل لفظة (فطير) تجدها عامية مبتذلة، إن كانت لعمري قد وقعت هنا موقعًا لو كانت فصيحة هجنها وأذهَبَ طلاوتها، كيف وهي على ما تراه؟!.

ومن الألفاظ العامية أيضًا قول المتنبي [ت: 354هـ] [المتقارب]:

خلوقيَّةٌ في خلُوقِيِّها

 

سُوَيداءُ مِن عِنَبِ الثَّعلبِ

فإنَّ (عنب الثعلب) لو أن العامة نظمتْ شعرًا لترفَّعتْ عن ذكره»([5]).

فهذه ألفاظ دارجة على ألسن العامَّة عندهم، فأنكرها العلماء لمَّا جاءت في الشعر الفصيح ترفُّعًا بالعربية عن أيِّ لفظٍ من شأنه أن يقدح فيها، فما بال أولئك الذين يدْعون إلى العاميَّة وهجْر الفصحى، يزعمون أن العاميَّة تكفي لكل شيء!!.

والأجدر بأصحاب هذه الدعوة أن يتعلَّموا العربية، حتى يعلموا مكانتها بين اللغات وصدارتها عليها، ويكفيها فخرًا أنها لغة القرآن الكريم، وأنها اللغة الوحيدة التي اقترن اسمها بالفصاحة والبيان؛ قال تعالى: (وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) [النحل: 103]، وقال: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء: 195]؛ وقال عمر بن الخطاب: «تعلَّموا العربية فإنها تزيد في المروءة»([6])، وقال الأصمعي [ت: 216هـ]: «ثلاثةٌ تَحكُم لهم بالمروءة حتى يُعرَفوا: رجلٌ رأيته راكبًا، أو سمعته يعرب، أو شممت منه رائحة طيبة»([7])؛ وقوله «سمعته يعرب» معناه: سمعته يتكلم كلامًا عربيًّا فصيحًا.

ومع ذلك كله نجد دعاة العاميَّة يزعمون أنهم سيضعون قواعد لعامِّيَّتِهم تلك؛ ظنًّا منهم أنها بذلك ترتقي من كونها لهجة لتصبح لغة كما يتوهَّمون، ولا أدري أيَّة قواعدَ يقصدون؛ فإن قواعد اللغة تُستَمدُّ من اللغة ذاتها، وتُبنَى ليستعين بها غير الفصيح على الفصاحة، وأين تلك الفصاحة في عامِّيَّتِهم تلك؟!!، ثم إنهم لو كانوا يبالون بالقواعد شيئًا لحافظوا على قواعد العربية التي وضعها العرب حين تسرَّب اللحن إلى بعض ضعفائهم بسبب اختلاطهم بغيرهم من الأمم، وقد استمدَّ العرب هذه القواعد من عربيَّتهم الكائنة، فهي استباطاتٌ من الأصل الموجود، يستعين بها من لا يعرف ذلك الأصل، فلم يأتوا في قواعد العربية بشيء ليس منها، أما دعاة العامِّيَّة فما طبيعة قواعد عامِّيَّتِهم، ومن أين يستنبطونها، وهي لهجة قائمة على اللحن وفساد اللسان؟!!.

([1])الجاحظ، الحيوان، بيروت، دار الكتب العلمية، 1424هـ، (7/ 131).

([2])انظر: صبحي إبراهيم الصالح، دراسات في فقه اللغة، بيروت، دار العلم للملايين، 1379هـ- 1960م، (ص67).

([3])أبو الفتح العباسي، معاهد التنصيص على شواهد التلخيص، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت، عالم الكتب، (1/ 176- 177).

([4])الزمخشري، الفائق في غريب الحديث والأثر، تحقيق: علي محمد البجاوي- محمد أبو الفضل إبراهيم، لبنان، دار المعرفة، (2/ 391).

([5])انظر: ابن سنان، سر الفصاحة، بيروت، دار الكتب العلمية، 1402ه- 1982م، (ص73- 74).

([6])ابن قتيبة، عيون الأخبار، بيروت، دار الكتب العلمية، 1418هـ، (1/ 412).

([7])المرجع نفسه (1/ 412- 413).