الغــزالـي


فئة :  ترجمات

الغــزالـي

الغــزالـي

تُشَكِّل أعمال الغزالي (450هـ - 505هـ/ 1058م - 1111م) مرحلة فارقة في تاريخ الفلسفة العربية. وقد اشتهر بعمله الكلاسيكي «تهافت الفلاسفة»، وهو نقد لاذع لمذهب ابن سينا في الميتافيزيقا والنفس تحديداً، كما أنه رغم ذلك؛ اشتهر بتبنِّي بعض أفكار ابن سينا الفلسفية. ويبدو هذا الأمر متناقضاً للوهلة الأولى، بل وغير متَّسق. والحقيقة أنه تبنَّى أفكاره بعد تكييفها وفق عقيدته الأشعرية في «الظرفية»، وبعد مناسبتها لالتزاماته الكلامية. وهذا ما يمثِّل عملاً تأويلياً مثيراً للاهتمام على المستوى الفلسفي.

كان الغزالي فقيهاً ومتكلِّماً بارعاً، لكنه فوق ذلك كان صوفيَّاً. وكَتَبَ في سيرته الذاتية قبل وفاته بسنوات قليلة أن بحثه عن اليقين هو الذي وَجَّهَه في رحلته العقلية والروحية، والذي وجده في النهاية في خبرته الصوفية التي أطلق عليها «الذوق»([1]). ورغم أنه تلقَّى تعليمه في الكلام الأشعري، وأسهم فيه بعملين*، إلا أنه كان ناقداً له. وهذا ما أدى إلى التساؤل حول مخالفة تصوُّفه لمذهبه الكلامي، ذلك التصوف الذي أعاد تأويل واستيعاب وتوظيف أفكار ابن سينا الفلسفية، لكن القراءة الدقيقة لأعماله في مرحلة تصوُّفه لا تشير إلى [تخلِّيه عن مذهبه الأشعري الكلامي]. فكما نودُّ أن نبرهن فيما يلي، يتناسب تصوفه مع أفكاره الكلامية والفلسفية ويكمل أحدهما الآخَر.

حياته وأعماله

ولد الغزالي سنة 450هـ/ 1058م، بمدينة طوس أو محيطها شمال شرقي فارس، وتلقَّى تعليماً دينياً تقليدياً في «المدارس»، وهي مؤسسات تعليمية دينية تركِّز على الشريعة. وبعد إتمام دراسته في طوس، ثم في جرجان؛ انتقل إلى نيسابور (حوالي 469هـ/ 1077م)، حيث درس على يد إمام الحرمين الجويني؛ الذي كان على رأس مدرسة الفقه الشافعية (تُوفِّي الشافعي سنة 820)، ومدرسة الكلام الأشعرية (تُوفِّي الأشعري سنة 935). والمحتمل أن يكون قد تعرَّف على بعض الأفكار الفلسفية أثناء إقامته في نيسابور، أما دراسته الموسعة للفلسفة؛ فكانت في بغداد.

تُوفِّي الجويني سنة 478هـ/ 1085م، ويبدو أن الغزالي ظل في نيسابور بعد وفاته لستِّ سنوات. وحاز هناك على شهرته، باعتباره فقيهاً شافعياً؛ إذ صَنَّف في هذه المرحلة العديد من الأعمال في الفقه الشافعي. وفي 484هـ/ 1091م؛ عيَّنه الوزير نظام الملك أستاذاً للفقه في المدرسة النظامية في بغداد. وكانت هذه المدرسة سبب شهرة العديد من زملائه من فقهاء الشافعية الذين انتسبوا إليها، والتي اتخذت اسمها من «نظام الملك»، وزير الأتراك السلاجقة. حاز سلاطين السلاجقة على القوة الفعلية في بغداد، لكن بشرعيَّة الخلافة العباسية. وقد تبنَّى الأتراك السلاجقة الإسلام السُّني التقليدي، وبذلك كانوا في صدام مع الخلافة الشيعية الفاطمية المضادَّة في القاهرة. وكان من بعض مهام فقهاء المدرسة النظامية؛ مواجهة العقيدة الشيعية الفاطمية [الإسماعيلية]. وكان أحد أهم كتب الغزالي التي وضعها عند وصوله بغداد؛ كتاب «فضائح الباطنية»، الذي كَلَّفَه بكتابته الخليفة العباسي المستظهر بالله (ت 512هـ/ 1118م)، والذي كان هجوماً كلامياً على العقائد الفاطمية [الإسماعيلية].

دّرَّسَ الغزالي في بغداد من 484هـ/ 1091م إلى 488هـ/ 1095م. وقد تعرَّض مبكِّراً في هذه الفترة لحالة من الشَّكَّ؛ فكما يخبرنا في سيرته الذاتية([2])، وأثناء بحثه عن اليقين؛ شَكَّ في الحواس. فكيف يثق في أوضح حاسة وهي البصر الذي يُريه الخيال ثابتاً ثم يتحرك ويتغيَّر بطريقة تنفلت من ملاحظة الحس [بفعل حركة الشمس]؟ أما الشمس التي تظهر لنا في حجم العملة؛ فهي أكبر من الأرض بالحسابات الفلكية. وامتد الغزالي بشكِّه إلى العقل. فالشكُّ في الحواس يتبعه الشكُّ في العقل بالضرورة. وهنا وجد الغزالي أنه لا ضمان لمبادئ العقل الأساسية [الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع]، فلا يمكن للعقل أن يُبَرهِن عليها ما لم يُسَلِّم بها أولاً، وبذلك تكون حجَّته دائريَّة. وقد ظل الغزالي في حالة الشكِّ هذه لشهرين كما يُبلغنا، حتى هداه الله إلى الثقة في العقل مرَّة أخرى.

وكانت السنوات الأربع التي دَرَّسَ فيها الغزالي في المدرسة النظامية، هي الفترة التي دَرَسَ فيها الفلسفة بكثافة وكتب عدداً من المؤلفات المتصلة بها، وكان أهمَّها هو «تهافت الفلاسفة». كما كتب في الفترة نفسها «مقاصد الفلاسفة»، وهو عبارة عن عرض لـمُؤَلَّف ابن سينا الذي كتبه بالفارسية «دانش نامه علائي» [كتاب الحكمة المهدَى للأمير علاء الدولة]. واشتهر كتاب «مقاصد الفلاسفة» في العالم المسيحي بعد ترجمته للَّاتينية، لكنه فُهِمَ خطأً على أنه عرضٌ لمذهب الغزالي. وفي مقدمته وخاتمته أعلن الغزالي أنه كتبه بقصد عرض آراء فلاسفة الإسلام كمقدِّمة لتفنيدها في «تهافت الفلاسفة»، لكن الملفت للنظر أن الغزالي لا يذكر «مقاصد الفلاسفة» في «تهافت الفلاسفة» ولا يُحيل إليه. والمحتمَل أنه كتب «مقاصد الفلاسفة» لنفسه على سبيل التوضيح الذاتي لنظريات الفلاسفة تمهيداً للرَّدِّ عليها، وعندما قرَّر نشره، أضاف إليه العبارات التي يقول فيها إنه كتبه كتمهيد لـ«تهافت الفلاسفة»، لكن هذا مجرَّد تخمين على أي حال. وقد كتب الغزالي في هذه الفترة كتاباً آخر يتَّصل بـ«تهافت الفلاسفة» وهو «معيار العِلم»، وكتبه، باعتباره ملحقاً على «التهافت». وهو عرض لمنطق ابن سينا، وكان أوضح وأشمل أعماله المنطقية.

وإلى هذه الفترة ينتمي كذلك أحد أهم مؤلفاته الكلامية، وهو «الاقتصاد في الاعتقاد»، وهو عمل يتبع المذهب الأشعري، وكان الغزالي يعتزُّ به للغاية، وكتبه بعد «التهافت» وكان متَّصلاً به بشدة. فقد كان هدف الغزالي من «التهافت» تفنيد آراء الفلاسفة فقط، لا إقرار آراء صادقة كما يُصرِّح هو([3]). أما الاعتقادات اليقينية، فقد وضعها الغزالي في «الاقتصاد في الاعتقاد» وكذلك في عمل أقصر هو «قواطع الأدلَّة» الذي أدخله في عمله الضخم «إحياء علوم الدين»([4]) الذي كتبه بعد أن ترك بغداد ودخل في مرحلته الصوفية.

وقد دخل الغزالي في التصوف نتيجة أزمة روحية؛ إذ يخبرنا في سيرته الذاتية أنه اكتشف أن دخوله في التعليم والكتابة كان بهدف النجاح الدنيوي، ولم يكن هذا هدفاً دينياً، كما أنه يُلَمِّح إلى سبب أعمق، وهو عدم رضاه عن المذاهب العقلية في الدين [الكلام والفلسفة]، والتي تجاهلت الجانب الروحي من الحياة الدينية، وهو «الذَّوق» الذي أشار إليه في السابق. فقد قرأ للصوفية وأراد اتِّبَاع طريقهم، وتطلَّب هذا منه الانقطاع والتفرغ لله غير عابئ بشؤون الحياة الدنيا. ولذلك قرَّر الرحيل عن بغداد وترك التعليم هناك. وكي يقوم بذلك دون أن يواجه السلطات، أعلن أنه ذاهب للحج إلى مكة. وبعد أن رتَّب أحوال أسرته، رحل إلى سوريا واعتزل في المسجد الجامع هناك، ثم رحل إلى القدس وزار قبَّة الصخرة والخليل، ثم أخيراً زار مكَّة والمدينة.

وقضى حوالي إحدى عشرة سنة من مرحلته الصوفية دون أن يمارس التعليم. وفي هذه الفترة؛ كتب عمله الأكبر «إحياء علوم الدين»، والذي سعى فيه للتوفيق بين العقيدة الإسلامية والتصوُّف. وفي أعمال صوفية أخرى؛ ربط بين ما أطلق عليه الصوفية «الفناء»؛ أي: فناء النفس في الله، بالقرب من صفات الله، وهي رؤية أكثر قبولاً للعقيدة الإسلامية. وقد احتوى «الإحياء» على ابتهالات دينية هدفها بثُّ التقوى، للتشجيع على حياة الزهد كشرط لمن أراد السير في طريق الصوفية. وفي سنة 499هـ/ 1106م استأنف تعليمه للشريعة في نيسابور في البداية، ثم في طوس، حيث توفى في 505هـ/ 1111م. وفي عودته لتدريس الفقه؛ كتب عملَه الفقهي الكبير «المستصفَى من علم الأصول». وبعد «الإحياء» كتب الغزالي عدداً من الأعمال القصيرة التي تلخِّص الأفكار الأساسية فيه، مثل: «المقصد الأسنى في أسماء الله الحسنى»، و«فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة»، و«كتاب الأربعين في أصول الدين»، وكتب في التصوف بالفارسية «كيمياء السعادة»، وبالعربية «مشكاة الأنوار»، وسيرته الذاتية «المنقذ من الضلال»، ثمَّ عمله الأخير «إلجام العوام عن علم الكلام».

ولفكر الغزالي الديني أوجه متنوعة؛ عَبَّر عنها في سياقات مختلفة. وأحد أهم المقاربات لتناول فكره هو تناوله من جانب علاقة مذهبه الكلامي الأشعري بالفلسفة أولاً، ثم بتصوُّفه ثانياً.

الغزالي والأشاعرة

يُعَدُّ «الاقتصاد في الاعتقاد» هو العمل الأساسي الذي عرض فيه الغزالي مذهبه الكلامي بالكامل. وما له دلالة أنه ظلَّ يعتزُّ بهذا الكتاب حتى في مرحلته الصوفية، عندما صرَّح في «الأربعين في أصول الدين» بأن كتاب «الاقتصاد» يحوي كل أساسيات علم الكلام (الأشعري تحديداً)، ثم يضيف مباشرة أنه يصل إلى أعمق ما وصل إليه مذهب الأشاعرة في إقرار الحق، وأنه أقرب إلى «طرق أبواب المعرفة» بعيداً عن «الكلام الرسمي» الذي نجده في كتب الأشاعرة([5]). ومما له دلالة أن الغزالي لم ينظر إلى «الاقتصاد في الاعتقاد» على أنه كتاب أشعريٌّ صميم، ونظر إليه على أنه يتجاوز مذهب الأشاعرة في إقراره للحق.

كان أساس علم الكلام الأشعري هو نظريتهم في الصفات الإلهية. ويلتقط الغزالي هذه النظرية ويوسعها. ذهب الأشاعرة إلى أن صفات الله: الحياة والعلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر؛ أزليَّة مع ذات الله ومرتبطة بها بشدة، لكن ليست مساوية لها؛ إذ هي صفات «زائدة» على الذات الإلهية. وكانت هذه النظرية حاسمة بالنسبة للغزالي في رفضه لقِدَم العالم المصاحب لقِدَم الله. فلو كانت صفات الله مساوية لذاته، فسوف يكون فعل الله أزلياً وتابعاً بالضرورة لذاته، أو طبيعته أو ماهيته*. وعند ابن سينا الذي يواجهه الغزالي، فإن الله هو العلَّة الأولى لكل ما يصدر عنه من موجودات، والتي تشكِّل في مجموعها العالَم. ووفق ابن سينا، فإن أولوية العلَّة الأولى هي أولوية أنطولوجية وحسب، وليست أولوية زمانية**. والعلَّة الأولى مصاحبة لأثرها في الزمان. وبالتالي، فالعالَم عند ابن سينا، باعتباره الأثر الضروري اللازم للعلَّة الأولى، أزليٌّ بالضرورة.

وكانت هذه الحجة تعني في نظر الغزالي إلغاء صفة الإرادة الإلهية. صحيح أن الغزالي أكَّد أن كل مراد الله يتحقق بالضرورة، وبالتالي فكل ما يصدر عن الله ضروري، لكنه رغم ذلك ليس ضرورياً عن ذات الله، وليس مساوياً له. ولـمَّا كانت الإرادة الإلهية عند الغزالي غير مساوية لذاته؛ فليس على الإرادة القديمة أن تأتي بعالم مُلازم لها في القِدَم. فالإرادة الإلهية تخلق العالم بإرادة حرَّة قديمة، لكنها شاءت أن يأتي العالم في لحظة من الزمان بفعل إراديٍّ حُرٍّ. وبهذا الفعل الحرُّ، شاءت الإرادة الإلهية أن يُخْلَق العالم من العدم في لحظة من الزمان الماضي.

وكل ما أمرت به إرادة الله يأتي للوجود بقدرة الله. وهذا ما يأتي بنا إلى التساؤل عن علاقة صفات الله مثل الحياة والعلم والإرادة والقدرة ببعضها البعض. لا يوجد علم دون حياة، ولا إرادة دون علم، ولا قدرة دون إرادة. فكل واحدة من الصفات الأربع (الحياة والعلم والإرادة والقدرة) شرط للصفات الأخرى وتفترضها. لكن هذا لا يعني أنها أسباب لبعضها البعض، فهي صفات أزلية موجودة معاً دون سببيَّة مُتبادَلة فيما بينها. وعلاوة على ذلك، فإن قدرة الله القديمة قدَّرَت أن تَتْبَع كل المخلوقات مساراً ثابتاً. ويشير الغزالي لهذا المسار الثابت بتعبير «إجراء العادة»، وهي تقدير الله أن تسير الأشياء وفق مسار اعتيادي [لا سببي]، لكن هذا المسار الاعتيادي ليس في ذاته ضرورياً؛ إذ يمكن قطعه دون أي تناقض، والإرادة الإلهية القديمة التي قَدَّرَت هذا المسار الاعتيادي، هي أيضاً التي قَدَّرَت انقطاعه في أوقات معيَّنة من التاريخ. وهذه الانقطاعات هي المعجزات التي خلقها الله لأنبيائه وأوليائه.

وصفة القدرة الإلهية هي العلَّة الوحيدة لكل المخلوقات والحوادث([6])، كما أنها شاملة لكل شيء. ويعني الغزالي بذلك أنها واحدة، وليست منقسمة لقدرات كثيرة، وهي علَّة كل شيء وكل حادثة في العالم. ويتكوَّن عالمنا من أجسام، مركَّبة من أجزاء لا تتجزأ [ذرَّات] وأعراض تحلُّ فيها. والأجزاء التي لا تتجزأ والأعراض والأجسام التي تتركب منها وكل مسارات الحوادث تشكِّل النظام الذي يتضمن ما نطلق عليه الأسباب والآثار، لكن على الرغم من أن هذه الأشياء تسلك كما لو أنها أسباب وآثار، إلا أنها ليست كذلك في الحقيقة؛ فهي حوادث مصاحِبة لبعضها البعض وحسب، وليست هناك صلة بينها، لكنها مرتبطة سببياً بسبب واحد فقط وهو الله. وهذا ما يأتي بنا إلى المقصود بقولنا: إن مذهب الغزالي الكلامي هو نظرية ظرفية occasional. فالأشياء التي ننظر إليها في العادة على أنها أسباب ليست في حقيقتها سوى مناسبات أو ظروفاً مناسبة للفعل الإلهي المباشر والفعلي، وهي تتبَع نظاماً موازياً للنظام الذي نظر إليه ابن سينا على أنه نظام سببي، بحيث يمكننا البرهنة على وجود شيء من سلسلة أحداث اعتيادية كما لو أنها أسباب وآثار([7]).

ويحوي «مذهب الظرفية» occasionalism الأشعريُّ نظريَّةً تُسمَّى «الكَسْب». [تنص هذه النظرية على أن] الأفعال الإنسانية مخلوقة بإرادة الله مثلها مثل الحوادث. تخلق فينا القدرة الإلهية قوة نَخْبرها على أنها سبب حدوث أفعالنا، لكن مثلما ننظر إلى الحوادث على أنها أسباب وآثار لبعضها البعض، وهي في حقيقتها تسير بحكم العادة ومخلوقة لله؛ فكذلك الحال مع أفعالنا [إذ ننظر إليها على أنها آثار لقدرتنا على الفعل وما هي سوى أفعال مخلوقة من الله]، وهي أفعال مصاحبة للحوادث التي ننظر إليها في العادة على أنها قدرتنا على الفعل. هذه القدرة ليست في الحقيقة سبباً لأفعالنا، بل هي مخلوقة فينا من الله نفسه. وبعبارة أخرى، فإن القوة المخلوقة فينا على الفعل ليست سبباً لأفعالنا. وكل ما نعتقد أنه من آثار قدرتنا على الفعل هو في حقيقته آثار لقدرة الله. ويُصرُّ الغزالي على القول إن القوة المخلوقة فينا تصاحب آثارها ولا تُسبِّبها، وأن هذه الآثار من فعل الله. ولا تسبق القوة التي فينا الفعل الناتج عنها. فالقوة على الفعل والفعل نفسه مخلوقان معاً بقدرة الله. ورغم ذلك، فقدرة الله لا يمكنها أن تُحْدِث المحال؛ فهذه القدرة لا تفعل فينا إلا بعد أن تخلق فينا الحياة والعلم والإرادة، وكل هذه مخلوقات مباشرة من الله نفسه.

وإذا كان الأمر كذلك؛ فكيف نميِّز بين أفعالنا التلقائية الطبيعية [مثل هضم الطعام] وأفعالنا الإرادية [مثل بناء بيت]؟ ووفقَ مذهبِ الأشاعرة الذي يتمسك به الغزالي؛ فإن الأفعال التلقائية اللاإرادية ليست مصاحِبة لقدرتنا المخلوقة على الفعل، في حين أن ما ننظر إليه على أنه أفعالنا الإرادية؛ مصاحِب لقدرتنا [لكن ليست قدرتنا سبباً لها]. وهذا هو الفرق بيننا، ونحن على وعي بهذا الفرق. لكن لا تحل هذه النظرية إشكالية المسؤولية الأخلاقية، التي تفترض حرية الإرادة البشرية. وكان الغزالي على وعي بهذه الإشكالية، لكنه تمسَّك بنظرية الكسب باقتراحه لحل هذه الإشكاليات من خلال رؤيته الصوفية، حيث توضع الأفعال الإنسانية في السياق الكوني الشامل الذي يجب أن تُفهَم في إطاره.

تهافت الفلاسفة

وكما سنشير لاحقاً؛ ظهرت النظرية الظرفية الأشعرية التي وضعها الغزالي في «الاقتصاد في الاعتقاد» في سياقات مختلفة من أعماله الأخرى، ومنها «إحياء علوم الدين»، كما شكَّلَت هذه النظرية الخلفية الفلسفية لكتابه «تهافت الفلاسفة»، وهي تساعدنا في فهم أفضل لأهم الحجج التي يقدِّمها في هذا الكتاب.

صحيح أن الغزالي أراد من «التهافت» أن يكون تفنيداً لآراء الفلاسفة، ولم يكن يقصد منه عرض مذهبه الكلامي الأشعري. ولذلك، فهو يعلن صراحةً أنه لم يدافع فيه عن مذهب معيَّن. وعلاوة على ذلك؛ فهو يفترض صحة خصومه الفلاسفة في مسألتين كي يوضح أن ما أكَّد الفلاسفة على استحالته هو في الحقيقة ممكن عقلاً [أي: المعجزات والبعث الجسدي]. وكان في ذلك مُتَّسِقاً مع نفسه عندما أعلن أن هدفه الأساسي في «التهافت» هو التفنيد وليس توكيد مذهب معيَّن.

وفي أحد أعماله اللاحقة([8]) أعلن الغزالي أن «التهافت» ينتمي لأعماله الكلامية -وكان مُحقَّاً في ذلك؛ فقد كان على قناعة بأن المهمة الأساسية لعلم الكلام الأشعري هي الدفاع عمَّا ارتآه أنه مذهب أهل السنَّة. ويُعَد «التهافت» مثالاً على هذا الدفاع، رغم أنه لا يقدِّم فيه مذهباً بعينه. وفي الوقت نفسه، يحتوي هذا الكتاب على توكيدات وافتراضات خفية إذا اسْتُخِرَجت تكشف عن مذهب الأشاعرة. وكما سنوضح فيما يلي، فإن منهج الغزالي في التفنيد هو نفسه منهج الأشاعرة. وبالتالي، فعندما يعلن ابن رشد، الناقد الأهم للغزالي في كتابه «تهافت التهافت» أن موقف الغزالي هو الموقف الأشعري، فقد كان مُحِقَّاً في ذلك. لكن قبل تناول الأساس الأشعري الذي يكمن تحت حجج الغزالي المضادة للفلاسفة، يجب التقديم لهذا الكتاب باختصار.

يُفْرِد الغزالي بالنقد في «التهافت» كلَّاً من الفارابي وابن سينا. فهذان الفيلسوفان هما في نظر الغزالي أفضل مَنْ عرض مذهب أرسطو. لكن علينا التنبيه هنا على أن الفارابي وابن سينا لم يكونا أرسطيين وحسب، بل فوق ذلك من أتباع الأفلاطونية المحدَثة، وأقاما مذهبين في الفيض والصدور كلٌّ بطريقته الخاصة. ورغم تشابه مذهبيهما في الصدور، إلا أنهما ليسا متطابقين، كما أن مذهبيهما في النفس والمعاد الأخروي لم يكونا متطابقَين كذلك. وكان الغزالي يستهدف في الأساس مذهب ابن سينا، لكن تنطبق انتقادات الغزالي على مذهب الفارابي بالتبعيَّة. وفي بعض المواضع من «التهافت» يشير الغزالي إلى ابن سينا ضمناً، لكنه يعلن أن الموقف الذي يفنِّده هو موقف «الفلاسفة».

يهدف الغزالي في «التهافت» إلى مواجهة أفكار الفلاسفة التي نظر إليها على أنها تعارض العقيدة الإسلامية. وبذلك يتناول عشرين نظرية فلسفية، يحكم على ثلاث منها بالخروج عن العقيدة الإسلامية وعلى القائلين بها بالكفر، وبإدخال بِدَع في العقيدة ظهرت لدى غير الفلاسفة من بعض الفرق الإسلامية*. والنظريات الثلاث التي حكم عليها الغزالي بالخروج عن العقيدة الإسلامية هي: قِدَم العالم، ومعرفة الله للكليَّات وحدها دون الجزئيَّات (وهي نظرية ابن سينا تحديداً)، ونظرية ابن سينا في الخلود الروحي للنفس؛ ما يعني إنكار البعث الجسدي. ولتفنيد هذه النظريات، ما كان على الغزالي إلا أن يوضح أنها ليست مبرهَنة في مذاهب الفلاسفة، كما أنها متناقضة مع بعضها ومع مبادئ الفلاسفة أنفسهم.

السببيَّة

يظهر مذهب الغزالي الأشعري في «التهافت» في المسائل التي تتناول السببيَّة؛ إذ خصَّص المسألة الأولى لإشكالية أصل العالم، وهي تتكوَّن من تفنيده لأربعة أدلَّة على قِدَم العالم، وأطولها هو تفنيده للدليل الأول. ويستند دليل الفلاسفة على أقوى حُججِهم، وهي نظريتهم في سببية الله. فوفق الفلاسفة: لو كان العالم مخلوقاً في الزمان؛ فهذا يعني تأخُّر العلَّة [الله] عن إحداث أثرها [العالم]، في حين ليس هناك ما يؤخِّر فعل الله عن إحداث آثاره*. وبعد أن يعرض الغزالي لحجة الفلاسفة في أقوى صورها؛ يُفنِّدها بسؤاله عمَّا إذا استطاع الفلاسفة البرهنة على استحالة نقيض هذه الحجة، وهي أن الله قد خلق العالم في الزمان بإرادة قديمة، أرادت منذ القِدَم أن يُخلَق العالم في لحظة من الزمان (تهافت الفلاسفة، نشرة موريس بويج، ص50)، وهو يحاجج بأنهم لا يستطيعون ذلك، لا بقياس يقيني ولا بضرورة العقل. وإذا استحالت البرهنة على بطلان نقيض نظرية الفلاسفة؛ يبطل برهانهم على قضيتهم. وفي خاتمة هذا التَّفنيد، يشير الغزالي إلى نظرية الفلاسفة في أن سبب حدوث الحوادث الزمانية هو حركة الأفلاك، وهو يرفضها بتوكيد لنظرية الأشاعرة في أن الحوادث «مخترعة لله ابتداءً» (تهافت الفلاسفة 65).

وفي المسألة الثالثة؛ يناقش الغزالي استخدامات كلمة «الفاعل». ينتمي الفعل إلى كائن حي، مريد، عارف. وعندما يأتي الغزالي باعتراض مفترض من خصمه؛ يقول إن النار تحرق أي: يأتي منها الفعل، يصرُّ الغزالي على أن إطلاق اسم الفاعل على النار هو على سبيل المجاز وحسب: فالنار في ذاتها لا فعل لها (تهافت الفلاسفة 92)، وهي الفكرة التي كرَّرها الغزالي في المسألة السابعة عشرة (تهافت الفلاسفة 192).

وعلى الرغم من أن المسألة السابعة عشرة مخصَّصة للسببيَّة؛ إلا أن هدفها الأساسي توضيح أن بعض المعجزات الواردة في القرآن، والتي قال عنها الفلاسفة إنها مُحالة؛ هي في حقيقتها ممكنة([9]). يبدأ الغزالي مناقشته بوضع العقيدة الأشعرية القائلة إن: «الاقتران بين ما يُعتَقد في العادة سبباً وما يُعتَقد مُسَبَّباً؛ ليس ضرورياً عندنا...». فوجود أحدهما لا يلزم عنه بالضرورة وجود الآخر، ولا يتبعه توكيد أو نفي الآخر، وهو يعطي أمثلة على ذلك: «مثل الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وحَزُّ الرقبة». والصِّلة بين أحدهما والآخر هي بتقدير الله الذي خلقها واحدة تلو الأخرى. هذه الصِّلة بينهما ليست ضرورية ويمكن انقطاعها. وبالتالي، ففي قدرة الله أن يُحدِث الموتَ دون حزِّ الرقبة، وأن تستمر الحياة بعد حزِّ الرقبة (تهافت الفلاسفة 195).

ثم يعطينا الغزالي بعد ذلك مثاله الشهير عن إلقاء قطعة من القطن بالنَّار؛ فما نراه هو حدوث احتراق قطعة القطن عند ملاقاتها بالنار، لكن ما نراه هو حادثتان متتاليتان. أمَّا الذي يجعل قطعة القطن تَسْوَدُّ وأجزاءها تفترق وتتحول لرماد؛ هو الله، سواء مباشرة أو بتوسُّط ملائكته (تهافت الفلاسفة 196). (سوف نعود لنتناول مقصود الغزالي بتوسُّط الملائكة في مناقشتنا لكتابه «إحياء علوم الدين»).

وفي سياق مناقشته للسببيَّة، يضع الغزالي على لسان خصومه اعتراضاً ليردَّ عليه؛ فعندهم أن إنكار ضرورة السببيَّة في حوادث الطبيعة يلزم عنه محالات. إذ لن يكون هناك نظام في العالم، وستكون كل الحوادث إمكاناً صرفاً، ويمكن لنقيض هذه الحوادث أن يكون ممكناً مثلها، فيمكن للإنسان أن يلاقي وحوشاً ضارية ونيراناً حارقة ولا يراها؛ لأن الله لم يخلق فيه القدرة على رؤيتها. وسوف يتبع ذلك محالات كثرة (تهافت الفلاسفة 198). ويردُّ الغزالي بقوله: إن الممكن خلقَه الله في أذهاننا ممكناً، ولو خلقه محالاً؛ لانقلبَ إلى المحال ولَصحَّ اعتراض الخصوم، لكن الله خلقها ممكنة لا ضرورية، وبالتالي فيمكن أن تحدث وألَّا تحدث (والمتضمن في هذا النقاش نظرية الغزالي في «إجراء العادة»؛ أي: تقدير الله لأن تسير الحوادث في تسلسل متتابِع معتاد، لكن بغير ضرورة). وبالتالي، فإنَّ اعتراضَ الخصوم على الغزالي لا يرقى في نظره إلا إلى تشنيعات.

ولِتجنُّب مثل هذه التشنيعات، يقدِّم الغزالي نظرية أخرى في السببية (تهافت الفلاسفة 201-205)؛ فهو يسلِّم بأن النار إذا لاقت قطعتين من القطن ستحترقان. وبالتالي، فإن درجة من فعل السببيَّة مسموح بها في الأشياء الطبيعية، لكن في حالة تقدير الله المسبق، لا بالضرورة اللازمة عن ماهية الله، ويمكن لله أن يتدخَّل في مسار الطبيعة في أي وقت لإحداث معجزة، فيمكن لإبراهيم مثلاً أن يُقذَف في النار دون أن يحترق، إمَّا بأن يُغَيِّر الله من طبيعة النار، أو بأن يخلق سبباً يعيق فعلها.

ويخبرنا الغزالي أن كلتا النظريتين ممكنتان؛ أي: النظرية الأشعرية التي تنفي السببيَّة، ونظريته هو التي تسمح بها في حدود الأشياء الطبيعية، لكن بأي معنى تكونان ممكنتين معاً؟ فالواحدة منهما تنفي السببيَّة، والأخرى تثبتها، وبالتالي فهما يستبعدان بعضهما البعض. إن ما يقصده الغزالي من إمكانهما معاً أن كل واحدة منهما متَّسِقة داخلياً في استقلال عن الأخرى، ويسمحان بالمعجزات التي قطع الفلاسفة باستحالتها. وهذا ما يوازي حجَّته في المسألة العشرين، عندما يعترف بأن النفس الإنسانية لاماديَّة كما قال ابن سينا، وبأن البعث الجسدي ممكن أيضاً عكس ما ذهب ابن سينا. وفي كتاب «الاقتصاد في الاعتقاد» يعود الغزالي لتوكيد النظرية الأشعرية في ماديَّة النفس؛ مُحيلاً إلى «تهافت الفلاسفة» قائلاً:

«وقد أطنبنا في هذه المسألة في كتاب التهافت، وسلكنا في إبطال مذهبهم تقرير بقاء النفس التي هي غير متحرِّز عندهم. وتقدير عود تدبيرها إلى البدن، سواء كان هذا البدن هو عين جسم الإنسان، أو غيره؛ وذلك إلزام لا يوافق ما نعتقده، فإن ذلك الكتاب مُصَنَّف لإبطال مذهبهم، لا لإثبات المذهب الحق...»([10]).

لا نرى في هذا النص أيَّ توكيد على الحجة التي تسمح بفعل السببيَّة، والتي رأيناها في «تهافت الفلاسفة»، كما لا نجدها في «إحياء علوم الدين» أو المؤلَّفات التالية عليه. وكل هذه الشَّواهد تدلُّنا على أن الغزالي أدخلها في «التهافت» للجدل مع الفلاسفة وحسب، لإثبات أنه حتى في حالة تسليمنا بفعلٍ ما للسببيَّة؛ فهذا لا يعني إنكار المعجزات كما فعل الفلاسفة.

يؤكد الغزالي في «الاقتصاد في الاعتقاد» على النظرية الأشعرية في الجواز*، بقوة وحسم، وهو يؤكِّدها بتفنيد مُطَوَّل لنظرية التوليد التي تبنَّاها المعتزلة، والتي ربطها الغزالي في «تهافت الفلاسفة» بنظرية الفلاسفة في السببيَّة (تهافت الفلاسفة 251). ويعقِّب الغزالي على هذا التفنيد بنتيجة تقول «...الحادثات كلها، جواهرها أعراضها الحادثة منها في ذات الأحياء والجمادات، واقعة بقدرة الله تعالى، وهو المستبد باختراعها. وليس يقع بعض المخلوقات ببعض، بل الكلُّ يقع بالقدرة» (الاقتصاد في الاعتقاد 99). وفي نقاشه لمصطلح «الأجل»، الذي يعني انتهاء حياة الإنسان، يطرح الغزالي سؤالاً عن حزِّ الرقبة وهل هو سبب الموت أم لا. ويجيب الغزالي:

ويُبنَى على هذا أن مَنْ قُتِلَ ينبغي أن يُقال [عليه] أنه مات بأجَله، الأجل عبارة عن الوقت الذي يخلق الله فيه موته، سواء كان معه حزُّ رقبة، أو كسوف قمر، أو نزول مطر، أو لم يكن. لأن كل هذه عندنا مقرنات، وليست متولدات، ولكن اقتران بعضها يتكرر بالعادة، وبعضها لا يتكرر (الاقتصاد في الاعتقاد 224 - 225).

إن إرادة الله الأزلية قدَّرت أن الموت يتبع حزَّ الرقبة (كما قدرت عدم حدوث معجزة [وهي حزُّ الرقبة دون موت])، حتى ولو كان السبب الحقيقي للموت هو قدرة الله. وهذا ما يؤكده الغزالي في معالجته لنظرية ابن سينا الأرسطية في البرهان، حيث ينكر الضرورة في أشياء الطبيعة، ويحل محلها العادة التي هي جائزة في ذاتها، لكنها مُقَدَّرة بقضاء الله. وتبقى العادة هي المبرر الوحيد للاستدلال البرهاني، وللمعرفة العلمية.

وفي «معيار العلم» وهو العمل المنطقي المصاحب لـ«تهافت الفلاسفة»، يقبل الغزالي فكرة ابن سينا أن بعض المقدمات التجريبية [في البراهين] تنتج اليقين. لكن يعترض على ذلك بقوله: «فإن قال قائل: كيف تعتقدون هذا يقيناً؟ والمتكلمون شكُّوا فيه وقالوا: ليس الجزُّ سبباً للموت ولا الأكل سبباً للشبع ولا النار علة الإحراق، ولكن الله تعالى يخلق الاحتراق والموت والشبع عند جريان هذه الأمور، لا بها». وفي إجابته يقول الغزالي:

أن المتكلم...معترف بحصول الموت [بحزِّ الرقبة، لكنه] باحث في وجه الاقتران. وأما النظر في أنه لزوم ضروري، ليس في الإمكان تغييره، أو هو بحكم جريان سنَّة الله تعالى، لنفوذ مشيئته الأزلية التي لا تحتمل التبديل والتغيير؟ فهو نظر في وجه الاقتران، لا في نفس الاقتران...([11])

وللعلم، فإن ابن سينا يعترف مثل الغزالي بأن الملاحظة [التجريبية] تُرينا اقتراناً وحسب، لكنه خلف ملاحظة الانتظامات في هذا الاقتران، هناك قياس مُضمَر، مفاده أن هذه الانتظامات لو كانت بالصدفة أو الاتفاق؛ فلن تكون دائمة أو في غالب الأحوال. ومن ذلك يستنتج ابن سينا أن الانتظامات في الأشياء مصدرها خصائص سببيَّة في هذه الأشياء. ويقبل الغزالي وجود هذا «القياس المضمر»، لكنه دائماً ما يستخلص منه نتيجة مختلفة، وهي أن هذه الانتظامات مصدرها قضاء الله الأزلي([12]).

مبدأ الظرفية في «إحياء علوم الدين»

عندما نعرج على كتابات الغزالي بعد تحوله للتصوف، وخاصة في كتابه الشهير «إحياء علوم الدين»، نجد تأكيداً من جانبه على نظرية الظرفية الأشعرية، وفي سياقات مختلفة من هذا الكتاب¨. ظهرت هذه النظرية من قبل في كتابه «قواعد العقائد»، حيث يلخِّص مذهب الأشاعرة في العقيدة ويدافع عنه، خاصة دفاعه عن مبدأ «الكسب». وأحياناً ما نجد هذه النظرية عَرَضاً داخل تعليق عابر منه، والمثال على ذلك فقرة من «كتاب المحبة» من «إحياء علوم الدين»:

وكيف يُتَصوَّر أن يحب الإنسان نفسه ولا يحب ربَّه الذي به قوام نفسه؟ ومعلوم أن المبتلَى بحرِّ الشمس لَمَّا كان يحب الظل؛ فيحب بالضرورة الأشجار التي بها قوام الظل وكل ما في الوجود بالإضافة إلى قدرة الله تعالى؛ فهو كالظل بالإضافة إلى الشجر والنور بالإضافة إلى الشمس، فإن الكل من آثار قدرته ووجود الكل تابع لوجوده، كما أن وجود النور تابع للشمس ووجود الظل تابع للشجر، بل هذا المثال صحيح بالإضافة إلى أوهام العوام إذ تخيَّلوا أن النور أثر الشمس وفائض منها وموجود بها.

وهو خطأ محض إذا انكشف لأرباب القلوب انكشافاً أظهر من مشاهدة الأبصار أن النور حاصل من قدرة الله تعالى اختراعاً عند وقوع المقابلة بين الشمس والأجسام الكثيفة، كما أن نور الشمس وعينها وشكلها وصورتها أيضاً حاصل من قدرة الله تعالى، ولكن الغرض من الأمثلة التفهيم فلا يطلب فيها الحقائق**

ما نجده هنا هو استخدام الاعتقاد الشائع في فاعلية أشياء الطبيعة -الذي يعلن الغزالي أنه خطأ محض- لتقديم رأيه الخاص. فالشمس والجسم الكثيف الذي تقابله ليسا السببين الحقيقيين [للظل]، بل هما السببان الاعتياديان أو الظرفيان. وهذا ما يتَّضح في مناقشة الغزالي لعلم التنجيم [أحكام النجوم] في «الإحياء». وتبدأ المناقشة في «كتاب العلم». فأحكام النجوم وفق الغزالي هي «تخمين محض» من حركات النجوم، وهي تشبه تخمين الطبيب بحدوث مرض من قياسه للنبض. ويؤكد الغزالي أن هذا التخمين «هو معرفة لمجاري سنة الله تعالى وعادته في خلقه» (إحياء علوم الدين، الجزء الأول ص30). ويقول: إن بعض الأنبياء حازوا على هذه القدرة في التخمين، لكن حَرَّمَ الشرع الاحتكام للنجوم؛ لأنه مُضِرٌّ بأكثر الخلق. ومصدر ضرره أن الناس إذا قيل لهم: «إن هذه الآثار تحدث عقيب سير الكواكب؛ وقع في نفوسهم أن الكواكب هي المؤثِّرة وأنها الآلهة المدبِّرة؛ لأنها جواهر شريفة سماوية ويعظم وقعها في القلوب فيبقى القلب مُلتَفِتاً إليها» (الإحياء، الجزء الأول ص31)؛ ذلك لأن إدراك الضعفاء من الناس متعلِّق بالوسائط من الأشياء، ولا علم لهم بأن الأفلاك السماوية خاضعة لقضاء الله وإرادته.

ويستكمل الغزالي هجومه على أحكام النجوم في «كتاب الصبر والشكر»، إذ يقول:

ولا ينبغى أن تظن أن الإيمان بأن النجوم والشمس والقمر مسخَّرات بأمر الله سبحانه في أمور جعلت أسباباً لها بحكم الحكمة مخالف للشرع لما ورد فيه من النهي عن تصديق المنجِّمين وعن علم النجوم، بل المنهي عنه في النجوم أمران: أحدهما أن تصدِّق بأنها فاعلة لآثارها مستقلة بها، وأنها ليست مُسخَّرة تحت تدبير مدبِّر خلقها وقهرها وهذا كفر. والثاني تصديق المنجِّمين في تفصيل ما يخبرون عنه من الآثار التي لا يشترك كافة الخلق في دركها؛ لأنهم يقولون ذلك عن جهل، فإن علم أحكام النجوم كان معجزة لبعض الأنبياء عليهم السلام ثم اندرس ذلك العلم، فلم يبقَ إلا ما هو مختلط لا يتميَّز فيه الصواب عن الخطأ. فاعتقاد كون الكواكب أسباباً لآثار تحصل بخلق الله تعالى في الأرض وفي النبات وفي الحيوان؛ ليس قادحاً في الدين (إحياء علوم الدين، الجزء الرابع ص114).

والتعبير الجوهريّ في هذه الفقرة هو «بخلق الله»؛ فالأسباب ليست هي الأشياء التي تُحدِث للآثار في الأرض والنبات والحيوان، بل الآثار من خلق الله، لكن ماذا يعني الغزالي بالأسباب والوسائط والأشياء التي تفعل بتسخير الله؟ علينا أن نستخلص ما يقصده الغزالي من سياقه؛ فالذي يقصده الغزالي بالأسباب، فيما عدا الله، هي الأسباب الاعتيادية [لا الضرورية]. وبعض هذه الأسباب هي مجرَّد مناسبات لخلق آثارها - فخلق الإرادة والعلم والحياة في البشر هي مناسبات تسبق خلق القدرة الإنسانية على سبيل المثال. وعندما يتكلم الغزالي عن الوسائط المسخرة لله، مثل الملائكة، فهو يبدو للوهلة الأولى أنه يلحق بها فاعلية سببيَّة، لكنه يقصد العكس كما يتضَّح من سياق حديثه.

وفي «كتاب التوحيد والتوكل» من «إحياء علوم الدين»؛ يخبرنا الغزالي أن العارف يؤمن بأن «لا فاعل إلا الله تعالى... فإنه الفاعل على الانفراد دون غيره» (إحياء علوم الدين، الجزء الرابع، ص240). ويمكن أن يُعزى الفعل إلى فاعل آخر من خدَّام الله، لكن على سبيل: أنه المحل الذي يظهر فيه فعل الله، ويبقى الفعل الحقيقي لله؛ أي: بمعنى تأثير العلَّة في معلولها وأثر الخالق في مخلوقاته (إحياء علوم الدين، الجزء الثالث، ص123). وبهذا المعنى نفسه يلحق القرآن الفعل بالله في أحيان، وبمخلوقاته المسخَّرة له في أحيان، وبالملائكة في أحيان. لكن إذا كان الله هو الفاعل على الحقيقة، ولا يشاركه في فعله أحد، فيجب أن نستنتج أن الفاعل البشري، مثل الملاك، هو مجرَّد محل ظهور فعل الله، وأنه ليس سوى وسيط لهذا الفعل بهذا المعنى.

يتغلغل مبدأ الجواز عند الغزالي عبر كل كتابه «الإحياء»، لكن كيف يتناسب ذلك مع نقد الغزالي لعلم الكلام الأشعري في «الإحياء» نفسه وفي غيره من مؤلفاته؟([13]). إن السبب الرئيس لانتقاداته للأشاعرة هو الاعتبارات الإبستيمولوجية. يتمسَّك الغزالي بتعريف علم الكلام الأشعري على أنه الدفاع عن العقيدة الإسلامية الحقَّة ضد «البدع الضالة»، وليست هذه المهمة هَيِّنة؛ ذلك لأن التمسُّك بالعقيدة القويمة بالنسبة إلى الغزالي ينطوي على التسليم التام لله وتقواه، وهما أساس خلاص المسلمين في الآخرة، كما أنهما ضروريان لمن سلكَ الطريق الصوفي، وهو الطريق الموصل إلى عرفان الله، لكن الدفاع عن العقيدة هو مجرد وسيلة لهدف أكبر وأهم منه. وعندما يؤخذ عِلم الكلام على أنه هدف في ذاته؛ يؤدي إلى الزلل الضار للغاية بالدين. وعلاوة على ذلك، فإن أكثر المتكلِّمين تَقوَى في نظر الغزالي والذين يتوقفون عند أفكار معيَّنة؛ يمكن أن يُحْجَبوا عن إدراك الحق عندما تتملَّك هذه الأفكار من نفوسهم وتقف بينهم وبين معرفة الحق (الإحياء، الجزء الثالث، ص13).

وهذا ما يأتي بنا إلى هدف الغزالي الأساسي في أعماله الصوفية، وهو معرفة الحقائق. تنتمي هذه الحقائق إلى العالم الإلهي اللامنظور (عالم الملكوت). ويتطلَّب إدراك هذه الحقائق رؤية صوفية، وهذه الرؤية هي الموصلة إلى اليقين. وفي نظر الغزالي، فإن علم الكلام الأشعري يمكن أن يكون حجاباً على هذه الرؤية الصوفية، لكنه يمكن أن يمثِّل طريقاً نحوها. وهذا ما يُحيلنا مرة أخرى إلى عمله الكلامي الأساسي، وهو «الاقتصاد في الاعتقاد»؛ فهو يعلن أن هذا الكتاب يتجاوز الأعمال الكلامية الأشعرية التقليدية في إقراره للحق [لا مجرد الدفاع عنه]، وأنه أقرب إلى طرق باب العرفان. لكن كيف تكون أشعرية الغزالي أقرب إلى أن تكون «طرق باب العرفان» الصوفي؟

هناك نظرية أشعرية أساسية يربطها الغزالي بالرؤية الصوفية، وهي نظرية الكَسْب التي تحتل مكان الصدارة في مسألة السببيَّة. والمقدمة الأساسية لهذه النظرية -والتي كرَّرها الغزالي كثيراً وأكد عليها في «الإحياء»- أن كل فعل إنساني مخلوق مباشرةً بقدرة الله. ويقرُّ الغزالي بأن هناك فرقا بين الكسب، باعتباره نظرية تصوُّرية، والكسب باعتباره وضعاً في النظام الكوني للأشياء، وأن هذا الفرق لا يُتَحصَّل عليه إلا بالرؤية الصوفية. وبذلك نكون أمام مستويين مختلفين ومتكاملين في الوقت نفسه من المعرفة [التصورية العقلية والصوفية الحدسية].

ولنَعُدْ إلى قضايانا الدنيوية ونقول: إن هجوم الغزالي على مبدأ السببيَّة كان له أبلغ الأثر في تاريخ الفلسفة العربية اللاحق، ورغم نواياه اللاهوتية في هجومه على السببية؛ فإن حجته القائلة إن العلاقات السببية الضرورية في الطبيعة لا يمكن البرهنة عليها منطقياً ولا تجريبياً، تظل حجة فلسفية في الأساس. وفي تبنيه لمنطق البرهان السينوي (بعد أن يؤوِّل العلاقات السببية في إطار نظريته في الجواز)، يشير الغزالي إلى أن العلم يستند على «الاعتقاد» في انتظام الطبيعة، وهو يشارك ابن سينا في هذا «الاعتقاد»، لكنه لا يشاركه في تبرير هذا الاعتقاد.

([1]) الغزالي، المنقذ من الضلال، والموصل إلى ذي العزَّة والجلال، حققه وقدم له جميل صليبا وكامل عياد، دار الأندلس، بيروت 1967، ص ص101 – 102

* يقصد المؤلف «الاقتصاد في الاعتقاد» و«إلجام العوام عن علم الكلام»، لكن للغزالي أعمالاً كثيرة في الكلام الأشعري، منها «فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة»، والقسم الأول من «الأربعين في أصول الدين».

([2]) الغزالي، المنقذ من الضلال، ص65-68

([3]) Al-Ghazali, The Incoherence of the Philosophers, 7, 46

[الغزالي، تهافت الفلاسفة. تحقيق موريس بويج وتقديم ماجد فخري. دار المشرق، بيروت، الطبعة الرابعة 1990، ص43، 79 – 80 (المترجم)].

([4]) Al-Ghazali, Ihya’ ‘ulum al-dın, 4 vols. (Cairo: 1377 A.H./1957 C.E.), hereafter Ihya’

[الغزالي، إحياء علوم الدين. دار ابن حزم، بيروت، 2007، ص106 – 150. (المترجم)].

([5]) الغزالي، الأربعين في أصول الدين، تحقيق محمد مصطفى أبو العلا، القاهرة 1964، ص22

* ولما كان العالَم هو فعل الله، ولو كان فعل الله أزلياً؛ فالعالم أزلي، وهو ما رفضه الغزالي.  

** فالله عند ابن سينا يسبق العالم بالمعلوليَّة لا بالزمان؛ لأن العالم مصاحب له في الزمان.

([6]) انظر دراستي: “Al-Ghazalı’s Chapter on Divine Power in the Iqtisad,” Arabic Sciences and Philosophy 4 (1994), 279–315. ومن أجل تفسير مضاد، انظر Frank [108] and Frank [109];؛ وردي على تفسير فرانك في Marmura [118].. انظر أيضاً مراجعة فرانك: Frank [109] in A. Dallal, “Ghazali and the Perils of Interpretation,” Journal of the American Oriental Society 122 (2002), 773–87.

([7]) لشرح كيفية تبنِّي الغزالي لمنطق ابن سينا البرهاني وتكييفه وفق مذهبه؛ انظر:

Marmura, M. E.“Ghazali and Demonstrative Science,” Journal of the History of Philosophy 3.2 (1965), 183–209.

([8]) الغزالي، جواهر القرآن ودرره، تحقيق محمد رشيد رضا القباني، دار إحياء العلوم، الطبعة الثانية، بيروت، 1986، ص39

* مثل الشيعة الإسماعيلية التي خصص الغزالي كتابه «فضائح الباطنية» للرد عليهم. والكثير من الأفكار التي أدانها الغزالي في «تهافت الفلاسفة» تظهر في عرضه للباطنية.

* ترجع هذه الحجة إلى بروقلس، الذي تُرْجِم عمله «في قدم العالم» إلى العربية، انظر: «حجج برقلس في قدم العالم، ترجمة إسحق بن حنين»، في، عبد الرحمن بدوي، الأفلاطونية المحدثة عند العرب. (الكويت: وكالة المطبوعات، 1977)، ص34 – 42

([9]) الأدبيات التي درست السببية في سياق موضوعنا هذا كثيرة، انظر منها بترتيبها الزمني: Fakhry [107]; H. A. Wolfson, “Nicolas of Autrecourt and Ghazali’s Argument against Causality,” Speculum 44 (1969), 234–8; B. Kogan, “The Philosophers al-Ghazalı and Averroes on Necessary Connection and the Problem of the Miraculous,” in Morewedge [32], 113–32; L. E. Goodman, “Did al-Ghazalı Deny Causality?” Studia Islamica 47 (1978), 83–120; I. Alon, “Al-Ghazalı on Causality,” Journal of the American Oriental Society 100 (1980), 397–405; B. Abrahamov, “Al-Ghazalı’s Theory of Causality,” Studia Islamica 67 (1988), 75–98; S. Riker, “Al-Ghazalı on Necessary Causality,” The Monist 79 (1996), 315–24; B. Dutton, “Al-Ghazalı on Possibility and the Critique of Causality,” Medieval Philosophy and Theology 10 (2001), 23–46. بالإضافة لأعمالي في الموضوع نفسه: [116], [117], [118], and [119] Marmura

([10]) الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد. عارضه بأصوله وعلق حواشيه وقدم له إبراهيم أكاه جوبوقجي وحسين أتاي، كلية الإلهيات، جامعة أنقرة 1962، ص215

* يقصد المؤلف بنظرية الجواز؛ أفكار الأشعرية حول تجويز حدوث أي شيء في العالم، فآثار السببية جائزة لا ضرورية، وانقطاع السبب عن أثره جائز، والمعجزات جائزة، وتوقف عمل الطبيعة جائز. حول نظرية الجواز ومبدأ التجويز عند الأشاعرة وخاصة الغزالي؛ انظر، محمَّد عابد الجابري، بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة التاسعة، 2009، ص205 وما بعدها.

([11]) الغزالي، معيار العلم (منطق تهافت الفلاسفة). تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة، 1961، ص ص190 – 191

([12]) المرجع السابق، ص188 – 189، 191

¨ للمزيد حول نظرية الجواز الكلامية وتطوراتها لدى الغزالي، ونقد ابن رشد لها، انظر،

Majid Fakhry, Islamic Occasionalism: And Its Critique by Averroes and Aquinas, Routledge, 2008 (first pub. 1958), pp. 22ff, 56ff.

** الغزالي، إحياء علوم الدين، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1957، الجزء الرابع، ص293

([13]) انظر تناولي الموسَّع لهذا الموضوع في: Marmura, M. E. “Ghazali and Ash‘arism Revisited,” Arabic Sciences and Philosophy 12 (2002), 91–110.