الاختلاف وسياسة التسامح: قراءة في كتاب ناجية الوريمي بوعجيلة


فئة :  قراءات في كتب

الاختلاف وسياسة التسامح:  قراءة في كتاب ناجية الوريمي بوعجيلة

مقدمة

صدر عن المركز الثقافي العربي، وبالتعاون مع مؤسسة "مؤمنون بلا حدود"، سنة 2015 كتاب "الاختلاف وسياسة التسامح" للكاتبة التونسية ناجية الوريمي بوعجيلة. ويتكوّن هذا الكتاب من 302 صفحة من الحجم المتوسط، كما يضم، إضافة إلى التوطئة والخاتمة، أربعة فصول هي على التوالي: الرشيد ومصادرة الاختلاف الفكري: محاكمة الشافعي وتحوله المذهبي. الرشيد والحسم السياسي للاختلاف: "نكبة البرامكة". المأمون من سياسة التسامح إلى اللاتسامح المشروع. التنظير لللاتسامح، وشرعنة العنف.

ومن خلال هذه الفصول يتبين لنا أنّ الأستاذة ناجية هي من الأقلام النسوية الجادة والمتحملة لمسؤولية وضعها فلاسفة التراث على أعناق المفكرين والفلاسفة العرب المعاصرين، والمتمثلة في ردّ الاعتبار للعقل العملي السياسي والأخلاقي بعدما ظلّ هذا العقل في الماضي العربي الإسلامي مهمشاً بفعل جعله في خدمة العقل النظري وتابعاً له.

فنحن أمام كتاب يعالج إشكالية أخلاقية سياسية هي على رأس الإشكالات التي تفرض وجودها بحدة في وقتنا الراهن، وذلك بفعل تنامي اللاتسامح في مختلف مسوغاته الدينية والسياسية والثقافية، هي إشكالية التسامح، كأحد مقومات الحداثة السياسية والاجتماعية والأخلاقية المأمولة في العالم العربي. وهكذا سنكون أمام كتاب يتغيّا التقاط مؤشرات التسامح في التراث العربي الإسلامي، في بعده العملي السياسي، انطلاقاً من تجربتين سياسيتين: هما تجربة هارون الرشيد والمأمون إبّان العصر العباسي، وما يرتبط بهما من أحداث وتنظيرات. والأستاذة ناجية بهذا الكتاب تعلن عن الانخراط في النقاش المثار حالياً في العالم العربي في ما أسمته بـ"الدراسات المتخصصة لمسألة التسامح في التراث العربي الإسلامي"[1] والتي صنفتها إلى صنفين: الأول: وتعتقد بأنّه هو الغالب عددياً، ويتجلى في الدراسات التقليدية الحديثة التي من ممثليها عبد الحسين شعبان وصالح بن عبد الرحمن الحصين ومحمد الغزالي....، أمّا الصنف الثاني فيتجلى في الدراسات النقدية الحديثة، وهو في نظرها الغالب نوعياً.[2] ومن ممثليه: محمد أركون وعلي أومليل ومحمد عابد الجابري وجورج طرابيشي ورشيد الخيون....، وقد اختارت صاحبة الكتاب أن تتموقع، لا موقع الوسيط الموفق والمهادن بين هذه الدراسات، وإنّما موقع المهاجم على جبهتين: جبهة التقليد، وجبهة التحديث، وذلك وفق استراتيجية قوامها، كما تقول، الوفاء لـ"شروط القراءة النقدية المنتجة التي تخضع للتفكيك وإعادة بناء جملة المعطيات التاريخية والفكرية التي مثلت حقيقة وضع التسامح واللاتسامح في الثقافة العربية الإسلامية"[3].

تصنّف الكاتبة كتابها هذا باعتباره كقراءة، وأن يكون كذلك فمعناه أنّه تحضر فيه خاصية كلّ قراءة، والتي هي، كما يقول الأستاذ الجابري، ممارسة التأويل للقارئ على المقروء في صورته المزدوجة، والتي بموجبها يتمّ إعطاء معنى لهذا المقروء بالنسبة إلى محيطه الفكري ـ الاجتماعي ـ السياسي، كما سيتم إعطاؤه معنى خاصاً به وبعصره كقارئ لهذا المقروء.[4] وبهذا التصنيف سيتعلق الأمر في هذا الكتاب بالدفاع عن رؤية ومنهج محددين للتسامح في التراث العربي الإسلامي. فما هي إذن خصائص هذه الرؤية؟ وما هي مرتكزات هذا المنهج؟

الرؤية والمنهج اللذان حكما هذا الكتاب

إنّ رصد الرؤية والمنهج اللذين يحكمان قراءة الأستاذة ناجية لتجربة التسامح في هذا الكتاب، يقتضي منّا تحديد الغاية من هذه القراءة وفرضياتها. فعلى مستوى الغاية فإنّها تتجلى في تأصيل هذا التسامح، بما هو ممارسة لحق الاختلاف في صورته الثقافية/ السياسية المعقلنة في التراث العربي الإسلامي. لكنّ عملية التأصيل هاته تريد لها صاحبتها ألا تكون محكومة بمنطق التبرير والإسقاط. فهي عملية تنأى بنفسها أولاً: عن آفة التبرير، لأنّها عندما تعمل على تأصيل التسامح فهي بذلك تتجنب تلك الرؤية التقليدية التي قوامها النظر إلى التراث كمفتاح لفهم الحاضر وكمبرر لحل مشاكله، ممثلة هنا في حل مشكلة تقبل التسامح كقيمة أخلاقية في الدولة العربية الحديثة. بل العكس، فهي تتبنى في هذا التأصيل رؤية ارتدادية بموجبها يكون الحاضر هو ما يساعد على فهم الماضي. إنّها رؤية تعتبر أنّ التسامح منظور إليه اليوم كقيمة أخلاقية حداثية كونية، وليست خاصة بهذه الثقافة أو تلك، من شأنه أن يكشف لنا أنّ كلّ الحضارات والثقافات ساهمت في إرساء هذه القيمة بهذا الشكل أو ذاك، وبهذه الدرجة أو تلك، بما في ذلك الحضارة العربية الإسلامية، بالرغم من غياب مفهوم التسامح فيها. إذ "ليس من الضروري أن نوجد المفهوم الحديث في التراث حتى نقبل بالمبادئ الكونية اليوم".[5]

كما أنّها ثانياً: عملية تأصيل تتعالى عن كلّ نزعة إسقاطية. فهي في عملية التأصيل هاته لا تسقط التسامح بدلالاته الحديثة على العمل السياسي التراثي، بل تعمل على الكشف "عمّا وجد فعلاً"[6] من مؤشرات للتسامح في دلالاته المتاحة آنذاك في هذا التراث. وما يؤكد هذا هو "أنّ كلمة "التسامح" في اللغة العربية لم تعرف الدلالات الحديثة التي يحيل عليها المصطلح اليوم. فهذه الكلمة لم تتجاوز معاني التساهل وغضّ النظر عن غير المرضي، في المعاجم وفي مختلف المصادر الأدبية. لكننا نجد ما ينهض بهذه الدلالات من قبيل الوفاق، المسامحة، التسالم، العدل، التفهم، التحاب"[7]. وبهذا التجنب لآفتي التبرير والإسقاط فإنّ صاحبة الكتاب ستؤسس رؤيتها للتراث السياسي العربي الإسلامي في بعده التسامحي على مجموعة من الفرضيات:

الفرضية الأولى: إنّ التسامح مفهوم له تاريخ بموجبه تتغير دلالاته من مرحلة تاريخية إلى أخرى، ومن ثقافة إلى أخرى. فهو مفهوم خاضع في دلالاته للمراجعة المستمرة. فالتسامح في القديم "لا يكاد يتجاوز الاستراتيجية المتبعة من قبل السلطة القائمة لدرء "الفتنة" والاختلاف وتجنب نتائجها الوخيمة. فهي ليست صادرة عن اعتراف مبدئي بالتعددية ومقتضياتها، بقدر ما هي صادرة عن حرص على تحقيق الاستقرار اللازم لاستمرار السلطة، إنّها استراتيجية "التحمل عن مضض" للآخر المختلف، مع الثبات دائماً على اعتباره مخطئاً في رؤاه واختياراته. ولذلك فالمفهوم في هذه السياسة القديمة لا يعدو أن يكون دعوة إلى "التعايش في نطاق اللاتسامح"، مع ما يمكن أن يفضي إليه من عدم اكتراث إزاء هذا الآخر، وهو ما ينتهي إلى ضرب من الاحتقار، وفي أحسن الحالات إلى ضرب من عدم الاعتبار".[8] أمّا التسامح في الدولة الحديثة فهو يقوم "على الاعتراف بحق الاختلاف وبالاستعداد للتعامل مع الآخر وإيلاء الاعتبار لمقوماته واختياراته من منطلق إنسوي ينسب الحقيقة، ويؤمن بتعددية تقتضي الحق في وجود مدني متساوي الحظوظ".[9]

الفرضية الثانية: رغم الاختلاف الحاصل في دلالات مفهوم التسامح بين الماضي والحاضر، ورغم غياب مصطلح التفاهم عن القاموس السياسي والثقافي العربي التراثي، فإنّه لا يمنع من المجازفة، بافتراض أنّ التسامح لم يكن مع ذلك "غائباً عن أفق التفكير والممارسة السياسية في القديم بما هو قيمة أخلاقية وسياسية مقترنة بقيمة العدل ومحددة لتعامل سلمي داخل المجتمع"[10].

الفرضية الثالثة: إنّ التسامح كما تجلى في التجربة السياسية التراثية ممثلة في تجربة البرامكة والمأمون، وفي الخطابات الكلامية والفلسفية والعلمية المنظّرة لهذه التجربة، إنّما "يمثل الحلقات الأولى لتواصل مفهومي داخل هذه القيمة"[11]، أي التسامح من حيث هو قيمة أخلاقية وسياسية كونية، وليست خاصة بالحضارة الغربية. إنّه تواصل بموجبه تنفتح هاته التجربة على التجارب السياسية التسامحية في الحاضر، لتساهم في إثرائها انطلاقاً من خصوصياتها الثقافية والاجتماعية.

ورغبة منها في أجرأة هذه الغاية (غاية التأصيل) والتحقق من هذه الفرضيات في هذا الكتاب، فإنّ الكاتبة ستستلهم منهجاً له قيمته الإبستيمولوجية، ألا وهو المنهج التفكيكي: بما هو منهج يعلي من قيمة الاختلاف كاستراتيجية قوامها الاحتفاء بالمخالفة والصراع والنزاع والمباينة وليس بالانقسام والانشقاق.[12] وهو منهج يرتبط اسمه بفلاسفة الاختلاف عموماً وبالفيلسوف جاك ديريدا خصوصاً. والتفكيك كما يعرفه هذا الفيلسوف "هو الإقامة في البنية الغير المتجانسة للنص والوقوف على توترات داخلية يقرأ النص من خلالها نفسه ويفكك ذاته. في النص قوى متنافرة تأتي لتقويضه، يكون على استراتيجية التفكيك أن تعمل على إبرازها"[13]، لكن لا من أجل إدماجها في بعضها بعضاً، أو إلغاء بعضها على حساب البعض الآخر. لأنّ التفكيك ليس هدماً فهو لا يدعي تكذيب موقف باسم آخر، بل إنّه يعمل على إعادة بناء وتركيب الاختلاف بين هذه القوى والمواقف والمفارقات التي تخترق بنية النص، بشكل يجعل من هذا الاختلاف أداة لرصد حركة الدلالة، هذه الدلالة التي لا تصبح ممكنة "إلا إذا كان كلّ عنصر "حاضر" متعلقاً بشيء آخر غيره، محتفظاً بأثر العنصر السابق، فاتحاً صدره لأثر علاقته بالعنصر الآتي".[14] وما يؤشر على التزام الأستاذة ناجية بهذا الفهم للاختلاف، ومن خلاله بالمنهج التفكيكي في هذا الكتاب، هو اعتبارها أنّ عملية تفكيك النصوص التراثية المرتبطة بسياسة اللاتسامح، باعتبارها حاجبة لسياسة التسامح، هي انتصار للاختلاف الكامن فيها، قوامه الدفاع عن نسبية الحقيقة التي تدعي امتلاكها التجربة اللاتسامحية التي بموجبها صادرت التسامح وحجبته.

وهكذا فإنّ لجوء الكاتبة في رؤيتها هذه إلى تحليل الخطاب الشافعي اللاتسامحي وتفكيكيه لم يكن بهدف حذفه ومسحه والانتقاص من قيمته، بل كان بهدف الكشف عن خططه الدلالية التي بموجبها كان يصارع من أجل امتلاك الحقيقة واحتكارها، وذلك في مقابل الخطاب التسامحي الذي كان يقوم على تنسيب هذه الحقيقة.[15] فالكشف عن هذا الصراع، بما هو ممارسة للاختلاف، له قيمته المنهجية، بحيث "لا يمكن أن نتبين حقيقة التميز الذي وسم تجارب ننعتها بالمتسامحة ما لم نتبين معالم السياسة الغالبة ممثلة في لا تسامحها وسعيها إلى فرض اختيارتها".[16]

ونتيجة لتفكيك صاحبة الكتاب لهذا الخطاب الشافعي تمكّنت أولاً: من تقديم صورة غير تلك الصورة المتداولة حوله باعتباره خطاباً متماسكاً خالياً من الاختلاف. إنّها تلك الصورة المتكاملة التي يخترقها الاختلاف بين جزأيها: السنّي المشهور المنافح عن اللاتسامح، والمعتزلي المغمور المنافح عن التسامح. وهذا الاختلاف هو ما سيجد ترجمته في محاكمة الشافعي (كمحاكمة تمّ السكوت عنها أو إساءة فهمها)، والتي بموجبها سيتحول خطاب هذا الأخير إلى منظر للسياسة اللاتسامحية لهارون الرشيد. وهذه الصورة التي ستعمل الأستاذة الوريمي على تركيبها وفق منهج التفكيك، تختزل في نظرها الوضع الثقافي السياسي السائد في عصر الشافعي الذي كان يعجّ بالاختلاف الفكري والمذهبي، الشيء الذي فتح الباب على احتمالين: إمّا التشريع لهذا الاختلاف والبحث عمّا يظلّ جامعاً بين المختلفين من مقتضيات الانتماء إلى الدولة الواحدة، وهذا ما سيسعى إليه إمكان سياسي مثله البرامكة وسوف يطوره فيما بعد الخليفة المأمون، أو الإمكان الثاني، ويتجلى في مصادرة هذا الاختلاف والبحث عن شروط الحفاظ على السلطة، وهذا ما ستسعى إليه مؤسسة الخلافة مع الرشيد بدعم من الشافعي، والذي جعل اعتزاليته في خدمة سنيّته.[17]

كما أنّ هذا الالتزام بالمنهج التفكيكي سيمكن الكاتبة ثانياً: من إعادة بناء التجربة السياسية التسامحية للبرامكة والخليفة المأمون بالسلب، أي انطلاقاً من علاقتها مع ما يخالفها، وهي السياسة اللاتسامحية للرشيد. هذه العلاقة التي على ضوئها ستكتشف الكاتبة كيف أنّ تجربة المأمون "تجاذبتها قيمتا التسامح واللاتسامح".[18] فهي بقدر ما تنزع لأن تتباين عن اللاتسامح وتقصيه، بقدر ما تنفتح عليه لتقبل بوجوده رغماً عنها. وذلك لأنّ السياسة التي كان يدافع عنها المأمون هي "سياسة مبنية على الاعتراف الفعلي بالاختلاف السائد فكرياً ومذهبياً، وليس على الاعتراف الشكلي الذي يهم الاختلاف الفرعي بين أصحاب التوجه الواحد المتماثل في أسسه".[19] وهو الاختلاف الذي كان ينادي به أنصار السياسة اللاتسامحية، ويعتبرونه هو وحده الاختلاف الذي ينص عليه الدين وما عداه فهو زندقة وكفر. وهذا الاتهام بالكفر والزندقة هو ما سيجعل المأمون مضطراً لشرعنة اللاتسامح عبر تكفير كلّ من لا يقول بخلق القرآن. لكنه تكفير شمل فقط الأطراف التي تحركت سياسياً ضدّ سياسة المأمون مثل ابن حنبل، أي لم يكن تكفيراً يشمل جميع العلماء.[20] ومع ذلك وبفعل تحالف القوى السياسية والدينية التقليدية ضدّ تجربة الخليفة المأمون التسامحية، وهي القوى التي عادت إلى الحكم مع الخليفة المتوكل، ستتم العودة من جديد إلى السياسة اللاتسامحية التي كانت تطبع حكم هارون الرشيد.[21]

هكذا إذن تنتهي بنا القراءة الوريمية، رؤية ومنهجاً، إلى أنّ الممارسة السياسية في العصر العباسي، لدى كل من هارون الرشيد والخليفة المأمون، هي ممارسة لم تخلُ أبداً من تواجد سياستين مختلفتين ومتصارعتين: سياسة لا تسامحية وأخرى تسامحية تتنازعان السيطرة. فبالنسبة إلى السياسة الأولى فإنّها قد عبّرت عن نفسها لدى هارون الرشيد في ممارسة العقاب الجماعي على كلّ من كان يروّج لثقافة التسامح، ممثلة في علم الكلام المعتزلي والفلسفة باعتبارهما يبشران بحقّ الجدال العقلي وما يقوم عليه من تشجيع لتعددية الفكر والرأي، وذلك بتهمة الزندقة. وهذا ما تجلى في محاكمة الشافعي وإجباره، تحت طائلة العقاب، على التراجع عن مذهبه الاعتزالي. كما تجلى في نكبة البرامكة التي أجهض على إثرها التيار العقلي المتسامح. وقد وجدت هذه السياسة اللامتسامحة دعماً نظرياً من طرف جماعة أهل الحديث كجماعة قوية اجتماعياً، بحيث ستتحول على يدها هذه السياسة إلى منظومة فكرية تقوم على ما تسمّيه الأستاذة ناجية بـ"الترميق الفكري"، بما هو تجميع لمجموعة من "الوسائل المختلفة والمتنافرة أحياناً لتحقيق المطلوب".[22] وما هذا المطلوب سوى شرعنة اللاتسامح وتكفير كلّ دعوة إلى التسامح. ومن مظاهر هذا الترميق، توظيف العقل للاستدلال على حقائق المنظومة النصية. فبالنسبة إلى هذا المفهوم الأخير، أي العقل، فقد أضحى في هذه المنظومة هبة إلهية في الإنسان "وظيفته هي حسن فهم النص والقياس عليه عند الحاجة. فلا دور لهذا العقل إزاء المعاني والحقائق التي تنسب إلى هذا النص. فالحقيقة النصية هي للتسليم وليس للقبول المبرر بمعقولية المعنى".[23] فالعقل هنا يصبح إذن مجرد خادم للنص بكلّ ما تعنيه عبارة خادم من تبعية وعدم التحرر من المخدوم.

ومن هنا تتجلى قيمة الشافعي، فهو سيطعّم الموقف السني المدافع عن اللاتسامح والموجب لمحاربة الاختلاف والتسامح، ببراهين تمتح من العقل والمنطق بعدما كانت تمتح من النص الديني فقط. إنّه تطعيم سيطور منطق التفكير داخل المذهب السنّي الرسمي وذلك "عن طريق الاستفادة من آليات خصومه أصحاب العقل.[24] (أي المعتزلة والفلاسفة). إضافة إلى هذا سيلجأ هؤلاء إلى آليات كثيرة للاستقطاب، كتكريس النظرة التفاضلية العمودية والهرمية للمجتمع، والتي بموجبها سيتم النظر إلى الخليفة وعالم الحديث كرأس مزدوج لهذا المجتمع يقتضي التقديس، وذلك باعتبارهما يقدمان نفسيهما كمالكين وحيدين للحقيقة، وكلّ من خالفهما الرأي يصنف كإبليس تجب معاقبته".[25]

أمّا بالنسبة إلى السياسة التسامحية فهي قد عرفت إرهاصاتها الأولى مع المرحلة الأولى من المسار الفكري للشافعي، وكذلك مع سياسة البرامكة في عهد هارون الرشيد. كما أنّها قد عرفت أوجها مع الخليفة المأمون، باعتباره صاحب تجربة سياسية تنويرية. وهي تجربة لم تكن مجرد استراتيجيا رامية إلى تحقيق هدوء اجتماعي "ظرفي" لا يلغي ظاهرة التعصب والاستبداد، بل هو اختيار سياسي ثقافي كامل، يقوم على الاعتراف بالاختلاف الفكري والعقدي، في إطار نهضة علمية واسعة عمادها الإقرار بتعدد المعارف والمرجعيات وترسيخ التعايش الممكن بين كلّ مكونات المجتمع. ومؤدى هذه السياسة "أنّ سبب عدم الاستقرار في المجتمع وفي الدولة، ليس الاختلاف الفكري والمذهبي، فهذا عامل إثراء وإفادة للجميع لو حكمه الاعتراف المتبادل، بل هو الظلم السياسي والتعصب الفكري".[26] وبهذا فإنّ سياسة هذا الخليفة كانت قائمة على العدل ومشرعة للاختلاف ومتجاوزة لكلّ أشكال الإقصاء التي كانت سائدة قبله في عهد الرشيد. وهذا ما يتضح في تشجيعه لترجمة الفلسفة اليونانية، وفي ما كان يعرفه بلاطه من مجالس علمية كانت مفتوحة أمام جميع المفكرين. وقد وجدت هذه السياسة التسامحية سندها النظري في الدين وما يحيل عليه من قيم تسامحية تحارب التعصب. كما وجدت سندها أيضاً في الفلسفة وعلم الكلام المعتزلي، باعتبارهما يعطيان أهمية لمرجعية العقل، كمرجعية مشتركة بين جميع الناس. الشيء الذي يدفع إلى الدفاع عن قيم أخلاقية تتعالى عن التعصب وإقصاء الآخر وترسخ التآلف بين مختلف مكونات المجتمع، على أساس التساوي وفق معايير عقلية ودينية يرتضيها الجميع. وهذا ما يؤدي إلى إعطاء الأهمية للآخر المختلف دينياً وفكرياً.[27]

خاتمة

هكذا إذن نخلص من قراءتنا لهذا الكتاب إلى أنّنا فعلاً أمام نمط جريء من الكتابة له راهنيته في ظرف تاريخي عربي أضحى فيه التراث شمّاعة لتبرير الاستبداد والانكفاء نحو قيم سياسة أخلاقية تفقد الإنسان العربي حقه في حياة كريمة ملؤها الحرية والعدل والتسامح. ومن مظاهر هذه الجرأة: 1) اختيار صاحبة هذا الكتاب كشعار لها، في قراءتها لهذا التراث، الكشف عمّا هو مسكوت عنه ومنسي ومهمش ومطموس فيه، والمتمثل في البعد السياسي التسامحي. إنّه شعار ليس من الهيّن تحقيقه، وذلك نظراً لما تتطلبه هذه القراءة من رحلة في ركام النصوص التراثية وما تقتضيه من تنقيب واستكشاف، وذلك وفق منهج لا يحلل ويفكك هذه النصوص إلا ليركّبها ويقارن بينها[28]. 2) قدرة الكاتبة على اتخاذ مسافة نقدية، قد تتسع وقد تضيق، من الدراسات القديمة والحديثة بشقيها التقليدي والحداثي، والتي أنجزت حول التسامح في التراث العربي الإسلامي، لتعمل على احتلال مساحة خاصة بها في التنظير للحداثة السياسية والأخلاقية المأمولة في العالم العربي. 3) عمل الكاتبة على تجاوز نزعتين ظلتا سائدتين حول قراءة التراث السياسي الأخلاقي: نزعة تمجيدية وغنائية، قوامها التأكيد على تسامحية الإسلام كدين، ديدنها ترميم هذا التراث حتى يسرّ الناظرين، حسب تعبير محمد المصباحي. ونزعة هجائية قوامها جلد هذا التراث، وذلك عن طريق التشكيك في حضور التسامح فيه، في هذا الجانب أو ذاك. وبهذا ستعمل الأستاذة ناجية، ومن منطلق التزامها بالمنهج التفكيكي، على التأكيد أنّ التسامح واللاتسامح ظلا متواجدين جنباً إلى جنب كمنظومتين ثقافيتين وسياسيتين متصارعتين في هذا التراث، وما قامت به في هذا الكتاب هو نفض للغبار عن النزعة التسامحية لدى المأمون، لا يشكل سوى عينة من عينات أخرى هي في حاجة إلى الحفر عنها.[29]

ولكن ومع ذلك فقد كانت لجرأة الكاتبة هاته حدود أخلّت إلى حد ما بما التزمت به في توطئة هذا الكتاب، وخاصة التزامها بتجنب آفتي الإسقاط والتبرير، من خلال وعيها بتاريخية مفهوم التسامح وبواقعيته كمبدأ وكنزوع في التراث. وما يؤكد الإخلال بهذا الالتزام بتجنب النظرة الإسقاطية، في نظرنا، هو تعميم الأستاذة ناجية حكمها حول سياسة المأمون، بشكل يوحي بإسقاط التسامح في دلالاته الحديثة والمعاصرة على هذه السياسة، باعتبارها "مشرعة للاختلاف (الفعلي وليس الشكلي) متجاوزة (هكذا) لكل إجراءات الإقصاء أو التمييز التي مورست قبله".[30] كما أنّها سياسة "لم تكن غايتها الوحيدة هي ضمان استقرار السلطة عبر التعايش في نطاق اللاتسامح، وهو المدلول الغالب على هذا المفهوم في القديم، بل هو ضارب بأسباب قوية في إيلاء الاعتبار لجميع مكونات المجتمع على أساس معرفي يؤمن بنسبية الاختيارت البشرية".[31] ففي هذه الحالة، ووفق هذه الأحكام، فإنّ التسامح قد حضر في تجربة المأمون بمواصفاته المعاصرة والحاضرة في الدولة الحديثة، بما أنّه لا مجال فيه لإقصاء الآخر ومصادرة حريته وحقه في الاختلاف. وهذا ما نفته الكاتبة نفسها عندما أشارت إلى اضطرار المأمون لشرعنة اللاتسامح. كما عمّمت الكاتبة الحكم على عقلانية المعتزلة والفلاسفة باعتبارها منظرة وداعمة لهذه السياسة التسامحية [32]. على اعتبار أنّ اعتماد العقل في التفكير والسلوك من طرف هؤلاء إنّما كان يعني، وبدون جدال، تسويغ التسامح وما يحيل عليه من تحرر في الرأي والسلوك، كما هو الحال بالنسبة إلى الفلاسفة العقلانيين المحدثين أمثال ديكارت.

لهذا فقد كان من الأجدى تخصيص فصل في هذا الكتاب لإبراز حدود هذا التسامح التي كان يفرضها الأفق الفكري للقرون الوسطى الذي كان يشرط السياسة التسامحية للمأمون ويكيفها.[33] هذا الأفق الذي ما كان ليسمح مثلاً بممارسة للعدالة، كأحد مظاهر التسامح في سياسة المأمون، قائمة على استقلالية العقل في التشريع للشأن العام عن الدين[34]. والشيء نفسه بالنسبة إلى عقلانية المعتزلة أو حتى الفلاسفة، فهي لم ترقَ إلى مستوى تلك العقلانية التنويرية المعبّرة عن فعالية وجود الإنسان كذات عارفة، والتي تجسّدها فلسفة الكوجيطو.[35]

أمّا فيما يخص الإخلال بالالتزام بتجنب آفة التبرير، فيتجلى في نظرنا في تبرير شرعنة اللاتسامح في سياسة المأمون بشكل ينمّ عن نوع من التمجيد المبالغ فيه، وذلك من خلال؛ أوّلاً: التخفيف من حدته، فهو قد كان، في نظر الكاتبة، محدوداً في "الأطراف التي تحركت سياسياً ولم يكن عامّاً يشمل كلّ العلماء."[36] ويبقى السؤال هنا عمّا إذا كانت محنة ابن حنبل تشكل حالة خاصة؟ خصوصاً إذا ما علمنا كيف أنّ مسألة خلق القرآن قد ارتقت في عصر المأمون إلى مستوى العقيدة المستفزة لمختلف تيارات أهل السنّة، ممّا يعني وجود احتمال كبير لاتساع دائرة المحنة ولو في صور أخرى غير صورة محنة ابن حنبل، وثانياً: تبرير شرعنة هذا اللاتسامح من خلال التأكيد على حتميته، باعتبار أنّ المأمون قد أجبر عليه إجباراً من طرف خصومه. لذلك "فقد كان له ألا يتسامح مع هؤلاء الرافضين للتسامح".[37] هذا مع العلم أنّ اللاتسامح كان يشكل أحد ثوابت الثقافة القروسطية. فهو أمر واقع مثله في ذلك مثل التسامح، وما كان للمأمون كرجل سياسة وكمفكر أن يستقلّ عنه استقلالاً مطلقاً.


[1]ـ ناجية الوريمي بو عجيلة، الاختلاف وسياسة التسامح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2015، ص 15

[2]ـ نفسه ص 15

[3]ـ المرجع نفسه ص 15

[4]ـ الجابري محمد عابد، نحن والتراث، المركز الثقافي العربي، دار الطليعة، بيروت، ط: 1/ 1980، ص 6

[5]ـ نفسه، ص 24

[6]ـ المرجع نفسه، ص 24

[7]ـ نفسه، ص ص 25/26

[8]ـ نفسه، ص ص 27/28

[9]ـ نفسه، ص 28

[10]ـ نفسه ص 28

[11]ـ المرجع نفسه والصفحة نفسها

[12]- تتجلى هذه القيمة التي تمنحها الكاتبة للاختلاف كمؤشر على الالتزام بمنهج التفكيك، في جعلها مصطلح الاختلاف في دلالاته هاته يتصدر عنوان كتابها هذا.

[13]ـ عبد السلام بنعبد العالي، ضد الراهن، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2005، ص 73

[14]ـ نفسه، ص 75

[15]ـ نفسه، ص 120

[16]ـ نفسه، ص 33

[17]ـ نفسه، ص 81

[18]ـ نفسه، ص 205

[19]ـ نفسه، ص 210

[20]ـ نفسه، ص 253

[21]ـ نفسه، ص 257

[22]ـ نفسه، ص 268

[23]ـ نفسه، ص ص 125/126

[24]ـ نفسه، ص 34

[25]ـ نفسه، 259/260

[26]ـ نفسه، ص 238

[27]ـ نفسه، ص ص 28/29

[28]ـ نفسه، ص 30

[29]ـ نفسه، ص 285

[30]ـ نفسه، ص 238

[31]ـ نفسه، ص 255

[32]ـ نفسه، ص 210

[33]ـ حقيقة أنّ الكاتبة قد أشارت إلى أنّ تجربة المأمون التسامحية كانت "تجربة طارئة على سياسة مؤسسة الخلافة وطارئة أيضاً على التصنيفات المذهبية القارة التي تطبق آلياً على كلّ موقف وعلى كلّ صاحب موقف، " لكنّ هذا الاعتراف لم يؤد بها إلى رصد هذه الطارئية وانعكاسها على المنطق الداخلي للثقافة السياسية التي كان يتبناها المأمون والتي جعلته مثلاً يكفر خصومه باعتبارهم يقولون بقدم القرآن، فاللجوء إلى التكفير كان قاسماً مشتركاً بين المأمون وخصومه، لأنّه كان ثابتاً من الثوابت الأخلاقية السائدة في الثقافة الدينية آنذاك، وهذا دليل على التأثير الذي كانت تمارسه هذه الثقافة على العقل فتحد من إبداعيته، سواء لدى رجال السياسة أو لدى رجال الفكر.

[34]ـ من بين الأمثلة التي يمكن أن نسوقها هنا تصور الفيلسوف ابن مسكويه للعدالة باعتبارها حصيلة تماهي العقل الإنساني (عقل الفيلسوف) مع العدالة الإلهية السارية في الكون. فهي ليست عدالة ناتجة عن فعالية العقل التشريعية والأخلاقية.

[35]- يرى الأستاذ محمد المصباحي أنّه مهما أعطى الفلاسفة المسلمون أهمية للعقل فإنّ هذا العقل صار عندهم "جوهراً طاغياً يتهدد الممارسة المعرفية للإنسان ووجوده العيني ذاته. ذلك أنّ تتويج المعرفة بالاتصال بمصدرها العقلي يقتضي عند جلّ الفلاسفة العرب تدمير كائنية الفرد وإلغاء ممارسته المعرفية". من المعرفة إلى العقل، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1990، ص 6

[36]ـ الاختلاف وسياسة التسامح، ص 253

[37]ـ نفسه، ص 254