الاستبداد: حدود ودلالات


فئة :  مقالات

الاستبداد: حدود ودلالات

نقرأ في معجم لسان العرب استبد فلان بفلان؛ أي "انفرد به دون غيره"، وتتم مرادفة كلمة الاستبداد في أغلب المعاجم العربية المتداولة، في العصر الوسيط بالحزم وعدم التردد. أما في المعاجم العربية الحديثة، فنجد معطيات دلالية أخرى مرتبطة بالتحولات التي لحقت الكلمة، في ضوء مكاسب الفلسفة السياسية.

يُعرِّف معجم المنجد على سبيل المثال، الحاكمَ المستبد بكونه من "يحكم بأمره ويتصرف بصورة مطلقة". ويرادف المعجم المذكور، مفردة الاستبداد بالتعسف والتسلط والتحكم، وهو ما يفيد فرض الرأي والانفراد به، مع التأفف عن طلب المشورة، وقبول النصيحة والاستماع للآخرين.

وتوحي الدلالات العامة للمفهوم، أنه قابلٌ للتداول في مستويات متعددة داخل المجتمع، وفي علاقة الأفراد فيما بينهم؛ وذلك رغم أنه ارتبط بالمجال السياسي، حيث تطور واتخذ دلالات خاصة، في سياق الممارسة السياسية، وفي إطار الفلسفات السياسية المتعاقبة في التاريخ.

عندما نتحدث عن الاستبداد في المجال السياسي، فإننا نشير إلى نظام في الحكم يستقل بالسلطة، دون الرجوع إلى قاعدة أو قانون، ودون عناية برأي المحكومين. وتوحي كلمة despot و despotisme أن جذر الكلمة مشتق من الكلمة اليونانية (ديسبوتيس) التي تعني رب العائلة. وقد حصل تحويل ونقل لدلالتها من المجال العائلي الأبوي، إلى مجال الشأن العام. فأصبحت المفردة تشير إلى نمط من أنماط الحكم الملكي المطلق الذي تكون فيه سلطة المَلِك على الرعايا، مطابقة لسلطة الأب على أبنائه وأحفاده داخل الأسرة والعشيرة. الأمر الذي يفيد أن الاستبداد في المجال السياسي، يعبر عن انفراد شخص أو بعض الأشخاص بالتصرف المطلق في شؤون الجماعة، بمقتضى الإرادة الخاصة، ودون عناية بالقواعد والقوانين التي يمكن أن تُنظم العلاقات داخل الجماعات الإنسانية.

ارتبط مفهوم الاستبداد بالمجال السياسي، وامتلك دلالات منحته معالم محددة، باعتباره يعين نمطاً من أنظمة الحكم، يَستقلُّ فيه شخص أو جماعة بالسلطة، ولا يرجع فيما يصدر عنه، إلى قوانين أو قواعد أو مواثيق مُرَتِّبة لقواعد السلطة. وقد يكون المستبد ملكاً كما كان الفراعنة في مصر القديمة، وقد يكون طاغية وَصَلَ رأس الحكم بانقلاب، وأصبحت بيده مفاتيح السلطة بالقوة الغاشمة.

ومن أجل توضيح دلالة الاستبداد في التراث العربي الإسلامي، نلاحظ وجود مظاهر عديدة تشير إلى الاستبداد السياسي. ففي الآداب السلطانية، نجد كثيراً من المعطيات التي تعمل على تسويغ السلطة، باعتبارها وسيلة للحزم، وأن شرط قيامها يتأسس على مبدإ القهر، من أجل تحصين المُلْك. وقد عملت خطابات النصائح في الآداب السلطانية على التأسيس للسلطة كقهر وطغيان، وفضاء للاستبداد. وتم الدفاع عن مبدإ القهر السلطاني في هذه الآداب، انطلاقاً من مبدأين اثنين؛ أولهما ماهوي، يعتبر أن السلطة مرادفة للغلبة والقهر. وثانيهما، تاريخي يتم استنباطه من تجارب الممارسة السياسية، تجارب التاريخ حيث تقدم تجارب الأمم في مرويات الآداب السلطانية، مواقف الحكام من الرعية، ومن مقتضيات الأبهة الملوكية وضرورتها.

ومن جهة أخرى، يوضع الاستبداد في التراث السياسي الإسلامي، باعتباره مقابلاً للشورى التي تحيل إلى العناية برأي ذوي التجربة والخبرة. وقد أبرز ابن خلدون عند حديثه عن أطوار تكون الدول، أن استبداد الحاكم بالسلطة في بعض هذه الأطوار مذموم. كما وضَّح أن الشورى تُقلِّص من حضور الهوى عند إبداء الرأي، وهو الأمر الذي يمكن أن يؤدي - عند تقليص درجة حضور الأهواء - إلى القرار المناسب. أما التحكم في القرار بطريقة فردية، فإنه يولِّد الغطرسة والجُورَ والطغيان.

اتخذ مفهوم الاستبداد دلالته الواضحة في الفكر السياسي الحديث، وخاصة عندما وضع في السياق القانوني، حيث أصبح الحاكم المستبد هو من يحكم بدون تقيد بقانون، وبدون مراعاة مبدإ المحاسبة أو المساءلة. ونجد في كتاب مونتسكيو (1689-1755) روح القوانين (1748)، خطاطة تشير إلى أنماط أنظمة الحكم، حيث يشكل النظام الاستبدادي الإطار الذي يجعل السلطة في مختلف تجلياتها بين يدي حاكم يحكم دون قانون أو قاعدة، ويصدر أحكامه بموجب إرادته الخاصة وأهوائه في تقلباتها المختلفة.

وفي مقابل التصور الذي يربط نظام الحكم بالقانون والشرعية القانونية، نجد أن روسو (1712-1778) يعتبر أن الاستبداد في الأصل ليس نظاماً سياسياً، إنه عملية اغتصاب للسلطة، يترتب عنها أن المغتصب يضع نفسه فوق القانون. وبين هذين الرأيين، نجد أنفسنا قد انتقلنا من الاستبداد إلى التفكير في شرعية السلطة وعلاقتها بالقانون، كما نجد أنفسنا على أبواب نظرية التعاقد الاجتماعي.

يختلط مفهوم الاستبداد في التداول السياسي الشائع مع مفهوم الطغيان، إلا أنه يجب أن نميز هنا، بكون الاستبداد يوضع مقابل نظام الحكم العادل، أو نظام الحكم الديمقراطي. فالمستبد هو الذي يمارس التصرفات التحكمية غير المقيَّدة، في مختلف شؤون الجماعات السياسية. أما نظام الحكم الديمقراطي، فيفترض أن يقوم على التشارك بالتداول، والعقلانية ببلورة القوانين وإنشاء المؤسسات، كما يقوم على التشاور بتقسيم السلط ورسم حدودها. ويتم كل ذلك انطلاقاً من قواعد العدل والإنصاف.

إن العنصر الأبرز في الطغيان هو القهر، والعنصر الأبرز في الاستبداد، هو التفرد بالرأي. ورغم أنه ظهر في القرن الثامن عشر، مفهوم المستبد العادل، والمستبد المتنور، فإن الطابع الفردي في اتخاذ القرارات، يبعد الحاكم في تصورنا عن النظر العقلي والتوافقي في مقاربة الأمور العامة.

تلقى الفكر العربي المعاصر منذ القرن التاسع عشر، وخلال النصف الأول من القرن العشرين، جوانب عديدة من المواقف والنظريات التي كانت متداولة في الفلسفة السياسية الحديثة، في موضوع الاستبداد. وقد بلور مثقفو النهضة العربية جملة من التصورات السياسية الإصلاحية المناهضة للاستبداد. ويعتبر نص طبائع الاستبداد لعبد الرحمان الكواكبي (1854-1902) الصادر سنة 1902، من النصوص التي قدمت تصورات مفيدة في باب الإحاطة بماهية الاستبداد، مع محاولات للتفكير في علاقته بالدين والعلم والأخلاق والتربية، ومع توجه مُعلَن للدفاع عن ضرورة التخلص منه، بل إن الكواكبي كان مقتنعاً بأن التخلص من الاستبداد يعتبر طريقاً للترقي والنهوض. ومن الأمور القوية في هذا النص، نشير إلى دفاعه على ضرورة التخلص من الاستبداد، حيث دعا إلى حكم تُراقِب فيه السلطة التشريعية الحكومة وتُحاسبها، ويُراقب المجتمع بدوره السلطة التشريعية ويُحاسبها.