«الإسلام هو المشكلة» في وهم «أولوية الإصلاح الديني»

فئة :  مقالات

«الإسلام هو المشكلة»  في وهم «أولوية الإصلاح الديني»

«الإسلام هو المشكلة»

في وهم «أولوية الإصلاح الديني»

في إطار «المراجعات النقدية»، الانطباعية أو الانفعالية أو الجدية، لسيرورة الثورة السورية ومآلاتها، وبعيداً عن هذه السياق، تتصاعد، أحياناً، الأصوات الداعية إلى وجوب أن نغيِّر/ نصلح ما في أنفسنا، ونغيِّر أو نصلح المجتمع السوري وأفراده، ونصلح القيم الدينية والأخلاقية السائدة فيه، قبل السعي إلى تغيير/ إصلاح النظام السياسي الاستبدادي. وفي هذا الإطار، يجري التشديد على أولوية الإصلاح الديني على أيّ إصلاحٍ آخر، سياسيًّا كان أم اقتصاديًّا. وللمفارقة، يتبنى هذا الرأي، في الوقت نفسه، جهاتٌ علمانويةٌ وإسلامويةٌ؛ الأولى ترفع شعار «الإسلام هو المشكلة»، والثانية ترفع شعار «الإسلام هو الحل». فالإسلامويون، القائلون إنَّ «الإسلام هو الحل»، يرون أنَّ المشكلة الأساسية تكمن في «الإسلام السائد»، وفي كونه ليس «الإسلام الحقيقي»؛ ويتمثَّل الحل، من وجهة نظرهم، في إصلاحٍ دينيٍّ يعود بنا إلى «الإسلام الحقيقي»، ويخلِّصنا من الإسلام الزائف المهيمن. والعلمانويون، القائلون إن الإسلام «الحقيقي أو الزائف السائد هو المشكلة»، يرون أن هذه المشكلة ليست عرضيةً، بل نابعةٌ من صميم الإسلام؛ أي من المضامين الأساسية لنصوصه، ومن الممارسات التاريخية التي يستند إليها، عموماً، ومن أفكاره المتعلقة بالعلاقة بين الدين والسياسة، وبكون الإسلام، على العكس من الأديان الأخرى، «دينٌ ودولةٌ»، في الوقت نفسه، خصوصاً. فالإسلام والديمقراطية نقيضان، ويمكن تتبع تناقضهما منذ نشأة الإسلام الأولى. وتنطوي هذه الأطروحة على القول بأنَّ تبني قيم الحداثة، والتحلي بسماتها، يقتضيان، بالضرورة، ترك الإسلام، أو إقصاءه، من المجال العام، على الأقل، وحتى من المجال الخاص، إن أمكن ذلك.

فهل هناك علاقةٌ خاصةٌ، بين الدين والسياسة، في الإسلام، تميزه عن بقية الأديان عموماً، وتجعله عقبةً في وجه التطور والحداثة؟ يمثِّل كتاب جان فيليب باتو «استخدام الإسلام كأداةٍ: الدين والسياسة في منظورٍ تاريخي»، الصادر عام 2017، إحدى أهم المحاولات المعاصرة، للإجابة عن هذا السؤال، أو تناول هذه الإشكالية، تناولاً معمَّقاً ومفصًّلاً. الكتاب يتناول السؤال بطريقة الدراسة المقارنة (المقارنة بين الأديان المتمثلة في الإسلام والمسيحية خصوصاً، بالإضافة إلى الهندوسية والبوذية والسيخية)، وبطريقةٍ تاريخيةٍ (تاريخ الإسلام والمسيحية، خصوصاً) وعلى أساس رؤية الاقتصاد السياسي، بالدرجة الأولى، لكن مع رؤية عبر- مناهجيةٍ تستفيد من حقول التاريخ والسياسة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا.

ويتناول بلاتو هذه الإشكالية من منظورٍ واسعٍ، والسؤال الذي يطرحه، في هذا الخصوص، هو: إلى أيّ حد يمكن اعتبار الإسلام، بوصفه دين المسلمين، مسؤولاً عن المشاكل السياسية الاقتصادية في البلدان التي يشكلون أغلبيةً فيها: عدم الاستقرار السياسي، فشل أو تأجيل مشاريع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي... إلخ، افتقار الأنظمة السياسية للشرعية، ضعف مستويات تعليم النساء ومشاركتهم في الحياة العامة، ازدياد نسبة العاطلين عن العمل وعددهم، بين الشباب عموماً وبين المتعلمين خصوصاً، سوء النظام التعليمي والتربوي، وفرض قيم الخضوع للسلطتين السياسية والدينية... إلخ؟ ويحاول الكتاب شرح الوجود المتزامن لعدم الاستقرار السياسي، وسوء الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية، في معظم بلاد العالم الإسلامي.

وسأعرض، فيما يلي، للخطوط العريضة لأطروحة/ إجابة بلاتو، ثم أختم بكلمةٍ عن فكرة «الإصلاح الديني/ الإسلامي».

يقدم بلاتو إجابته، بطريقةٍ جدليّةٍ وبرهانيةٍ، في الوقت نفسه، بمعنى أنه، من جهةٍ أولى، يفنِّد الحجج التي تستند إليها الأطروحات المختلفة عن أطروحته، أو المخالفة لها، ومن جهةٍ ثانيةٍ، يدعم أطروحته بحججٍ مختلفةٍ، لتسويغها، وإظهار موضوعيتها ومعقوليتها؛ فهو يبيِّن عدم دقة الأطروحة الفيبرية (نسبةً إلى ماكس فيبر القائلة بتميُّز المسيحية (البروتستانتية)، من حيث كونها مشجِّعةً للحداثة، وعاملاً من عوامل نشوئها؛ كما يعارض أطروحة برنارد لويس -الذي كان مستشاراً خاصّاً لشؤون الشرق الأوسط لدى الرئيسين «جورج بوش»، الأب والابن- المعروضة، على سبيل المثال، في كتابه «أين الخطأ؟ التأثير الغربي واستجابة المسلمين»، والقائلة إن الإسلام معادٍ للحداثة؛ لأنه، في صميمه، وبالضرورة، غير قادرٍ على الفصل بين الدين والسياسة. والمقصود بالحداثة، في هذا السياق، بالدرجة الأولى، مجموعةٌ من المنجزات، مثل النمو الاقتصادي (الفردي والجماعي)، والفردنة، ومساحاتٍ أكبر للحريات الفردية ولحقوق الإنسان، وفرصٍ متزايدةٍ للتعبير عن الذات في الجماعات المختلفة.

وفي خصوص حججه الناقدة لأطروحتي فيبر ولويس، يبيِّن بلاتو، في الفصل الثاني من كتابه الضخم (485 صفحة)، أنَّ الحداثة، بالمعنى المذكور آنفاً، هي التي أفضت إلى «الإصلاح الديني»، وليس العكس، كما يقول فيبر. وبكلماتٍ أخرى، إن «روح الرأسمالية» هي التي أنتجت «الأخلاق البروتستانتية»، أكثر مما أفضت هذه «الأخلاق» إلى وجود تلك «الروح». كما أن عصر الإصلاح شهد ظهور «مسيحيةٍ متزمتةٍ» تشبه «السلفية الإسلامية المعاصرة»، ولم يقتصر على وجود مسيحيةٍ منسجمةٍ مع الحداثة، كما يعتقد كثيرون. يضاف إلى ذلك أنَّ سمات الحداثة قد ظهرت في بدايات «عصر التنوير» أكثر من ظهورها في «عصر الإصلاح». وقد ترافق ذلك مع نشوء الدولة المركزية، الأمر الذي أفضى إلى زيادة إمكانيات تعاون رجال الدين مع «الدولة المركزية»، وخضوعهم لسياساتها وتوجهاتها وتوجيهاتها. ومن هذا المنظور، يمكننا أن نفهم القبول أو التقبُّل الذي أظهرته المسيحية الأوروبية، البروتستانتية والكاثوليكية، على حدٍّ سواءٍ، تجاه الحداثة؛ فهذا القبول أو التقبُّل لم يقتصر على البروتستانتية، كما يظن كثيرون خطأً، فحتى الكنيسة الكاثوليكية تفاعلت، تفاعلاً إيجابيّاً، أحياناً، مع مسألة ظهور الحداثة.

فالأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها عادةً الدول/ المجتمعات هي السبب الأساسي في تطرف المعتقدات الدينية، وليس العكس. ويكون اللجوء إلى المعتقدات المتشددة، في الدول ذات الغالبية المسلمة، أكثر إغراءً، عندما يتمكن الناس من ربط فشل حكوماتهم، في مواجهة تحديات الحداثة، مع إخفاقات العلمانية والمسار الغربي، وعندما تضاف الهزائم العسكرية إلى الأوضاع الاقتصادية المخيبة للآمال، والفساد، وعدم الفاعلية الإيجابية للحكام. وأزمة الشرعية هي النتيجة المحتَّمة لكل ما سبق.

وانطلاقاً من ذلك، ومن منظورٍ تاريخيٍّ طويل الأمد، يبيِّن بلاتو، من جهةٍ أولى، إلى أنَّ التفكير الأصولي ليس سمةً محايثةً للإسلام. فهذا التفكير لا يبرز ويهيمن إلا عندما تدفع الظروف الناس إلى الشعور بالاستغلال القوي والإهانة والآثار السلبية القوية للاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي. فحينها، تحديداً أو خصوصاً، تبرز الحركات الأصولية والإيديولوجيات التبسيطية التي تدعو إلى النقاء، والعودة إلى الأصول، وإلى التطبيق الكامل والحرفي للنصوص المقدسة أو التطابق معها، وإلى ضرورة احترام خصوصيات التراث الثقافي. ويمكن لهذه الأيديولوجيات المتطرفة أن تتخذ شكل القومية المتفاقمة أو الأصولية الدينية أو كليهما. كما يبيِّن بلاتو، من جهةٍ ثانيةٍ، أنَّ ظاهرة الأصولية الدينية ليست خاصةً بالإسلام؛ فقد كان لها حضورٌ كبيرٌ وقويٌّ، أيضاً، ليس في الحركات الدينية، في المسيحية الغربية، فحسب، بل وفي دياناتٍ غير توحيديةٍ، مثل الهندوسية والبوذية، أيضاً. ويمكن لتطرف العقائد الدينية أن يفضي إلى العنف في جميع الأديان، بغض النظر عن كونها توحيديةً أو غير توحيديةٍ.

وفي الفصل الثامن، يستند بلاتو إلى الباحث الهندي سودهير كاكار، في كتابه «لون العنف: الهويات الثقافية والدين والصراع (1996)»، ليبين أن كلَّ دينٍ يتضمَّن ما يمكن أن يسمح بالعنف، أو يدفع إلى ممارسته، في بعض السياقات والأحوال، لتحقيق أغراضٍ دينيةٍ. ففيما يتعلق بالأديان السامية، نجد، على سبيل المثال، الحرب المقدسة/ الحروب الصليبية المسيحية، والجهاد الإسلامي. ولا يختلف الحال كثيرًا، في الديانتين الهندوسية والبوذية؛ إذ «يرتفع العنف إلى عالم المقدس، بوصفه جزءاً من النظام المخلوق»، ويكون سمةً لعصرٍ بكامله، هو «عصر كالي»، في الهندوسية، ضمن حلقةٍ من العنف والسلام؛ وفي المقابل، تتحدث الأساطير البوذية عن «الأيام السبعة للسيف» التي ينظر الناس فيها، بعضهم إلى بعض، على أنهم وحوشٌ، ويقتلون بعضهم بعضاً، مثل الوحوش، قبل أن يحل السلام فيما بينهم لاحقاً. ويبرهن بلاتو على أنَّ حضور العنف ليس مقتصرًا على الحركات الدينية، الإسلامية وغير الإسلامية، التوحيدية وغير التوحيدية، بتناولٍ مفصَّلٍ للأصولية الدينية الهندوسية والسيخية في الهند الحديثة، وللأصولية البوذية في سريلانكا وميانمار الحديثة.

الأطروحة الرئيسة لبلاتو، في كتابه عموماً، وفي الفصل الثاني خصوصاً، هي أن الأفكار والقيم تتحدَّد وتتأثر بالعوامل الاقتصادية أكثر من قدرة تلك العوامل على أن تحدِّد تلك الأفكار والقيم، وتؤثر فيها. وبهذه الأطروحة، يقلب أو يعكس بلاتو العلاقة السببية التي نجدها عند متبني الاتجاه الثقافوي/ المثالي في التفسير عموماً، وفيبر ولويس وفوكوياما خصوصاً. وبقيامه بعملية القلب أو العكس، يفنِّد بلاتو الصيغتين الأبرز لأطروحة الثقافويين، في خصوص علاقة كلٍّ من المسيحية والإسلام بالحداثة. فلا المسيحية، ببروتستانيتها وكاثوليكيتها، كانت السبب (الأساسي) في «حداثة الغرب» الاقتصادية والسياسية، ولا الإسلام، بنصوصه و/ أو تجلياته التاريخية المختلفة، هو المسؤول (الأساسي) عن المشاكل الاقتصادية والسياسية التي عانت أو تعاني منها البلدان ذات الغالبية المسلمة، ولا هو العقبة التي تمنع عمليات التحديث والدمقرطة في هذه البلدان.

وفي الفصل الثالث خصوصاً، يتناول بلاتو الأطروحة التي يتبناها لويس وكثيرون غيره، والقائلة بوجود تنافرٍ ماهويٍّ أو جوهريٍّ بين الإسلام والحداثة، أو بأن الإسلام يمثِّل عقبةً في وجه عمليات التحديث والدمقرطة؛ بسبب بوجود اندماجٍ ماهويٍّ، فيه، بين الدين والسياسة. ويناقش بلاتو أهم أو أبرز الحجج التي يقدمها متبنو هذه الأطروحة. ومن بين هذه الحجج أنه على العكس من المسيح الذي قال، على سبيل المثال، بـــ «إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، فإن «رسول الإسلام هو أول رسولٍ يحمل سيف قيصر في يده، وقلب عيسى المسيح في صدره، في الوقت نفسه» (وفقاً لكلمات علي شريعتي)، وأنه، نتيجة ذلك، جمع خلفاء الرسول، لاحقاً، السلطتين الروحية والزمنية، في الوقت نفسه. يضاف إلى ذلك أن الإسلام، مثل اليهودية، وعلى العكس من المسيحية، نشأ في بيئةٍ لا يوجد فيها مدونةٌ قانونيةٌ موحدةٌ ونظامٌ قانونيٌّ فعالٌ، إلى حدٍّ ما، يحكمان الحياة اليومية للأفراد. ولهذا السبب، ترافق تأسيس الدين الإسلامي مع السعي إلى تشكيل جماعةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ، لها شريعتها الخاصة التي ينبغي لأفرادها الالتزام بها، في حياتهم اليومية (و)السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ووفقاً لهذه النظرة، لم يكن ممكناً وجود فصلٍ مماثلٍ للفصل بين الدولة والكنيسة؛ لأن «الدولة كانت هي الكنيسة، والكنيسة كانت هي الدولة، والله رأس كلتيهما، مع الرسول، بوصفه ممثلاً له على الأرض»، على حد تعبير لويس. وما يجدر ذكره، في هذا الخصوص، أيضاً، هو أنه، وفقاً لحسن البنا، على سبيل المثال، لا يوجد في الإسلام مفهوم الأمة، بوصفها دولةً ذات حدودٍ، بل يوجد فقط، بوصفه يحيل على جماعةٍ من المؤمنين، تتجاوز الحدود السياسية. وإنَّ تركيز الإسلام على المفهوم الجمعي للجماعة، وخلاصها، هو أحد الأسباب التي يمكن أن تفسِّر ضعف مفهوم الفرد والحريات والحقوق الفردية، في البلاد ذات الغالبية المسلمة.

وفي الرد على هذه الأطروحة، وما تستند إليه من حججٍ، يقرُّ بلاتو بوجود اندماجٍ أوليٍّ بين الطرفين المذكورين، في الإسلام، حيث كان الرسول أعلى سلطةً دينيةً وسياسيةً، في الوقت نفسه؛ لكنه يوضِّح، في المقابل، أن هذا الاندماج أو الدمج قد اقتصر، عمليًّا، على زمن الرسول، وأنه قد حصل، لاحقاً، فصلٌ تاريخيٌّ، بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، وخضوع الثانية للأولى، في العالم الإسلامي. ومن هذا المنظور، لا يوجد فرقٌ فعليٌّ كبيرٌ، بين الإسلام والمسيحية، في خصوص العلاقة بين الدين والسياسة؛ ففي كلتا الحالتين، القاعدة السائدة هي إخضاع السلطة السياسية للسلطة الدينية، أو خضوع رجال الدين للساسة. ففي زمن الرسول فقط، كان هناك اندماجٌ أو انصهارٌ بين الدين والسياسة؛ لكن، بعد ذلك، كان هناك حالة صراعٍ طويلةٍ بين أطرافٍ مختلفةٍ، كلٌّ منها يدعي الشرعية. وقد هيمنت السياسة على الدين، لاحقاً، واستلم رجال الجيش السلطة الفعلية، وفُصل الدين عن السياسة، والسلطة الدينية عن السلطة السياسية، وأصبح من صلاحيات الحاكم أن يقرر وضع السلطة الدينية وعلاقة سلطته السياسية بها. ولا تتناقض هذه الرؤية مع «الرؤية اللويسية» فحسب، بل تتناقض أيضاً مع النظرة السلفية الوهمية/ الأسطورية القائلة إن الخلفاء الأمويين والعباسيين كانوا مُقادين أو موجِّهين بمبادئ الإسلام. فوفقاً لبلاتو، منذ سيادة حكم الفرد المطلق (الأوتوقراطية)، أصبح رجال الدين خاضعين لرجال السياسة، وأصبحت السلطة الدينية خاضعةً، دائماً، للسلطة السياسية، وغير مندمجةٍ معها.

ويستند بلاتو إلى تقسيم إرنست غيلنر للإسلام -في كتابه «ما بعد الحداثة والعقل والدين»- إلى الإسلام المديني أو الحضري أو إسلام الطبقات الرفيعة أو العلماء High Islam، والإسلام الريفي أو إسلام الطبقات الدنيا أو العامة أو الشعب Low Islam، ليبين أن محاولات المصلحين الحضريين الإصلاحية المتكررة، لصياغة عقيدةٍ إسلاميةٍ نقيّةٍ ومتشدِّدةٍ، وفرضِها على عموم الناس، لم تحقق إلا نجاحاً محدوداً ومؤقتاً. وتشير الأدلة التاريخية إلى أنه، في معظم الحالات، عاد معظم الناس، لاحقاً، إلى معتقداتٍ ممزوجةٍ بعاداتٍ وتقاليد وأعرافٍ محليةٍ لا تتضمن الكثير من «التعليمات الدينية المحضة أو النقية». كما يشير بلاتو إلى ضرورة عدم الخلط أيضاً بين «الإسلام الرسمي» و«إسلام العامة»، وإلى التمايز بين «الإسلام السني» والإسلام الشيعي، ليشير إلى تعقيد العقيدة الإسلامية الناتج عن، أو المتجسد في، وجود مصادر أساسيةٍ متعددةٍ للتشريع والقانون الإسلامي، ومدارس مذاهب متعددة تمثِّل مقارباتٍ متنوعةً في تناول تلك المصادر وتأويلها وتطبيقها. وتكشف هذه التعددية عن محايثة المرونة والتنوع، لا التشدد والتزمت، للإسلام.

يرى بلاتو أن أحد أسباب هذه التعددية، وتلك المرونة، يكمن في عدم وجود سلطةٍ دينيةٍ مركزيةٍ تنفرد بحق التشريع، وتفرض رؤيتها الدينية. فما يميز الإسلام، وفقاً لبلاتو، لا يكمن في دمجه بين الدين والسياسة، كما يرى لويس، وإنما في بنيته اللامركزية. فعلى العكس من المسيحية (الكاثوليكية والأرثوذكسية) ذات البنية التراتبية والمركزية، ليس هناك بنيةٌ تراتبيةٌ ومركزيةٌ في الإسلام. لكن، في ظل تأثير الدين، وتوظيفه السياسي، يمثِّل غياب التراتبية والمركزية عن بنية الدين، عاملاً من عوامل غياب الاستقرار السياسي، في البلاد التي يشكل المسلمون أغلبيةً فيها. وفي ظل إخضاع السلطة السياسية للسلطة الدينية، أو خضوع السلطة الدينية للسلطة السياسية، لا تنجح السلطة السياسية، إلا نجاحاً جزئيًّا ونسبيًّا، في فرض بنيةٍ تراتبيةٍ ومركزيةٍ على الدين. لكن بلاتو يؤكِّد، في الصفحات الأخيرة من كتابه، أن مركزية السلطة الدينية في الكاثوليكية، لا تعطي، بالضرورة، أفضليةً، للدول ذات الغالبية الكاثوليكية، كما يحاجّ فوكوياما، في كتابه «أصول النظام السياسي... (2011)»؛ كما أن لا-مركزية السلطة الدينية ولا-تراتبيتها، في الإسلام، لا يفضي، بالضرورة، إلى منع التحديث وإفشال عمليات الدمقرطة. ففي «السياسات السيئة»، و/ أو في سوء السياسات والاستخدام الأداتي للدين/ الإسلام، من قبل سياسيين مستبدين، وليس في الدين/ الإسلام، بحد ذاته، ينبغي البحث عن السبب (الداخلي) الأساسي للمشاكل التي تعاني منها (معظم) الدول/ المجتمعات (ذات الغالبية المسلمة).

ولا يقتصر كتاب بلاتو على الرؤية النظرية العامة الكلية، التي تغض النظر عن التفاصيل والاختلافات، بين التجارب الإسلامية المختلفة، وخصوصيات كلٍّ منها على حدةٍ، بل يقوم بتناول العديد من تلك التجارب، تناولاً منفرداً، ليبين مدى انسجامها مع الرؤية النظرية التي يقدمها. ففي الفصل الرابع، نجد دراسةً للنمط المهيمن للعلاقة بين السلطتين السياسية والدينية، في الإمبراطوريتين المغولية والعثمانية، وفي المغرب وأفغانستان، من حيث استخدام السلطة السياسية للشعارات الدينية لتحقيق أهدافٍ سياسيةٍ، تمثلت، على سبيل المثال، في إخضاع بعض المناطق المتمردة، أو توحيد بعض المناطق المقسَّمة.

وفي إطار ما يسميه بلاتو «الحالة النموذجية للتوازن السياسي الديني»، في البلاد ذات الغالبية المسلمة، تخضع السلطة الدينية للسلطة السياسية، وتكون خادمةً لها. وتتبنى السلطة السياسية المستبدة «استراتيجية قمع المعارضة»، أو «استراتيجية مواجهة المعارضة». والفرق بين الاستراتيجيتين يكمن في مدى قدرة السلطة السياسية على التحكم بالسلطة الدينية وتأثيرها. وحين يعجز الحاكم المستبد عن التحكم الكامل برجال الدين، يستثمر رجال الدين حالة الأزمة، التي يمكن أن تعيشها الدولة، في تأجيج الغضب الشعبي والإسهام في التمرد/ الثورة على النظام الحاكم. وفي مثل هذه السياقات، يمكن لرجال الدين تصدُّر المشهد السياسي، وعكس أو قلب العلاقة المهيمنة، عادةً، بين السياسة والدين.

وفي توصيف الوضع الحالي، في معظم البلاد ذات الغالبية المسلمة، يبيّن بلاتو أنَّ ذلك الوضع يتجسد، تحديداً أو خصوصاً، في سياسةٍ تقوم على إفقار الأغلبية، لصالح فساد النخبة وإفسادها، مع تعاونٍ من رجال الدين، المنقسمين إلى رسميين وغير رسميين، مع السلطات السياسية، لدرجةٍ أو لأخرى، لأسبابٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ، بالدرجة الأولى. والمستبدون يستخدمون الإسلام لشرعنة استبدادهم، وتسويغ فسادهم. وهذا هو السبب الأساسي الذي يجعل النقاشات السياسية، في البلاد ذات الأغلبية المسلمة، تتخذ الصبغة الدينية، أو تدور في إطارٍ دينيٍّ، وتستخدم مصطلحاتٍ دينيةً. ولهذا السبب، يكون المعارضون «كافرين بالله»؛ لأنهم يرفضون استبداد الحاكم، ويكون «الكافرون بالله» معارضين للنظام الاستبدادي؛ لأنهم يرفضون الشرعنة الدينية للاستبداد. ويفضي هذا الارتباط الوثيق بين الكفر والمعارضة، إلى أنَّ المعارضين على أساسٍ دينيٍّ هم الذين يبقون مهيمنين في «الساحة»/ المجال العام، إلى درجةٍ كبيرةٍ، ويكونون قادرين على اجتذاب الناس العاديين أكثر بكثيرٍ من قدرة المعارضة اليسارية والعلمانية على القيام بهذا الاجتذاب. وهكذا يكون لدينا إسلامان؛ أحدهما مؤيدٌ للسلطة، وآخرٌ معارضٌ لها، وكلٌّ منهما يدعم شكلاً ما من أشكال السلطة الاستبدادية: استبدادٌ سياسيٌّ مدعومٌ دينيّاً، واستبدادٌ دينيٌّ مدعومٌ سياسيّاً، أو يسعى للإمساك بالسلطة السياسية. وبكلماتٍ أخرى، يكون لدينا رجال دينٍ يدعمون السلطة الاستبدادية القائمة، ورجال دينٍ يؤيدون مساعي إقامة سلطةٍ استبداديةٍ مختلفةٍ. والمستبدون السياسيون علمانيون، عموماً؛ بمعنى أنهم غير متدينين، أو ليسوا رجال دينٍ؛ لكنهم غير علمانيين، بمعنى آخر، وهو استخدامهم الدين أداةً، لتسويغ سياساتهم، وشرعنة سلطتهم/ استبدادهم. وتُحبط علمانية الأنظمة الاستبدادية آمال من يفترضون أن العلمانية تدعم، أو ينبغي أن تدعم، قيم الحداثة/ الديمقراطية، بالضرورة.

ولإبراز التمايزات، بين الدول ذات الغالبية المسلمة، في خصوص العلاقة بين الدين والسياسة، فيها، يميِّز بلاتو، في الفصلين الخامس والسادس، بين نوعين قطبيين من الأزمات التي تصيب، عادةً، تلك الدول. يتمثَّل القطب الأول في الفراغ السياسي و/ أو الفوضى اللذين يحصلان بسبب ضعف القوة المركزية وضعف فعالية قيادتها، مع إمكانية أن يترافق ذلك مع وجود عدوانٍ أجنبيٍّ على الدولة أو تدخُّلٍ أجنبيٍّ فيها. وحصول هذا النوع من الأزمات هو أكثر ما يخشاه رجال الدين (الرسميين). أما القطب أو النوع الثاني من الأزمات، فيكون نتيجةً للاستبداد اللصوصي «kleptocratic despotism»، المستند إلى الفساد الراسخ بعمقٍ الذي يمارسه المستبدُّ والنخبة المحيطة به. وفي ظل كلا النوعين من الأزمات، تميل السلطات والجماعات الدينية إلى أن تكون أكثر نشاطاً في السياسة، وإلى أن تقدِّم نفسها على أنها الدرع الأكثر فعاليةً، في مواجهة تقلبات السلطة والأوضاع السياسية عموماً. ولإغواء رجال الدين، وبالتالي، الحد من خطر التمرد، يلجأ الاستبداد اللصوصي، في كثيرٍ من الأحيان، إلى سياساتٍ محافظةٍ و«رجعيةٍ»، في المجالات التي يكون فيها رجال الدين «حساسين»، مثل مجالات التعليم، والعلاقات بين الجنسين، وقوانين الأحوال الشخصية. وبهذا المزيج السياسي الذي يجمع بين مستوياتٍ عاليةٍ من الفساد والتنازلات، في المسائل الخاصة والتربوية، يسعى المستبدون إلى الحفاظ على سلطتهم السياسية، ونهبهم الاقتصادي، وولاء رجال الدين. لكن اشتداد النتائج السلبية للاستبداد السياسي، والاستغلال الاقتصادي، وعجز الحكام المستبدين عن إخضاع كل رجال الدين، يدفع قسماً من رجال الدين المتعاطفين مع الناس، الذين يعانون من الاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي والقمع الأمني، إلى تأييد التمرد/ الثورة على الحاكم وزعزعة النظام/ الاستقرار السياسي القائم.

ويدرس بلاتو حالات مصر (في عهدَي فاروق وعبد الناصر)، والسودان، وباكستان والجزائر وإندونيسيا والعراق وسوريا وفلسطين وماليزيا، بوصفها تجسد نموذج دولة الاستبداد اللصوصي، والأزمة التي تنتج عادةً عن ذلك الاستبداد، وما يرافقها من صعودٍ للإسلام (السياسي). كما يدرس حالتي «مصر العثمانية» و«إيران بعد الصفويين»، بوصفهما نموذجين معبِّرين عن صعود «الإسلام (السياسي)» أو تزايد أسلمة الخطاب أو النقاش السياسي، في ظل ضعف مركزية الدولة، و/ أو التدخل أو العدوان الأجنبي. والفصل السابع مخصَّصٌ، تحديداً، لتسليط الضوء على كيفية تأثير البيئة أو العوامل الدولية في الأنظمة الاستبدادية، في البلدان ذات الغالبية المسلمة، منذ بدايات تشكُّلها.

والاستبداد، في الدول الغالبية المسلمة، ليس استبدادًا لصوصيًّا، دائماً؛ فإلى جانب الاستبداد اللصوصي، هناك ما يسميه بلاتو، في الفصل التاسع، «المستبد أو الحاكم المطلق المستنير» الذي يمارس سياساتٍ إصلاحيةً/ تحديثيةً تقدميةً، بدون أن يكون غارقاً في الفساد والإفساد والظلم، الاقتصادي والاجتماعي. وقد تجسَّد هذا «الاستبداد المستنير»، على سبيل المثال، تجسّداً بارزاً، في حكم مصطفى كمال أتاتورك في تركيا (1923-1938)، وحكم الحبيب بورقيبة، في تونس (1957-1987)، وحكم الملك أمان الله خان، في أفغانستان (1919-1960). فقد تبنَّى هؤلاء المستبدون المستنيرون إصلاحاتٍ تقدميةً، ووضعوا الإسلام تحت سيطرة الدولة، رافضين التخلي عن التدابير التي تثير غضب رجال الدين، من أجل حشدهم لدعمهم، ومتجنبين، نتيجةً لذلك، خطر «الجمود الظلامي». في المقابل، اختار هؤلاء «المستبدون المستنيرون» عدداً جيداً من رجال الدين، ودفعوا لهم رواتب ثابتةً، ومنحوهم وضعاً مشرفاً، من خلال الاندماج في إدارة الدولة، لضمان قدرٍ من الاستقرار للنظام. وإضافةً إلى كونهم غير فاسدين/ مفسدين، في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، لم يكن هؤلاء الحكام خاضعين لقوىً أجنبيةٍ أو نخبةٍ ما، خضوعاً صارخاً أو مفرطاً.

تظهر هذه التجارب أهمية النهج المتبع في تحديث الإصلاحات، وطريقة سنها والإعلان عنها وتنفيذها. ويميز بلاتو بين نوعين من الإصلاحات، أحدها سريعٌ وجذريٌّ واستبداديٌّ، يمثله أتاتورك وبورقيبة وأمان الله، خصوصاً، والآخر تدريجيٌّ، وأقل سلطويةً وتدخليةً في الشؤون الخاصة للناس، ويمثله النظام السياسي في إندونيسيا، وفي المغرب. وفي مقارنته بين نوعي الإصلاحات، التي يمكن أن يقوم بها «الاستبداد المستنير»، يميل بلاتو إلى تفضيل النوع التدريجي، لكونه أكثر وعداً، وأقل تضمناً لاحتمال أن يفضي إلى توليد التوترات والانقسامات داخل المجتمع، والمواجهات أو الاشتباكات المفتوحة مع جماهير الناس العاديين، ولكونه يساعد على تحقيق التغيير، بطريقةٍ مرنةٍ وتدريجيةٍ، من دون أن يبدو هذا التغيير/ الإصلاح، وكأنه تغريبٌ للمجتمع، أو خضوعٌ لثقافةٍ أو نخبٍ أجنبيةٍ/ غربيةٍ معاديةٍ للثقافة التقليدية.

يتضمن كتاب بلاتو حججاً وقرائن، بل وأدلةً، «كافيةً»، على أنَّ السلطات السياسية- الاقتصادية هي المسؤولة، بالدرجة الأولى، عن الأوضاع الدينية، وغير الدينية، في العالم الإسلامي، وليس العكس، وأن تحميل الدين، أو السلطة الدينية، مسؤولية الأوضاع السياسية، وغير السياسية، السيئة، في العالم الإسلامي، إنما يخدم، قصداً أو عفواً، مصالح الأنظمة الاستبدادية، والأيديولوجيا التي تتبناها أو تبثها تلك الأنظمة، لتحقيق هذه المصالح. وعلى هذا الأساس، يمكن القول بوجود تحالفٍ، واعٍ أو غير واعٍ، بين الأطروحة القائلة بأولوية «الإصلاح الديني» و/ أو «الإصلاح الأخلاقي»، ومصالح الاستبداد الرافض لإجراء أي إصلاحاتٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ، والساعي، ليس إلى تأجيل الحديث عنها، والمماطلة والتسويف، في تنفيذها، فحسب، بل وإلى إظهار أنها غير ممكنةٍ، ولا مفيدة، أو مجدية، في السياق الحالي، على الأقل.

الحديث عن «أولوية الإصلاح الديني أو الأخلاقي» حديثٌ باطلٌ، حتى لو أريد به حقٌّ. وهذا الحديث لا يتضمن تشخيصاً زائفاً للمشكلة، وإخفاءً لحجم المسؤولية التي يتحملها الاستبداد السياسي، فحسب، بل يتضمن، أيضاً، طمساً لمعالم الحل المنشود، وإيهاماً بإمكانية تحقيق إصلاحٍ دينيٍّ و/ أو أخلاقيٍّ، قبل تغيير/ إصلاح البنية السياسية الاستبدادية، والاقتصادية، المناقضة للعدالة الاجتماعية. ولا تقتصر هذه البنى على أن تكون فاسدةً، بل تتجاوز ذلك إلى أن تكون مفسِدةً بامتيازٍ. وليس ممكناً مواجهة هذا الفساد، أو العمل على التصدي له، بإصلاحٍ دينيٍّ و/ أو أخلاقيٍّ. فحتى إذا افترضنا وجود ضرورةٍ للقيام بهذا الإصلاح الديني/ الأخلاقي، قبل التفكير في القيام بأي إصلاحٍ سياسيٍّ- اقتصاديٍّ، أو البدء الفعلي بهذا الإصلاح، فنحن بحاجةٍ إلى سلطةٍ ومؤسساتٍ توفِّر بيئةً تسمح بحصول هذا الإصلاح، ناهيك عن دعمه وحمايته؛ ويصعب تصور وجود هكذا سلطةٍ ومؤسساتٍ في سوريا، بوصفها بلداً يحكمه مستبدٌ، على سبيل المثال، بدون حصول تغيرٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ كبيرٍ، يحرِّر البلد من كونها «سوريا الأسد»، ويفسح مجالاً لتحولها إلى «سوريا الوطن».