التأويليّة اللَدُنيّة الخضريّة تجربة التأويل في المقدّس القرآني


فئة :  مقالات

التأويليّة اللَدُنيّة الخضريّة تجربة التأويل في المقدّس القرآني

{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}

(الكهف: 65)

تنفرد سورة (الكهف) بتجربة تأويليّة يصحّ تسميتها بأنّها تأويليّة حدوث في جانب منها لكون المؤوِّل أو إنسان التأويل (Interpreter) فيها هو الفاعل (Actant) في صناعة الحدث ومؤوِّله في آن واحد، ما يوحي بوجود كُلية تأويليّة تتميز بها هذه التجربة التي جاءت، كما التأويليّة اليوسُفيّة، إلى طريق سرديّة في المتن الْقُرْآَني.

ظهرت مفردة "تأويل" مرّتين في سورة الكهف، وتحوَّلت لدى الخضر - مُختلف على اسمه ومنزلته، ولم يأت اسمه في المتن الْقُرْآَني([1]) - إلى نوْرنة تنبؤيّة استشرافية للغيب الذي سيتمّ تحديد معالمه بما يكشف عن مستقبل الذوات المشاركة في الحدث المسرود قرآنياً عبر قصّ رحلة موسى الذي طلب من الخضر، عليهما السلام، مرافقته عبر البحر ليعلِّمه الرُّشد مما تعلَّمه - الخضر - من ذي قبل: {أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} (الكهف: 66).

وهذا يعني أن للخضر عِلماناً رشيد الهبة، ناضج البنية، خصَّه الله رحمة به ما يمكننا من فهم طبيعة العِلمان بأنه مُكنة فائقة في قراءة ما سيؤول إليه أمر الناس بوصفه "معلوماً من المغيبات" على حدِّ تعبير (تفسير الجلالين) وهبه الله له من لَدُنه، جلّ شأنه، لكي يستطيع بها تأويل حالة الناس ممّن يصادفهم ضمن وقائع معينة، مُتبصراً بما ستؤول إليه نهاياتها، مؤوِّلاً حدثها بما له من عِلمان وُهب له رحمة لَدُنية من الله.

ولا بدّ من التنويه بأنّ اسم "الخضر" لم يرد في هذه السورة، ولا في غيرها من سور ﴿الْقُرْآَن﴾، إنما تؤكِّد بعض المصادر([2]) بأنّ "الخضر" هو المقصود بـ "العبد" من عباد الله في متنها، فما جاء في الآية أنّ موسى وفتاه {وَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (الكهف: 65)، لهو قمين بتفسير أنّ هذا العبد لله هو "الخضر" الذي وهبه الله عِلماناً إلهياً مُتفرّداً كرحمة به بانت طبيعته وقوّته في (سورة الكهف)، حيث مُكنة التأويل والتنبؤ وكلاهما أبداه الخضر نفسه في تجربته مع موسى لينفرد بتأويليّة يمكن لنا تسميتها (التأويليّة اللَدُنيّة الخضريّة) أو (تأويليّة الرحمة اللَدُنيّة)، لأن الخضر كان مركزاً في كُليتها التأويليّة، فهو صانع الحدث ومؤوِّله في آن واحد.

رحلة

في تلك الرحلة، جرت ثلاثة أفعال مارسها الخضر ببراعة فائقة بدت غريبة على رفيقه موسى، عليه السلام، وهي: خرق موضع مكاني في السفينة التي قلّتهما معاً عبر البحر، ومن ثمّ: قتْل الخضر لغلام التقياه في جادّة، وبالتالي: تعمير الخضر لجدار في المدينة بدا متهاويا.

وكُلّ هذه الأفعال المنظورة كانت محطّ دهشة موسى، رغم أنّ الخضر طلب من رفيقه - موسى - عدم تبرّمه وانزعاجه من أي سلوك يظهر منه - من الخضر نفسه - في تلك الرحلة، فقال الخضر: تعال لأُريك تأويل ما لم تستطيع عليه صبراً وتحمّلاً: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} (الكهف: 78)؛ فراح الخضر يكشف له حقيقة ما أقبل عليه في أفعاله:

أوّلاً: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (الكهف: 79).

ثانياً: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} (الكهف: 80 - 81).

ثالثاً: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} (الكهف: 82).

نوْرنة تأويليّة

تبدو قصّة الخضر مع موسى، عليهما السلام، في تلك الوقائع، مقارنة بقصة يوسُف، عليه السلام، تبدو أكثر درامية، وربّما هذا لا يعنينا ههنا بقدر ما يعنينا فعل الخضر، وكذلك مجرى الحدث؛ فهما بمثابة تكريس لنوْرنة تأويليّة لَدُنيّة في حدِّ ذاتها، وهو أمر لا غرابة فيه لكون ما جرى يتعلّق بالتأويل كخلق حدثي فعليّ واقعي منظور، بدا مآله غريباً على موسى حتّى امتعضه لشدّة الغرابة الظاهرة في سطحي معناه ومجراه الوجودي والأنطولوجي.

لقد أراد الخضر كسر حدَّة هذه الغرابة التي أبداها موسى، مندهشاً معترضاً مما أفضاه رفيق رحلته، ولكن ما "فعله الخضر إنّما فعله لحكمة خاصّة"([3]) لم يدرك دلالاتها موسى لحظتها، حتّى راح الخضر يُبيّن له أو يؤوِّل له ما جرى من أفعاله، وهو تأويل يكشف عن سبب تصرّفات الخضر في تلك الرحلة، لا سيما أنّ الخضر نفسه سبق وقال لموسى: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}، وهذه قصديّة واضحة على الشروع بالإنباء المؤوِّل للحدث والفعل والحدوث كان بإمكان النبي موسى التخلّي عن رحلته مع رفيقه الخضر، ما يذكّرنا بتجربة النبي يوسُف بقوله لرفيقي السجن: {أنا أنبئُكم بتأويله} (يوسُف: 45).

ما فعله الخضر إنّما فعله لحكمة خاصّة لم يدرك دلالاتها موسى لحظتها حتّى راح الخضر يُبيّن له أو يؤوِّل له ما جرى من أفعاله 

سيتخذ التأويل ههنا طريق الفعل أوّلاً، والإخبار ثانياً، والتبيين ثالثاً، والتأويل رابعاً، ما يعني أنّنا بصدد تأويل لما هو حدث سيكون مشفوعاً بتأويل تفسيري - تأويلي لحدثانه أو حدثيته - من الحدث والحدوث - وتلك هي دلالة ما نعنيه باستخدامنا تعبير الكُلية التأويليّة التي يوفّرها لنا المتن الْقُرْآَني على نحو متفرِّد؛ فمجرى الحدث يمثل نصاً فعلياً واقعي المجرى جرّبه الخضر أمام صاحبه موسى.

أما الإنباء {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ}، فهو الفعل/ النص الإخباري الذي ينمُّ عن الشروع بإنشاء نصّ تأويل أو نصّ وقد تشبّع بوهج اللَدُنية التأويليّة جديد النسج زفّته الآيات (79 - 82) من هذه السورة، ومؤوِّله أو إنسان التأويل فيه هو الخضر نفسه الذي شارك بإنتاج نص فعله وتأويله؛ بل نصّ الحدثية الكليّة فيهما، أي: إقباله على تعييب أو خرق السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار، بكُل وقوعيّة ووقائعيّة هذه الأفعال المنظورة حتّى شرع - الخضر - بتأويل ما جرى ظاهراً من أفعاله لصاحبه موسى ليردّها إلى حقيقة باطنها أو يفسِّر (Interpret) ظاهر فعله بباطن دلالته عبر التأويل الذي يدريه رحمة ولَدُناً من ربه.

استنتاجات

1. يشارك الخضر في صناعة المشهد الحدوثي وتأويل حدثيته من دون أن نتغافل عمّا قاله الخضر ذاته لموسى: {فإنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} (الكهف: 70).

2. إن المفردة الْقُرْآَنيّة {أُحْدِثَ} يمكن أن تنصرف إلى دلالة "الحدوث" الذي سيدلقه الخضر ككلام لساني مؤوَّل (نص تأويلي لما جرى)، بمنعى نسج وإنتاج الكلام بشأن ما حدث بتعبيرية تأويليّة. ويمكن، كذلك، تصريف معنى مفردة {ذِكْرًا} إلى بناء تأويل الخضر لما حدث؛ بل إلى بناء النص المنوَّر لَدُنياً على نحو تأويلي لما حدث وبمُكنة الخضر التأويليّة التي تحصّلها لَدُناً برحمةٍ من ربه بوصفه الشخص المؤوِّل بهبة لَدُنية رحمانيّة من الله.

3. تبدو تجربة الخضر التأويليّة أنّها تحوز على ناصية الكُليّة التأويليّة من حيث صناعة الحدث وتأويله بكُل موجوديته الظاهرة والباطنة، من البداية إلى النهاية، من دون أن ننسى أنّ الخضر استخدم تعبير تأويله {أنبئُكم بتأويله} عن جدارة الواثق من عِلمانه الرحماني اللَدُني الذي وُهب له من الله؛ فهو الذي قال لموسى: {أنا أنبئُكم بتأويله} في توكيد واضح الأصل أبداه إنسان التأويل (Interpreter) أو (الخضر) في هذه التجربة بوصفه ذلك الذي يخلق الحدث ليصبح واقعة، ومن ثمَّ ظاهرة، وكان الفيلسوف ألفرد وايتهد قد قال: "إنّ الحدث هو المخلوق، وهذا المخلوق هو الواقعة الظاهرة"([4])، الأمر الذي يعني أنّ الخضر كان ينتج حدثاً سرعان ما صار واقعة فظاهرة حتّى وجدَ نفسه مُجبراً على تأويلها لرفيقه النبي موسى.

4. تقوم النبوءة في تجربة الخضر على كشف الماضي والحاضر والمستقبل برمّة أطرافها الزمانية والحدوثية؛ فالخضر يعْلم ماضي الغلام، وبحالة الكنز تحت الجدار، وبنوايا الشرّ لدى الملك الغاصب طمعاً بمال غيره من الناس. لذلك، فإنّ تعييب السفينة كان سبباً لكي لا يجشع بها الملك إياه، وقتل الطفل لكي يردّ عن والديه الذنوب بسبب شرّانيّته، وبناء الجدار الحجري لكي لا يتم اكتشاف أمر الكنز الخبيء تحته من جانب الطامعين بملك الآخرين الذين لا يراعون حق ما يمكن أن يرثه الأيتام.

5. إنّ مُكنة الخضر أو نوْرنته اللَدُنيّة الرحمانية التأويليّة بالإنباء (= التأويل) عن مجرى الحدث، وما سيؤول إليه - الحدث نفسه - في نهاية مطافه وهو يخاطب موسى بالإنباء التأويلي هي نفسها لدى النبي يوسُف الذي خاطب رفاق السجن قائلاً لهم: {أنا أنبئُكم بتأويله} (يوسُف: 45).

6. لا يتعامل الخضر مع نصّ مكتوب (انظر: تجربة التأويليّة النبويّة المُحمديَّة)، ولا نص شفاهي (انظر: التأويليّة النبويّة اليوسُفيّة)، حتى يؤوِّله هو نفسه، إنّما من خلال فعل/ حدث = نصّ أو نصّ حدثي فعلي هو شريك بصناعته، بينما ما كان النبي يوسُف يتعامل مع نص حدثي فعلي واقعي، ولا مع نص مقدَّس، إنّما مع نصوص رؤيا إنسيّة شفاهية تُروى إليه شخصياً بوصفها حكايات لآخرين استوطنوها في مناماتهم، وكذلك تجربة الرسول محمَّد الذي كان يتعامل مع نص قرآني مقدَّس موحى إليه من الله.

7. الحدث الذي صنعه الخضر هو بمثابة "المُرسِل" والخضر نفسه هو "مُرسِله"، وما جرى فيه هو "المُرسَلَة" التي أدهشت نبي الله موسى والتي صنعها الخضر بنفسه، ومن ثمّ هو ذاته وقف على تفسيرها ليؤوِّلها استشرافاً، وهو بذلك إنّما يؤوِّل فعله لصاحبه موسى، بينما لم يكن يوسُف يصنع الحدث، ولا شريكاً في توليد "رؤيا" رفاق السجن، ولا حتّى الملك الفرعون في رؤياه.

8. إنّ العِلمان الذي حازه الخضر يمتاز بالرتبة الفائقة حتّى لكأنّ الخضر يعلم الغيب! وهي رتبة لله مُطلقة في عِلمانه ودرايته وتبصّره بمآل الذوات والأشياء، وتلك إشكالية نضعها جانباً في المرحلة الراهنة، مع التأكيد على أنّ الله قال في كتابه الكريم: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (المجادلة: 11)؛ فللهِ سبحانه مرامه ومقصده، وهو العليم بكُلّ شيء، وإرادته تشاء بأن تعطي العِلم درجات لمن يختار من عباده.

إنّ العِلمان الذي حازه الخضر يمتاز بالرتبة الفائقة حتّى لكأنّ الخضر يعلم الغيب!

9. عندما نصف تجربة الخضر، من الناحية الروحية التي غمرتها وتقوّمت بها والوجودية الحدوثيّة التي أبدتها، بأنّها تجربة تتّسم بالكُليّة التأويليّة، فإنّنا نقصدُ بها: خلق الحدث تأويلاً، ذلك أنّ صناعة الشيء هو تأويل لمجرّد كائنيته صوب موجوديته (مثال: تحويل الحجر إلى قطعة فنية تشكيلية)، وتأويل حدثيته قولاً وكلاماً عبر اللغة دفعة واحدة، وبيان مؤدّى غاية الفعل أو الحدث ونهاية مآله استشرافاً غيبياً، وكُل هذه المراحل تمضي وفقاً للكُليّة الزمنيّة من جهة الماضي والحاضر والمستقبل.

10. إنّ تجربة الخضر التأويليّة يمكن تصنيفها ضمن تأويليّة الحدث والحدوث التي هي خاصّة من خواص التأويليّة الْقُرْآَنية التي دعا الله الناس لتجريبها.

11. يمكن اعتبار التأويليّة الخضريّة بأنّها من قبيل تأويليّة الظاهر والباطن؛ فظاهر الفعل المرئي الملموس الذي يؤديه الخضر سيستتبع الكشف عن باطن ما يثوي فيه حتى يؤوِّلوه لرفيق رحلته موسى. وهذا مؤشِّر جليّ لثنائية الظاهر - الباطن التي تكرّسها استراتيجية ﴿الْقُرْآَن﴾ في قول الرحمن، فلا بد أن لا يأخذنا العجب عندما نسمع عن وجود ثنائية ظاهر النص المقدَّس الْقُرْآَني وباطنه في التأويليّة الإسلامية.

12. لا تنتمي التأويليّة الخضرية إلى ما هو أسطوري أو خرافي، ولا يوجد - بحسبها - سوى مُكنة النوْرنة اللَدُنية الفائقة التي خصّها الله به - الخضر - كما خصّها للنبي يوسُف كنوْرنة تأويليّة ربانية، والله هو القادر على كُلّ شيء.

13. إذا كان اليهود في التوراة حافظوا على قصة النبي يوسُف حتى ظهرت في ﴿الْقُرْآَن﴾ بأدقّ تفصيل، فإنّ سردية الخضر في علاقته بالنبي موسى تعرّضت إلى الطمس والتشويه اليهودي، حتّى إنها لم تظهر في التوراة بالشكل الذي ظهرت به في ﴿الْقُرْآَن﴾، لأنّ اليهود لم تعجبهم براعة الخضر التي جعلت النبيّ موسى مندهشاً تابعاً لحكمة الخضر ورشده وعِلمانه اللَدُني؛ فلدى اليهود التوراة المكتوبة المقروءة مثل (تورة شبختاف)، وأخرى يتداولونها شفاهاً بينهم، وهي (توراة شبَعَلْ بهْ)، وبعد ظهور القصة كاملة في ﴿الْقُرْآَن﴾، راح اليهود يعيدون كتابتها بأسماء أخرى من دون أن يفردوا لها وضوحاً في كتابهم التوراة. وكان الدكتور أحمد أيبش قد ذكر في كتابه (التلمود.. كتاب اليهود المقدَّس)([5]) القصّة التلمودية المعنونة "الوثوق بالله" الشبيه بما ورد في ﴿الْقُرْآَن﴾ عن قصّة الخضر وموسى، ولكن بأسماء أخرى؛ فموسى هو "الرابي يوحنان بن ليفي"، أما الخضر فهو "إلياهو"، لكنّنا مع كتاب الله ﴿الْقُرْآَن﴾ نستطلع حقيقة ما جرى.


[1]. منذ طفولتي كنتُ أشاهد طقوساً يستحضر بها العراقيون (الخضر) ويسمّونه "خضر لياس". ويذكُر فراس السواح بأنّه "في تركيا العثمانية كان الاسم الشائع للخضر هو خضر إلياس، الذي يجمع بين اسم الخضر واسم إلياس". فراس السواح: أساطير الأولين.. القصص الْقُرْآَني ومتوازياته التوراتية، ص 140، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، ط 2، دمشق، 2016

[2]. في معرض تأويله لسورة الكهف، جاء في (تفسير الجلالين) عن الآية 65: "{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} هو: الخضر، {آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} نبوّة في قول وولاية في قول آخر، {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} من قبلنا {عِلْمًا} معلوماً من المغيبات. ويسوق، نقلاً عن البخاري، حكاية موسى مع الخضر، وهو عبد من عباد الله الذي وهبه العِلمان المخصوص من لَّدن الله ذاته، وذلك عندما قال الله له: "إنَّ لي عبداً في مجمع البحرين أعلمُ منك" (تفسير الجلالين: ص 390).

[3]. د. عبد الرسول الغفاري: المُحكم والمُتشابه، ص 105، مركز المصطفى العالمي للترجمة والنشر، قم، 1431 هجرية.

[4]. ألفرد نورث وايتهد: كيف يتكّون الدِّين؟ ترجمة: رضوان السيد، ص 78، جداول للنشر، بيروت، 2017

[5]. أحمد أيبش: التلمود... كتاب اليهود المقدَّس.. تأريخه وتعاليمه ومقتطفات من نصوصه، تقديم: سهيل زكّار، ص 346 - 368، دار قتيبة، دمشق، 2006