التراث والحداثة بصيغ الجمع مقاربة أنثربولوجية


فئة :  مقالات

التراث والحداثة بصيغ الجمع مقاربة أنثربولوجية

التراث والحداثة بصيغ الجمع

مقاربة أنثربولوجية

مقدمة منهجية

التراث ليس كتابات فحسب، التراث أفعال وإنتاج وطقوس وصراعات وأحداث وقيم ثابتة لزمان ومتحولة. التراث حيوات الشعوب التي اخترقها الإسلام، ليس كدين وشريعة فحسب، بل وكثقافات محلية وممتزجة، منها الكوني الإنساني ومنها الإقليمي المصطبغ بديانات سابقة ومعتقدات متزامنة، وحتى لاحقة. أهمية الأفعال والواقع بالنسبة إلى التاريخ الإسلامي مركزية لأمرين؛ الأول مرتبط بقيمة الشفهية في بناء المعارف والعلوم الإسلامية، وعلم الحديث خاصة، وثانيها انبثاق الفكر نفسه من وقائع حاسمة.

التراث لا يفهم بفحص كتب الأئمة والفقهاء وعلماء الكلام والفلاسفة والصوفية فحسب، بل وكذلك بفحص السياسات؛ وسير الخلفاء؛ والقادة والفرسان والزعماء؛ وكذلك الحياة العامة لعموم الناس من عمال وصناع وفلاحين ونساء؛ وتربية الأطفال؛ وأيضا أشكال الزواج والأسر الفعلية وليس النظرية.

لقد آن الأوان لتجاوز ثنائية مع أو ضد التراث، نأخذ منه منفعيا ونترك كما في سوق المتلاشيات، أو نقطع معه كلية، ونبني الحضارة بالحداثة. مثل هذه المواقف تتبنى منهجية تحلّ اللغة محل الواقع والدعوة محل العلم. فإضافة إلى انطلاقها من انفعال الهزيمة، فهي لا تخرج تحرياتها عن دائرة ما هو كتبي لم يتشبع بالمنطق العلمي، لا التجريبي ولا الرياضي، ولا حتى العلوم الأخرى اللغوية والشرعية، والاجتماعية خاصة. وبذلك ينكمش التصور حول بؤرة تصنيفية تحاول بالانتقاء الإتيان بالحجج التي تؤيد المقدمات الانفعالية. مثل هذا المنهج، لا يمكن أن يكون علميا ولو اغتنى بالبحث في كتب الأولين والمعاصرين ببساطة؛ لأن منطلقه ليس علميا.

وكما قلنا بالنسبة إلى التراث إنه ليس كتابات فقط، يجب أن نبحث أيضا أفعال الحداثة ليس في كونها تتبنى الأنوار والحرية والعقلانية فحسب، ولكن في بعدها العنيف أيضا، في الرأسمالية واستغلال العمال وفي الإمبريالية واستغلال الأمم، وبذلك تكون الحداثة حداثات، فلسفية وفكرية وعلمية واقتصادية وسياسية. فلسفية وفكرية بالدعوة إلى العقل منذ انشراط الوجود بالتفكير، ثم بعد ذلك بالدعوة إلى الحرية والتعاقد والمساواة، وفي الدين نحو ربطه بالمسؤولية الفردية وبالحياة بعيدا عن سرديات الكنيسة وتسلطها. وعلى المستوى السياسي بالانتقال إلى التمثيلية البرلمانية وتنظيم المجالس الترابية عبر الاقتراع واستقلالية السلط. ورغم كل ذلك، فهذه الحداثات لم تنجح في ترقية الإنسان الأوروبي لينزع عنه غروره وتمركزه حول ذاته، بل بالعكس ربما ساهم استعمال الحداثات في خلق الاستعمار والتحكم في رقاب الشعوب.

ما لم ننتبه إلى الأفعال اليومية بأنواعها المقصودة وذات الغايات، وغير المقصودة العفوية، وحتى التي تبدو عشوائية أو استثنائية مثل الحروب والخصومات العصبية أو المذهبية، محاولين فهمها على أساس ما تقصده وما لا تقصده وماذا ترتب عنها، ما لم نحاول ذلك ونكتفي بما كتبه رجال أفذاذ في شروط غالبا تجعل تلك الكتابات تخدم مصالح بعينها لأمير من أجل حظوة أو من أجل بناء منهج مرجح ومقفل، عندما لا نلتفت إلى الهوامش وإلى المقاومات والاحتجاجات والثورات، وما لم نهتم بالطقوس اليومية والسنوية والاختلاف بين الأقاليم والمدن والقرى والحقب، وما لم نحاول فهم دلالات القرابة وأدوات التماسك الاجتماعي، وكذلك آليات التفكك، وما لم نهتم بفحص الملل والديانات الصغرى، وكذلك الوثنيات المبثوثة هنا وهناك والنظرات إلى الكون التي تؤطرها، والتي منها تنبعث القيم التي تؤطر بدورها العادات والأعراف وأشكال التعاقد. ما لم ننتبه إلى كل هذا وغيره، سيبقى عملنا فوقيا ودعويا غير علمي، عملا قياسيا ينطلق من قناعة أولى هي نبذ التراث أو تمجيده، وعليها نبني ما يؤيد ذلك كأي سلفية مهما تبدت حداثية وعقلانية.

المسألة ليست منهجية فحسب، بل إدراكية أيضا أي معرفية، حيث يتدخل التكوين ليكون تصورا ملائما حول الواقع الذي يجب تركه يتحدث بنفسه عن نفسه، في المكتوب والمنطوق والفعل، ثم البحث بعد ذلك في قوانين انتظامه، وكيف يتحول، وكيف يصير، وهذا وحده يساعد على الفهم وعلى التدخل والهندسات والسياسات. إننا لا نتبنى التراث كما نشاء وكيف نشاء، كما نتبنى القطع معه كذلك كما نريد، ونفس الأمر للحداثة. التراث والحداثة كائنات حية وصيرورات لها قوانينها الداخلية وتستطيع أن تقاوم التدخل الإرادي، وهذا ما تفهمه السلط السياسية أكثر من الباحثين عندنا.

البحث في آلهة العرب، اللات والعزى ومناة، وما علاقتها بوثنيات أقاليم أخرى؟ وما دلالاتها الثقافية والرمزية؟ وكيف كانت تجمع العرب أفرادا وجماعات من أجل التفاوض مع الأقدار وشرور الطبيعة والقبيلة والحرب والثأر؟ والخوف من نضوب احتياطي الفرسان؟ وكيف تبنى وتصاغ الطقوس والسرديات؟ ومن يؤسسها ومتى؟ وكيف واجه هذا التجريد الأولي التوحيد كتجريد أسمى وسردية أسمى؟ وما مدلول التوحيد الإسلامي كتنزيه ناضل ضد أشكال الاسقاط والتقمص الإحيائيين؟ وما مدلول الشرك والكفر كعلامات وحدود تنظم الهويات والأوفاق والجزاء والتنشئة وبناء وتنظيم المجتمعات، ثم ما دلالات الوحي؟ وكيف أتى بالجديد وكيف أبقى على قديم ارتضاه؟

مهم أن ندرس كيف تدرجت العلوم الإسلامية، وكيف تجادلت الفرق والمدارس والمذاهب فيما بينها، أهل الحديث وأهل الرأي، والقدرية والجبرية، والمعتزلة والأشاعرة، وآراء الفلاسفة في الوجود والمعرفة والمدينة والأخلاق، لكن ليس ممكنا بأي حال إمكانية القفز على سياقات مراحل الدعوة وعن فاعلية شخص الرسول وإقدامه على تحمل المسؤولية في اختبارات شديدة وكثيرة، كما أنه من غير الممكن ألا نتعرف على حياتيه العادية في مكة والمدينة، ودور كل من المهاجرين والأنصار، ولماذا غيب هؤلاء بعد موته في أمر الحكم والخلافة؟ وظاهرة قتل الخلفاء، والمعارك السياسية، الجمل وصفين ومقتل الحسين؟ وعلاقة كل هذا بالقبيلة واستمرار قيم العصبية رموزا وأعرافا، ثم عولمتها نحو تمييز العرب عن العجم، وبقاء الإمبراطوريات في قريش وحولها وأهمية النسب الشريف كأمن سماوي يحمي الأرض يعيد إلى الإحيائية سياسيا أو عبر التصوف.

ثم ماذا نعرف عن ديمغرافيا القبائل والدول وعدد الفرسان ومدى استعدادهم للقتال ومستوى فنون الحرب وتنظيم الجيوش؟ وما هو مستوى الغنى الذي وصل إليه التجار؟ وخراج الدولة؟ والمستوى التقني في استصلاح الأراضي ومد القنوات وأعراف الأرباح والمزارعة والهجرات؟ ثم كيف استطاعت استراتيجيات حربية بسيطة هزم الفرس والروم وبسرعة؟ وكيف تمت المفاوضات والمعاهدات؟ وأهمية البحث عن معاني ودلالات الحماس العقائدي نحو الجهاد بأنواعه؟ وكيف تمت "الفتوحات" نحو الشرق والغرب ومفاوضة عقائد مكتوبة قديمة وأخرى طقسية حيوية؟ وكيف تم تلاقي العصبيات المختلفة وكيف كانت المقاومات الميدانية الدموية والثقافية، وما مدى تجذر الديانات السابقة اليهودية والمسيحية في أقاليم كانت تابعة لبزنطة في الشام وشمال إفريقيا؟

معرفة القبائل التي امتدت إليها الخلافة غير العربية من فرس وترك وتتار ومغول وأحباش وأمازيغ وغيرها لا يقل قيمة من معرفة عرب الحجاز والطائف واليمن والعراق والشام والأنباط وغيرها، ثم معرفة اللغات الجارة للعربية مثل الآرامية والسريانية والحبشية والقبطية والعبرية والأمازيغية، وكل ما يمكن أن ينير الكيفية التي يتواصل بها الناس قبل الوحي ومعه وبعده.

ترتكز المقاربة التي أعتمدها هنا على أربع آليات:

1- البحث في الروابط الاجتماعية المتينة، والتي تتكرر مثل القرابة والإنتاج والقيم والأساطير المؤسسة والطقوس؛

2- محاولة وصف كيفية اشتغالها؛

3- العودة بها إلى مبرراتها الواقعية التي لا تفصح عنها؛

4- عدم إغفال ما يبدو غير معقول.

كل ذلك على أساس فكرة محورية، وهي أن المجتمع ليس مجموعة النصوص التي أنتجت فيه وحوله.

الجاهلية ونظام القبيلة

تعني الجاهلية هنا حقبة ما قبل الوحي، وكيف كان ينتظم الناس في قبائل وعشائر وفق نظام وقيم الفروسية كنمط عيش وإنتاج بنية تحتية تحمي الهوية وبنية فوقية تؤبدها وترعاها. كيف كانت كل قبيلة أو مجموعة قبائل تتخذ لها إلها تلتئم حوله وتنظم له مواسم للقاء وتبادل المنافع، وكيف كانت الآلهة تنتقل من قبيلة إلى أخرى، وكيف تصاغ السرديات والطقوس كما في كل بقاع الدنيا من أجل ضبط فوضى العالم واليومي وخلق أساطير التوسط بين الإنسان والمخلوقات العلوية والسفلية. وكيف تدخل هذه القبائل في صراعات وحروب على المراعي أو حتى على الشرف والسمعة كرأس مال رمزي يضاف إلى عدد الفرسان.

اهتمت القبيلة العربية بشجرات الأنساب نحو جد مشترك حقيقي أو وهمي، وتفرغ رجال لحفظ الأنساب وروايتها كحدود للهوية في صحراء تتحرك باستمرار، حيث معالم الدم والنسب أهم من معالم الأرض والتراب، غير أن واقع هذه القبيلة ليس موحدا؛ إذ فيها البدو الرحل، حيث تتكون من مجموعة عشائر وعائلات وزعماء وفرسان وسحرة ومحميين وعبيد ونساء وأطفال، كما فيها المستقر في قرى كما في مكة والمدينة والطائف واليمن، والحضارات التي بادت حيث تساعدنا الآن البحوث الأركيولوجية على التقرير على أن العرب ليسوا بدوا فحسب، بل وبناة عمران وتجار، وحتى سياسيين طمحوا إلى الملك ولو على أطراف وهوامش أمم أقوى هي الفرس والروم.

الشعر العربي متن يمكن أن نستشف منه معيش القبيلة وقيمها وتصرفاتها، وأول ما يوحي به هذا الشعر التوع الكبير لحياة القبيلة من الافتخار بنفسها وأيامها وانتصاراتها، إلى ما هو أعلى من البحث عن ملك ضاع كما عند امرئ القيس، إلى الاعتداد بالنفس كما عند طرفة بن العبد، ورفض قيم القبيلة كما عند الصعاليك، أو إلى حكمة زهير بن أبي سلمى. الجاهلية ليست إذا فراغا فهي حياة مليئة بالغزوات والفخر والملذات والحروب والحكمة والسحر والأديان التوحيدية القديمة الحنيفية واليهودية والمسيحية، وهذا ما فهمه الإسلام ولم يقطع كلية مع تراث الجاهلية بل استثمر بعض رموز ثقافة العرب من حج وتوقيع معاهدات.

لا يتحدث عن المدن في جزيرة العرب إلا في الشمال في الشام أو في العراق أو في الجنوب في اليمن. وبذلك لم تنشأ مدارس ولا أشكال فنية ومعرفية تحتاج إلى ديمغرافيا كافية وفائض في الإنتاج كما في المدن اليونانية أو في مصر، لكن ما يحتاجه العرب من معرفة عملية كالقيافة أو الفراسة أو الطب الشعبي يعتبر معارف لا يجب إغفال أهميتها، حتى نفهم كيفية تدبيرهم لحيواتهم وأيضا كيف تسربت هذه المعارف إلى التي سوف تصبح دينية وفكرية وعلمية فيما بعد نحو الطابع العملي التجريبي الذي طبع التوجه العام للعلوم العربية عكس احتقار اليونان للعملي واليدوي.

الوحي

الوحي خاصية اختص بها الله بشرا اختارهم كوسطاء بينه وبين الناس، وهي خاصية محايثة للسلوك المثالي للنبي، ويربط ابن خلدون هذه الخاصية بمكانة صاحب الوحي في قومه وبمكانة قومه بين الآخرين، بذلك يكون شرف محمد وشرف قومه حتى قبل النبوة؛ لأن قريشا تتبوأ مكانة خاصة عند العرب كورثة إبراهيم وسدنة الكعبة والقائمين بالسقاية والرفادة بوادي غير ذي زرع. الوحي وإن كان إرادة وفعلا إلهيا، فهو مرتبط بمعطيات اجتماعية وتاريخية أرضية وبحياة من حل فيهم الوحي وسيرة صاحبه.

الوحي معتقدات وشعائر وشريعة، وهو ما اهتمت به علوم الدين من علم كلام للرد على غير المسلمين ومن فقه لتنظيم حياة المؤمنين، وتصوف من أجل ربط التدين الخاص بالحس الكوني الذي يربط روحيا بين السماء والأرض. هي إذا نصوص داخلية تحاول الفهم والتشريع بالمقاصد المعلنة دون أن تنتبه إلا عرضيا إلى مقاصد غير معلنة في استعمال المعتقد نفسه أو الشعيرة أو حتى تربية النفس من أجل غايات دنيوية ومصلحية اقتصادا أو سياسة، هذا الانتباه كان لابد أن ينتظر العلوم الاجتماعية الحديثة المسلحة بمناهج كمية وأخرى كيفية تأويلية، ثم إن الحياة اليومية لا تصل كلها إلى فهم المعرفة العالمة للمفتين والشيوخ، بل ترتبط بالمعتقدات التي تربط الهواجس والمخاوف والعاطفة والترقب واتقاء الشر والمرض واستجلاب الحظ السعيد والصحة والسعادة، سواء في الأسرة أم في الحقول والمراعي والأسواق.

التراث إذن ليس ما تخطه أقلام عالمة لا تأبه أحيانا لحياة الناس، ومع ذلك ففي الكتب بعض الفلتات التي تفضح الخفي، سواء في الشعر كما عند المعري أو أبي نواس، أو في النثر كما عند الجاحظ وأبي حيان التوحيدي والأصبهاني والإشبيهي والمقامات عندما نحسن الإنصات.

سيرة الرسول

لا يمكن البحث في التراث دون البحث في شخص الرسول، في يتمه وطفولته وعلاقته بأعمامه ومشاهداته اليومية لوفود الحجيج والعناية بالكعبة والصراع حولها، دون نسيان إقامته في الصحراء ورضاعه في البادية والتأمل في السماء. وبعد ذلك، اشتغاله بالرعي وملاحظة عيش الغنم والبحث عن المراعي وتتبع سلوك الطبيعة الصحراوية، ثم انتباهه لرحلات التجارة ومدلول الربح وقيمة الصدق التي جبل عليها، ثم زواجه الفريد من امرأة تكبره هي من طلبت ودّه، وزياراته للشام. وقبيل الوحي عزلته وتأملاته في الغار وعدم الاختلاط المدمج بالناس ومعتقداتهم وقيمهم.

ثم ينزل عليه الوحي ويتأكد بأنه كذلك من خال زوجته موحد، ثم يحاول نشر المعتقد سرا عند الأقارب والأصحاب، ثم الجهر ومحاربته من أهله من قريش وحتى من ذوي الرحم شعورا بتهديد الديانة الجديدة لمعتقداتهم ولريع شرفهم التليد.

بعد محن كثيرة ينتقل إلى المدينة بشكل شجاع يكاد يكون فرديا ليستقبله أهلها بترحاب وبنصرة، ثم يبني المسجد والدولة ويعقد العهود، وتتالى الحروب تارة ينتصر وأخرى ينهزم ولا يستسلم حتى وافته المنية دون ترك الخليفة لتتالى الأهوال التي مزقت المسلمين إلى شيع وأحزاب وفرق.

ماذا يمكن أن نستفيد من هذه السيرة الفريدة من زاوية أنها مؤسسة لما سيتبع من أحداث وقيم وتصرفات؟

- الفائدة الأولى جماعية، وهي مركزية قريش وريثة إبراهيم في القبائل ومن ثمة في السرديات العربية؛

- الفائدة الثانية مركزية صاحب الوحي في صناعة التاريخ بفعالية لا علاقة لها بالحتميات التاريخية؛

- أما الثالثة، فهي لا تاريخانية التاريخ، حيث يمكن للأحداث أن تصير أو أن تركد أو حتى أن تتقهقر.

الإسلام والمدينة

سواء في دمشق أو بغداد أو البصرة أو الكوفة أو القاهرة أو القيروان أو فاس أو قرطبة أو إشبيلية ستنتقل القوة من القبيلة إلى الدولة، من العصبية إلى الجيش والشرطة، ومن الرعي وتجارة القوافل إلى الخراج وتجارات الأقاليم والزراعات الممتدة، والصناعات والحنط، ومن الخشونة إلى الترف، ومن الثقافة الصحراوية إلى تلاقح ثقافي أنتج الآداب والعلوم من فلسفة وطب وهندسة وفلك وعلوم أخرى، والجدل والفكر والفقه المنظم لحياة أصبحت معقدة تحتاج إلى من يربط الوحي بالأعمال العرفية فظهرت المذاهب كتعبير عن الاختلاف في البيئات والثقافات والمصالح، ونبعت علوم إسلامية محضة، وتأسس القضاء مبنيا على الشريعة يبث في كل مناحي الحياة من بيع وشراء ورهن وزواج وطلاق ووضع الحدود والجزاء، ثم الكلام للرد على غير المسلمين من جهة وإيديولوجية شبه حزبية تبرر وتشرعن أفعال ضد أخرى.

هكذا تعقدت الحياة ولا يمكن فهم تراثها بفحص المكتوب فيها فحسب، بل بالانتباه إلى أفعال الناس وحسهم المشترك وقيمهم الفعلية التي ترتب المعاش والتفاعل والتواصل وخلق آليات تثبيت هذه القيم من فتاوى ومؤسسات، وكيف تعمل على تمريرها إلى الأجيال اللاحقة عبر التنشئة والمراقبة والأوامر والنواهي.

ثم هل انتهت القبيلة وهل انتهت قيمها؟ وكيف اتخذت لها صيغا شبه معولمة من العرق والعنصرية؟ وكيف سطع نجم العرب وبحث الأمم الأخرى إما عن مكانة في الشمس أو الذوبان بالبحث عن شجرات نسب عربية، إن لم تكن شريفة ولو بالتزوير؟

ثم ماذا فعلت هذه الأمم المتاخمة من فرس وروم ويونان ومصريين وأمازيغ وغيرهم في خلق حضارة جديدة بشخصية التنوع والثراء؟

المقاومات، والأمازيغية خاصة

لم يتم الفتح في شمال إفريقيا كجولة في بستان، بل تعددت المقاومات من حربية دموية لعل أشهرها مقاومات أكسل وديهيا وميسرة، كما أن الثقافة الأمازيغية استنفرت مقاومة لا تقل قوة وشراسة، وهي المقاومة العقائدية ولعل أشهرها المقاومة البرغواطية. فكما حارب الأمازيغ التوسع الروماني حاربوا التوسع العربي وخلقوا، سرديات تؤكد ذهابهم إلى الإسلام وليس اعتناقهم له استسلاما حتى تحدثوا عن صحابة أمازيغ، كل ذلك يؤكد الخصوصيات الإقليمية شيعية شرقا وخوارجية وصوفية وتأويلية غربا. لتظهر في الغرب الإسلامي مؤسسات اجتماعية قوية إلى جانب القبيلة هي الزاوية والمخزن. كل هذا ينبه إلى ضرورة إعادة البحث في الواقع وأهميته وعدم الاقتصار على النصوص، رغم أهميتها، الواقع القرابي والرمزي والطقسي والعرفي والإبداعي بألوانه في المعمار والحكاية والأسطورة والشعر والصنائع. علاقة الإنسان بالمكان والمتاح وأشكال الإنتاج، وعلاقته بالزمن وتبدل الفصول وأبواب السماء، ثم العلاقة بالخفي من الكائنات الميتافيزيقية والخيالية. ولعل أهمية فحص هذه المقاومات في مساعدتنا على فهم وتحليل المقاومات المغربية الحاضرة للقومية العربية.

ثم جاء الاستعمار

فعل الاستعمار فعل شمولي شرس وعدواني يتوخى اجتثاث الهويات من جذورها، يهتم بكل مناحي الحياة بتفاصيلها، وهذا ما يجعل الفعل العسكري المباشر تسبقه دراسات معمقة في جل التخصصات، ليس رغبة في المعرفة والعلم، وإنما في تسهيل المأمورية وأدائها بأقل الخسائر والتكاليف. هكذا يهتم المستعمر بوصف الأرض وتضاريسها لمعرفة الوعر والسهل منها في سطحها، والصالح للزراعة والغابات، وكذلك المناجم التي توجد في باطنها، ثم يهتم بالعادات والأعراف والقيم والدين والمؤسسات التقليدية ومزاج السكان ومدى قدرتهم على المقاومة ومن منهم يستعد للعمالة والانقياد. هذه الشمولية متمركزة حول أفعال محورية، حول استنزاف الخيرات الطبيعية وفرض اقتصاد جديد يخدم المتربول، ولكي ييسر له ذلك لا بد من سياسة تمهد وتنظم وتراقب، ومن ثمة أهمية فحص الفعل السياسي الاستعماري وكيف يخلق قوانين ومساطر ومؤسسات تخدم مصالحه عبر إدارات جديدة تغرس عنوة في البلد بالقضاء على المؤسسات المنتخبة واستبدالها بأخرى معينة معيار اختيار أفرادها العمالة والخيانة، الأمر الذي يؤسس علاقات جديدة مبنية على الفساد والرشوة والريبة وفقدان الثقة المعمم. تهتم السلطات الاستعمارية بالأعراف المحلية بشكل مصلحي تختار منها ما يلائم مصالحها وتنبذ ما يقوي أواصر القربى والحرية والاستقلال. إضافة إلى الفعل الاقتصادي والسياسي الإداري يسعى المستعمر إلى تأبيد فعله وقيمه عبر التنشئة المدرسية أساسا حيث يكون تلاميذ يقدرون القيم الحداثوية منفصلة مثل النظافة ورعاية الصحة والانضباط على أساس تكوين تقنوي يهتم بلغة المستعمر ورموزه الثقافية والأدبية وإغفال ثقافة البلد أو يعمل على ما يزكي العتاقة منها، وبكل ذلك يحرص على ألا يتجاوز التلميذ الدراسات الابتدائية أو المتوسطة في أحسن الأحوال ليعود موظفا منفذا في الإدارة أو في المشاريع التي تخدم دوما مصالح المستعمر وبعض الفتات للمتعاون.

هل العقل الإسلامي منغلق؟

غالبا ما تتوج المشاريع الفكرية الدعوية، سواء التراثوية أو الحداثوية أشغالها بإعلان دوغمائية العقل الإسلامي، وهو أمر صائب عندما نبقى على مستوى العقل الكتبي عندما انتهى الأمر إلى انكماش مضامين تعلمات الجامعات التقليدية التي تخشبت حول متون في غالبها قوية ومفيدة، انكماش الانبهار بها والبقاء على مستوى الشرح ووضع الهوامش والملخصات، وهو أمر يصيب كل المعارف المعيارية بتعبير طوماس كوهن؛ لأن المعارف المقررة في الجامعات والمدارس عندنا وعند غيرنا تحتاج إلى معيرة قد تستحيل مع مرور الزمن إلى دوغمائية.

لكن ما أن نخرج من أسوار الجامعات ودفات الكتب ونتجه نحو عقل المجتمع الذي يتبدى في تدبير اليومي والمعاش والتفاوض على المراكز والقوة ومقاومة الاستعمار، حتى ندرك أن العقل هنا ليس مغلقا، بل هو تعب حضارة بأتمها ومنافستها من قبل أخرى أقوى هي التي تجعل المفكر والباحث المحلي يتأسف وينفعل ويبحث عن حلول تكاد تكون سحرية في تبني التراث أو الانسلاخ منه، في حين أن مثل هذه الكتابات لا تأثير لها سوى على نخبة غالبا ما تكون منفصلة عن المجتمع لا تفهم حسه ولا حاجاته الحيوية.

العقل الإسلامي مثل كل العقول ينشأ ويعيش طفولة وشبابا وقوة ثم ينكمش، ويحتاج إلى روافد داخلية وخارجية جديدة تمده بالحيوية الضرورية، هذه الروافد يمكن تواجدها وفعاليتها بكون العقل أي عقل لا يغلق نهاية، بل يغلق في أمور ويفتح في أخرى، وغالبا ما يخفي الانغلاق مصالح سياسية وفئوية، وحتى جندرية عندما تتأسس القيم الاجتماعية على أبوية منغرسة لا يمكن إن تزول أو تلطف إلا بفعاليات ميدانية ونقاشات عمومية تمتح من مشاريع فكرية تستند على العلم وفحص كيفية اشتغال الحيوات وليس بالدعوات المنفعلة.

قنوات وقوانين مرور التراث إلى الحاضر

لا يمر التراث بالكتب التي اعتمد عليها أصحاب المشاريع الفكرية الكبرى مثل محمد عابد الجابري وعبد الله العروي ومحمد أركون وطه عبدر الحمن، كتب الطبري وابن هشام وابن كثير ومالك والشافعي والشهرستاني والأشعري وغيرها من المصنفات التي يؤخذ منها ويترك فحسب. يمر إلينا التراث بالسياسات الحالية والتراثية نفسها، من خلال الفتاوى الرسمية للدول، ومن خلال مراقبة حياة الناس وحتى كتبهم، ومن خلال مذكرات وزارات الدين وتوظيف الجامعات التقليدية مثل القرويين والزيتونة والأزهر في سن ما يترك وما لا يترك، وهذا له أثره الكبير في اختزال التراث في الدين وترك الأدب والشعر والتراث المعماري والمهرجانات ومعارض الكتب لوزارات الثقافة. أما أمر العقيدة والقوانين والمساطر المنظمة لها، فهناك مجمعات علماء الدين الذين يبثون فيما يجب أن يقال وأن يفعل في المساجد وما لا يجب، مع غض الطرف عن الوثنيات التي تستمر هنا وهناك وعيا منها؛ أي المجمعات، بتنوع ما يأتي من الماضي وقوته وصموده وعدم إمكانية التحكم في كل شيء.

بذلك تنقسم قنوات مرور التراث من الماضي إلى الحاضر إلى رسمية وشعبية، وواعية وغير واعية، دون نسيان تبادل الأدوار الحاصل فيما بينها من حيث تبني ما هو رسمي لآليات المجتمع وفق الفهم العملي على أن أي تمرير للقيم لا يتم سوى وفق ما ارتضاه الناس لأفعالهم ومعتقداتهم، كما أن العامة بالمفهوم العالم التقليدي غالبا ما تقلد الخاصة، بل ومنها تستمد مشروعية أفعالها. وعندما يحدث التنافر بين الفعلين يمكن توقع تحول نحو قيم أخرى ليس بالقطيعة غالبا ولكن بالتفاوض.

هذا بالنسبة إلى القنوات، أما قوانين الانتقال فهي متعددة وأهمها المحاكاة، والتي لا يجب فهمها تقليدا بحتا، بل هو نوع من التعلم بربط الشبيه بالشبيه والمتجاور والسبب بالنتيجة كآليات إدراكية معرفية تشتغل لدى كل الناس وفق الثقافة والقيم السائدين ليس بالتجربة والمحاولة والخطأ والعقل، بل وبالتعاطف والألفة والعادة. التراث شيء يتعلم ليس في المدارس والجامعات، بل بقوانين الحس المشترك من عزو واعتماد الذاكرة والإسقاط والتقمص. تناول التراث كمادة للتعلم الحياتي لا يقل قيمة عن البحث في الكتب والنصوص. مع المحاكاة تشتغل كل الآليات التنشوية التي تحاول بناء هابتوس بالقصد أو بدونه يتخذ صبغة بنية مفتوحة تتأثر بالوعي وبغير الوعي وبالمباشر وغير المباشر وبالمعلن والخفي. التراث ليس أمرا جامدا، بل تربية يعد لها جيلا بعد جيل ويدخل ضمن ذلك العالم المدرسي والجامعي والكتبي.

إلى جانب المحاكاة والتنشئة يتدخل التفاوض وفق الرهانات المادية والرمزية، حيث يتنازل عن أمور مقابل أخرى وتنسى ثالثة في لعبة رعاية وتدبير المصالح الحيوية وحتى التي تبدو ثانوية وترفا أحيانا، يساعدنا البحث في التفاوض في معرفة التفاصيل المؤطرة للأفعال الاجتماعية سببا أو صيرورة أو نتيجة.

بعد فحص المحاكاة والتنشئة والتفاوض، لا بد من الانتباه لأفعال طارئة، والتي تخرج عن المألوف مثل الثورات والاحتجاجات والحروب؛ إذ غالبا ما تكون منعطفا نحو تغير التراث جزئيا أو حتى في قطائع كبرى.

خاتمة

هكذا يتضح أن أمر فحص التراث ليس جولة في الكتب وفق مقدمات فكرية أو منهجية ثم البحث فيما يؤيد المقدمات، البحث في التراث كأي بحث يجب أن نضع له إشكالية بالمعنى المفتوح الذي يبحث عن تمظهرات الأفعال الاجتماعية وقوانين انتظامها مع انتظار إمكانية أن تختلف النتائج مع الفرضيات؛ وذلك حفاظا على الروح العلمية التي تحسن فهم الدلالات والرصد والتوقع، كما يمكن أن تحسن حتى الدعوة نفسها مادام البحث في العلوم الاجتماعية التزام إنساني قبل كل شيء.