التفقير كآلة حربية


فئة :  مقالات

التفقير كآلة حربية

"ولمّا كان الفكر، دومًا، في تأخر عن النظر؛ اعتقدنا طويلًا أن جزءًا من العالم مخفي عنا" إدموند جابيس.

"الفقراء تعساء في كل مكان" الشاعر اللاتيني أوفيديوس (43ق.م- 17م).

كتب إدموند جابيس ذات مرة: "إن الجحيم ليس مكان الألم؛ بل هو المكان الذي يتعرض فيه الناس للتعذيب". وعلى ما يتضح؛ فالرجل من خلال هذا التعريف الدقيق، الذي يكاد يختزل كل المسافات، التي بوسعها أن تجعلنا نستوعب جيدًا المعنى الحقيقي للجحيم، قد تَمكَّن من أن يميّز تمييزًا مفصليًّا بين فضاءين اثنين للتعذيب، لا ثالث لهما، وإذا صح القول: إن الفضاء الأول: هو أشبه ما يكون بالجحيم الافتراضي، الذي ما انفكت تُبَشِّر به الأديان التوحيدية كل الكفار، مقابل الجنة المرصودة للمؤمنين. والفضاء الثاني: هو ما يرمز، حسب الفيلسوف، إلى خرائطية الفقر الجهنمية الواقعية، التي يَتمرَّغ فيها كل أولئك الذين صاروا، بتعبير (برودون) خارج المجتمع، جراء انعدام العدالة، وغياب الإنصاف، من قبيل؛ المعوزين والفقراء، والعمال والبروليتاريا، والمعطَّلين والمشرَّدين، والمنحرفين والمتسوِّلين، والمنبوذين والمتسكعين، والعاهرات والمجانين، والأسرى والمعتقلين.

إن الجحيم الحقيقي، إذن؛ ليس جحيمًا ميتافزيقيًّا ماورائيًّا، مثلما أُريدَ لنا أن نعتقد، أكثر مما هو؛ جحيم واقعي، يسوده الفقر المدقع، والاستبداد المطلق، والمنتهِك كُليًّا للكرامة الإنسانية، هو، بلا ريب؛ الجحيم الأرضي الذي يعيش فيه سائر الفقراء في العالم، ويعاني عذاباته كل المحرومين، جراء التوحش الليبرالي الذي بقدر ما يحتكم إلى منطق السوق، بقدر ما يعتمد التفقير كآلة حربية، وينهج سياسة التجويع، سعيًا منه، بطبيعة الحال، وراء تطويع الرقاب، واستعباد الناس، سواء بالتحكم في حيواتهم، والاستحواذ على خيرات أوطانهم، أو بتدبير الرعب اليومي، كبحًا لرغباتهم حتى تعود أدراجها

• إن الإنسان بالنسبة إلى (برودون)، لا يمكنه أن يتواجد إلا في حالتين اثنتين: إما أن يكون داخل المجتمع، وإما أن يكون خارج المجتمع. أما وجوده داخل المجتمع؛ فهو ما يفيد أن كل الظروف التي يتمتع بها متساوية، بالضرورة، مقارنة مع غيره من الناس، اللهمّ، إلا درجة التقدير والاعتبار التي بوسع كل واحد أن يحظى بها. أما وجوده خارج المجتمع؛ فهو ما يعني: أن الإنسان مجرد مادة للاستغلال، إن لم نقل أداة مُرسمَلة؛ لذلك فهو، في غالب الأحيان؛ أشبه ما يكون بأثاث مزعج وتافه. (انظر: برودون، ما المِلكية؟ هامش، ص 390).

مندحرة نحو "تناتوس"، مخرجها الأخير للتخلص من قساوة وصعوبة إشباع الضروريات منها، ولكن التفقير إِنْ كان آلة حربية بالفعل، فذلك، أساسًا؛ لأن "الحرب ليست واقعة مستقلة؛ بل هي أداة سياسية"[1]، وعنف لا محدود، غالبًا ما يسترسل ويستمر سياسيًّا بطرق شتى، الغاية منها؛ هي هزم الخصم، وتحطيم كل قدراته، حتى لا يغدو مُهَدِّدًا للعقد الاجتماعي الذي يلزمه أن يذعن له رغم أنفه، ولعل أنجع هذه الطرق، إذا ما استقصينا رأي (كلوزفيتز)؛ إنما هي التجارة، على اعتبار أنها بقدر ما تعلن حرب الواحد ضد الآخر، بقدر ما هي، أيضًا؛ معركة خفية، ما انفكت تخترق المجتمع في واضحة النهار، خالقة المزيد من التفاوتات المصحوبة، دومًا، بإلحاق الخسارة بجهة ما ضد جهة أخرى، وإذا كانت الحرب والتجارة وجهان لعملة واحدة؛ فذلك ليس إلا لأن "الحسم بواسطة الأسلحة، في كل العمليات الحربية، سواء كانت كبيرة أو صغيرة؛ هو أشبه ما يكون بأداء الحساب في العمليات التجارية؛ إذ كيفما كانت التسديدات، فلابد أن تتم بالكامل"[2].

إن كلوزفيتز، على حد ملاحظة "بُنوا شانتر": هو من يقدّم لنا، هنا، نظرية تطبيقية في الحسم، مستعملًا لفظة تحيل لفعل (decidere)؛ المنحدر من فعل (coedere)، الذي يعني؛ (trancher)؛ أي قطع الرأس. وذلك توكيدًا منه على أن التجارة، بحد ذاتها، تنطوي على بذور العنف التاريخية، التي تروم الإنسانية التستر عليها سياسيًّا باسم التقدم الحضاري، ولعل تعريف كلوزفيتز، والحالة هاته، تعريف يكاد لا يخلو من أهمية كبرى، وذلك ليس فقط لأنه يسعفنا على فهم ميكانيزمات الحرب التفقيرية، التي تُدَبَّرُ اليوم بفنية منقطعة النظير، سواء تحت يافطة حقوق الإنسان، أو باسم التكافل الاجتماعي، وغيرها من الشعارات؛ بل لأنه، أيضًا، يوضح بما فيه الكفاية أن النزوعات القَبَليّة، ما تزال تقبع دومًا خلف عملية "المتاجرة بلطف" التي تتم ما بين الأشخاص، ولربما كان ذلك، أيضًا، سببًا من بين جملة الأسباب التي جعلت فيلسوفًا من طراز ميشيل فوكو، يولي عناية كبرى لتأويلات كلوزفيتز؛ حيث عمد، عبر مشروعه التحليلي للسلطة، وحفره الجنيالوجي في أصول العنف، إلى قلب مأثورته الشهيرة، التي مؤداها: "أن الحرب ليست إلا استمرارًا للسياسة بطرق أخرى"[3]، مستبدلًا الفرضية القمعية العائدة لــ (فيلهيم رايش) بفرضية نتشه، التي تقول بعلاقات القوى، ليخلص، بالتالي، إلى ثلاثة حقائق هامة: أولها: "أن السياسة: هي المعاقبة، ومواصلة التفاوتات في القوة الظاهرة في الحرب، أو الناجمة عن الحرب. ثانيها: أنه داخل هذا الذي يسمى "السلم المدني" توجد الصراعات السياسية، والمواجهات داخل السلطة، وخارج السلطة، ومن أجل السلطة. ثالثها: أن القرار النهائي، لا يأتي إلا من الحرب؛ أي من امتحان أو اختبار للقوة؛ حيث السلاح هو الحكم"[4]. بناء عليه، يتبدى أن للجحيم، إذن، جذورًا متوغلة في القِدم؛ فهو ليس وليد الساعة؛ بل نتاج معركة طويلة وضارية حُسِمتْ فيها الأمور بالقوة لصالح فئة ما ضد أخرى. ولكن هل يعني ذلك: أن الصراع قد توقف، وأن المعركة انتهت؟ أبدًا، مادام الجحيم بحاجة دائمة لمن يوقد ناره، ليس باعتباره مرتع العنف المدبَّر سياسيًّا على نحو حربي فحسب؛ بل، أيضًا، باعتبار: "أن الحرب ذاتها قبل أن تكون فعلًا سياسيًّا، فهي، أيضًا: أداة سياسية حقيقية، واستمرار للعمليات السياسية، ومواصلة لها بوسائل أخرى"[5].

إن الحرب في الحالة هاته، ليست واقعة مستقلة بذاتها، أكثر من أنها تكتيك واستراتيجية، إن لم نقل مكر وخداع، دائمًا ما يكون مضمرًا، حتى في الحالات الأكثر سلمًا وهدنة، مما حدا بـ"كلوزفيتز" إلى تشبيهها بالحرباء؛ حيث إنها بقدر ما تتغير وتتبدل، بقدر ما يستعصي علينا أمر ضبطها، وتحديد مواقيت اندلاعها. تبعًا لذلك؛ فنحن نكاد لا نعرف الحرب إلا من خلال آثارها ونتائجها، التي يبقى الجحيم، من حيث كونه المكان الذي يجري فيه تعذيب الناس وتأليمهم، بمثابة الوعاء الحامل لهذه الندبات، الموشومة على أجساد ضحاياها الدائمين، ليس هذا فحسب؛ بل إن الجحيم ينطوي، من ناحية أخرى، على فن التشريح السياسي للجسد، الذي يتوخى صنع كائنات خنوعة وطيِّعة، تتصرف وفق المطلوب، فتكون نافعة اقتصاديًّا، وهيِّنة سياسيًّا، ويبقى هذا الانتقال، في نظرنا: "العقوبة، على حد تأويل فوكو، من فن في الأحاسيس التي لا تطاق، إلى نظام اقتصاد للحقوق المعلقة"[6]، الذي طرأ مع تحولنا من المجتمع التأديبي إلى مجتمع المراقبة، بمثابة التفسير الدقيق المناسب لما يقصده (جابيس) من وراء لفظة الجحيم، والتي تعتبر أكبر شاهد ملموس على مسيرة بؤس البشرية التاريخي؛ وهو البؤس ذاته الذي حاولت الإيديولوجية المنتصرة، ما أمكن، أن تجعل منه شيئًا قابلًا للاضطلاع. وهنا، تتجلى قوة الشذرة التي مهَّدنا بها لهذا المقال؛ حيث إن "جابيس"، بدل الكلام عن بؤس ميتافزيقي نظيف، غالبًا ما يجري تقديمه من لدن الفلاسفة المثاليين، كما لو كان مجرد نقص أو عوز وجودي، ناجم عن نوع من اللاتطابق الطبيعي ما بين الوجود والامتلاك، وناتج عن قيام نوع من التفاوت الحتمي، ما بين طموحاتنا من جهة، وما يوجد بحوزتنا من جهة ثانية، بدل ذلك، قلتُ: يكشف لنا (جابيس) عن وجه آخر للفقر، غالبًا ما يتم طمس معالمه، ويجري تطفيف كل الخطابات التي تروم التعرية عنه؛ إنه الفقر المعاش يوميًّا، والذي يسمى، أيضًا، بالبؤس الوسخ ذو الدلالات العديدة، من قبيل؛ بؤس المتسكعين والعاطلين، المنحرفين والشواذ، الحمقى والمجانين، المُشغَّلين والمستغَلِّين، الطلبة والعمال، المزارعين البسطاء والبروليتاريا، العاهرات والمومسات، المرضى والشيوخ، الآكلين من حاويات الأزبال، والمشرَّدين الذين بدون مأوى، ولئن كان البؤس النظيف، كما هو معلوم، يستأثر بهالة إعلامية عز نظيرها، على اعتباره البؤس المُدَعَّم من لدن القوى العظمى، والناجم عن الحروب والصراعات العرقية والدينية ذات البعد العالمي، التي ما فتئت تجلب الشهرة والمال لمروجيها ودعاتها؛ فالبؤس الوسخ، على خلافه، يكاد يمر في صمت مُدبَّر سياسيًّا، لا لشيء، إلا لأنه بؤس البسطاء والناس المُهمَّشة الذين ليس لهم مرتبة اجتماعية، والذين يتكبَّدون يوميًّا ودونما مبالاة، عنف اللويثيان، على حد تعبير هوبز، لكن هذا الوحش الآلي الذي لا يتردد أبدًا، حسب بتوصيف نتشه، في سحق عظام العمال، سواء داخل المعامل، أو في المزارع والشركات، وعلى الرغم من كونه يَنِمُّ عن عنف الدولة، من حيث كونها أحد أوجه اللويثيان؛ هو ما لا ينبغي أن يدفعنا، بأي شكل من الأشكال، إلى حد التسليم بسلبية الدولة كأداة، مثلما يرى جلُّ الفوضويين•، ولا إلى وصلها كسلطة بنمط الإنتاج الاقتصادي، كما هو الشأن بالنسبة إلى المرجعيات الماركسية.

ولعل التاريخ قد برهن في هذا الباب، بما لا يدع مجالًا للشك، على أن امتلاك وسائل الإنتاج، لا يكفي للقضاء نهائيًّا على السلطة، ولا لجعلها أكثر إيجابية. وإذا صح القول: إن سلطة الدولة، لا علاقة لها بالبنية التحتية الاقتصادية، مثلما لا يمكن اختزالها في البنية الفوقية الإيديولوجية؛ فذلك لا لشيء إلا لأن السلطة، على حد توكيد فوكو؛ "ليست نتاج العلاقات الاقتصادية، ولكنها، وفي ذاتها، علاقة قوة"[7]؛ فالسلطة طاعون بدَّال أوجه، لا يفتأ يتخذ شكلًا حتى يحيد عنه على التو، ليتخذ شكلًا آخر أكثر قساوة، هو ما يتجسد عبر الفكر التنميطي ذو البعد الواحد، الذي يكاد يجهز كليًّا على كل اختلاف كفيل بضمان العيش المشترك، ويحكم بالموت على كل أسلوب في التفكير المغاير. بديهي، إذن، أن المشكلة، هنا، ليست هي سلطة الدولة، أكثر مما هي حالة السلطة؛ أي لدائنيتها، وطريقة تدفُّقها، وسيولتها، وآليات تنقلها، واحتلالها للفضاءات، وآثارها التخريبية، ونتائجها الكارثية. ولمَّا كانت السلطة، في كل مكان، وتأتينا من تحت، أيضًا، وليس فقط من فوق، كما أوضح فوكو؛ فمن العبث تعميم تصورات عدائية للدولة، على نحو ما يفعل بعض الفوضويين، كما أسلفنا، إلى حد مناداتهم بمجتمع بدون دولة، متصورين السلطة كما لو كانت تتمركز في مكان واحد؛ هو المكان الذي تُدَبَّرُ، منه وفيه، بيروقراطيةُ بلدٍ ما، وتُدار شؤونه. لعل ما يتناساه أنصار هذا الطرح؛ إنما هو أن الدولة لا تعدو، في الحقيقة، أن تكون إلا مجرد أداة، ولا تنطوي، في حد ذاتها، على أي بُعْدٍ أخلاقي أو نِيَّة مُبَيَّتة، اللهم، إلا ما نَصْنعُه بها، وما نفرضه عليها، من حيث هي كذلك. لذلك؛ فمن الواجب "أن تكون الدولة مختارة مِن قِبل شعب حر، لا أن تفرض نفسها بموجب حق الحرب على شعب مقهور"[8]، فتستحوذ، بفضل تعميم السلطة على كل المجالات، موظفة كل جهودها للتحكم في قوة الأفراد، وجعلها تخدم دينامية يغدون فيها هم الخاسرون، بينما تبقى هي الآلة الرابحة. لكن لا بأس أن نشير هنا، للأمانة العلمية، إلى أن هذا التصور الميكروفيزيائي للسلطة الذي قدمه فوكو باعتباره المُحدِّد، إن لم نقل الحاسم للصراع، بدل التصور الطبقي الماركسي، تصورٌ

• يبقى برودون بمثابة الفوضوي الوحيد الذي قبل بالدولة كجهاز، انظر كتابه: ما الملكية؟، حالما تستطيع أن تَضْمَن حُسن اشتغال الفدراليات، كنظام تحرري، مما أثار عليه حنق وغضب باقي الفوضويين المناهضين للدولة، أيًّا كان شكلها.

سبق وأن تطرق إليه بشكل مُلفِت للنظر "باكونين"؛ الذي لاحظ مبكرًا آليات الطغيان القابعة في عمق الفكر الماركسي، سواء في كتاب (بيان الحزب الشيوعي/1847م)، أو في نصوص أخرى كتبها ماركس بمساعدة إنجلز.

فهو أوّل يساري توجَّه بالنقد اللاذع للماركسية، وذلك على الأقل منذ نصه الذي بعنوان: "العلم وسؤال الثورة الحيوي (1870م)"؛ فتبنى النزعة الجماعية (le collectivisme)، بدل الشيوعية التي تعتبر، بنظره، ذات نزوع سلطوي، كما رفض مركزية السلطة، ما دامت لن تؤدي، أبدًا، إلى زوال الدولة أكثر مما ستؤدي إلى تقويتها، وتوضيحًا لموقفه هذا؛ نستحضر ما صرح به في مؤتمر الأممية، الذي أقيم في بيرن (من 21 إلى 25 شتنبر من عام 1868م)؛ حيث يقول: "سألوني، ما الفرق بنظركم بين الشيوعية والنزعة الجماعية؟ استغربتُ، حقًّا، من الأمر؛ إذ كيف يمكن لـ (شودي M.Chaudey) أن لا يُدرِك هذا الفرق، وهو المنفذ لوصية (برودو)، إنني أمقُتُ الشيوعية؛ لأنها نفي للحرية، ولأني لا أستطيع أن أتصور شيئًا إنسانيًّا يخلو من الحرية"[9]. إن ما يخيف باكونين، حقًّا، هو: أن تتشكل الدولة على نحو استبدادي، على اعتبار أن الشيوعية، تسعى إلى أن تجعل كل سلطات المجتمع، أكثر تمركزًا بين يدي الدولة، بما في ذلك المِلْكية، بينما باكونين، يريد "إعادة تنظيم المجتمع، والمِلكية الجماعية أو الاجتماعية، بدءًا من القاعدة نحو الأعلى، عن طريق الانخراط الاجتماعي الحر، وليس تنظيمه من الأعلى إلى الأسفل، بواسطة أية سلطة كانت"[10]. جراء ذلك، عارض الدولة وسُلطاتها المتعددة، كما رفض الشيوعية، طالما بَقِيَّت تتمسك بصرح الأجهزة القمعية التمثيلية، التي ما فتئت تَحُدُّ من حرية الأشخاص؛ حيث اتضح له جليًّا؛ أن كل من أُسنِدتْ إليه مأمورية تمثيل الشعب والنيابة عنه، أو الكلام باسمه والدفاع عنه، سرعان ما ينفصل عن هذا الشعب، وينقلب عليه، متنكرًا لانتمائه إليه، لا لشيء، إلا لأنه يجد نفسه فجأة، قد انتقل من وضعية المحكوم، إلى وضعية الحاكم، ومن حالة المقهور إلى حالة القاهر.

إن باكونين، وهو محق في هذا الأمر، بقدر ما لا يتصور الثورة خارج الظروف المعاشة، بقدر ما يصر على التصدي لكل أنصار المذهب الماركسي، الذين يعتقدون أن الثورة ضرورية ليس فقط جراء ما تعلموه في الحياة؛ بل جراء ما قرأوه في الكتب، وما أعجبوا به من قصص ثورية تأجَّجَت بها أذهانهم، حتى أصبحوا مزهوين بأنفسهم، واختلطت لديهم حماسة الشباب بالرغبة الزائدة عن حدها في الثرثرة، وعلاوة على ذلك؛ فالشيوعيون، على ما يبدو؛ هم أناس لا يأبهون، أبدًا، بحتمية الخيانة السياسية الملازمة لكل نظام تمثيلي، وآيتنا في ذلك؛ ما تزخر به مرجعياتهم من مواقف تجاه السلطة، التي ما فتئوا يمجدونها بدعوى أنها السبيل لتحقيق العدالة، وترسيخ قيم الديمقراطية، ويكفينا بهذا الصدد، أن نقرأ البيان الشيوعي، حتى نكتشف بسهولة: أن ماركس؛ هو مَنْ ظل ينادي بديكتاتورية البروليتاريا، غير مكترث بعواقب هذا النداء. والحال أننا، إذا عَلِمْنا بأن الديكتاتورية (تُمارَسُ عَلَى..)، فعلى مَنْ ستُمارِس البروليتاريا ديكتاتوريتها يا ترى؟ الحق: أن هذه البروليتاريا؛ هِيَّ مَا يُجْلَد مِن لدن فئة يقدمها ماركس باعتبارها "الطليعة المتنورة"•؛ لأنها هي التي ستمارس السلطة على ما تبقى؛ أي على جمهور الفلاحين، وباقي الكادحين الأميين، وما دون البروليتاريا؛ من مياومين، ومتسكعين، وغيرهم من المشرَّدين. تبعًا لذلك؛ يرفض (باكونين) الطرح الماركسي، ملحًّا على ضرورة إقامة التمييز ما بين الحُكَّام والمحكومين؛ أي ما بين المُهيمِنين والمُهيمَن عليهم، بدل الاكتفاء بالتصور الطبقي ذو النزعة الاقتصادوية، مادام أن الطبقات الاجتماعية، بحسبه، تتحدّد حسب امتلاك السلطة، لا حسب امتلاك وسائل الإنتاج، ذلك أن السلطة، كَداء، سرعان ما تُفْسِد كلَّ مَنْ يمتلكها، مُوَلِّدة الجور والظلم، كما الانصياع والاستعباد، ومُبدِّدَة، بالتالي، كل معالم الحرية التي لا شيء يعلو عرشها، بنظر هذا التحرري حتى النخاع. آيتنا في ذلك؛ ما يشهد به التاريخ ويؤكده؛ حيث إن كل الأطروحات الطوباوية، التي تغنَّت بسعادة البشرية، باءت بالفشل، ويكفينا، توضيحًا لذلك، أن نستأنس في هذا المضمار بما آلت إليه الأمور بما كان يسمى بــ (الاتحاد السوفياتي) سابقًا، والصين الشعبية أو كوبا حاليًّا؛ حيث اتضح جليًّا أن الثورة، بعيدًا عن الشعارات الرنانة والإيديولوجيات الحالمة، كانت تُبنى على أنقاض الجثث، وتكتسب شرعيتها، للأسف، بالمعتقلات والمشنقة؛ إذ تم تفقير الشعب من لدن البلاشفة، الذين وظفوا التجويع كسلاح سياسي أيّما توظيف، فجرى استعباد العامل من طرف آلته، في سياق منطق الإنتاج اللينيني، أكثر مما جرى استعباده من طرف منطق الإنتاج الرأسمالي، وناهيك عن وضع الفلاح الذي تدنى حتى صار سياسيًّا أقل درجة إنسانية من عامل المدينة الذي اعتُبر خلافًا له، في مصاف الطليعة المتنورة للبروليتاريا. هكذا نلاحظ كيف تكاد أن تتساوى الأسطورة التي تزعم بأن البروليتاريا؛ هي الطبقة التي ستُحَرِّر الإنسانية، مع فكرة اليد الخفية العائدة لليبراليين (والتي نادى بها آدم سميت)، مادام الاشتراكيون الماركسيون، لم يفلحوا قط، في جعل الاقتصاد في خدمة الإنسان، أكثر مما ساهموا، خلافًا لما هو منتظر في تزكية طروحات الليبرالية، التي انتصرت لمنطق السوق، وجعلت العالم مريضًا بداء "إيكاتون"•، الذي يقوم على مبدأ واحد؛ هو إعطاء الأولوية للسلعة بدل الإنسان، والانتصار الدائم للمصلحة الشخصية، حتى

• الجدير بالذكر: أن ماركس؛ هو من يقصد، هنا، الشيوعيين، باعتبارهم الفئة الأكثر عزمًا من بين مجمل فئات عمال كل البلدان؛ إنهم الفئة التي تقود باقي الفئات، ويبقى لهم، نظريًّا، الامتياز على باقي البروليتاريا، جراء إلمامهم المتنور بكل شروط ومسار الحركة البروليتارية وغاياتها العامة. انظر: ص 63، كتاب ماركس، بعنوان: (karl Marx: Manifeste du parti Communiste, Le monde en 10 /18).

ولو اقتضى الأمر التضحية بحياة الغير، مما أفضى بالأفراد، كما هو واضح للعيان اليوم في سائر البلدان العربية، بصفة خاصة، إلى فقدان الثقة في بعضهم البعض، وتبخيس كل قيم المواطنة، بدءًا من التقدير والاحترام؛ الذي أضحى يقاس بمدى غنى الشخص وثراءه، وليس بمدى سموه الثقافي، ونبله المعرفي والأخلاقي، حتى الحق في الاختلاف والعيش في أمان، دونما عنصرية دينية، أو عرقية، أو لغوية. وأمام وضع مأساوي كهذا، يغيب فيه الفرد الحر بوعيه السياسي؛ الذي يحسن الربط بين الظواهر وعللها، وينتصر للعقلانية ضد الجهل، وتبدو نهاية مجتمعاتنا المتخلفة وشيكة الحدوث؛ حيث إن تفاقم الفروقات ما بين الأغنياء والفقراء، وسيادة اللامساواة، وانتفاء الكرامة الإنسانية، واختلال التوازنات دونما توقف، كلها أمور تبشر بما لا يحمد عقباه، وتكاد تهدد وجود المجتمع بأسره، بحيث سيصبح، فجأة، غير قابل لأن يُحْكَم، سيما وأنَّ الشر الأكبر قد تحقق سلفًا، مادام ثمة فقراء يلزمنا الدفاع عنهم، وأغنياء ينبغي علينا أن نَحُدَّ من سلطتهم.

لكن يبقى علينا نحن بالذات، أمام تفاني السياسيين، اليوم، في حبك الدسائس، سعيًا منهم إلى الحيلولة دون زوال الفقر، وجعل الناس يعتقدون أن ذلك، ضرب من ضروب المستحيل، سواء من فرط نزوعهم النرجسي، نحو الإبقاء على البؤس الاجتماعي، أو من فرط ساديتهم، التي بموجبها يسترسلون في الاستلذاذ بآلام الناس، يبقى علينا، من أجل فهم أكبر لسبب تعاستنا الإنسانية، أن نُقِرّ تجاه ذواتنا، بأمور ثلاث، على حد تعبير "برودون": (أولها: تعود إلى أننا لم يسبق لنا أن استوعبنا، أبدًا، معنى الكلمات الآتية الأكثر قداسة وذيوعًا، والتي هي؛ العدل، والإنصاف، والحرية. ثانيها: أن كل ما لدينا من أفكار بخصوص هذه الأمور؛ هي أفكار جد ملتبسة. ثالثها: أن هذا اللبس أو الجهل، هو السبب الوحيد الذي جعل الفقر يلتهمنا، كما أنه علة كل ما تكبَّدَتْهُ الإنسانية من عذابات"[11]. وسعيًا منه إلى توضيح مراده من هذا الكلام، يخلص برودون بعد مقارنته ما بين المجال الفيزيائي والمجال الأخلاقي، إلى القول: (إن

• إن "إيكاتون": الذي كان فيلسوفًا رواقيًّا، عاش في القرن الثاني قبل الميلاد، وهو من ظل يُلَقِّنُ لِمُريدِيه نهجه الفلسفي؛ الذي بمقتضاه ينبغي للمرء أن لا يتخلى، إطلاقًا، عن مصلحته الخاصة، كُلَّما أُجْبِر على أنْ يختار ما بين هذه الأخيرة، وإنقاذ حياة شخص ما. فلو تقدمنا، مثلًا، بالسؤال الآتي إلى "إيكاتون": لنفترض أنكَ في البحر على مَتْن سفينة توشك أن تغرق من فرط الحمولة، وأُجْبِرْتَ على أن تُضَحِّي بحصان عربي أصيل أو عبد أقلّ قيمة منه، فما الذي ستَزُجُّ به إلى الأعماق؟ سيرُدُّ إيكاتون، دونما أدنى تردد: عَلَيَّ أن أفَضِّلَ مصلحتي الخاصة عن الإنسانية.

علم فيزياء الكون، لا يتأثر مهما كانت النظرية التي تَبنَّيْناها، سواء تعلق الأمر بالجاذبية، أو بشكل الأرض، أما فيما يَعنينا نحن؛ فلا يمكن لاقتصادنا الاجتماعي أن ينتفع منها، ولا أن يخسر، ولكن فيما يعني قوانيننا الأخلاقية؛ فهي لن تقوم لها قائمة إلا بفضلنا وبنا، والحال؛ أن هذه القوانين لا يمكنها أن تُطبَّق إلا بمشاركتنا العقلانية، وبإدراكنا لها كقوانين. إلا أن عِلْمنا هذا، المتعلق بالقوانين الأخلاقية؛ هُو ما سيجعلنا، بطبيعة الحال، كلَّما كان خاطئًا، نُسيء إلى أنفسنا، مهما أردنا أن نُحْسِن إليها؛ وعلاوة عن ذلك، فكلما جاء هذا العلم غير مكتمل، إلا وأسهم لفترة ما في تقدُّمنا الاجتماعي، ولكن هذا العلم ذاته؛ هو ما سيجعلنا أيضًا، مع طول الزمن، ننحرف عن الطريق الصائب، ليَزُجّ بنا، أخيرًا، في هاوية من المآسي"[12].

لعل الذي شغل بال (برودون)، كما الشأن هنا، وفي سياق بحثه الجنيالوجي، عن أصل الفقر، ليس هو القانون؛ بل القانون الأخلاقي: الذي يقوم على العدل، أساسًا، مادام أن العدل، بنظره؛ هو المحور المركزي، لتدبير المجتمع، إن لم نقل القطب الذي حوله يحوم العالم السياسي، والمبدأ الذي بدونه تستحيل كل العمليات. ذلك أن: "العدل ليس في شيء نتاج القانون؛ بل على العكس، فالقانون ليس إلا إعلانًا للعدل، وتطبيقًا له في كل الظروف التي يكون فيها الناس في علاقة منفعة"[13]. لاغرو، إذن، أن تصورنا لمفهوم العدل، والقانون، وباقي المقولات، هو؛ ما قد يسيء إلى وضعنا الاجتماعي، ويفسد سياستنا، لاسيما عندما يأتي هذا التصور مغلوطًا ومزيفًا؛ فعندما نقول: "إن كل الناس؛ هم سواسية بالطبيعة أمام القانون"، فهل يعني كونهم سواسية بالطبيعة؛ أنَّ لهم نفس القامات، ونفس الجمال، ونفس العبقرية، ونفس الخُلُق؟ لا، فالمقصود، إذن؛ هو المساواة السياسية والمدنية ليس إلا. من ثم، كان حريًّا بنا أن نكتفي بالقول: إن كل الناس سواسية أمام القانون. لكن، ما المساواة أمام القانون؟ فلا دستور 1790م، ولا دستور 1793م، ولا الميثاق الممنوح، ولا الميثاق المتفق عليه، استطاعوا أن يُحددوا المغزى من ذلك؛ بل كل هذه الدساتير والمواثيق، سَلَّمت بنوع من اللامساواة، سواء من حيث الثروة، أو من حيث المرتبة، حتى صار من المستحيل العثور على أي أثر للمساواة في الحقوق"[14]، جراء ذلك، ووعيًا منه هو الآخر، بكون القوانين مجرد خدع، وحيل، ومكر، ورغبة في المزيد من التحكم، يصرّ (برودون) على ضرورة ربط الكلمات الثلاثة السالفة الذكر، بكلمة مفتاح هي: المِلكية، مؤكدًا على أنكم: "إنْ كنتم ترغبون، حقًا، بالتمتع بالمساواة السياسية؛ فيجب عليكم أن تقضوا على المِلكية"[15]، لكن هذا الأمر لا ينبغي أن يدفعنا إلى سوء فهم الرجل، على اعتبار أنه، ولئن كان يقول بعدم شرعية التملك، فهو؛ يميز تمييزًا واضحًا بين الملكية من جهة (la propriété)، والحيازة (l’occupation) من جهة ثانية، مستحضرًا (شيشرون) الذي يشَبِّه الأرض بمسرح كبير؛ حيث: "مثلما يحق لنا أن نقول، ونحن بداخل فضاء مسرحي يتقاسمه الجميع: (إن كل مقعد؛ هوّ في مِلك من يحوزه)، يحق لنا، أيضًا، أن نعدّ القانون لا يتعارض مع حيازة كل شخص لشيء ما، داخل المدينة المشتركة (للجنس البشري)، أو داخل العالم"[16]. يعلق برودون على هذا الاستدلال، مؤكدًا على أن هذه المقارنة، ولئن كانت تدحض الملكية؛ فهي، أيضًا، تفرض المساواة، ولا حق لأحد إلا قدر ما يكفيه، وهذا هو معنى عبارة شيشرون الشهيرة: "لكل واحد ما يحوزه". ذلك "أن ما يحوزه كل شخص، ليس هو ما بوسعه أن يمتلكه؛ بل هو ما يحق له أن يحوزه"[17].

وعلاوة على ما جاء به "برودون"، من الجدير بالذكر أن نشير إلى أن العديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع، قد حاولوا بدورهم التنديد بخطورة التفاوتات الاجتماعية، فقدموا معرفة نقدية عقلانية كفيلة أن تجعل المجتمع يعيد النظر في ذاته، إلا أن بعضهم، ولئن اكتفى بالتوكيد على الجانب القانوني التعاقدي والأخلاقي، كما هو الشأن، سواء بالنسبة إلى أرسطو؛ الذي نبَّه إلى كون المُشرِّع الجيِّد: هو المشروع الذي يستطيع أن ينسج علاقات الصداقة ما بين المواطنين، أو بالنسبة إلى روسو الذي أصر على أن المجتمع الناجح؛ إنما هو المجتمع الذي يتكون من أفراد متلاحمين، وتربطهم صِلات؛ هي ما يجعلهم على وعي تام بانتماءهم إلى جماعة واحدة، كفيلة بأن تحقق مصلحتهم المشتركة، قلت، على الرغم من ذلك؛ فالبعض الآخر مضى بعيدًا، حدّ فضحه لثنايا البؤس الأكثر فظاعة، كما هو الشأن بالنسبة إلى (بيير بورديو)، و(ميشيل أنفري)، على سبيل الذكر لا الحصر، وإذا كان (برودون) كما أسلفنا، قد أفلح في فك لغز النزوع التملكي عند الإنسان، ملحًّا على ضرورة الربط بين الإنتاج من جهة، والاستهلاك من جهة ثانية؛ حيث إنه لا يمكن لأي فرد في المجتمع أن ينعم بخيراته، طالما لم يساهم بدوره في عملية الإنتاج، معتبرًا أن "الربح شأنه شأن السرقة، يؤدي إلى تفقير البلد، مادام أن السارق، إن كان يستولي على منتوج ما، دون أن يمنحنا منتوجًا بالمقابل؛ فالإنسان الذي يستفيد من منتوج مُعيَّن؛ هو إنسان يأخذ دون أن يعطي(...)، وبالتالي؛ فخلاصة القول: "إن الربح؛ هو بحد ذاته سرقة"[18]، أما الثاني ( بورديو)، قد نجح، بدوره، بفضل سبره لأغوار سوسيولوجيا الفقر، في الإنتقال بنا من سطح الظواهر الاجتماعية، إلى عمقها، معتمدًا، بخلاف غيره من الأكاديميين، على التوثيق الواقعي، الذي يعطي أولوية كبرى لأسئلة الحياة اليومية، على الجهاز المفاهيمي الذي يسكن متون الكتب. هكذا، استطاع التمييز بين صنفين من البؤس، ألا وهما؛ البؤس الناجم عن الآلام الأفقية، باعتبارها آلام الوضعية الخاصة بطبقة ما، أو جماعة ما (misère de condition)، والبؤس الناجم عن الآلام العمودية التي تصيب داخل الجماعة الواحدة، والعيِّنة نفسها تصيب الأفراد الذين يتواجدون في أسفل السُّلَّم (misère de position)، ولعل بورديو، لا يسعى، فقط، من خلال هذا التمييز إلى قراءة الوعي الفقير (اللامُسيس)؛ الذي ما فتئ يسطو على عقول الفقراء، خالقًا هويات متخلفة، لا تفلح إلا في الانتقام من بعضها البعض، بدل التصدي للحكومات الرجعية المتواطئة مع الأنظمة الإمبريالية التي تُرَحِّل الثروات؛ بل هو من يصرّ، أيضًا، على المضي إلى حدّ فضح الإعلام الرسمي؛ الذي يعمل جاهدًا على طمس القضايا الحقيقية، مركزًا على تدجين الأذهان، وتنميط السلوكات حتى تنساق مع إيديولوجيا الاستهلاك، وتتشرب ثقافة السوق على نحو مفارق، يجعل توتر الحرمان يشتدّ باستمرار، جراء اللاتكافؤ الحاصل ما بين الرغبة في التبضع، والقدرة على الشراء. ذلك أن المنتوج المتوفر في الأسواق، بقدر ما يوهم الناس بأنه متاح للجميع، بقدر ما لا يتحصّل عليه، في الحقيقة، إلا من كانت لديه القدرة على الاقتناء، مما يولّد إحباطًا مزدوجًا، تزيد الدولة، على الرغم من ذلك، من حدّته عبر لجوئها إلى حلول ترقيعية؛ حيث إنها بدل إعادة النظر في طريقة توزيع الثروات، تنهج على نحو مناسباتي سياسة الإحسان الخيري، هكذا تؤدي (الأشكال الجديدة التي يتخذها عمل الدولة، مع ضعف النشاط النقابي والقوى المحفزة إلى تحويل الشعب (بالقوة) إلى جماعات متنافرة من الفقراء المُفتَّتِين والمبعَدِين، كما يدعوهم الخطاب الرسمي، الذي يُستحضَر، بصفة خاصة (إن لم يكن حصرًا)، عندما "يُسبِّبون مشكلات"، أو لتذكير المحظوظين بالامتياز المتمثل في حيازتهم على وظيفة دائمة"[19]. وإذا كان (بورديو)، كما هو الشأن هنا، يروم إثارة أسئلة سياسية مقلقة، عبر تصحيح المعرفة النظرية بإشكالات واقعية، مازجًا بين علم الاجتماع والتاريخ؛ فإن ميشيل أنفري، ثالثهم؛ هو من ظل، بدوره، يؤسس لركائز سياسة تحررية، تَقِينا من شرور إيديولوجيا الاستلاب، سواء كانت؛ اقتصادية، أو فلسفية، أو دينية. ولا أدل على ذلك، من استماتة الرجل في حمل مشعل اليسار التحرري المتعوي، طيلة أزيد من نصف قرن من الزمان، ملحًّا على أن للفيلسوف دورًا نقديًّا تحليليًّا، يلزمه أن يقوم به تجاه آليات الاستلاب والهيمنة، وذلك ليس فضحًا لمنطق السوق وعبادة المال فحسب؛ بل تحريرًا للحياة من أسر الأسياد، أيضًا، وخلقًا لصيرورات ثورية فردية، هكذا عمل أنفري من جهته، وانسجامًا مع موضوعنا، على رصد دوائر البؤس الأكثر جهنمية، والناجمة عن اختلال بنيوي، يرجع أول ما يرجع إلى طريقة التوزيع الاجتماعي، إن لم نقل السياسي، للخيرات والثروات، وذلك من خلال كتابه الصادر عام 1997م بعنوان: "سياسة التمرد؛ كتاب المقاومة واللاانصياع"، ولعل أهمية هذا الكتاب، إن كانت تعود إلى شيء؛ فإنما تعود، برأينا، إلى كونه كتاب تشريحي للجسد السياسي، يمتزج فيه الفكر التحرري بمفعوله؛ حيث إن أنفري، كعادته، بدل أن يكتفي بتقديم تصور للعالم، ينحصر عند الوصف السوسيولوجي لآليات اشتغال المجتمع، يمضي بعيدًا، على نحو برغسوني، حدَّ الربط بين الفكر والممارسة، ساعيًا من وراء ذلك؛ إلى التأثير في مجرى التاريخ، وتغيير الواقع.

إن الرجل، هنا، أشبه ما يكون بالمحارب؛ حيث إنه لا يريد أن يترك الفكر يموت خارج الحياة تمامًا، مثلما لا يريد المحارب أن يتخلى عن سلاحه، حتى لا يبقى أعزلًا، ذلك أن الفكر والحالة هاته، ليس غاية في حد ذاته؛ بل ينبغي أن يترك أثرًا ملموسًا، وأن يُحدِث رجَّات، إن لم نقل هزّات، تجعله أبعد ما يكون عن البلاغة التي لا تقوم إلا على اللعب بالألفاظ، مزجًا للعالم الافتراضي بالواقعي، وتدليسًا للحقيقة بالزيف، لتنتهي، في آخر المطاف، بحبك قصص خرافية، لا تزعج قيد أنملة كبار الرأسماليين، الذين يسترسلون في نهج سياساتهم التفقيرية، طالما اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم، بدل العمل على تغييره، على حد تعبير ماركس، تبعًا لذلك، يرصد لنا أنفري، كما أسلفت، وعلى نحو مجهري، تفاصيل دقيقة، ويدعونا على نحو سبينوزي، إلى إعمال التفكير فيها، ومحاولة فهمها، بدل الضحك أو البكاء.

وحتى لا نتيه في ثنايا فصول كتابه الأربعة؛ ارتأينا أن نكتفي بالتركيز على الفقرة الثانية من الفصل الأول؛ حيث يرسم لنا الفيلسوف، على نحو جحيم الكوميديا الإلهية للشاعر دانتي، خرائطية البؤس الوسخ، باعتباره جحيمًا ناتجًا عن اشتغال الآلة الاجتماعية، والتي تعمل دون رأفة على تدوير وطحن كل الأجساد الغير لائقة، تشذيبًا للنواقص، وسحقًا لكل ما بوسعه أن يكون رمزًا معرقلًا للسير العادي لعملية الإنتاج، "أما معالم هذا الجحيم؛ فتتشكل من ثلاثة دوائر؛ كل دائرة من هذه الدوائر محكومة جغرافيًّا بقوانين خاصة، ومنطق فريد، وتجسدُ في مجملها ثلاثة عوالم، بوسع المرء أن يتدحرج منها، في غالب الأحيان، متقهقرًا لا متقدّمًا"[20]. وإذا كانت الدائرة الأولى: هي دائرة المعذّبِين (les damnés): الذين هم عبارة عن براز الجسد الاجتماعي، ما داموا يمثلون فئة المحرومين من آدميتهم؛ فذلك ليس إلا لأن المعذَّب؛ هو الإنسان الذي لم يعد يملك إلا نفسه، ويعيش كليًّا في عذاب دائم، عساه يشفي غليل حاجياته الضرورية والحيوانية، من قبيل؛ الأكل والشرب أولًا، ثم النوم تحت سقف يقيه شر البرد والشتاء ثانيًا. وفي سياق تحديده للمعذَّب؛ يقدم أنفري لهذا الأخير، فضلًا عما سبق، معان كثيرة؛ أولها: الذين ليس لهم مأوى. وثانيها: المتسكع. وثالثها: المشرَّد. إلا أن الفيلسوف يحبذ الاحتفاظ بالمشرَّد، لأسباب إيتمولوجية بحتة، قد نورد من بينها، أولًا: أن المشرد؛ شخص أعرج، والحال أن هذه الصفة الذميمة، بقدر ما تطلق على كل إنسانٍ ارتكب ذنبًا، أو خرق قاعدة ما، بقدر ما تدل، كذلك، على أن هذا الأخير؛ ينطوي على عيب ونقص في الخِلقة، ويعاني من فقدان التوازن"، وإذا كانت عاهة العرج، قد لحقت هيفايستوس، ويعقوب، جراء صراعهما مع الله؛ فإن المُشرَّدين أصيبوا بالعرج؛ لأنهم انهزموا في معركتهم الضارية مع اللويثيان، وكل القوى الاجتماعية والسياسية المتضافرة"[21].

لكن المشرَّد، أيضًا، هو: من يتخذ من جسمه مسكنًا خاصًا، ويتعايش مع جسده كلعنة أبدية؛ حيث إنه يضطر إلى تغذيته، وتدفئته، وحمايته، وإنعاشه. وهل نقول: إن المشرد؛ هو من يعيش، كذلك، دون حياة خاصة؟ طبعًا، لاسيما وأنه لا يتوفر حتى على مرحاض لقضاء حاجاته الأكثر بدائية، مما يجعله عرضة لهزأة الأنظار، ومن ثم، يبقى الشارع بمثابة الفضاء الوحيد المتاح للمشرد؛ حيث يجب عليه أن يتقاسم هذه الرقعة مع الكلاب الضالة، والقطط التائهة، ومع الفئران الجائعة، متلهفًا مثلها بوازع الجوع إلى التهام بقايا القمامات. بيد أن الدائرة الثانية؛ التي هي: دائرة المنبوذين، الذين هم عبارة عن مرضى الجسد الاجتماعي، وهي دائرة تشمل، من جهة أولى؛ الأشخاص الغير قادرين على الإنتاج، والفاقدين لكل حيوية من قبيل؛ الشيوخ، والمجانين، والمرضى، والمنحرفين. وتضم، من جهة ثانية؛ سائر القوى المحرومة من العمل؛ كالمهاجرين السرِّيين، واللاجئين السياسيين، والمعطَّلين. أما الدائرة الأخيرة؛ فهي التي تضم المستغَلِّين، الذين يمثلون قوى الجسد الاجتماعي، والتي تتكون بدورها من صنفين؛ صنف القوى الرحالة المحرومة من الأمن؛ كالمتعاقَد معهم أو المتدرِّبين، وصنف القوى العاملة الرسمية المحرومة من الحرية؛ كالمراهقين، والطلبة، والعاهرات، والبروليتاريا.

على سبيل الختم:

لعل ما دفعنا إلى الخوض في هذا الموضوع، الذي هو: موضوع التفقير؛ إنما هو اقتناعنا بأن الوعي بالبؤس، كأساس للتمرد؛ هو ما يندرج ضمن، ما أسماه دولوز ذات مرة (السياسات الصغرى)، المقاومة للسياسات الكبرى، مادام التاريخ الحقيقي؛ هو التاريخ الذي يجري صنعه على نحو ذري، من لدن صيرورات ثورية، تبحث في الإنسان عن جملة من القوى المقاومة لموت الإنسان، تبعًا لذلك أيضًا؛ نؤكد على أن أكبر جرم يمكن للمثقف أن يرتكبه اليوم؛ إنما هو أن يلتزم الصمت، كالنعامة أمام ما يطرأ في قرننا الراهن من مآسي، جراء الليبرالية المتوحشة؛ التي أدت منذ 1970م، إلى تحرير شامل للأسواق المالية، وحاولت الدفع، في أفق خصخصة أهم القطاعات الاقتصادية، مع كل ما صاحب ذلك من إضعاف للنفوذ النقابي، والحزبي، والقضاء نهائيًّا على كل المجالات الخدماتية، سواء تعلق الأمر بالصحة أو بالتعليم.

هكذا نشأت هوة كبيرة بين أغنى الأغنياء، وأفقر الفقراء، تزامنًا مع سيادة خطاب شمولي، ما فتئ يفصل السياسة عن الأخلاق؛ حيث إن العديد من رواد هذا الخطاب، يعتقدون، استنادًا إلى روسو أو إلى مكيافيل: أن السياسة والأخلاق؛ مجالان منفصلان إلى حد أن ما يصلح للأول، لا يناسب الثاني بالضرورة.

إن هؤلاء بفصلهم مابين المجالين؛ إنما يرمون إلى إقامة نوع من التعارض، يُيَسِّر لهم نزع الطابع الأخلاقي عن فعل المتاجرة في الأسلحة، والتقتيل، وإضفاء الشرعية على منطق السوق، الذي صارت تدير به الدولة سياستها الإقتصادية، ولكن الأمير، نسبة إلى كتاب ميكيافيل، إذا كان لا يكلّ من مدح مكر الثعلب، ولا يأنف من تمجيد قوة الأسد؛ فخطاب العبودية المختارة، نسبة لكتاب لابويسيي، لا يستند إلى قاموس الحيوانات، أكثر مما يستند إلى إرادة الناس، وجسارتهم، وعزمهم. على هذا الأساس، يلزمنا بدل تثوير الإقتصاد من أجل تغيير لاحق للإنسان، أن نشرع، أولًا، بتغيير الإنسان، حتى يجري ثورة على الاقتصاد، ويجعله، بالتالي، في خدمة الشعب، لا في خدمة الرأسمال والملاكين الكبار.

 

المراجع العربية:

- ميشيل فوكو، "يجب الدفاع عن المجتمع"، ترجمة وتقديم وتعليق: د. الزواوي بغوره، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، أكتوبر 2003م.

- ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة ولادة السجن، ترجمة: د. علي مقلد، مراجعة وتقديم: مطاع صفدي، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990م.

- سبينوزا، كتاب السياسة، ترجمة وتقديم: جلال الدين سعيد، دار الجنوب للنشر، تونس، 1999م.

- بيير بورديو، بؤس العالم رغبة الإصلاح، ترجمة: محمد صبح، مراجعة وتقديم: د. فيصل دراج، الجزء الأول، دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية، دمشق، طبعة خاصة، 2010م.

المراجع الأجنبية:

- Clausewitz, De la guerre, Livre I, Trad. Jean-Baptiste Neuens, éd. Flammarion, Paris, 2014.

- Gaston Leval, Bakounine et l’état marxiste (voire le lien électronique).

- Pierre-Joseph Proudhon, Qu’est-ce que la propriété? Librairie Générale Française, 2009.

- Michel Onfray, Politique du rebelle, Traité de résistance et d’insoumission, éd. Grasset & Fasquelle, 1997.

- Bakounine, La science et la question vitale de la révolution, mars, 1870.(voire le lien suivant: http: //le-libertaire.net/wp-content/uploads/2014/02/La_science_et_la_question_vitale_de_la_revolution.pdf)

- Jean–Jacques Rousseau, Discours sur L’origine et les fondements de l’inégalité parmi les Hommes, Flammarion, Paris, 2008.

- Aristote, Éthique à Nicomaque, Trad.de J.Barthélemy Saint-Hilaire, Revue par Alfredo Gomez-Muller, Librairie Générale Française, 1992.

- Michel Bakounine, œuvres t.1.5 éd. Paris-Ier P.Y. stock, éditeur (Ancienne Librairie Tresse et stock 155, rue Saint-Honoré, 155. Devant le théatre-Français, déposé au ministère de l’intérieur en Février, 1895).


[1] Clausewitz, De la guerre, Livre I, Trad. Jean-Baptiste Neuens, éd. Flammarion, Paris, 2014, P.45

[2] Idem. P.63

[3] Idem. P.42

[4] ميشيل فوكو، "يجب الدفاع عن المجتمع"، ترجمة وتقديم وتعليق: د. الزواوي بغوره، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، أكتوبر 2003م، ص 44

[5] Clausewitz, OP. Cité. P.42

[6] ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة ولادة السجن، ترجمة: د. علي مقلد، مراجعة وتقديم: مطاع صفدي، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990م، ص 53

[7] ميشيل فوكو، يجب الدفاع عن المجتمع، مرجع مذكور، ص 42

[8] سبينوزا، كتاب السياسة، ترجمة وتقديم: جلال الدين سعيد، دار الجنوب للنشر، تونس، 1999م، ص 59

[9] أورده (غاستون لوفال) في مقال له، بعنوان: "باكونين والدولة الماركسية"، ص8. ويمكن العودة إلى المقال عبر الرابط الإلكتروني الآتي:

http://monde-nouveau.net/IMG/pdf/LEVAL_-_BAKOUNINE_ET_L_Etat_marxiste.pdf

[10] نفسه، ص ص 8- 9

[11] Pierre-Joseph Proudhon, Qu’est-ce que la propriété ? Librairie Générale Française, 2009, P.132

[12] Idem. P.139

[13] Idem. P.146

[14] Idem. P.154

[15] Idem. P.159

[16] Idem. Marge de la page. 177

[17] Idem. P.177

[18] Idem. P.92-93.

[19] بيير بورديو، بؤس العالم رغبة الإصلاح، ترجمة: محمد صبح، مراجعة وتقديم: د. فيصل دراج، الجزء الأول، دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية، دمشق، طبعة خاصة، 2010م، ص 313

[20] Michel Onfray, Politique du rebelle, Traité de résistance et d’insoumission, éd. Grasset&Fasquelle, 1997, P.67.

[21] Idem. P P 67-68