التلفزيون والدّيمقراطية بين الربيع العربي والإسلام السياسي


فئة :  مقالات

التلفزيون والدّيمقراطية بين الربيع العربي والإسلام السياسي

التلفزيون والدّيمقراطية بين الربيع العربي والإسلام السياسي([1])

بقلم: عزالدين بوركة

تعدّ وسائل الإعلام les médias، أدوات ضرورية من أجل تقعيد ديمقراطي، فمن المستحيل، كما يرى مجموعة من الباحثين، وجود انتخابات ديمقراطية في غياب هذه الوسائل. ومن أجل الحصول على انتخابات حرّة ومتوازنة، لا يكفي فقط أن تقع عملية التصويت في جو من الشروط الحسنة، بل يجب أيضا أن يتمتع الناخبون بأحقية الولوج إلى المعلومة information الوافية حول الأحزاب، والسياسات والسير الانتخابي ذاته غاية في انجاز اختيار واضح، وشفاف.

لا يمكن الحديث عن انتخابات ديمقراطية في غياب وسائل الإعلام، التي تراقب عن كثب، وتضمن الشفافية في السير الانتخابي. يأتي التلفاز كجزء لا يتجزأ من هذه الوسائل، إلا أنه يظل برأي مجموعة من الكتاب، آلية (ميكانيزم) للتحكم الاجتماعي. ففي كتابه "sur la télévision"[2] المترجم إلى العربية تحت عنوان "التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول"، يحدد بورديو أن ما يتم تقديمه على التلفاز ضعيف من حيث المحتوى المعلوماتي، فهو مضلل ويلعب على وتر حساسية المتلقي. فيصير بالتالي، التلفاز أداة جيدة لصناعة التقسيمات الاجتماعية des ségrégations sociales منتجا لمنتوج مُبلّه لا يسمح بالرفع من معارف الجماهير téléspectateurs. فالمحتوى المقدَّم، لديه هدف أوّلي يكمن في جذب المزيد من الجماهير (المشاهدين)، ويتحدث في الغالب عن الأشياء التي تمسّ العدد الأكبر من النّاس: فهو يتناول مواضيع sujets لا تتطلب التفكير réflexion الكبير والعميق، وتعرف الاتفاق الواسع بين الناس، فـ "للتلفزيون روح الأغلبية مثله في ذلك مثل الديمقراطية"[3] كما يصفه دوبري.

هدف التلفاز، كما يرى بعض الباحثين، هو إفراغ المحتوى من السياسي، وجعله لا سياسيا، ما يشكل خطرا على الديمقراطية. فهل التلفاز في خدمة الديمقراطية أم التلفاز يفسد الدّيمقراطية ويشوهها؟

يجيب ريجيس دوبري قائلاً: "كل واحد على علم بأن التلفزيون هو الشّيء الذي يعشق المثقفون كرهه. ويكون رجال السياسة مضطرين لمحبّته"[4].

ما يحيلنا إلى القول بأن التلفاز صار منصة plateforme للسياسي، ومَسْرَحا للسياسة، مقدما خدمة كبرى للسياسي، إذ جعله يتوجه إلى العدد الأكبر من الناخبين. إنها "الديمقراطية عن بعد" télé-démocratie، حيث تحضر الصورة بالشكل المكثف، ويقل تدخل الفرد في الأحداث. لقد صارت السياسة إذن، أكثر فرجوية، ومنه "ليس من الصعب علينا البرهنة على أن التلفزيون يفرغ السياسة من طابعها السياسي، ويفرغ الناخبين من كل حافز والمسؤولين من كل مسؤولية، ويعزز بشكل خطير شخصنة السلطة"[5].

تقوم الديمقراطية على وجود انتخابات جادة تتسم بالحرية والشفافية، وتلعب وسائل الإعلام، بما فيها التلفاز، دور "الشفافية" إذ تتيح لكل مترشح الحق في التمسرح والإدلاء بخطابه أمام مجموعة عديدة من الناخبين. وتؤدي وسائل الإعلام دوراً مهماً في خدمة السياسة، وذلك لتأكيد شرعية الحكومات، أو لدعم قوى وتأمين مصالح جماعات مختلفة سواء اقتصادية أو سياسية أو دينية أو اجتماعية، إلا أنه تجمع بين السياسيين والإعلاميين علاقة تنافر وتجاذب، وفي الوضع العربي نموذجا، حيث لا تتعدى الديمقراطية الحدودية الدونية، يتعلق غالبية الإعلاميين بالخطاب الرسمي عبر تمريره ومسرحته على شاشات التلفزيون خاصة، لما تعرفه الصورة ارتباطا بالصوت من سلطة تقويها خاصية المباشر، فإنه كما يُقال: "الصوت والصورة أكثر ديمقراطية، لأن الأميين أنفسهم يدركونها".[6]

يمكن القول إن الديمقراطية المعاصرة ذات ميسم جماهيري démocratie de masse، ما يتوجّب معه عدم خلطه بلفظ شعبي populaire، ذلك أن لفظ جماهيري يكون أقرب إلى معنى الحشود أو الكتل الهلامية. وما دامت الديمقراطية المعاصرة هي ديمقراطية الأكثرية العددية majorité arithmétique، التي تنبني على المساواة الكمية بين المواطنين - وهي هنا أبعد ما تكون من الديمقراطية الهندسية démocratie géométrique عند اليونان التي لا تساوي بينهم إلاّ بمقتضى الاستحقاق- فهي تتوسَّل بوسائل الاتصال الحديثة بدلا من الآغورا agora أو الساحة العامة من أجل تداول الشأن العمومي. وطالما أن مجمل المشكل في الديمقراطية المعاصرة كمي، وحسابي وليس هندسي ولا كيفي، وما دامت لا تهم قواعد المناقشة العمومية بقدر ما يهم تأثير عدد الأصوات المُدلى بها، فكل الوسائل جيّدة، وعلى رأسها الإعلام والاتصال، لتوجيه الرأي العام. فتوجيه الرأي العام هو مدار ورهان الديمقراطية المعاصرة، وكل مشكلة تكمن في وسائل الاتصال، والتي تهمنا منها هنا أساسا الشاشة الصغيرة- التي باستطاعتها إما خداع الجماهير عبر التسلية والترفيه كما يرى الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت أمثال أدورنو وهوركايمر، أو تحقيق الفعل التواصلي المضاد لتَشَيُّئِ الرأي العام كما يرى مثلا الجيل الثاني للمدرسة[7].

فالتلفزيون، يقوم باستعراض وخلق وجوه إعلامية تسمح للناخبين بأن يتعرّفوا عبرهم على السياسة ويهتموا بها، وهو ما يوهم بنوع من الحيادية في نظر الأفراد الذين يعبرون عن آرائهم في نوع من الحرية المُوجّهة. هذه الحيادية ترمز إلى نوع من الإمبراطورية التكنولوجية للاتصال في الفضاء السياسي العمومي، ما يفسد تصويت الناخبين الذين سيصوتون لشخص لا للبرنامج. فحيادية الشاشة الصغيرة تعزى إلى نظرة الدولة أو الحزب الحاكم أو إلى الأحزاب المسيطرة على قنوات معينة.

التلفزيون، وإن سمح للمواطنين بـ "تشفير العالم"، فالعالم المتاح هو عالم تم انتخابه بعناية فائقة لتوجيه الرأي العام... فالمشاهد لا يُشفّر سوى ما تم انتخابه له، فبالتالي لا يبدي رأيه سوى فيما هو متاح مسبقاً، ليس بمعنى المؤامرة، بل بمعنى السيطرة والتحكم. فالديمقراطية تتطلب مواطنين نشطاء، يتجمعون ويتجاوبون. ولأن التلفزيون متعلق بالاستطلاع الشعبي المستمر، فهو يدفع إلى إخلاء الفضاء العمومي، كما لو كان الأمر يتعلق بإقامة جبرية مقنعة. إنه يختزل العلاقات الاجتماعية إلى علاقات بدون مبادلات[8]. فلا يصبح التلفزيون بالتالي مُشَكّلا للرأي العام فحسب، بل يروج للوعي المعطوب والمشوه، عبر اعتماده على النسبة الإحصائية والاستطلاع ونسبة المشاهدة... فالتلفاز يصير بالتالي جزءًا من الفلسفة الاستهلاكية المعتمدة على التوهيم والترويج للسلعة معينة غاية في الربح لا غير، وتعلقا بما هو سياسي يصير مترشح معين سلعة تعرض على شاشة التلفاز عبر نمط الاستهلاك، ما يجعل المشاهد مستهلِكا لا صانع رأي.

وهذا ما فطنت إليها أنظمة عربية عدة في الأيام الأولى من الحراك الشعبي العربي، والذي سُمي بـ "الربيع العربي" أو "الربيع الديمقراطي"، كما يفضل البعض تسميته. ويعدّ التلفاز الوسيلة الإعلامية التي شهدت التطور الأكبر، والملحوظ منذ نشأته. بالإضافة إلى كونه وسيلة الإعلام الأكثر شعبية. فحسب إحصاءات الاتحاد الدولي للتواصل U.I.T. لسنة 2009، عدد المنازل التي تمتلك جهاز تلفاز عرف اختلافا كبيرا حسب كل جهة. في أوروبا وأمريكا 95 % من المنازل تحتوي على تلفاز واحد على الأقل. بينما النسبة كانت منخفضة في البلدان العربية وآسيا والمحيط الهادي، بما يقارب 82 و75 في المئة بالتوالي. أما التقدير بالنسبة إلى إفريقيا، فكان أقل بكثير من الجهات الأخرى، بما معدله 28 في المئة فقط[9].

تعد التحولات التي عرفها هذا الجهاز متعددة على مستويات عدة، سواء في الشكل أو المضمون، أو المحتوى، وحتى ما يتناوله من مواضيع عبر المباشر وغير المباشر. فقد اكتسى التلفزيون سلطته من امتلاكه خاصة ثورية لم تمتلكها أية وسيلة إعلام سابقة عنه، امتلك سلاح "المباشر"، سلاح الآني... ويا له من سلاح!

هذا السلاح الذي تمتلكه أيادي الأنظمة وتتحكم فيه، يجعلها تتحكم حتى في الرأي العام، وتوجهه، لما يخلقه التلفاز من مناقشة حول المواضيع المطروحة عبره، لكن بشكل غير واعٍ تبعا لما يتم نهجه من خطابا مباشر وغير مباشر. ما يجعل النظام "يتحكم" حتى في المناقشات والجدالات المثارة حول ما يسمح ببثه، وما يريده أن يتم تناوله بين المواطنين. إنه لشبيه بالجهاز الذي تحدث عنه جورج أرويل الذي هو عبارة عن "راصد عن بعد télé"، يشترك مع التلفاز télévision خاصية البعد أو البعيد أو عن بعد، كما تعنيه كلمة télé في جدرها اليوناني. فالتلفزيون هو إذن أداة "مشاهدة البعيد" أو "المشاهدة عن بعد". عن بعد ماذا؟ المُرسَل والمرسِل في آن واحد، أن تشاهد الحدث دونما أن تحضره.

بهذا، فالتلفزيون لا يعطينا خاصية التفاعل مع الحدث، بل يجعلنا نراه مجردين من حواسنا تجاهه، نستقبل فقط، ونصير مبرمجين حسب توقيت ما يبثه من صور وبرامج تُأثّر على المتلقي /المشاهد، وتسيطر عليه على مستويات متعددة. فمنذ عقود من نشأته، بتنا نضبط أوقاتنا على برامجه التي يقترحها علينا، وعلى تواقيت البث. إنه لأمر شبيه بتلك الدقيقتين من الكراهية التي تحدث عنها أورويل في روايته 1984... وقت الكراهية الذي كان دائما يُضبط على الحادية عشر صباحاً، ويُلزم الجميع أن يلعب الدور، مُظهرين مدى كرههم لأعداء "الأخ الأكبر"، ولا يمكن لأي أحد أن يتخلى عن دقيقتي الكراهية. "تتصاعد الكراهية حتى تصير سُعاراً"... فهذا شبيه بما يصنعه الإعلام الرّسمي بأيّ بلد، إذ يعمد لنشر خطاب السلطة الحاكمة، واحتكار رأيها عبر التلفزيون الرسمي، فيجعل المواطنين يكرهون ما تكرهه ويحبّون من تحبّه.

من هذا المعطى، استطاعت أنظمة عربية كبح جماح الحراك الشعبي في بلدانها، وتوجيه الرأي العام لما هي تريده، وفي ذات الوقت استطاعت قنوات عربية كبرى أن تؤطر حراكا في بلدان أخرى (سوريا، ليبيا...) وتدعم تأجيج الثوران الشعبي بشكل ضمني عبر الخطابات التي بثتها بشكل يومي.

ولنا في مثال شهيد الياسمين وثورة تونس "محمد بوعزيزي" أكبر مثال، إذ استطاعت صورته، التي تم بثها بشكل متكرر، وما صاحبها من خطاب، أن تؤجج الحراك وتقود إلى إشعال فتيل الثورة في تونس وما تلاها من بلدان عربية. فالخطاب البصري "لا يشكل إيديولوجيا، بل هو عينه إيديولوجية آتية من تشكيل ما". ألا يكفي ذكر أن كلمة أيديولوجيا تمتد جذورها داخل مفهوم الصورة والتفكير بالصورة. وقد جاءت كلمة أيديولوجيا idéologie (ideology)، من كلمة فكرة idée (idea) التي أتت من الفعل يرى في اللغة الإغريقية، وهو فعل كثيرا ما كان يتم ربطه بالفكرة العامة حول الصنم eidolon، أو الصورة المرئية، والتي هي فكرة جوهرية في البصريات ونظريات الإدراك.

لقد استطاع التلفزيون وصوره المتحرك، أن يشكل قوة دافعة لقيام ثورات في مناطقة عدة، كما أنه كان سلاحا لإطفاء نيران غضب شعوب عربية في مناطق أخرى. بين كل هذا، فالتلفاز ظلّ سلاحا ترغب كل القوى في امتلاكه. فكل الثوار على مر العقود الفائتة، كانت أولى المناطق التي يحتلّونها هي محطات الراديو والتلفزيون، إدراكا منهم للأهمية التي يقوم بها هذا الجهاز.

وقد أدرك الإسلاميون الدور الذي يمكن أن يلعبه "صندوق العجب" لصالحهم. وإن حرم التلفاز سلفا[10]... فقد صار، اليوم، آلة قوة وجودية بيد رجال الدين الذين سبق وحرموه، يغزون به العالم والبيوت.. في تقرير له سنة 2015، أوضح اتحاد إذاعات العالم العربي ارتفاع عدد القنوات الدينية بين سنة 2010 وسنة 2015، إذ انتقل عدد هذه القنوات من 54 قناة إلى 95 قناة. 86 قناة منها، تعدّ تابعة لمؤسسات خاصة، ما يؤكد فرضية الرّبح المادي الكبير من وراء هذه القنوات. فيما 9 قنوات فقط تابعة للحكومات العربية[11]. وهذا ما سيعزز الخطاب الإسلامي في أيام الربيع العربي، وما سيعطيه منطلقات قوة وانتشار، وما سيقود تيارات محسوبة عن الإسلام السياسي أن تصعد سدة الحكم وتتأبطه ولو لفترة موجزة، كانت حاسمة، لنتأكد من الدور الذي قد يقوم به التلفزيون لإبراز خطاب دون آخر والانتصار لصوت دونما آخر. إلا أن قوة التلفاز ظلت حكرا على السلطة الحاكمة، ففي بلدان عربية ورغم صعود التيارات الإسلاموية، فإن سيطرتها على القنوات الحكومية كانت ضعيفة جدا (مصر نموذجا)، ما لم يجعلها تتحكم في الخطاب الذي يتم بثه بالشكل الأكبر. وكما كونها نية في الصعود إلى الحكم، وضعت يدها في يد أنظمة قائمة (المغرب نموذجا)، كانت قوتها على السيطرة على هذا الجهاز شبه ضعيفة، إلى منعدمة، وما سيضعف سطوتها على الحكم رغم جل التعديلات الدستورية التي كانت قد تلعب لصالها. هذا بالإضافة إلى تلك الصور الدموية والعنيفة التي ارتبطت بالنظام الدموي المسمى "داعش"، وما صاحبه من خطابات تم بثه على التلفاز، أضعف حضور هذه التيارات على أرض الواقع السياسي، وأزاح جزءا يسيرا من الرأي العام عنها.

هذا ما يجعلنا نعتبر التلفاز أو "صندوق العجب" آلة فتاكة، تنتصر دائما للمتحكم فيها، آلة لاأخلاقية تتبنّى أخلاق النظام الحاكم أو إيديولوجية المموّل وصاحب / أصحاب القناة. فما يخلقه التلفاز سوى عالم موازٍ، أو نقلا لنسخ - تكاد تطابق الأصل أو أشباح أفلاطون، إلا أنها ليست كاملة التشويه- وبين الاستعراض والمحاكاة، وبين التنقل من الكهف إلى "الصندوق العجيب"، الشاشة الصغيرة، فيصير المتلقي رهين الخطاب البصري المراد بثه ومناقشته وهضمه.

_______________________________________________________________

[1] مقال نشر في مجلة ذوات العدد 50

[2] Pierre Bourdieu, Sur la télévision suivi de l’emprise du journalisme, Raisons D’agir éditions 2008. P. 40

[3] ريجيس دوبري، حياة الصورة وموتها، إفريقيا الشرق 2007، ص 251

[4] المرجع السابق، ص 270

[5] المرجع السابق، ص 271

[6] المرجع السابق، ص 272

[7] عبد العالي معزوز، فلسفة الصورة، إفريقيا الشرق 2014، ص 189

[8] دوبري، حياة الصورة وموتها، ص 275

[9] Le Réseau du Savoir Électoral, L'Encyclopédie ACE: Médias et élections, 2012, p. 36

[10] راجع: أبي عبد الله الآجري، الإبراز لأقوال العلماء في حكم التلفاز والتصوير...، دار الإمام المجدد، 2005. وراجع مؤلف: محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم، الإجهاز على التلفاز، دار طيبة الخضراء، 1999. وراجع مؤلف: عبد الله بن محمد بن حميد، التلفاز وحكمه في الشريعة الإسلامية، سلسلة إصلاح الأسرة المسلمة (غير مؤرخ).

[11] راجع في هذا الصدد: اتحاد إذاعات الدول العربية، البث الفضائي العربي، التقرير السنوي 2015