التيارات المتأخرة في الفلسفة العربية والفارسية


فئة :  ترجمات

التيارات المتأخرة في الفلسفة العربية والفارسية

التيارات المتأخرة في الفلسفة العربية والفارسية

سأتناول في هذا الفصل تيارات الفلسفة العربية والفارسية كما تمثِّلها النصوص التي تعود بصفة أساسية إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر، واستمراراتها المعاصرة. استمر النشاط الفلسفي في الأراضي التي شملتها المؤثرات الفارسية، المتركزة في إيران منذ العصر الصفوي البادئ سنة 1501([1]). ومن بين كل فلاسفة التراث الفلسفي العربي السابق؛ كان ابن سينا هو صاحب أكبر وأوضح أثر، والذي قُدِّر له الاستمرار في كل تيارات ومدارس الفلسفة. وقد مثَّل البناء الداخلي لأعماله وطريقته في الكتابة وأسلوبه اللغوي -خاصة في «الشفاء» و«الإشارات والتنبيهات»- المعيار الذي قيست به كل الأعمال الفلسفية اللاحقة، سواء العربية أو الفارسية. لقد حدَّدت أعمال ابن سينا للفلسفة المشَّائية العربية والفارسية لغتها الفنية ومنهجيتها في التفكير، وقدَّمت لها مسائل فلسفية كموضوعات للبحث في السيمانطيقا والمنطق والأنطولوجيا والإبستيمولوجيا وما إلى ذلك. ويمكننا النظر إلى التيارات المتأخرة على أنها تنقيحات وتطويرات نابعة من نصوص فلسفية ظهرت في القرن الثاني عشر.

استخدم بعض المستشرقين والمؤرخين المتحيِّزين تعبيرات وصفيَّة عامة غير دقيقة لوصف متون فلسفية عديدة وضخمة بعد ابن سينا، مثل «الثيوصوفيا» theosophy و«حكمة الإشراق» Orientalwisdom، و«الثيوصوفيا المتعالية» Transcendent theosophy، و«الحكمة الخالدة» perennial wisdom، و«الخبرة الصوفية» mystical experience([2]). وسأتجنَّب مثل تلك التعبيرات غير الدقيقة، وسأركِّز على المقاصد والقيمة الفلسفية للنصوص ذاتها، بدلاً من تناول الجوانب «الروحية» أو «الصوفية» أو «الباطنية» المفترضة في طائفة واسعة وغير محددة من النصوص الفلسفية العربية والفارسية. وكما قال فضل الرحمن؛ فإننا نفسِّر نصوص ما بعد السينوية في ضوء نزعة صوفية غير واضحة المعالم، وهذا ما يُفْقِدنا التقاط «جوهرها العقلي والفلسفي الخالص... الذي يتصف بقيمة بالغة ويشكل أهمية للباحث الحديث في الفلسفة»([3]).

وتعد أهم التيارات الفلسفية بعد ابن سينا؛ هي تلك التي شرعت في إعادة بناء أنساق فلسفية متَّسقة، تزيد من دقة الأطروحات الفلسفية، بدلاً من تفنيدها أو بيان تهافتها، لإنقاذ الفلسفة من الاتهامات التي وجهها إليها الغزالي. كما أُوْلِيَ اهتمام بالغ بإنشاء أنساق فلسفية أكثر توافقاً مع الدين. وكانت ثاني أهم فلسفة بعد ابن سينا هي «فلسفة الإشراق» لدى السهروردي([4]). ويقدِّم مذهب السهروردي منهجاً جديداً هو «علم الأنوار»، والذي يقول: إننا نتلقَّى مبادئ العلوم مباشرة، أو «بالعلم الحضوري». وبعد نصف قرن من إعدام السهروردي في حلب سنة 1191؛ تم الإفصاح عن فلسفة الإشراق باعتبارها «النظام الأتم» من قِبَل الشُّراح الإشراقيين على السهروردي، بداية بشمس الدين الشهرزوري([5]). وكان ما يميز الفلسفات الإسلامية اللاحقة هو تلك الرغبة في تأسيس مذاهب «تامة» وشاملة، خاصة في القرن السابع عشر. كانت هذه المذاهب تستهدف توسيع بناء الفلسفة الأرسطية لتضم موضوعات دينية مختارة بعناية، في دفاع عن التوافق بين الفلسفة والدين.

في هذا الفصل سأقوم بما يلي: 1) فحص العلاقة بين هذه المذاهب الشاملة من جهة، والتراثين المشَّائي والإشراقي من جهة أخرى؛ 2) تناول مسألة التوفيق بين الفلسفة والدين؛ مُركِّزاً على أعمال الفيلسوف الفارسي ابن تركي إصفهاني؛ 3) تناول قضايا ذات أهمية فلسفية خاصة في التراث الفلسفي المتأخر. ويجب عليَّ التشديد هنا على أنه رغم أن التراث الفلسفي المتأخر ابتداءً من السهروردي كان يتناول الظواهر الصوفية، وخاصة إبستيمولوجيا المعرفة الإلهامية والحدسية، فقد كان يقوم بذلك من منظور الفلسفة. والشخصيات الممثلة لهذه التيارات المتأخرة هي المفكرون العقلانيون والعلماء؛ ولم يكونوا أعضاء في فرق أو أخويَّات صوفية، وكان أغلبهم -خاصة من القرن السابع عشر وما يليه- ينتمون للعلماء؛ أي: لطبقة رجال الدين الشيعة([6]).

للاطلاع على نص الترجمة كاملا المرجو الضغط هنا

([1]) أدى الأثر الثقافي الواسع للمؤثرات الإيرانية بأحد أشهر المستشرقين الفرنسيين وهو هنري كوربان إلى إطلاق اسم «الإسلام الإيراني» على كثير من مجالات هذا الأثر بما فيه المجال الفلسفي. انظر Corbin [161].

([2]) إن عبارات مثل Oriental wisdom، sagesse orientale، وهي ترجمة كوربان لـ«حكمة الإشراق»، و«الثيوصوفيا المتعالية» transcendent theosophy تفشل في تقديم المحتوى التحليلي الدقيق لفلسفة الإشراق، وتقدمها على أنها فلسفة صوفية أو حدسية، بدلاً من تقديمها على أنها فلسفة تسير في توافق مع التراث الفلسفي الإسلامي [المشائي والأفلاطوني المحدث].

([3]) Rahman [167], vii.

([4]) انظر H. Ziai, “Shihab al-Din Suhrawardi: founder of the Illuminationist school,” in Nasr and Leaman [34], vol.1، والفصل العاشر من هذا الكتاب.

([5]) انظر، شمس الدين الشهرزوري، شرح حكمة الإشراق، تحقيق حسين زياي، طهران، 2001، ص7

([6]) انظر الدراسة الأخيرة لصدوقي Sadughi [258]، والتي توضح أن مئات الفلاسفة منذ القرن السابع عشر وحتى الآن كانوا من «العلماء»، باستثناء هام هو محمد حسن قشقاي وجهنجير قشقاي (see pp. 30, 84, 105, 167) اللذان كانا من خانات قبائل القشقاي.