الجابري في ذكرى رحيله الخامسة: نحو توسيع آليات النقد في الفكر العربي


فئة :  مقالات

الجابري في ذكرى رحيله الخامسة: نحو توسيع آليات النقد في الفكر العربي

يسألني صديقي قائلاً: ماذا بقي من صاحب مشروع نقد العقل العربي بعد نصف عقد من الزمان على رحيله؟ تبيَّنت بعض عناصر المرارة في السؤال الذي واجهني به صاحبه يوم 3 ماي 2015، الموافق لذكرى وفاته، ولأنني مقتنع بأن كثيراً من أوجه الصراع المتواصل اليوم في المشهد السياسي والثقافي العربيين، تكشف بطرق مُتعدِّدة مستويات من أنماط المواجهة السياسية والثقافية، التي شَكَّلَت عناصر محدَّدة في كثير من مواقف وخيارات الرجل، وعكستها بكثير من الوضوح بعض آثاره، فقد كنت متأكداً من قوة الآثار التي ركَّب الجابري، وهو يفكر في بناء موقف نقدي وتاريخي من موروثنا الرمزي.

حاولت أن أبرز للسائل جوانب من صعوبات المعارك الجارية اليوم أمامنا، كما حاولت أن أوضح أن هذه المعارك تتطلب مِعْوَلَ النقد الذي حمله الجابري طيلة حياته، ولعلها تقتضي اليوم أدوات أخرى أكثر حدَّة، أدوات يكون بإمكانها أن تساعد في مزيد من تفتيت سقف التقليد المهيمن على ثقافتنا، والمحاصر في الآن نفسه لطموحاتنا السياسية.

حاولت وأنا أفكر في السؤال، الاقتراب من صور الحضور الذي امتلكه الرجل بكثير من الجهد والمثابرة، وذلك في إطار مساعيه الهادفة إلى تركيب بعض الخيارات الثقافية والسياسية، التي كانت في تقديره الأقرب إلى مقتضيات الشروط التاريخية العامة المواكبة لإنتاجه، ولمختلف صور تفاعلاته السياسية والتاريخية مع الأسئلة والمعارك التي خاضها طيلة أربعة عقود من الزمن.

وقبل مواصلة الجواب عن السؤال، لابد من التوضيح أولاً، أن علاقة مقالة الجابري في الفكر العربي المعاصر بشروطها التاريخية والنظرية العامة، تُعَدُّ في نظرنا أكثر تعقيداً مما نَتصوَّر، يعود السبب في ذلك إلى أن أدوار الفاعلين في المجال الفكري، لا تُقاسُ بالسببيات الميكانيكية المباشرة. إن الأفكار في التاريخ أشبه ما تكون بالخَمَائِر، والخمائِر تعكس التصورات والتطلعات، وتظل دائماً في حاجة إلى الروافع الاجتماعية والمؤسسية التي تمنحها الصلابة المطلوبة والمضاء؛ أي النجاعة والمردودية. وفي ضوء كل هذا، اقتنعت وما زلت مقتنعاً بأن أطروحة الجابري في نقد العقل العربي كانت وما تزال حاضرة في قلب معارك توظيف التراث في حاضرنا، تُخَاصِم المواقف الجذرية من التراث لتَنْتَصِر للمواقف والخيارات التي لا تقطع مع موروثنا التاريخي، بل نقرأ فيه ما يصله بتجليات الفكر المعاصر.

بلور الجابري في مشروع نقده للعقل العربي، جملة من الأدوات التي كان يتوخَّى منها تفكيك آليات عمل الفكر العربي، وذلك من أجل تخليص الثقافة العربية من الوسائل الفكرية التقليدية المتحكمة في أنماط مقاربتها وفهمها للظواهر. ونحن لا نشك في أن إشكالات الحاضر العربي في أبعادها ومستوياتها المختلفة، هي التي أملت عليه العناية بسؤال التراث وبنائه لأطروحة فكرية في موضوعه.

وإذا كنا نعاين اليوم في حاضرنا صوراً جديدة لانتعاش حروب الطوائف في المشرق العربي، ونعاين بمحاذاتها أشكالاً من الانتصار لبلاغة العنف والقتل ودعوات الخلافة والإمارة، فإن كل ما سبق ذكره يشعرنا بالحاجة الماسة إلى مزيد من تطوير الفكر النقدي، الذي بلورته أعمال الجابري في مجالي السياسة والأخلاق.

تمكَّن الجابري بفضل انخراطه في البحث، المسنود باختيارات إيديولوجية وفلسفية مُعْلَنَة وواضحة، من تحقيق نوع من الحضور الثقافي والسياسي المتميزين. يُفهم هذا الأمر بوضوح، عندما نأخذ بعين الاعتبار مبدأ عدم إمكانية فصل أعماله الفكرية عن ممارسته السياسية. ذلك أن التزامه بالعمل السياسي المباشر، إضافة إلى ممارسته الفكرية المرتبطة أساسا بقضايا الصراع الإيديولوجي والسياسي في المغرب وفي الوطن العربي، ساهم في تطوير عمليات بنائه لجملة من الاقتناعات الهادفة إلى تطوير المجتمع العربي.

اقتنعت من خلال عنايتي ومتابعتي لنصوص الرجل، أن ما منح خياراته الفكرية القوَّة التي امتلكها في حياته، وما زال يمتلكها إلى حدود يومنا هذا، يتمثَّل في عنايته البارزة بالمتغيِّرات السياسية. فقد كان مقتنعاً طيلة مساره الفكري بأهمية العمل السياسي، ومارس الثقافة انطلاقاً من مقدمات سياسية مُحَدَّدَة، وقد اتَّسم مشروعه الفكري باقتناعه الراسخ بالدور التاريخي للفكر والمفكر داخل مجتمعه، ورغم أنه أعلن أكثر من مرة توقُّفه عن العمل السياسي الحزبي، إلاّ أنه ظل حاضراً في قلب المشهد السياسي المغربي والعربي.

لم تتخلَّص أعماله الفكرية من هواجسه ومرجعياته التاريخية والسياسية، فقد اتجه في مساعيه الفكرية لبلورة جملة من الخيارات النقدية، بهدف إضاءة تفاعلات المشهد السياسي المغربي العربي، متوخياً تمهيد الطريق وفتح المجال أمام قِيم التنوير والتحديث، نتبين معالم ذلك في نقده لآليات عمل الفكر العربي، وانحيازه للخيار الإصلاحي النهضوي.

إن عملاً من قَبِيل ما أنجزه الجابري لا يُمكن أن نتساءل بعد سنوات قليلة من غيابه، ونقول هل ما يزال متفاعلاً وفاعلاً في بِنْيَة المجتمع والثقافة العربيتين؟ إن اقتناعنا بحرصه الشديد على الوفاء لقيم التحديث السياسي، وانخراطه السياسي في معترك الدفاع عن قِيم الديمقراطية والعدالة والمساواة، وهي القيم التي يتطلع إليها الجميع اليوم، يجعلنا ندرك نوعية الحضور الفاعل الذي تتمتع به أعماله في الثقافة العربية. كما أن وعينا بمزايا مواقفه من التراث وسط التوظيفات العقائدية، التي تستعيد اليوم جوانب من التراث بطرق تغفل تماماً مقتضيات التطور التاريخي في عالم جديد، يجعلنا ندرك قوة النقد الذي صوَّبَه لأخلاق الطاعة وقيم الاستبداد في الجزء الثالث والرابع من أطروحة نقد العقل العربي. ومن الواضح أن مواقف عديدة في الخيارات التي انحاز إليها ودافع عنها، تلتقي اليوم مع تطلعات الأجيال الجديدة نحو مجتمع المواطنة وقيم التاريخ.

يمكن أن نضيف إلى كل ذلك، ما نعتبره القاعدة المركزية في فكره، يتعلق الأمر بمساعيه الفكرية الداعمة للاختيارات العقلانية والنقدية في فكرنا. وإذا كنا نؤمن بأن العصب الحي في فكره تقدِّمه بوضوح أطروحته في نقد العقد العربي، وهي أطروحة عزَّزَت وما فتئت تعزِّز دائرة الفكر النقدي في الثقافة العربية المعاصرة، أدركنا أهمية هذه الجبهة وأهمية الروافد التي أغنى بواسطتها الجابري فضاءاتها في فكرنا. فقد رفع الرجل لواء الاجتهاد والنقد، وعاد إلى الدائرة التراثية محاولاً توظيف معطياتها في أفق ترسيخ القِيم الفكرية العقلانية والنقدية، فهل بعد كل هذا الذي قدَّم نتساءل عن آثاره وأشكال تفاعلها اليوم مع ما يجري في حاضرنا؟