الجسد الأوليائي بين القدسي والسياسي من الفناء إلى البقاء


فئة :  مقالات

الجسد الأوليائي بين القدسي والسياسي من الفناء إلى البقاء

الجسد الأوليائي بين القدسي والسياسي

من الفناء إلى البقاء([1])

تمهيد

في سجل الولاية تحضر غرابة الاشتغال على الجسد بتعذيبه وترويضه، والتي تفيد بعدا في تجذير النفوذ والمكانة الرمزية، ذلك أن الإمعان في تعذيب الجسد، والصبر على التنكيل به، يعد كرامة تحسب للولي، وتزيد من حظوته وحضوره في سجل التنافسات الكراموية.

ولهذا يلاحظ أن الأتباع وأتباع الأتباع لا يجدون بدّا من تعذيب الجسد، أملا في "كسب" الاعتراف و"تحيين" الاعتراف أساسا ببركة الولي، واستمراريتهما في الزمان والمكان. يصدق هذا تحديدا على حفدة سيدي الهادي بنعيسى أو بويا رحال الذين يقدمون ويشهرون بركتهم عبر أجساد خارقة تستطيع تحمل لدغات الثعابين والأفاعي، وتقدر على شرب الماء الساخن وتَحَمُّل الانجراحات بواسطة الزجاج والسكاكين. ومنه يصير الجسد المعذب والمنكل به في هذه الحالة مدخلا لكسب الاعتراف وتأكيد الكرامة والبركة، فهذا الوسيط المادي الذي يُجسر علاقة الفهم والقبول بين الرمزي والمادي. إنه العلامة الدالة التي تتوسط وتزيل الالتباس القائم بين عالمين: الأول واقعي يمكن إدراكه وتلمسه، والثاني رمزي تتكثف فيه المعاني ولا تكاد تبين إلا بمفتاح الكشف والبرهان.

لا يقف الأمر عند مازوشية الجسد التي تصبو إلى تأكيد الفارقية، بل يصل إلى مستوى الإبهار والتفنن في إظهار القدرة على تطويع الجسد وترويضه، وهو ما نكتشفه في الحركات الرياضية لأحفاد سيدي أحماد أو موسى الذين يدشنون فعل الغرابة من مدخل رياضي خالص؛ فالجمناز الذي يختصون به، ولو كان بعيدا عن القواعد الأولمبية، وقريبا من البهلوانية، يمارس على المتلقي جمنازا فكريا وروحيا يدعوه إلى ممارسة انقلابات وتقلبات من حدّ الرفض والتشكيك في قدرة الولي واستمرارية بركته إلى حد الاعتراف و"الإيمان" بفاعلية وسريان كراماته، التي تجعل الجسد مطواعا قابلا للطي والطيران والتضاؤل والتحمل والإبهار، في استعادة ممكنة لكرامة البدء.

كلها إشارات ومفارقات تبرر الحاجة إلى التفكير في الجسد الأوليائي "المقدس"، لبحث واكتشاف شروط إنتاج "القداسة" والاختلاف، ذلكم ما تصبو إليه هذه المداخلة.

*****

تنشغل هذه الورقة بالتحديق في الجسد من مدخل مفارق وخوارقي يستدعي "جمنازا فكريا" ينتقل من حد الاشتباك إلى حد المساءلة النقدية، والواقع أن مسعى التحديق هذا، نابع من قولة معبرة لريجيس دوبري، افتتح بها تقديمه لكتاب "العبد والرعية" لمحمد الناجي، فقد آثر تدشين فعل التقديم بالآتي: "ليست الموت والشمس هما اللتان لا يمكن أن ينظر المرء إليهما وجها لوجه، بل علاقة السلطة كذلك"[2]، وبالطبع فإن عُسْرَ أو استحالة التحديق الطويل فيهما، ينسحب أيضا على الجسد، لكونه يلوح في أحايين كثيرة كَمَتْنٍ خلافي وحقل صراعي، تدور حوله ومن أجله رهانات وتنافسات تخترق تفاصيل المجتمع بشكل عَرَضاني.

إن رهان التحديق في الجسد لا ينبغي أن ينسينا القاعدة الأثيرة التي نرتكن إليها في كل قراءة سوسيوأنثروبولوجية، وهي ألا شيء خارج السياق، وأن المعنى المبحوث عنه ينكشف جراء الانهمام بسياق الإنتاج وإعادة الإنتاج، فالجسد المبحوث فيه والمحدق فيه، هو جسد يجر وراءه تاريخا من التوترات والتسويات، ويتصل في انطراحاته واستعمالاته واعتمالاته في علائق ممكنة مع السياسة والدين، وهنا مبعث الاستشكال. فعندما نسائل الجسم الخام في مستواه الفيزيقي والبيولوجي، نكون في مستوى الطبيعة لا غير. لكن، ولما نغير وجهة النظر نحو الجسد في معناه ومبناه الثقافي، نكون بذلك قد حققنا الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة، ومن الخام والخالص إلى المُبَنْيَنِ اجتماعيا والمثقل بالوشم والذاكرة والتمثل والتلقي والامتداد.

يمكن القول إن الجسد اليوم قد انتقل إلى واجهة الفعل والسؤال، فليس هناك من سجل مجتمعي لا يحضر فيه الجسد دالا ومؤثرا في صياغة المعنى والمبنى، إننا نتواصل ونتفاعل وندبر كثيرا من الفعاليات والديناميات الاجتماعية عبر الجسد. ولهذا يمكن القول بأن الحضارة الإنسانية صارت اليوم أكثر انهماما بالجسد، فقد أصبح هذا "المبنى/المعنى" الجسدي "موضوعا للتشكيل والتعديل والنمذجة وإعادة البناء والترتيب"[3]، في صيغ شتى تتوزع بين التشييء chosification والتبضيع/التسليع والتسويق والاستثمار والتوظيف في مجمل الصراعات والرهانات.

من هنا نتساءل عن الجسد الأوليائي المفارق والخوارقي؟ كيف يصنع هذا الجسد؟ وكيف تنتج الولاية وتتمكن من إعلان كراماتها من داخل الجسد؟ وكيف يتم تدبير فارقية هذا الجسد المقدس في علاقة مباشرة مع ما يعتمل في السياق؟ وكيف نفهم انبناء هذا الجسد وسريان "فارقيته" إلى أجساد أخرى في إطار لعبة تحيين/تأوين البركة؟ وبعدا كيف نقرأ الجسد في عمومته، هل من داخل الجسد ذاته أم من خارجه؟ وما علاقة كل "تقنيات وحركات" هذا الجسد المفارق مع الواقع السياسي والاجتماعي؟

أولا: الجسد المفارق

إن الجسد في رأي دافيد لوبروتون هو "حقل مركب أو بالأحرى ملتقى طرق تلتقي فيه، بل تتواجه فيه وتتلاقح كافة الممكنات الاجتماعية والفردية والطبيعية والثقافية والنفسية والرمزية"[4]، ففي الجسد يوجد الشيء ونقيضه، ويتفاعل الرمزي مع المادي، والفائت مع الحاضر واللاحق، وتبنى الاستراتيجيات وتتجذر، فالجسد تاريخ وجغرافيا لانهائية، كما أنه، وفي مطلق الأحوال، سؤال لا جواب.

وبما هو تاريخ وجغرافيا فإنه متجاوز بالضرورة لبعده التشريحي الفيزيقي، فعوض التعاطي معه كأعضاء ينبغي إدراكه واستقباله كبنية دالة، إنه برأي مالك شبل "جسد للغة والمعتقدات، يتوجب تجاوز قياساته البيولوجية إلى قراءات أنثروبولوجية ووجودية، إنه جسد المكان والزمان والتمثلات، ضدا على الفهم المخبري والتشريحي. إنه الجسد حي ومتحرك ضمن السياق"[5]. فالجسد هو ما يمنحنا وجودنا ويدل علينا، فلا يمكن الحديث عن الإنسان بدون العودة إلى جسده، إن عبورنا إلى العالم يتحقق عن طريق الجسد الذي يشكل الوجود والهوية والانتماء، فالجسد هو شرطنا وامتدادنا في المجال والإنسان.

إن المرور إلى فهم العالم يكون عبر الجسد في غيابه وحضوره، اعتياديته وفارقيته، خَامِه ومُصَنَّعِه، فليس هناك من جسد واحد، ثمة أجساد متعددة وتعددية، تعبر عن هوياتنا وانتماءاتنا، وتتسرب إلى المقدس والمدنس والسياسة والفن والمعمار، وكافة صيغ المشترك، ما يجعل منه سؤالا اختراقيا لكافة البنيات والتصورات والممارسات.

عندما ننتقل إلى الجسد الأوليائي، نحقق نوعا من الانتقال إلى المفارق والقدسي، حيث يصير الجسد اختلافا، باكتنازه لرأسمال رمزي فائق القوة. إنه الجسد المقدس، الذي يحوز سلطانا امتداديا، يؤسس لشهوده المادي ونتوئه الكراماتي، هنا نتجاوز المقاييس التشريحية إلى التمثلات "الميتا واقعية"، حيث الحاجة ماسة إلى "جمناز فكري" بتعبير محمد زرنين، لضبط بعض من الاستفهامات التي يثيرها هذا الانتقال من العادي إلى المقدس.

لقد أكد مرسيا إلياد، على وجوب الخروج من فخ التعارض الذي يحتمله التفكير في المقدس وجواراته؛ فالمقدس في رأيه غير متماثل مع الإلهي، ولا مقابل فقط للدنيوي، ذلك أن المقدس هو "تجلٍ للإلهي في الزمان والمكان، والطقوس بالطبع هي التي تضمن إمكان العبور من الزمن العادي إلى الزمن القدسي"[6]، فالطقس والرمز، والحالة هاته، هو الذي يعطي للفعل والتمثل، طابع القداسة أو يسحبها منهما. فالمقدس حسب إلياد هو تجلٍّ ما، "تجلي شيء ذي حقيقة لا تنتمي إلى عالمنا في أشياء هي جزء مكمل في عالمنا الطبيعي"[7]، وهو تجلٍّ يلوح في خطابات وممارسات وتصورات وقيم ومعتقدات وأجساد وحيوات، وهو ما يجعل مساحاته تضيق وتتسع تبعا للنسق الاجتماعي والثقافي العام الذي يتأسس فيه هذا المقدس.

التجلي في المكان والزمان والجسدانية هو ما يمنح المقدس حقيقته، وهو ما يؤسس للعبور إليه عن طريق الطقس والرمز، فهناك "تزامن بين ميلاد القدسي والمجالي، على اعتبار أن المجال كنظام وكون لا يوجد إلا بتجسد المقدس فيه"[8]. فالمجال يصير مثلا بأضرحته ومساجده ومزاراته وكنائسه ودِيَره وبِيَعه ومعابده وأجساده... علامة دالة على حضور المقدس وتجلياته.

فالمقدس بالنسبة إلى مارسيا إلياد يحل ويتمظهر في أية لحظة، إلا أن أولى أشكال هذا التمظهر تلوح في زمن البدء الأسطوري، الذي ينطرح "كزمن قدسي ودائري ونموذجي بالنسبة إلى كل الأزمنة القدسية سواء تلك الحاضرة في الطقوس أو الأساطير"[9]، التي تمثل عنده مجالا رمزيا لتجلي المقدس، فبفضلها يتم الحكي عن الكيفيات الأولى التي أتت بها الموجودات إلى الوجود، إنها حكاية عن عمليات الخلق الأولى والأصلية، وذلك في صيغة دائرية تسترجع باستمرار البدء القدسي الأول[10].

إلا أنه مع روجي كايوا سيصير المقدس دالاً على خاصية ثابتة أو عابرة ترتبط بالأزمنة والأمكنة، إذ يرى كايوا بأن "المقدس في صورته الأولية البسيطة، يشكل طاقة خطرة، خفية على الفهم، عصية على الترويض، شديدة الفعالية"[11]، إنه يدل على "مقولة شديدة الحساسية، تعتبر ركيزة وأساس الإحساس الذي يغمر المؤمن، إنها الفكرة الأم بالنسبة إلى كل ديانة، فالديانة هي إدارة المقدس"[12].

إن المقدس في رأي كايوا يحيل على خاصية ثابتة أو عابرة، تتمظهر في "بعض الأشياء (أدوات العبادة...) أو الكائنات (الملك والكاهن...) أو الأمكنة (المعبد، الكنيسة، المزار...) أو الأزمنة (أيام الجمعة والسبت والأحد، تبعا لاختلاف الديانات، عيد الفصح، عيد الميلاد...)"[13]، فالمقدس حسب كايوا ليس صفة تملكها الأشياء في حد ذاتها، بل هو "هبة سرية متى فاضت على الأشياء والكائنات، أسبغت عليها تلك الصفة"[14].

يدل المقدس ها هنا على طاقة أو قوة داخلية غامضة لا يمكن تعريفها بذاتها فقط، بل في علاقتها بالدنيوي، فالقداسة لا تختبر واقعيا إلا في إطار الممارسات الطقوسية للدنيوي، فالمقدس يشتكل من قوى وطاقات، فيما الدنيوي مشكل من مواد وأدوات، لكنهما ضروريان معا لاستمرار الحياة وتطورها، فكل واحد يمنح معنى الحضور للآخر، عن طريق الطقس والرمز. فلا حدود للمقدس إذا، ولا إمكان لتأطيره بدقة متناهية في شرط زماني أو مكاني محدد، إنه يحل في الأشياء والأجساد، ويمنحها معنى القداسة أو يسحبها عنها، وهو بذلك يؤسس للتمييز بين ما هو مقدس، وما هو غير ذلك. لتتولى الطقوس تنظيم العلاقة بينهما، عن طريق دينامية الدخول والخروج، ذلك أن هناك طقوسا للتقديس تعمل على إدخال الكائنات والأجساد والأشياء إلى عالم المقدس، فضلا عن طقوس إبطال التقديس الذي تخرجها من جديد إلى العالم الدنيوي.

يتعلق المقدس، وفقا لهذا الطرح، ببنية وممارسات مقننة، تنسحب على مجال معين، في مقابل بنيات وممارسات تصنف داخل دائرة الدنيوي (غير المقدس، المتغير والقابل للتصرف). ولا يعني ذلك أن الدنيوي هو مجال لـ "اللا نظام" والانفصال، وإنما يتعلق الأمر بمجالين يؤسس أحدهما للآخر باستمرار، قد يؤدي إلى انتقال ما هو مقدس إلى ما هو دنيوي والعكس صحيح.

إن الضريح كبناء محتضن ومؤسس لبركة الولي الصالح، يعد "الشاهد المعماري" على امتدادات المقدس في الأرض، كما أنه الدعامة الوسيطية بين الأرض والسماء، فالقبة المتجهة إلى الأعلى، تبرر هذه العلاقة الوسيطية وتدعمها معماريا. إن الأمر يتعلق بخزانات أرضية للقداسة السماوية كما ذهب إلى ذلك درمنعن[15]. فالمقدس في رأيه لا يمكن أن يوجد في هذا العالم دون شهادة أو علامة أو أيقونة دالة عليه، فالأماكن والأشياء الأرضية لا تستمد قداستها إلا من كونها ذات علاقة معينة مع السماء[16]، ومن هنا تغدو الأضرحة وبعض الأحجار والأشجار بمثابة "خزانات أرضية للقداسة السماوية"[17]. وهو ما يمتد إلى الجسد الأوليائي الذي يبني قداسته من تفوقه الرمزي في سباق الكرامة والبركة.

فالمقدس الولوي يقوي من قدسيته عن التفوق الكراماتي والبناء المعماري، ذلك أن العمارة ليست مجرد أبنية خالية من السلطة. إنها "سياج احتوائي" يتضمن رسائل ورموزا، إنها تنطق بمكنون سلطاتها الرمزية والمادية، وتعبر عن انتماءاتها الأنطولوجية، فقباب الأضرحة المتجهة إلى السماء تعبر عن دلالة التوسط بين الدنيوي والقدسي، كما ترمز إلى الرفعة والتسامي، إنها تترجم المقدس معماريا وتعيد صياغته من داخل الدنيوي.

ففي سجل الولاية تحضر غرابة الاشتغال على الجسد بتعذيبه وترويضه، والتي تفيد بعدا في تجذير النفوذ والمكانة الرمزية، ذلك أن الإمعان في تعذيب الجسد، والصبر على التنكيل به، يعد كرامة تحسب للولي، وتزيد من حظوته وحضوره في سجل التنافسات الكراموية.

إن الجسد المعذب والصبر على التنكيل به، موجب للغرابة، ومفضي إلى الاعتراف بالكرامة والبركة، باعتباره مدشنا للاختلاف وخالقا للتميز عن الآخر، ولهذا يلاحظ أن الأتباع وأتباع الأتباع الذين يفتقرون إلى كثير من الرساميل الرمزية، التي قد تضعهم في منزلة الولاية الأولى، لا يجدون بدا من تعذيب الجسد، أملا في "كسب" الاعتراف و"تحيين" الاعتراف أساسا ببركة الولي، واستمراريتهما في الزمان والمكان. يصدق هذا تحديدا على حفدة سيدي الهادي بنعيسى أو بويا رحال الذين يقدمون ويشهرون بركتهم عبر أجساد خارقة تستطيع تحمل لدغات الثعابين والأفاعي، وتقدر على شرب الماء الساخن وتَحَمُّل الانجراحات بواسطة الزجاج والسكاكين. ومنه يصير الجسد المعذب والمنكل به في هذه الحالة مدخلا لكسب الاعتراف وتأكيد الكرامة والبركة، فهذا الوسيط المادي الذي يُجسر علاقة الفهم والقبول بين الرمزي والمادي، إنه العلامة الدالة التي تتوسط وتزيل الالتباس القائم بين عالمين: الأول واقعي يمكن إدراكه وتلمسه، والثاني رمزي تتكثف فيه المعاني ولا تكاد تبين إلا بمفتاح الكشف والبرهان.

لا يقف الأمر عند مازوشية الجسد التي تصبو إلى تأكيد الفارقية، بل يصل إلى مستوى الإبهار والتفنن في إظهار القدرة على تطويع الجسد وترويضه، وهو ما نكتشفه في الحركات الرياضية لأحفاد سيدي أحماد أو موسى الذين يدشنون فعل الغرابة من مدخل رياضي خالص، فالجمناز الذي يختصون به، ولو كان بعيدا عن القواعد الأولمبية، وقريبا من البهلوانية، يمارس على المتلقي جمنازا فكريا وروحيا يدعوه إلى ممارسة انقلابات وتقلبات من حد الرفض والتشكيك في قدرة الولي واستمرارية بركته إلى حد الاعتراف و"الإيمان" بفاعلية وسريان كراماته، التي تجعل الجسد مطواعا قابلا للطي والطيران والتضاؤل والتحمل والإبهار، في استعادة ممكنة لكرامة البدء.

ثانيا: الجسد المنسي

ما يبرر أيضا الحاجة إلى التفكير في الجسد في المجتمع المغربي، من مدخل سوسيولوجيا الرمزيات، هو ما يثيره من مواقف ومواقف مضادة أثناء ظهوره/ضموره في الفضاء العام، فهو يشكل وضعية مفارقة مرة أخرى، إنه المرئي واللامرئي، المبارك والملعون، المحتفى به والمرفوض أيضا.

ثمة إقصاء معلن ومضمر لتاء التأنيث من حقل الولاية، وحتى وإن حضرت في الحقل التداولي للمقدس الأوليائي، فإنها تحضر أحيانا كمكمل (أكسسوار)، أو كموضع صراع وتنافس، أو في أحايين أخرى، كبركة ثانوية وتدبير هامشي للإبراء والعلاج، فـ للاماماس الموجودة بسلا، تختص فقط في جلب النعاس الرضع، وفقا لما ينحته القول السلاوي "ديه لـ للا ماماس باش يجيه النعاس"، فيما باقي الأولياء المحيطون بها مختصون في إبراء كافة الأمراض، فحقل ممارساتها الإبرائية محدود ومخصوص على الرضع لا غير.

كما أنه في حالة للاميمونة، فإن الولية تلوح فقط كمتن صراع بين قطبين، وهما مولاي بوسلهام وسيدي محمد لحمر، وحتى في حالة للا عيشة البحرية، فإن بعض الإحالات تؤكد أنها كانت موضع عشق، إنها تلك الفتاة التي افتتن بها مولاي بوشعيب أيوب السارية دفين أزمور. وفي حالات أخرى سوف نجد أن حضورها واشتغالها في حقل الولاية، لا يتجاوز الصحبة والتابعية، أو إبراء ما هو بسيط وغير بعيد عن أدوار الأنثى المنمطة، فكيف نفسر هذه الإزاحة وهذا التهميش من دوائر التفوق الأوليائي؟

تبرر الصورة التي ترتسم عن المرأة والجسد الأنثوي أساسا، في المخيال الاجتماعي، بل وتفسر هذا التحييد، فالمرأة متأرجحة، من حيث التمثل والتعاطي، بين البركة واللعنة، وهو ما يكاد يظهر بوضوح في البوادي المغربية، فهي أول من ينثر البذور، وهي من تعد "خبزة المحراث" التي تكسر عند بداية موسم الحرث، وتفرق على الصبيان في المسيد، طلبا للبركة، واستجداءً للخصوبة المجسدة في الأنثى، لكنها في الآن ذاته تمنع من دخول "الكاعة" الخاصة بالدراس أو المطمورة أو حتى بيت العولة والخزين في مناطق معينة، باعتبارها مدنسة.

يتوزع الجسد الأنثوي في التمثل والمخيال بين الطاهر pure والنجس impure بسبب عدم طهارتها أو غوايتها الممكنة، لهذا لم يكن غريبا أن تعمل الأمثال الشعبية على إعادة إنتاج هذا التمثل الإغوائي/الشيطاني، فهي التي "تجتمع فيها كل الصفات الذميمة، من غدر وتحايل وكيد وإغراء"[18]، إذ يقول عنها المثل: "التالية فالنسا، تعريك من الكسا"، و"إيلا حلفو فيك الرجال بات ناعس، وإيلا حلفو فيك النسا بات فايق"، و"اللي يديرو الشيطان فعام، تديروا لمرا فليلة".

فالجسد الأنثوي يتأرجح بين حدي القبول والرفض باستمرار، فهو مصدر الدنس الذي يحيق بالمرأة، إنه الجسد الذي يغوي الرجل، ويحيض، ويصير مرفوضا ومحرما بسبب انشغاله بالحمل والولادة والحيض والنفاس. فدم الحيض، وكما تشير إلى ذلك ماري دوغلاس[19]، يحيل على الموت والحياة في آن، كما أنه يثير الدنس والخوف، فهو يعبر من جهة عن الخصوبة/الولادة، ذلك أنه كلما استمر دم الحيض لدى الأنثى، كان ذلك دليلا على الحياة التي تهبها، ودليلا أقوى على "صلاحيتها" الاجتماعية، بعكس توقفه الذي يعني موت الخصوبة وتراجع الخيرات الرمزية، وبذلك يغدو ترقب دم الحيض مشوبا بالخوف والاطمئنان، الخوف من الموت الرمزي للأنثى الخصيبة، والاطمئنان على استدامة الطلب الاجتماعي على الجسد الأنثوي.

لقد جاء في لسان العرب لابن منظور[20] أن الطهر نقيض الحيض، والطهر نقيض النجاسة، وطهرت المرأة وهي طاهر، أي انقطع عنها الدم، وفي مادة: حيض، نجد تحيضت المرأة يعني تركت الصلاة، فالحيض يصير عنصر إقصاء من الفعل الديني، ويمتد أيضا إلى الديناميات الاجتماعية، منتجا لتمثلات تتراوح بين اللعنة والبركة، تبعا لاستراتيجيات الفاعلين. فهذا الدنس الذي يحيط بجسد المرأة بسبب دم الحيض والنفاس، تنشأ عنه تدبيرات أخرى، ارتباطا بالممارسات التدينية، فالدنس يوجب المنع المؤقت عن استعمال الفضاءات الدينية وحتى الاجتماعية في بعض الأحيان، ويُسقط بالتالي الواجبات الدينية إلى أن يحدث الطهر.

لكن، وبالرغم من كل هذا الحجب الذي يسري على الجسد الأنثوي، فإن الكتابة المناقبية، لم تُلْغِ إمكان سريان البركة والقداسة في سِير وحَيَوات كثير من النساء، وإن كان ما وصل إلينا حولهن، يبدو متواضعا مقارنة مع سير الرجال. فالبركة التي تدل على قوة استثنائية تستقر في كل ما يلمسه المرء من ثياب وطعام وأدوات، وتبقى ملازمة لجسده وعظامه بعد موته، كانت أيضا من نصيب الإناث، وإن كانت بآثار فعل وتقدير محدودة، فانخراق العادة وبروز القدرات العجائبية في مستويات الإبراء وطي الطريق والمشي فوق الماء والطيران في الجو، لم تَلُحْ كثيرا في سِيَّر بركة النساء[21].

كما أن ذات الحجب لم يمنع من "الانتشار الشُهْرَوي" لوليات صالحات، ومنافستهن لكثير من الرجال، تماما كما هو الأمر بالنسبة إلـى للا عيشة البحرية وللا عيشة مولات المواج، وللا يطو، وللا ميمونة وللا شافية، هذه الأخيرة التي تنوجد في أعلى الجبل المقابل لمولاي يعقوب، والتي يصير الصعود إلى مقامها شبيها بالحج، وفقا لما تردده الرواية الشفوية[22].

ثالثا: الجمناز الفكري

جاء في التشوف لابن الزيات، "أن الكرامة تتحقق لمن تعمق في الزهد والعبادة، عارضا عن ملذات الدنيا وأهوائها[23]. فالكرامة تتخذ صيغا شتى، وتنبني على انخراق العادة ومفارقتها للواقع والمعتاد، تماما كما هو الأمر بالنسبة إلى انفلاق البحر وجفافه، والمشي على الماء، وطي الطريق وانزواء الأرض، وكلام الجمادات والحيوانات، وإبراء العلل والصبر على الجوع، ورؤية المكان البعيد..."[24]، وفي هذا الصدد يورد صاحب التشوف الأبيات التالية:

لا تسترب في كرامات يخص بها ** من اتقى الله في سر وإعلان

ثم إن الكرامات أنواع إذا نظرت ** كالزهر في حسن أنفاس وألوان

مشي على الماء أو في الجو قد نقلا ** وشبع ذي سغب أو ري ظمآن

و كم أجيب ولي حين دعوته ** وكم أغيث ولي عند إذعان

و فيهم من يجيبه الجماد ومن ** يغيب عن درك أسماع وأجفان

و منهم من يرى المختار من ملك ** ومن يجالسهم في حال إخوان

صفوا فصفوا ونالوا ضعف سعيهم ** المرء يكسب إحسانا بإحسان

في عيش أرواحهم ماتت نفوسهم ** وقد تموت نفوس دون أبدان[25]

فالولي الصالح هو الأقدر على خرق العادي، وفقا لما تؤسسه الكرامة، وما يتقعد تاريخيا عن طريق التواتر، فكل استعصاء للأمور يجد طريقه إلى الحل والتيسير على عتبات الضريح، بل إن كل ما يحدث يمكن أن يتم "التدخل" فيه عن طريق سلطة الولاية وتأثيرات الكرامة، فالأولياء "يقدرون على تغيير مجرى الحوادث والأشياء، يشفون الأمراض المستعصية التي لا ينفع معها علاج طبي، ويروضون الحيوانات المفترسة ويصاحبون الجن"[26].

ليست مهمتنا البحث عن "عقلنة" ممكنة لهذه الممارسات، ولا التأكد من وجاهتها أو محدوديتها، وأساسا في جوانب الكرامة وما يتصل بها من انخراقِ عادةٍ وإبراءٍ وتيسيرٍ ومباركةٍ. فالغاية تتجاوز الاشتباك مع "الإسلامات" المشككة في خوارقية الجسد الأوليائي، والمكفرة أحيانا لمن يخطب ود "بركة الأولياء"[27] ويرجو "خدمتها" ويهفو إلى "بركتها". كما أن فتح هذا النقاش لا يحاول بالمرة تبرير هذا المسلك الاعتقادي. إنه انشغال بجسد الصلاح الذي يأتي كجواب ديني/سياسي ضدا على الواقع المعيش. فما نهفو إليه هو القيام بجمناز فكري يسائل الفارقية والخوارقية الجسدية، أملا في الفهم لا غير.

إن الولي الصالح يقدم نفسه/ مشروعه، كبديل ثقافي/سياسي، لما ينتكب في الواقع، إنه يقترح نموذجا آخر، يكون في الغالب مضادا، لما يقترحه السياسي، فهو مُنتمٍ بالضرورة إلى سجل العلماء الذي يواجه ضديا سجل السلطة، كما أنه يحيل على السماوي والأخروي في مقابل الدنيوي.

عندما يختار الولي الصالح قمة الجبل أو هامش المدينة أو مقابرها المطلة على البحر، فكأنه يريد تأكيد رفضه للقائم في المركز، وهجرته لخيراته الرمزية والمادية، موثرا الانتماء إلى عالم الكفاف والندرة. فالصلاح يناقض الفساد، والرفض له يكون "اختيارا مجاليا" يلوح في "المنفى" والابتعاد عن مواطن الفساد. فأغلب الصلحاء في المغرب والمشرق اختاروا "البعد" و"الغربة" جوابا على ما عرفته مجتمعاتهم من سوء أحوال سياسية.

ليست الولاية مجرد "هجرة" باتجاه السماء، إنها موقف مما يعتمل في الأرض، فبركة الأولياء تنشأ من فخ التناقضات القائم بين الكائن والممكن دنيويا، ففي اللحظة التي تتواتر فيها الأزمات ويَعِّزُ فيها الانصلاح، يبرز الصلاح كجواب تعبدي/صوفي، على عُسْرِ الفهم والتكيف مع المحيط.

ولهذا نلاحظ أن رد الفعل تجاه الطبيعة (كوارث، جوائح، ...)، أو تجاه السلطة (استغلال، تسلط، ...)، لا يخرج في كثير من الأحيان، عن مقترب الهجرة إلى السماء، فالأفراد يبحثون عن ملاجئ مادية أو معنوية لمواجهة الواقع المأزوم، والديني بما يكتنزه من قيم التفاوض مع الواقع وإمكان تجاوزه، يصير حلّا إيجابيا للكثيرين.

إن الولي، في انقطاعه ومنفاه الاختياري، يعلن "رفضا" واضحا للدنيوي والسياسي، كي يؤسس ويغذي بركته ويثمر كراماته، فهو يتفرغ لبناء "شرعيته" الأوليائية، والتي لا تتأكد إلا بعد طول اشتغال، ودِيدِ مقدمات ومبررات. فعليه أن "تفيض" بركته على من حوله، وأن تلوح كراماته التي تبرر الاعتراف به وتشرعن لقب الولاية والصلاح، وإلا فإنه لن يحظى إلا بألقاب محدودة الفعالية والمكانة في سوق التبادلات الرمزية.

فكلما فاضت البركة وأُثْبِتَتِ الكرامة، كلما كان توصيف "سيدي" دالا عليه، وإن تعالت أكثر استبدلت "سيدي" بـ "مولاي"، خصوصا إذا كان السند الشرفاوي حاضرا، أو كان خرق العادة فوق المتوقع والمعاش. وبالمقابل، فإن محدودية الفعل والأثر لا توجب إلا ألقابا من قبيل "الفقير"، "العابد"، "الفقيه"، فالعلامات لا تمنح اعتباطيا في حقل القداسة، وإنما ينبغي أن تكون مبررة بِعَمِيقِ البركة والكرامة.

تَنْسَلِكُ الطريق إلى الولاية عبر مجاهدة النفس وقهرها، إنه تمرين صعب ينخرط فيه الراغب في الوصل، لتطهير الجسد من نوازعه اللذوية الدنيوية، فالطعام والملبس والمأكل والمرقد، وكل ما يحيل على الغرائزي، يصير ثانويا وغير ذي أهمية بالنسبة إلى السالك والممتشق لدروب الولاية والصلاح. ولهذا فقد كانت الكتابة المناقبية تعج بأخبار تعذيب الجسد والتقشف والجَلَد والقناعة والعزلة التي امتازت بها حياة الأولياء. فقد عرف عن مولاي بوعزة بأنه "كان لا يقتات من نبات الأرض سوى الدفلى والخبيز والبلوط، وكان دائم الصوم، ولا يلبس سوى حصيرا "تليسا" وبرنوسا مرقعا وشاشية من عزف"[28]. وفي ذلك كله اشتغال على الجسد الأوليائي وإعادة بناء له، من أجل بلوغ مراتب الكرامة والولاية، فالجسد هنا هو مجال اللعب والرهان في الآن ذاته.

أما الصبر والجلد، فنجده ناصعا مكتملا في نموذج سيدي يوسف بن علي، "الذي كان مصابا بالجذام، ومن شدة فرحه المقرون بفرحه على البلوى، أنه سقط بعض جسده في بعض الأوقات، فصنع طعاما كثيرا للفقراء، شكرا لله على ذلك"[29].. فيما تحيل القناعة على الاكتفاء بالقليل وعدم التطلع إلى الكثرة، بل والعطاء في عز الافتقار، إذ تواترت الأخبار الكراماتية التي تؤكد أن من الأولياء من كان يأكل تمرة واحدة في اليوم، أو يكتفي ببقايا الطعام وأقلها إداما أو لحما.

إن عزل الجسد الأوليائي والحرص على نفيه مجاليا (مغارة، جبل، مقبرة...) يمكن من "طرد عدو المجاهدة، ألا وهو الحس، لأن كثرة الحس تمنع كثرة المعنى، مهما تقوى الحس، يضعف المعنى"[30]. فالبعد انقطاع عن الحسي، عن الدنيوي، عن المدنس، والعزلة مجاهدة للجسد وانتصار عليه وقهر له. بل إن هذا القهر يظهر في سِير أخرى باختيار حفرة القبر مرقدا بَدَل الأسِرَّة الوثيرة، ولبس المرقع والخشن من اللباس، إمعانا في تمريغ الجسد في تراب الوضاعة والاحتقارية، وتمرينا له على مجابهة اللذة وتجاوزها.

فالسفر إلى القدسي، يستلزم المجاهدة والاجتهاد، فما يروى عن الشيخ علي بن إبراهيم البوزيدي، أنه بلغ من عبادته وتوصله للصيام وتركه الطعام إلى أن تركه جُملةً، ويقال أن ورده كان كل ليلة أربعمائة ركعة"[31]. فالسفر إلى أزمنة القدسي يفترض الانقطاع عن غيره من شواغل النفس والدنيوي. من هنا يلوح الفناء كهدف مركزي للهجرة إلى القدسي، على اعتبار أن "الفناء بقاء" كما يقول ابن عجيبة، "فمن صح فناؤه صح بقاؤه، واعلم أن الفناء يوجب الغيبة عما سوى الله"[32]، وهو ما يقود إلى منازل القربة التي تعلن ميلاد الكرامة وجني البركة وتوزيع ثمارها على الآخر.

خامسا: الجسد الاحتجاجي

إن مقاومة الجوع تنتسب إلى سجل زمني عُرف بتعاقب الجائحة والمسغبة، كما أن الوقوف في وجه جور الحكام، تأكيد على انفساد الأحوال وسوء العلاقة بين السلطة والمجتمع، وعليه نجد أن الكتابات المناقبية قد أغرقت في توصيف انخراق العادة وإثبات الكرامة، وفي ذلك كله تعرية للواقع وإدانة له، بل وطرح لبديل مختلف لتجاوز الأزمة، فَطَيُّ الطريق يغدو بديلا لطول المسافات بين الممكن والمستحيل، وكرامة القناعة والكفاف تغدو رسالة مشفرة ضدا على البذخ والثراء الفاحش، كما أن كرامة الشجاعة والإيثار والقيم الإنسانية النبيلة تصير "انتقادا" مباشرا للبؤس القيمي واللاتصالح مع أزمنة القدسي. ففي الكتابة المناقبية نجد تصورا إصلاحيا، مضمرا ومعلنا، على اعتبار أن كتابها لم يكونوا منفصلين عن أزمات عصورهم.

لقد تمت عملية بناء الجسد الأوليائي في ظل سياق اجتماعي وسياسي ينبصم بثلاثة معطيات على الأقل، أولها يتصل بالصراع على أنماط التدين والصراع على الكلام باسم الله، وهو ما يستمر إلى الآن وبصيغ متفاوتة، فدائما هناك صراع وتنافس حول النظام الرمزي للمجتمع، حيث يصير المقدس وتدبيره من أهم مراكز الاهتمام التي يتنافس حولها وفيها الفاعلون في المجتمع.

في مستوى المعطى الثاني، فإن الولاية تنبني في ظل علاقات متوترة بين السلطة والمجتمع، حيث تستحيل رفضا للتدبير السلطوي وخروجا عليه ومواجهة له، بطريقة أو بأخرى، بدءا من اختيار المنفى المجالي إلى إنتاج الخطاب المضاد والممارسة المناقضة للسائد محليا.

أما المعطى الثالث، فيتصل بالجوائح والأوبئة والمجاعات والقحوط التي كانت تحصد الأرواح، وتدخل البلاد في حروب وصراعات مستمرة حول الماء والكلأ والأرض وصنوف المعاش. لهذا كله، تقدم الولاية متنها واشتغالها كخلاص دنيوي/سماوي، عبر قيمها وممارساتها القائمة على السفر والهجرة إلى منازل القربة والوصل.

وعليه، فالجسد الأوليائي يقدم بهذا المعنى، مشروعه وعرضه الروحي l’offre spirituel و"ملاذاته الروحية" les refuges spirituels، كرد فعل ديني، يسائل ما هو سياسي، ويقدم "طروحاته" كبديل/خلاص، لواقع موغل في الرداءة، وبذلك فالبناء يتوطد بتقديم النموذج المغاير، الداعي، خفية وعلنا إلى تغيير الواقع وتجاوزه. فالولي، وفي سياق مأزوم تحديدا، يتحول إلى "ملاذ" يتم اللجوء إليه، تماما كما حدث مع سيدي موسى الدكالي عند انحباس المطر، أو مع سيدي بن عاشر عند المرض، وما يتواصل أيضا من استحرام بالأولياء خلال مطاردة المخزن. فحتى في حال رحيل الولي إلى دار البقاء، فإن ضريحه يغدو "ملجأ" لكل من انظلم أو دارت به الدوائر، وهو اللجوء الذي تتم شرعنته بمنطق "الحرم"، الذي يمنح الحماية القصوى، فإليه يكون اللجوء السياسي والاجتماعي والصحي والنفسي...، فالولي يقدم مشروعه/كرامته/بركته، كبديل تعبدي/سلوكي لما تعذر حله وتدبيره إيجابيا في سجل العسر والأزمة والانحباس.

يواصل الجسد الأوليائي بناءه عبر الكرامة، ويشيد من مداخل أخرى تتوزع على السلوك اليومي الذي يحمل الإبهار والاختلاف، فخرق العادة يكون أيضا في المأكل (الاكتفاء بتمرة في اليوم)، والمشرب (الصبر على العطش لأيام)، والمرقد (النوم في قبر مثلا)، والعبادة (قيام الليل، الصوم، السجود الطويل...)، ومختلف مناحي التدبير اليومي، وذلك على مستوى العلاقة مع الذات والآخر والكون. في كل هذه التواصلات تبنى الولاية وتستثمر وتستزيد حضورا وامتدادا، وتتأكد الحاجة إليها ويتم الاعتراف بها.

إن البقاء يستوجب الفناء، والوصل يتطلب الفصل، وذلك ما يجيده الولي، وهو يؤسس بركته ويقوي من حضوره في سياقات اجتماعية وسياسية فائقة الصعوبة والعسر، إنه يفنى ويهاجر ويتعذب جسديا من أجل البقاء في المخيال الاجتماعي، كما أنه ينقطع ويتعالي ويسمو كي يحقق الاتصال بالقدسي ويحوز البركة والقداسة التي تنسحب على أمكنته وأشيائه توكيدا للاستمرارية التي يستقل بها المقدس.

طبعا سارت الباراسيكولوجيا على درب تقديم تفسير ممكن لهذا الجسد المفارق الذي يتحمل الانجراحات واللدغات ويحتمل أكل الزجاج واللحم النيء والصبار، وانتهت إلى التأكيد على القدرات اللانهائية للجسد الإنساني. لكن هذه "الفتوحات" لا ينبغي أن تنسينا أن الجسد الأوليائي في تدشينه للاختلاف، كان يشتغل ضمن سياق سياسي يوجب الرد.

فالتسلط الذي لاح في اشتغال السلطة المخزنية، في تنكيل الجسد ومعاقبته، كان من الضروري أن يرد عليه الولي بجسد مفارق يتفوق على الألم، ويصبر على الجوع، ويمارس النفي والعزل الذاتي، فكلها ممارسات ورسائل مشفرة تتوجه إلى السلطة السياسية.

فعن طريق الجسد كانت السلطة تؤسس "نفوذها" وتؤكد "قدرتها"، وهو ما نكتشفه في حكاية القايد عبد الله أوبيهي التي نوثر أن تكون سؤالا مفتوحا للختم أو اللاختم، لاكتشاف أزمنة الاسترقاق وتعبيد الجسد في النسق السلطوي العربي الإسلامي. فبعد اشتباه السلطان العلوي محمد بن عبد الرحمان في علاقة القايد أوبيهي بدار إيليغ التي كانت تزاحمه وتنافسه في النفوذ الروحي والسياسي، توزعت الروايات شيعا بشأن مآل القايد، وهو ما دفع محمد الناجي[33] إلى تتبع خيوط الحكي الملتبسة والمتناقضة، مستوعبا الدرس التاريخي القائل بأن "الحقيقة التاريخية تكمن في الالتباس، وليس في الإجماع".

فثمة رواية تقول بأن القايد أوبيهي لما أحضر بين يدي السلطان، خَيَّره هذا الأخير ما بين "التطواف" إلى الفضيحة والموت أو الموت سريعا عن طريق كأس سم، وهناك رواية أخرى تقول إن السجن كان مصيره إلى أن وافته المنية، فيما تشير رواية أخرى، ولعلها الأكثر صحة، إلى أن السلطان عاقب القايد بقتله رمزيا عبر تحويله من قايد إلى عبد يشتغل ضمن حنطة "موالين الوضوء" التي لا يشتغل فيها إلا العبيد السود. فقد تم القتل الرمزي لجسد عاش القايدية ثم انتهى إلى مآل العبودية، من حكاية موت رمزي يدشن الجسد نقاشا عميقا بشأن العبودية والسلطة وعلاقات الخضوع المضمرة والمعلنة. وهكذا تنتهي الحكاية ولا تنتهي أسئلة الجسد في مجتمعاتنا؛ فالجسد سؤال لا جواب.

[1] ألقيت هذه الورقة في ندوة: "أسئلة الجسد في المجتمعات العربية"، المنعقدة بالرباط 6 فبراير 2015. تنسيق د. عبد الرحيم العطري وإشراف د. مولاي أحمد صابر. مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

[2] محمد الناجي، العبد والرعية: العبودية والسلطة والدين في العالم العربي، ترجمة: مصطفى النحال، المكتبة الجديدة، الدار البيضاء. ص 8

[3] Davide Le Breton, La sociologie du corps, PUF, Paris.1994. p 110

[4] Davide Le Breton, La sociologie du corps, op. cit. p 118

[5] Malek Chebel, Le corps dans la tradition au Maghreb, Paris, PUF. 1984. p 9

[6] Merssia Eliade, Le sacré et le profane, Gallimard, Paris.1965. p 61

[7] Merssia Eliade, Le sacré el le profane, op.cit. p 61

[8] Merssia Eliade, Le sacré el le profane, op.cit. p 85

[9] Merssia Eliade, Aspects du mythe, Gallimard, Paris.1963. p 16

[10] Merssia Eliade, Aspects du mythe, op.cit. p 17

[11] Roger Caillois, L'homme et le sacré, Gallimard, Paris. 1950. p 40

[12] Roger Caillois, L'homme et le sacré, op.cit. p 18

[13] Roger Caillois, L'homme et le sacré, op.cit. p 37

[14] Roger Caillois, L'homme et le sacré, op.cit. p 37

[15] Emile Dermenghem, Le culte des saints dans l'islam Maghrébin, Gallimard, Paris.1954. p 34

[16] Emile Dermenghem, Le culte des saints dans l'islam Maghrébin, op.cit. p 11

[17] Emile Dermenghem, Le culte des saints dans l'islam Maghrébin, op.cit. 34

[18]علي أفرفار، صورة المرأة بين المنظور الديني والشعبي والعلماني، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى. 1996. ص 69

[19]ماري دوغلاس، الطهر والخطر، ترجمة: عدنان حسن، دار المدى للطباعة والنشر، الطبعة الأولى. 1995.

[20] ابن منظور، لسان العرب، الجزء الرابع، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 1997. ص 481

[21] رحال بوبريك، بركة النساء: الدين بصيغة المؤنث، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2011

[22] عبد الرحيم العطري، بركة الأولياء: بحث في المقدس الضرائحي، دار النشر المدارس، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2015. ص 122

[23] أبو يعقوب يوسف بن يحيى التادلي الشهير بابن الزيات، التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، تحقيق: أحمد التوفيق، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الطبعة الثالثة، الرباط، 2010. ص 75

[24] يوسف بن إسماعيل النبهاني، جامع كرامات الأولياء، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى. 2001. ص 47

[25] ابن الزيات، التشوف إلى أصحاب التصوف، مرجع سابق. ص 76

[26] الميلودي شغموم، المتخيل والقدسي في التصوف الإسلامي: الحكاية والبركة، مطبعة فضالة، المحمدية. 1991. ص 27

[27] عبد الرحيم العطري، بركة الأولياء: بحث في المقدس الضرائحي، مرجع سابق. ص 11

[28] أحمد التادلي الصومعي، المعزى في مناقب الشيخ أبي يعزى، تحقيق: محمد الجاوي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية أكادير. ص 122

[29] ابن الزيات، التشوف إلى أخبار التصوف، مرجع سابق. ص 56

[30] المختار السوسي، الترياق المداوي في أخبار الشيخ سيدي الحاج علي السوسي الدرقاوي، المطبعة المهدية، تطوان. ص 32

[31] حسن جلاب، سبعة رجال، منتدى ابن تاشفين للمجتمع والمجال، مراكش، الطبعة الثالثة، 2011. ص 45

[32] ابن عجيبة، إيقاظ الهمم في شرح متن الحكم، دار ابن الوراق، بيروت. ص 34

[33] محمد الناجي، العبد والرعية: العبودية والسلطة والدين في العالم العربي، ص 11