الحريّة والديمقراطيّة في خطاب الإسلام السياسي بعد التحوّلات الأخيرة في العالم العربي


فئة :  قراءات في كتب

الحريّة والديمقراطيّة في خطاب الإسلام السياسي بعد التحوّلات الأخيرة في العالم العربي

"الحريّة والديمقراطيّة في خطاب الإسلام السياسي بعد التحوّلات الأخيرة في العالم العربي"

طارق حمو، أطروحة، الأكاديمية العربية في الدنمارك، 2014، 254 ص


1- يقول الكاتب في مقدّمة هذه الرسالة الجامعية المميزة: لقد عمّت حالة من الترقب كبيرة في أعقاب انتفاضات الربيع العربي بخصوص دور جماعات الإسلام السياسي، وبخصوص خطابها الذي تماهى، في المراحل الأولى من الانتفاضات، مع مطالب عامّة الشعب، حيث الشعارات المطالبة بالديمقراطية والحريّة وضرورة احترام هاتين القيمتين. وبدأ العالم يتساءل: "هل ستطبق هذه الجماعات قيمة الديمقراطية، وهل ستحترم قيمة الحرية إذا تصدرت للحكم واستلمت الإدارة، أم أنها ستتخلى عن هذه الشعارات التي نادت بها في مرحلة ما، لصالح الأسس الإيديولوجية والعقائدية التي بنيت عليها: تحكيم الشريعة الإسلامية، وبناء دولة الخلافة وتمكين فكرة الحاكمية لله؟".

يبدأ الباحث أولاً بتعريف المقصود بمفهوم ومصطلح الإسلام السياسي، فيرى أنه: "تعبير عن الحركات والقوى التي تصبو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية منهجاً حياتياً، مستخدمة بذلك منهجية العمل السياسي الحديث القائم على المشاركة السياسية في السلطة. فكل حركة سياسية إسلامية تعتبر المشاركة السياسية منهجاً تدخل ضمن هذا التعريف، وبالتالي فإنّ كلمة سياسي في مصطلح الإسلام السياسي ليست توصيفاً للإسلام، بمقدار ما هي توصيف وتعريف للحركات التي تقبل بمفهوم المشاركة السياسية، وخوض الانتخابات والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، حيث أنّ هناك العديد من الحركات والأحزاب الإسلامية التي ترفض هذه القاعدة، وهناك العديد من الذين يقبلون بهذه القاعدة".

أمّا الحركات الإسلامية المتفرعة عن هذا التعريف فتضم، في مفهومها الواسع، "جميع الأفراد والجماعات التي تسعى لتغيير مجتمعاتها عن طريق اشتقاق أفكارها وبرامجها من الإسلام".

هذا من زاوية التعريف، أمّا من زاوية الفعل، فالملاحظ أنّ كل القوى السياسية الأخرى تتقبل أصول اللعبة الديمقراطية في قضية مشاركة قوى الإسلام السياسي في الانتخابات، والتنافس الشريف على ثقة الشعب، لكنها في الوقت نفسه "ترفض فكرة أن تتحول الدولة المدنية إلى دولة دينية، تحتكم إلى الشريعة الإسلامية وفق شرح وتأويل محدد"، لا سيما بعد حقبة الثمانينات التي "شهدت أحداثاً كبيرة وجسيمة، منها ظهور الدولة الدينية الإسلامية في إيران، وتجمع الجهاد العالمي في أفغانستان ضد التدخل العسكري السوفييتي، وبداية احتلال الإسلام السياسي وأفكاره في العالم العربي الفراغ الذي حدث بعد تضعضع فكرة القومية العربية وخفوت بريقها، إثر فشل الخطاب القومي والهزائم المتكررة التي مني بها فكرياً وعسكرياً"، وما سوى ذلك.

بالتالي، فإنّ التخوّف من حركات الإسلام السياسي كان منذ البداية تخوّفاّ من الشعار الذي ترفعه هذه الحركات (شعار "الحاكمية لله")، والذي يُعدّ من أهم دعائم فكرها، ويقوم على "جعل الحكم لله، عبر الخضوع التام للنص والشرع، وترك نظم الحكم والإدارة والإيديولوجيات الوضعية، واعتبارها كفراً من عمل البشر، يجب عدم مقارنتها أبداً بالشريعة أو الاحتكام إليها، ويجب ألا تحلّ محلّ حاكمية الله التي ينبغي أن يخضع لها البشر بكل مظاهر العبودية والتسليم الكامل".

تقول جماعات الإسلام السياسي: إنّ الإسلام الحقيقي إنما هو دين ودنيا. وعليه، يجب أن يُطبّق حسب الأصول، أي حسب القرآن والسنة، وعلى الحكام أن يلتزموا، في كل زمان ومكان، بذلك.

ويلاحظ الباحثأنّ ثمة اختلافات في التفسير هنا وهناك، واختلافات في البنية بين هذه الجماعة أو تلك، إلا أنّ الثابت هو "قبول الجميع بالأصول كمرجع ثابت لها، والرجوع إلى هذه الأصول في الاحتكام فيما يتعلق بكل شؤون الدنيا".

بالتالي، فإنّ الإسلام السياسي، ككتلة واتجاه عام، متفق على الأصول والمرجعيات العامة، وهو يهدف إلى بناء دولة الشريعة وإحقاق الخلافة، ودائماً "الإسلام عنده هو الحل"، وهو الذي يطرح كلّ الحلول لكلّ المشاكل المطروحة، وإن كانت بعض التفاصيل تختلف من تنظيم سياسي إلى آخر، أو من بيئة إسلامية إلى أخرى.

فمثلاً، يتمسك الإسلاميون بصيغة الشورى، لكنهم يرفضون معادلتها بأي صيغة أخرى: "إننا نعارض وصف الشورى بأنها ديمقراطية، بل يجب في هذه الحالة إضافة صفتها الإسلامية، لأنّ عدم ذكر هذه الصفة قد يؤدي إلى أن يفهم البعض أنّ الديمقراطية تغني عن الشريعة أو أنها بديل عنها، وأنه يكفي أن تقرر الديمقراطية أو الأغلبية أمراً حتى يعتبر هذا الأمر شرعياً، دون حاجة للبحث في مدى التزامه بأحكام الكتاب والسنّة".

يؤكد الكاتب أنّ هذا هو خطاب جماعات الإسلام السياسي، ولما كان كذلك، فإنه قد اقتنى فنوناً شتى في شحن العامة ضد السائد، وخلق حالة من النفور والحقد والحنق لدى هؤلاء، على الإيديولوجية الحاكمة والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السائدة. وهذه السياسة ما هي إلا توطئة من أجل تقديم الإسلام فيما بعد كمنهج حياة متكامل، وبديل إلهي منزه لكل النظريات الوضعية في الحكم والإدارة".

من هنا، فقد كانت حركات الإسلام السياسي بارعة، خطابة وفعلاً، في استغلال إهمال الدولة لمتطلبات الجماهير الحياتية الآخذة في النمو والتوسع، فبدأت تطرح رؤيتها على شكل أعمال خيرية واجتماعية، تعويضاً عن العمل السياسي الذي صادرته السلطة ومنعته عليها. وعليه، و"مع دخول المجتمعات العربية الربع الأخير من القرن العشرين، والأثر الذي أوجدته الثورة الإسلامية في إيران، واختلاف سياسات الأنظمة العربية مع الإسلاميين بين التحالف الضمني والتضييق، اشتد أزر المجال العام للإسلام الحركي، وأصبحت المساجد والمؤسسات الاجتماعية الأخرى، من نواد ولجان زكاة وتشكيلات نقابية داخل الجامعات وفي الطبقة الوسطى القديمة، وسائل إنتاج إيديولوجية/ وسائل تخيل، تنسج تصوراً سياسياً للدولة وعلاقتها بالمجتمع، وترسم صورة للشخصية الفردية للمسلم، لا تتوافق تماماً مع الصور الأخرى التي تنتجها وسائل تخيل أخرى في أماكن أخرى".

لقد ركزت هذه الحركات على وضعية الفقر والحرمان والإحباط والتبعية وضياع الهويّة، وهنا أيضاً "تعالت أصوات المستضعفين بالاستجابة، فدعت إلى محاربة الظلمة والكفار، وطالبت بالثأر للمعدمين الذي حرموا نصيبهم من الحياة الدنيا. وهنا نجحت الجماعات الإسلامية المسلحة في استثمار مناخ السخط والمعاناة، وجعلت من هذه الجموع الساخطة مادة بشرية قابلة للتأييد والعمل".

2- إنّ كل منظومة حركات الإسلام السياسي مبنية على التصور أعلاه. لذلك، فقد أخضعت لها كلّ التمثلات والقيم، وضمنها حتماً قيمة الحرية. الحرية في نظر هذه الحركات، لا تعني حق الإنسان في الاختيار، بل ضرورة خضوعه للتكليف، وعمل كل شيء خير لصالح البشر، أي أن "يعمل على تذويب خصوصيته وفردانيته في الكل الجمعي المسلم".

صحيح، تقول أدبيات هذه الحركات، إنّ الحرية في المفاهيم الرأسمالية حق طبيعي للإنسان، وللإنسان أن يتنازل عن حقه متى شاء، لكنها ليست كذلك في مفهومها الإسلامي، لأنّ "الحرية في الإسلام ترتبط ارتباطاً أساسياً بالعبودية لله، فلا يسمح الإسلام للإنسان أن يستذل أو يستكين أو يتنازل عن حريته"، لا بل عليه أن يتقيد بتعاليم الإسلام وشريعته في ممارستها، وإذا ما حاول تغيير دينه، عبر قناعة يتحجج فيها بالحرية، فيستتاب، وإذا لم يقبل، ينفذ فيه حق الردة. بالمقابل، فإنّ حرية الاعتقاد في الإسلام مكفولة لأصحاب الكفر الأصلي الذي ولدوا عليه، كاليهود والنصارى والمجوس والملحدين. "أما من أسلم وقضى في الإسلام زمناً يظن معه إدراكه لحقائق الإسلام، فهذا إذا ارتد عن الإسلام لا يترك وشأنه، بل لا بدّ من مساءلته ومعرفة سبب ارتداده، فإن كان بشبهة غامت عليه بصّرناه، وأزلنا شبهته، فإذا أصر على ارتداده طبّق عليه حد الردة"، إذ لا حرية تعاكس تعاليم الشريع، تقول أدبيات الحركات نفسها.

أمّا بخصوص موقف الدين الإسلامي من موضوع الديمقراطية، فقد اختلفت الآراء كثيراً في ذلك؛ فبعض الباحثين يقولون بإقرار الإسلام للديمقراطية والمشاركة في السلطة والحكم، بالمفهوم المعاصر للديمقراطية، والبعض الآخر يخرج بنظرية توائم بين التفسيرين، والبعض الآخر يرفض الديمقراطية رفضاً قاطعاً ويسوق نظام الشورى الإسلامي بديلاً لها.

لكنّ الرأي الراجح بين العديد من الباحثين والعلماء المسلمين هو أنّ الله لم يشر إلى نظام حكم محدد في القرآن، وكذلك لم يفعل النبي محمد في الأحاديث المتواترة عنه. لذلك "فإنّ الحكم والإدارة وتسيير شؤون الحياة العامة والعلاقات مع الخارج، يحددها الناس/الشعب، وليس رجال الدين، بالاستناد على النصوص المختلف عليها. الحكومة أمر مفوض للناس، والدين قد رسم القواعد الكلية والضوابط العامة للنظام السياسي، إلا أنّ تحديد ما يناسب هذه الأمور أو ما لا يناسبها موكول إلى الناس، كما أنّ قيام الحكومة واستمرارها يتبعان إرادة الناس ورغبتهم".

ومع ذلك، فإنّ حركات الإسلام السياسي تعتبر أنّ المقارنة بين النظامين الإسلامي والديمقراطي، هي في الأساس مقارنة ظالمة وغير جائزة، "لأنّ الإسلام هو دين وعبادات، بينما الديمقراطية هي نظام حكم يحمل إرثاً كبيراً تمّ تطويره وتوسيعه على مدار قرون طويلة. ومن هنا فإن الإسلام يُظلم مرّتين: مرة عندما يقارن بالديمقراطية، ومرة عندما يقال إنه ضد الديمقراطية، إذ المقارنة بين الاثنين خاطئة، وادعاء التنافي خطيئة".

بالتالي، فإنّ هذه الحركات في معظمها، ترفض فكرة الديمقراطية وترى فيها تعارضاً مع النظام الإسلامي ومبادئ الشريعة والحاكمية لله، إذ مبدأ الأكثرية مثلاً، الذي ترتكز عليه فكرة الديموقراطية، لا يستطيع أن يعطل أيّ حد من حدود الله، ولا إلغاء الحاكمية لله، ولا إبطال الولاء للحاكم الذي يطبق الشريعة ويلتزم بها.

3- أما في النموذجين العمليين اللذين اتخذ منهما الكاتب مثالين في تعامل الإسلام السياسي مع انتفاضات الربيع العربي، فيسوق حالتي تونس ومصر:

* في حالة تونس، يلاحظ الباحث أنه لا يمكن فصل خطاب حركة النهضة عن شخصية رئيسها راشد الغنوشي، والذي بات يقدّم نفسه كوجه حضاري للحركة الإسلامية الأصولية الأقوى في تونس. "فالرجل وضع أساساً واضحاً وبرنامجاً ذكيّاً، كبح من خلاله جماح رفاقه في الإسراع إلى كرسي الحكم والسلطة، وهو يراعي التوازنات الداخلية والخارجية، ويريد التغلغل بشكل بطيء، لكنّه سلس ومنهجي، في مؤسسات الدولة والنيل من الدولة العميقة التي كانت مؤيدة لعشرات السنين لزين العابدين بن علي ونظامه من الداخل. والغنوشي يستفيد من التطورات في البلدان العربية المجاورة ومراقبة تجارب أقرانه من الإسلاميين، وردود فعل المجتمعات العربية والقوى الداخلية والخارجية تجاههم".

ما يسترعي الانتباه في خطاب الغنوشي هو حجم "الاعتدال" الذي طرأ عليه، وخصوصاً بين "الأسس النظرية" للإسلام السياسي، والتي كان يطرحها في كتبه ومقابلاته وتصريحاته، وبين "التطبيق العملي" كحركة سياسية يقودها، ومضطرة للتعامل مع تطورات المشهد السياسي التونسي المتغير. إنه يحاول إيجاد قطيعة مع آراء سابقة له، وصفت بالمتطرفة حول دولة الشريعة والحاكمية لله، ويصور نفسه معتدلاً ومتأثراً بتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا.

لذلك، نجد في خطاب حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي، أنّ ثمة ميلاً واضحاً "لتطبيق مبادئ الديمقراطية والحرية، وهو ما يتناغم مع مطالب الجماهير التي ثارت على بن علي وحطمت نظامه، لكن بشرط ألا يتعارض هذا التطبيق مع الشريعة وتوق جمهور الحركة وأنصارها لتطبيق النظام الإسلامي، ومحو القوانين التي سنّها نظام بن علي بشكل تعسفي".

استنتج الغنوشي، وهو في قلب الحراك الشعبي (وقد صرّح بذلك قبل عشرين سنة من الربيع العربي)، أنّ "الديمقراطية هي أفضل وسيلة لمواجهة الأنظمة الديكتاتورية، وأنها أكثر جدوى من الدعوة إلى الجهاد أو تطبيق الشريعة". لذلك فقد كان لتجربة الإسلام السياسي في تونس معناها الخاص.

* أمّا في مصر، فيلاحظ الكاتب أنّ الصورة فيها تختلف عمّا جرى في تونس. فقد تردّدت جماعات الإسلام السياسي، وبشكل خاص جماعة الإخوان المسلمين الأقوى والأكثر تنظيماً وحضوراً، تردّدت كثيراً منذ بدايات الانتفاضة ضد حكم حسني مبارك إلى حين إعلان هذا الأخير تنحيه عن السلطة. والواضح أنّ "الجماعة لم تكن تظن بأنّ نظام مبارك والمؤسسات المتجذرة التي وطدها حزبه في بنية الدولة سوف يرضخ سريعاً لبعض المظاهرات، فيلجأ إلى الإصلاح، ناهيك عن الاستقالة والرحيل. لذلك كانت الجماعة حذرة في التعامل مع التطورات. ومن هنا وعلى الرغم من أنّ جماعة الإخوان المسلمين بقيادتها وشبابها، كانت أكثر ضحايا قمع النظام، فإنّ موقفها من إعلان يوم 25 كانون الثاني/ يناير لحظة بدء التغيير، قد شابه كثير من التردد والاضطراب. فصدرت عنها تصريحات شفهية تتحفظ على المشاركة، وأخرى تعلن أنّ الجماعة لم تتلق دعوة إلى المشاركة، وأنها ما زالت تدرس الوضع، وثالثة تعلن أنّ المشاركة ستكون عبر بعض القيادات، وأنها لن تمنع شباب الجماعة من النزول إلى التظاهر؛ أي أنها لن تطلب منهم المشاركة" أيضاً. وقد اكتفت بالنهاية بإصدار بيانات تطالب النظام بالإصلاح والخضوع لمطالب الجماهير، مبتعدة عن التصعيد والخطاب الناري المطالب برحيل النظام أو محاكمة مبارك وأعوانه، مثلما كانت المظاهرات بالميادين تطالب بذلك.

لكنّ المثير للانتباه هو قرار الجماعة تأسيس حزب سياسي "أريد له أن يكون واجهة الجماعة وأداتها الديمقراطية من أجل تطبيق مشروع الإخوان في أسلمة الدولة، حيث كانت القرارات تأتي من هيئة الإرشاد وليس من مركزية الحزب السياسي. ممّا يعني أنّ المشروع الرامي لتشكيل الدولة الدينية وتطبيق الشريعة مطروح دائماً، وينتظر فقط الظروف الداخلية والخارجية الملائمة، وقد تعدّى ذلك إلى مشاركة الإخوان في انتخابات الرئاسة بمرشح إخواني، خلافاً للوعود السابقة بعدم تقديم مرشح تابع للجماعة، ومن ثم تسلم السلطة، إلى ساعة انقلاب العسكر عليهم".

ويزعم الكاتب هنا أنّ "الإسلاميين في مصر وعن طريق تشكيل الأحزاب السياسية، لم يكونوا مهتمين أصلاً بمطالب الناس في توزيع الثروة، وإحقاق العدالة الاجتماعية، وتوفير فرص العمل وضرب التفاوت الطبقي، لا بل في هذا المضمار كانت سياستهم ليبرالية ولا تختلف كثيراً عن سياسة النظام السابق. لكنّ كلّ الهم الحقيقي للإسلاميين كان منصبّاً بالدرجة الأولى على كيفية استلام الحكم والتأثير في بنية الدولة، وتوجيهها، ككل متماسك، إلى الهدف المنشود، وهو تطبيق الشريعة وإعلان الدولة الإسلامية".

ولذلك، وعلى عكس حزب النهضة الذي دعم منصف المرزوقي الناشط الليبرالي في مجال حقوق الإنسان، ليصبح رئيساً للدولة، في جزء من الاتفاق على المشاركة في السلطة، عمدت جماعة الإخوان المصرية إلى تقديم مرشحها الخاص للرئاسة. بمعنى أنه في حين لجأت الأولى إلى الاحتفاظ بتحالفاتها السابقة، وإنتاج الخطاب السياسي المطمئن بخصوص الشراكة مع حلفائها لتدبير وضع ما بعد الثورة، واقتسام السلطة بين المكونات السياسية المشكلة للتحالف، عمدت الثانية (مصر الإخوان) إلى الاستفراد بكل المشهد، وبدأت في سياسة إقصاء خصومها، واستهداف مؤسسة القضاء والتغلغل في بنية الدولة المصرية، في إطار مساعيها لتوطيد النظام الإسلامي وإقرار دولة الشريعة.

تبدو هنا حنكة حركة النهضة وتفهمها للواقع السياسي بعيداً عن الشعارات، "ولكن هذا لا يعني أنها تخلت بشكل استراتيجي عن خطابها في أسلمة الدولة، وتطويع المؤسسات بما يتناسب مع الشريعة الإسلامية. فلم يصدر عن الحركة وعن زعيمها الغنوشي؛ أي تصريح أو موقف يوحي بهذا التغيير الكبير، كلّ ما يُسمع هو كلام عام يتعلق بالمصلحة الوطنية والتنمية والديمقراطية ومستقبل تونس"...إلخ. ويبدو أيضاً عدم تمرس الإخوان ومبالغتهم في الاطمئنان لما بلغوه، والمزايدة على الآخرين فيما يخصّ الشرعية، مع سذاجة كبيرة وقصور أكبر في القراءة السياسية لحقيقة الواقع.

يختتم الباحث دراسته بأنّ مراقبة تصرف الحركات الإسلامية، وبشكل خاص جماعة الإخوان المسلمين (بتونس وبمصر تحديداً)، في مرحلة ما بعد التحولات الأخيرة في العالم العربي، تبين أنّ "سياسة هذه الحركات لم تكن موحدة، وكانت اللهفة إلى الحكم والاستئثار بالسلطة هي القاسم المشترك بينها. وكان الطابع السياسي هو الواضح، بينما غاب الطابع الدعوي وغابت أساليب الإعلام والنشر في سبيل الدعوة. ويبدو أنّ الاتجاه التواق إلى السلطة، والذي يعتبرها الهدف الأسمى والمنصّة القوية التي يمكن منها تطبيق أفكار الإسلام السياسي، وتطبيق الشريعة الإسلامية وأسلمة الدولة بالتالي، هو الذي خرج منتصراً، مع استثناء واضح في الحالة التونسية".

ويبين الكاتب أنّ الذي ظهر جلياً يؤكد أنّ "نموذج الديمقراطية الذي يناسب المجتمعات العربية التي تجري فيها الاحتجاجات الشعبية، هو ديمقراطية الشراكة الوطنية، التي تقوم على مبدأ التوافق الوطني الذي يوفر الفرصة لكل المكونات السياسية والفكرية المشاركة الحقيقية في صنع القرار، الأمر الذي يضعف حاجة القوى الوطنية للاستقواء بالعامل الخارجي ضد بعضها بعضاً، كما يقلل من فرص بعض تيارات الحركة السياسية للانفراد بالسلطة، سواء بالاستناد على الشرعية الانتخابية أو بالارتكاز على العنف".