ما بعد الإنسان: نقد جذري لعصر الذكاء الاصطناعي والشبكة السائلة والتفاهة

فئة :  أبحاث محكمة

ما بعد الإنسان: نقد جذري لعصر الذكاء الاصطناعي والشبكة السائلة والتفاهة

ما بعد الإنسان:

نقد جذري لعصر الذكاء الاصطناعي والشبكة السائلة والتفاهة

الملخص:

يقدم بحث "ما بعد الإنسان" نقدًا جذريًّا لعصر الذكاء الاصطناعي والشبكة السائلة والتفاهة، وتشخيصًا نقديًّا معمقًا للأزمة المتعددة الأوجه التي يعيشها الإنسان المعاصر في العصر الرقمي. يجادل البحث بأن التقاطع بين ثلاث ظواهر رئيسة - “التشيؤ” المعزز تكنولوجيًّا (تحول الإنسان إلى كائن-بيانات)، و“السيولة” المعممة (تفكك البنى الصلبة وعدم الاستقرار الدائم كما وصفها باومان)، و“نظام التفاهة” (هيمنة المتوسط والسطحي كما وصفه دونو) - يشكل ملامح واقعنا الراهن.

يستكشف البحث الجذور الفكرية لهذه الأزمة، بدءًا من نقد الحداثة الغربية وعقلها الأداتي، مرورًا بتشظي المعرفة وسيولتها في عصر ما بعد الحداثة (بالاستناد إلى ليوتار، نيتشه، فوكو، دريدا)، وصولًا إلى مفهوم “نهاية الاجتماعي” (تورين) والحاجة الماسة لـ“ثورة باراديغمية” (كون، تورين) لفهم التحولات الجذرية التي يقودها الذكاء الاصطناعي وعلوم الأعصاب والشبكة الرقمية (كاستلز).

في مواجهة هذه التحديات، يطرح البحث مفهوم “فتنة الروح” ليس كاستسلام، بل كيقظة نقدية وتمرد معرفي وأخلاقي ضد الاختزال والتسطيح، وسعيًا نحو “التماسك المعرفي” النقدي. يتتبع البحث تجليات هذه الأزمة في مجالات الحياة المختلفة (العمل، العلاقات، الثقافة، السياسة)، ويستعرض استراتيجيات المقاومة الممكنة، فردية وجماعية، بهدف فتح أفق لمستقبل إنساني يتجاوز التشيؤ الرقمي.

مقدمة:

نعيش في زمنٍ تتسارع فيه خطى التكنولوجيا بشكلٍ لم يسبق له مثيل، زمنٌ تذوب فيه الهويات الصلبة وتتحول إلى أشكالٍ سائلة ومتغيرة باستمرار، وتنتشر فيه السطحية كانتشار النار في الهشيم، بينما يتسلل شعورٌ عميقٌ بالاغتراب وفقدان المعنى إلى نفوس الكثيرين. يبدو العالم وكأنه لوحةٌ سرياليةٌ تتراقص فيها الظلال الرقمية على أنقاض اليقينيات القديمة، تاركةً الإنسان المعاصر تائهًا في متاهةٍ لا قرار لها.

ما طبيعة هذه الأزمة الوجودية التي تخيم على عصرنا؟ كيف انزلقت البشرية إلى هذا المنعطف الحرج حيث تتشابك خيوط التقدم التكنولوجي مع خيوط التيه الروحي؟

هل نحن حقًّا على أعتاب تحوّلٍ جذريٍّ يعيد تعريف مفهوم الإنسان ذاته وعلاقته بالمجتمع والكون؟ يطرح عنوان هذا البحث، “ما بعد الإنسان: نقد جذري لعصر الذكاء الاصطناعي والشبكة السائلة والتفاهة”، هذا التساؤل الأخير ليس كإجابةٍ حتمية، بل كاستفزازٍ ضروري للتفكير، كدعوةٍ لفتح العيون على التحولات العميقة التي تجتاح واقعنا، والتي قد تقودنا إلى مستقبلٍ يصعب حتى تخيله.

لفهم هذه الأزمة المتعددة الأوجه، لا بد من تشخيص أعراضها الرئيسة التي تتجلى بوضوحٍ متزايد في حياتنا اليومية. يأتي في مقدمة هذه الأعراض مفهوم “التشيؤ” (Reification)، وهو ليس بالمفهوم الجديد؛ إذ تمتد جذوره إلى النقد الماركسي لصنمية السلعة، حيث تتحول العلاقات الاجتماعية إلى علاقاتٍ بين أشياء، ويُختزل الإنسان إلى مجرد ترسٍ في آلة الإنتاج. لكن التشيؤ يتخذ اليوم أبعادًا جديدة ومقلقة في العصر الرقمي؛ فمع هيمنة البيانات الضخمة والخوارزميات الذكية، يتحول الإنسان تدريجيًّا إلى “كائن-بيانات” (Data-subject)، مجموعة من المعلومات القابلة للقياس والتحليل والتحكم والتوجيه. إن التكنولوجيا الرقمية، بقدر ما تمنحنا من إمكانيات، فإنها تعزز أيضًا وبشكلٍ خفي عملية تجريد الإنسان من جوهره وتحويله إلى مجرد موضوعٍ قابلٍ للإدارة والمقايضة في سوقٍ رأسماليةٍ لا ترحم. يترافق هذا التشيؤ الرقمي مع ظاهرةٍ أخرى لا تقل خطورة، وهي “السيولة المعممة” التي شخصها زيجمونت باومان ببراعة في مفهومه عن “الحداثة السائلة”. في هذا العالم السائل، تتفكك البنى الصلبة التي كانت تمنح الاستقرار والمعنى لحياتنا – كالعمل الدائم، والعلاقات المستقرة، والهويات الثابتة، وحتى المعرفة اليقينية – لتحل محلها حالةٌ من عدم اليقين واللااستقرار الدائم. وتعمل “الشبكة السائلة”، البنية التحتية للعصر الرقمي، على تعزيز هذه السيولة، فتصبح العلاقات هشة، والالتزامات مؤقتة، والمعرفة متغيرة ومجزأة.

وفي خضم هذا التشيؤ المتزايد والسيولة الطاغية، تزدهر ظاهرة ثالثة هي “هيمنة التفاهة”، أو ما أسماه آلان دونو “نظام التفاهة” (Mediocracy). إنه ليس حكم الأسوأ بالضرورة، بل حكم المتوسط، حكم أولئك الذين يتقنون اللعبة ويجيدون التكيف مع النظام، حتى لو كان ذلك على حساب الكفاءة والأصالة والعمق. يتغلغل هذا النظام في مؤسساتنا، في خطابنا العام، وفي ثقافتنا، وتعمل الثقافة الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي، بأدواتها الخوارزمية التي تفضل الشائع والمبسط، على تعزيز هذه السطحية والتفاهة بشكلٍ غير مسبوق. الأهم من ذلك، أن هذه الظواهر الثلاث – التشيؤ والسيولة والتفاهة – ليست منفصلة، بل هي متشابكةٌ عضويًّا، تتفاعل وتغذي بعضها البعض، لتشكل معًا ملامح الأزمة المعقدة التي يعيشها الإنسان المعاصر.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا