الخارق للواقع... حين ينكشف الظلام!!


فئة :  مقالات

الخارق للواقع... حين ينكشف الظلام!!

الخارق للواقع... حين ينكشف الظلام!![1]

بقلم: ماجد مرشد

 من المعلوم أن مقاربة دلالية لمفهوم الخارق للواقع، لا يمكن أن تختزل بنصّ، أو أن يُعبّر عنها بكلمات، وذلك لأن الخارق للواقع لم يشكل جنساً أدبياً، بمفاهيم ومصطلحات دلالية، تضمّ الكم الهائل والمتنوع من القص والسرد، الحامل لما يمكن تسميته بالغرائبي أو العجائبي أو الخارق للواقع، عبر قرون طويلة. وإن عدّه البعض من الباحثين جنساً، تحت مسمّى "العجائبي" أو "العجائبية"، خلط آخرون بين تجنيسه ودلالته؛ ففي التوصيف لديهم بدا جنساً أدبياً، وفي التطبيق النصي تعاملوا معه كمظهر وأسلوب.

مما لا شكّ فيه، أنه لم يكتب الكثير عن الخارق للواقع، في النقد الغربي والنقد العربي على السواء، وإن كان هناك من أفرد له بحثاً كاملاً، وسعى ليجعله متكاملاً، كرسالة ماجستير أو رسالة دكتوراه، وبعض البحوث المتفرقة، المنشورة هنا وهناك؛ لذلك كثيراً ما يكرر، بكثير من التشديد، على أنه يستحيل تعريفه أو تصنيفه، لأنه مسعى غريب ذلك الذي يقتضي كلاماً طويلاً جدّاً، عن غرض أعلن مسبقاً عدم قابليته للتحديد.

وإذا قبلنا جدلاً بوجود جنس أدبي نسميه "الخارق للواقع"، أو "العجائبي" أو "الغرائبي" (كما يحلو للبعض تسميته)، فينبغي أن نقبل في الوقت ذاته، أن تقدم المؤلفات المصنفة تحت هذا العنوان فيما بينها وحدة حقيقية، ذات طابع دلالي وأسلوبي وبنيوي يمذهبها أو يجعلها تياراً مستقلاً، كالرومانسية أو الكلاسيكية أو تيار الوعي، أو أو... ولو وجدت هذه الوحدة، ينبغي أيضاً أن يكون ممكناً استخراجها، ورسم ملامحها الدقيقة، لتأخذ بيد النص- المنضوي تحت تسميتها- تحت جناحها... وإلا، فإن الحديث عن الخارق للواقع كجنس أدبيّ، أو تيار فكري، أو مذهب عقلي، يعود للكتابة على الهواء.

إن أولئك الذين جربوا ذلك قبلنا، وصلوا بشكل محتّم إلى طريق مسدود، أو وقعوا في الخلط، لأن المقاربة الأسلوبية، المؤسسة نظرياً، تصطدم في هذه الحالة المحددة بمشكلات كثيرة يصعب التغلب عليها، أو معالجتها، وهذا ما سنحاول إيضاحه في السطور الآتية ما أمكن، لأن هذا المبحث يحتاج إلى كتابٍ، ولا يكفيه بحثاً في صحيفة.

ما الخارق للواقع؟

لعل من المفيد أن نوجز بسطور قليلة، معنى الخارق للواقع، كمفهوم وليس كجنس، وأهمّ تمظهراته في الأعمال الأدبية، لنسهّل على القارئ فهم النماذج المدروسة، ومتابعة المظاهر الخارقة للواقع من جهة، ومن جهة أخرى، معرفة الأسباب التي تحول دون تصنيف الخارق للواقع جنساً أدبياً قائماً بذاته.

نستطيع أن نقول: إن كل مظهر أو تصوير أدبي، أو سرد دلالي، يتجاوز الواقع القائم، ليصف غيبيات أو أساطير أو غرائب، أو عجائب، لا وجود لها إلا في خيال كاتبها، أو في الخيال الجمعي؛ كالوحوش الأسطورية، ومصاصي الدماء، والتقمص، والجنّ، والإلهيات والغيبيات، وصولاً إلى الخيال العلمي... يمكن أن يُصنف تحت مفهوم، الخارق للواقع، أو العجائبي.

الدكتور "عبد الهادي صالحة"، عرّف الخارق للواقع بأنه: "مؤلف مبني حول موضوع بروز اضطراب وتشويش ما مفاجئ في عالم الواقع المألوف والعقلاني. ويترافق هذا الاضطراب مع الشك الذي غالباً ما يشترك فيه القارئ والشخصية، والذي يبقى دائماً ومستمراً على طول القصة حول طبيعة هذا الاضطراب والتشويش. وهذا العنصر المشوش يمكن أن يكون شبحاً، أو ميتاً حياً، أو تمثالاً يتحرك، أو قريناً، أو أيّ عنصر ما فوق طبيعي".[2]

في حين يعرف "بيير كاستيكس" الخارق للواقع في الأدب بأنه "الشكل المبتكر الذي يأخذه العجيب عندما يستحضر الخيال، بدلاً من تحويل فكرة منطقية إلى أساطير، الأشباح التي يصادفها أثناء شروده المنعزل، هذه الصور ليست سوى تمثيلات مختلفة للشيء ذاته. إن العنصر المشوش لا يحتاج إلى أن يكون منشؤه من عالم ما فوق طبيعي، ولا حتى أن يكون خارجاً عن الشخصية؛ يمكن أن يشكل مع الشخصية كياناً واحداً".[3]

وهناك من يفصل بين العجيب المدهش القائم على الخرافة والمعتقدات اللاعلمية، وبين الخارق للواقع القائم على البحث عن مفهوم جديد في الحياة، فرضه الواقع المتطور، والاهتمام بتاريخ الحضارات والأديان، الذي غير بعمق المفهوم الذي يحمله الإنسان عن نفسه، فجعل الخارق للواقع يرتبط بواقع اجتماعي ثقافي خاص وحقيقي، استمد شرعيته ونظم تفكيره وطروحه من واقع مجتمعات أواخر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، خاصة في أوروبا، حين انتشر العلم وسيطر العقل وظهر تراجع ملحوظ بالإيمان الديني، حيث انتظم فيها العالم حسب قوانين وقواعد مفهومة، وثابتة، تنطلق من غزو ما فوق الطبيعي للعالم المنظور، حين انتصرت الوضعية العلمية، من نظريات داروين التطورية، والاكتشافات الفلكية والفيزيائية، ومذهب شوبنهور الفلسفي، ونظريات التحليل النفسي حول اللاوعي والأحلام والهذيان والعبقرية والعامل الوراثي والتنويم المغناطيسي، ومن بنية الذرة إلى الكهرباء والفيزياء والعلوم الحديثة، وابتداءً بالأحياء والجمادات وليس انتهاءً بالمجرات والأفلاك، "حيث يفسر فيه كل شيء بالعقل: من حركة الذرات حتى حركات الكواكب، مروراً بحركات القلب والفكر".[4]

ويرى البعض، أن العجائبية لم تتبلور في الأدب إلا منذ القرن الثامن عشر "ونحن إذ نقرأ في الآداب العالمية، نجد أن من أهم المراحل التأسيسية للرواية؛ مرحلة الرواية العجائبية، وهي خليط من الواقع والخيال والمستقبل والماضي، وحكايات التراث الشعبي المشبعة بالسحر والمغامرات والخرافات والأساطير. وقد بدأت طلائع التأليف في هذا اللون من الأدب، في فرنسا وإنجلترا وألمانيا خلال القرن الثامن عشر ردّاً على غلاة العقلانية".[5]

لكنها كانت موجودة قبل ذلك بكثير، "فالعجائبية من حيث هي شكل من أشكال القص قديمة، استهلكها التراث العربي منذ زمن في المدون منه والشفوي. فلا ينكر عاقل الكم الهائل من العجائبي الذي احتوت عليه حكايات "ألف ليلة وليلة" التي تزخر بقصص أسفار السندباد، وما تحمله من الحديث عن المخلوقات العجيبة والكائنات الخرافية والأماكن الأسطورية التي وطأتها أقدام السندباد.

أما من حيث هي مصطلح نقدي فهي جديدة، تلتصق التصاقاً وثيقاً بالخوارق، هذه الأخيرة التي تعمد العجائبية إلى جعلها طوع الأجواء السردية".[6]

ويرى آخرون، أن من كبار مؤسسي الخارق للواقع: هوفمان، ‏ وتيوفيل غوتييه، وبروسبير ميريمي، وإدغار آلان بو، وشارل نودييه، وغي دو موباسان، وبرايم ستوكير، وهنري جيمس، ولوفير كرافت، وفرانز كافكا..... ممن دشنوا أدباً فانتاستيكياً جديداً متجذّراً في الخيال، ويقوم على بناء لعبي للحبكة، يتجاوز قوانين السببية الزمانية والمكانية، ويختلط فيه الموضوعي بالذاتي، يقوم على توظيف الأساطير لتفسير الحالات النفسية الخاصة.‏

لكن الخارق- على قول تودوروف- ليس له وجود قائم بذاته، بل هو إحساس لا يدوم سوى الوقت الذي يستغرقه تردد القارئ بين التفسير العقلاني والتفسير الغيبي... وحين يستقر على أحد الرأيين، يخرج من الخارق ويدخل نوعاً مجاوراً له هو الغريب أو العجيب.

ولعل الأعمال الأدبية التي توسّلت أو تناولت ما هو خارق للواقع، من الكثرة بمكان، إذا ما اعتبرنا حكايات الشعوب القديمة، وأساطير العوالم القديمة (ما بين النهرين، الفراعنة، الإغريق، الرومان، الهند، الصين، الأفريقية، الأميركية...) وحتى الكتب الدينية بما تحتويه من غيبيات... كلها مظاهر خارقة للواقع أو عجائبية. قد يكون الإهمال الذي ما يزال يخضع له هذا المفهوم، كبيراً لدرجة أنه يصعب أحياناً الحصول على النصوص الأدبية أو النظرية، التي يمكن تصنيفها على أنها تنتمي إلى هذا المفهوم؛ من ترجمات تقريبية، طبعات نقدية، كتب نافذة... وقد لا تنتهي من تعداد العقبات التي تظهر لكل شخص يرغب بالتعمق حول هذا الموضوع.

في المقابل، إن فحصاً منهجياً لمدونة واسعة، بما فيه الكفاية، يجب أن يسمح بتهيئة بنية شكلية تقدم بشكل ما، بياناً محدداً وعملياتياً، لكل القصص الخارقة للواقع دون استثناء. وهذه، البنية، حسب كلام "تشومسكي": تشكل البنية الشكلية لأجل الدراسة العميقة، التي تبحث في تجنيس المفهوم.

وبرأي جويل مالريو، "يستند الخارق للواقع إذن، على اختراق ما فوق الطبيعي في اليومي الرتيب، هذا الاختراق المدرك حسياً كخرق للقوانين العامة التي يستند عليها المجتمع والطبيعة والعالم. بينما في العجيب، ليس هناك عقبات لبروز جني أو جنية أو لتدخله في حياة البطل: فهذا أمر منتظر. هذه الشخصيات تشكل جزءاً من العالم العجيب، ولها مكانها فيه. نحن في عالم "كان في ماضي الزمان". البطل هو الإنسان الذي يسكن على تقاطع شارعين، البطلة هي المرأة التي صادفها في متجر كبير".[7]

في الوقت ذاته، إن البنية الشكلية للقصة الخارقة للواقع، مثل بنية أيّ شكل تعبيري آخر، لا تنفصل عن حالة معينة من المعارف، ومن التقنيات، ومن النظم الاجتماعية، والذهنيات، في بلدان معينة، لعصور معينة، فالبنية هي تعبير عن نمط فكري خاص.

في السرد والتشكيل:

يتفق معظم من نظروا للرواية على أنها عمل سرديّ نثريّ تخييلي، ذو طول محدد، "ينشأ عن فنّ السرد، الذي هو إنجاز اللغة في شريط محكيّ يعالج أحداثاً خيالية في زمان معيّن، وحيّز معيّن، تنهض بتمثيله شخصيات"[8]، يشكّلها المؤلف ويرسم ملامحها، ومن خلالها "يقدّم لنا أحداثاً تشبه أحداث حياتنا اليومية، ويحاول أن يضفي عليها مظهر الواقع بقدر ما يستطيع، مما يصل به إلى درجة الخداع، كما يقول "دانيال ديفو"، لكنّ ما يرويه الروائي لا يمكن التحقق من صحّته، ومن ثمّ ما يقوله يتّخذ مظهر الحقيقة فقط... وفي حين تعتمد الحكاية الحقيقية دائماً على وقائع خارجية واضحة، فإن الرواية تختلق الأحداث التي ترويها لنا، ولا يمكن أن نطبّق عليها الوقائع الخارجية الفعلية، ولهذا فالرواية هي أفضل الأجناس الأدبية لدراسة كيفية تحوّل الواقع إلى خيال، وهي تعتبر بحقّ مختبر السرد الروائي للأحداث".[9]. أما بما يختص بالسرد العجائبي، فيرى الدكتور عبد القادر عواد[10] أن سردية العجائبي تعدّ أحد أبرز الأشكال والصيغ المستحدثة حكائياً في تقديم نص الحكاية، والتعبير عن تجاوز تخوم الأطر التقليدية النمطية للحبكة السردية، ومن ثم تثوير المتخيل وتخصيب مظاهر الحكي داخل الأشكال الروائية المعاصرة عامة والعربية خاصة. وأن الأسلوب العجائبي اغتدى نمطاً تعبيرياً تجريبياً، تمّ اللجوء إليه كآلية سردية طافحة بسحر التخييل والغرابة، للتعبير اللا واقعي واللا مألوف عن الواقع ومعارضته دون إلغائه، وإنما صياغة البدائل في موازاته، وكأنه نوع من التشييد لعالم مفقود أو مأمول في الواقع المعيش.

ويرى أيضاً، أن علاقة الصيغة العجائبية في الرواية العربية، وفي الواقع المعبّر عنه داخلها، هي علاقة جدلية تجسد مظاهر الخصوصية في أصالتها ومرجعياتها الحكائية المتعددة، المستمدة من مخزون التراث الإنساني عموماً والعربي خصوصاً؛ غير أن البحث عن تبيّن وتحديد مقومات هذا العجائبي وإحالاته ومواطنه ومصادره وكيفيات اشتغاله وتوظيفه وآليات تشكيله في الخطاب السردي، ولا سيما ما يتصف به هذا النمط من تعدد في المفهوم وانفلات في التعريف، والتباس في الاصطلاح والدلالة والتداخل مع مفاهيم ومصطلحات أخرى... إن هذا البحث أسهم في إفراز الكثير من الغموض والتداخل والخلط على مستوى التلقي تنظيراً وإجراءً. ولعل هذا أحد أهم بواعث الانشغال بموضوع العجائبي في الرواية العربية.

في حين ترى الدكتورة "بهاء بن نوار"، أن الرواية العربية المعاصرة عموماً قد وصلت، بعد مراحل كثيرة ومكابدات طويلة، إلى تبنّي سردية جديدة، تكسر الأطر الثابتة والمنطق السكوني الرتيب، "لتتجسّد بشكل حضور كتابيّ مختلف، متعدد الإيحاءات، لا نهائيّ القراءات، يستدعي كثيراً من التأويلات والتفسيرات، ويحفل ببعد انفتاحيّ عميق، يستثير دهشة المتلقي وفضوله، ويوقظ في ذهنه كثيراً من الأسئلة والإشكالات".[11]

ولعل ظاهرة العجائبية غدت تشغل الحيز الأكبر من تلك الفضاءات والمضامين، في الرواية العربية المعاصرة، حيث لم يعد الروائي يكتفي بنقل مرجعيات الواقع الخارجيّ بشكل حرفيّ، ولا بمطابقة وصف شخوصه مع نسخ من شخوص الواقع، بما يعتمل في دواخلهم من نوازع الخير والشر، ولا بمطابقة أزمنة وأمكنة روايته مع أزمنة وأمكنة الحياة نفسها. لقد غدا الروائيّ مجنّح الخيال، جامح الإسهاب، ينقلب على الواقع بتصوير كل ما لا يمكن أن يقع فيه، من أحداث عجائبية مثيرة، وفسحات زمانية ومكانية غريبة، وشخوص لا تقل عن ذلك غرابة، بعضها محمّل بكثير من الطاقات والقدرات السحرية الخارقة، وبعضها الآخر مشوّها وممسوخاً للدلالة على الواقع بأقنعته الممعنة في البشاعة والثقل، ورغم أن تصويره خياليّ، لكنه واقعيّ أيضاً وممكن الحدوث.

ومما لا شك فيه، أن سردية العجائبي "واحدة من أبرز الأشكال الجديدة للتعبير، والتي يتجاوز بها المبدع حدود الإطار التقليدي. وقد وصف العديد من الدارسين الرواية بأنها عبارة عن كتب عجائبية تتضمن قصص الحب والفروسية، أو هي عبارة عن حكايات تخييلية لمختلف المغامرات الخارقة أو الممكنة في حياة الناس... وللعجائبي في الرواية العربية استعمالات؛ فربما كان عنصراً من عناصر السرد في الرواية، للسخرية من الواقع، أو عبارة عن بنية كاملة تتحكم في النص كله".[12]

أما الأساليب التي اقترنت بالتجريب والممارسة الحداثية في الرواية المعاصرة، فمن أهمها "أسلوب الأسطوري والعجائبي المرتبط بالغرابة والإثارة، وبفن الخيال الذي لا تحدّه حدود. وقد نبع هذا الأسلوب في الحكي من الحاجة إلى لغة مختلفة، تخرق عوالم اللامعقول، لأن الكتابة بلغة عجائبية أسطورية هي رؤية مغايرة للأشياء، متشبعة بروح المغامرة والغرابة، والتأرجح بين الواقع والتخييل".[13]

وترى الدكتورة "أوريدة عبود"، أن توظيف العجائبي في الرواية المعاصرة يهدف إلى "إدخال القارئ إلى عوالم تخييلية غير مألوفة، تجعله يسهم في إنتاج النص المقروء من جهة، ويعبر عن واقع وصل إلى أقصى درجات اللامعقول والعجيب من جهة أخرى. وهكذا تم خلق فضاء عجائبي بإطلاق الخيال إلى أعلى درجاته، استفزازاً للقارئ والتأثير فيه".[14]

وأما الأسطورة، فتتخذ لديها (د. أوريدة) دلالة عميقة "عندما تتكثف اللغة، لتبعث معاني تكشف عن الهوية المتشظية وانعكاساتها في وعي المتلقي، وتكشف عن المشاهد المأسوية التي تبلورها الرواية، عبر جدلية الواقع واللاواقع، فيتجلى الرمز الأسطوري في بنية الرواية ليفاجئ المتلقي، ويأتي بالغريب العجيب، ليؤكد السارد بذلك على الطريقة الهمجية والمتوحشة، في خلق أجواء مأساوية مرعبة. ويقوم (الرمز الأسطوري) على الامتداد الزمني الذي يبلغ العصر الأسطوري، وينطوي على معرفة وحساسية، تترسب دلالته القصوى في قاع بنية مبتكرة تجاوز الأنموذج المألوف، ابتغاء الكشف عن القهر والاضطهاد والمحنة العصيبة التي نعيشها".[15]

تصنيفات وكتب:

هناك من النقاد الغربيين من صنف بعض الأعمال عبر بضعة دراسات نقدية، تناولت مفهوم الخارق للواقع، وبعضها تحدّث عنه بإجلال وكأنه إعجاز يتربع على قمة الإدهاش والعبقرية[16]: الأنطولوجيا الضخمة للخارق للواقع Anthologie du Fantastique لــ J. Goimard غوامار وStragliati ستراغلياتي، ضمت تعداداً لمعظم الحكايات. بيير جورج كاستيكس Pierre – Georges Castex Le Conte fantastique en France de Nodier à Maupassant القصة الخارقة في فرنسا من نودييه إلى موباسان، 1951: تتضمن تحت باب خارق للواقع أناشيد مالدورور Les Chants de Maldoror للتريامون Lautréamont. مارسيل شنيدر Marcel Schneider تاريخ الأدب الخارق للواقع في فرنسا- 1964 Histoire de la littérature fantastique en France: يرى أن جذور الجنس توجد في العجيب المسيحي القروسطي. تزفيتان تودورف Tzvetan Todorov في: مدخل إلى الأدب الخارق للواقع Introduction à la littérature fantastique - 1970 - يقحم ألف ليلة وليلة Les Mille et une Nuits مقدماً لها بأنها السباقة. روجيه كايوا Roger Caillois أنطولوجيا الخارق للواقع- 1966 Anthologie du fantastique، يخلط قصصاً صينية من القرن الثالث.

لقد اختص أرسطو بالتراجيديا. أما الخارق للواقع، فلم يختص به أحد؛ ليس له منظّر، ولا مؤلف في بيئة مصطنعة، قد يستخدم كمرجع مطلق. لكن نودييه Nodier، بشكل خاص، كتب في 1830 بياناً حقيقياً "عن الخارق للواقع في الأدب" Du fantastique en littérature، أقام فيه التسلسل الممجد للكتاب الخارقين للواقع: غوته Goethe، دانتي Dante، وفيرجيل Virgile، وهوميروس Homère، وأهمل كتّاب الكتاب المقدس، والكتب الدينية الأخرى.

ولو حاولنا فهم الأسباب التي حدت بنودييه Nodier، لينسب للخارق للواقع أصولاً مماثلة ذات اعتبار ونفوذ، لخمّنّا أنه استسلم للبحث عن الأصول التي قد تحدد هذا المفهوم كجنس أدبي، إذ امتثل لمنهج علمي عام كان متّبعاً في القرن التاسع عشر. ولكن اليوم أيضاً، فإن كل تفكير حول الخارق للواقع والعجائبي، يصب في قالب على أطر مشابهة، يعيق فهم المسألة أكثر من أن يوضحها. فما بالك لو أدخلنا الخيال العلمي بأساليبه المختلفة، وشطحاته البعيدة والقريبة، وأخضعناه للتجنيس مع مفهوم الخارق للواقع أو العجائبي؟! كذلك الأدب الديني من قصص الأنبياء والغيبيات والتاريخيات وغيرها؟!

الدكتورة "بهاء بن نوار"، اعتبرت أن العجائبية "سمة بارزة من سمات التراث الحكائي العربي القديم- كما فعل تزفيتان تودوروف تماماً- ولا سيما حكايات ألف ليلة وليلة، ومجموع السير الشعبية، إلا أنها في الرواية المعاصرة تكتسب معانيَ جديدة مختلفة عن المعاني التراثية، (رغم أنها) تستقي مصادرها من هذا التراث العربي القديم، وكذا من التراث الغربي بنوعيه؛ القديم والحديث، وبمعنى أدقّ، يمكن القول إن العجائبية في الرواية العربية المعاصرة تستقي مصادرها، وتمدّ جذورها، في التراث الإنسانيّ كله؛ شرقيّه وغربيّه".[17]

في الخاتمة:

وختاماً، لا بد لنا من تبسيط بعض المفاصل، التي تضعنا على عتبة فهمٍ للصعوبات المواجهة للخارق للواقع، كجنس أو تيار أدبي مستقل. فبدلاً من تشبيه عدد معين من المؤلفات المعتبرة تقليدياً، خطأ أم صواباً، على أنها "خارقة للواقع"، مع تمثّل الفكرة المتوهّمة عن الجنس أيضاً، واستحالة استخراج النقاط التي توحد بينها... سنحاول تبسيط الولوج إلى تمظهر العجائبي والخارق للواقع في الأعمال المقاربة عموماً، حتى لا نصل إلى حدّ من التجميع العشوائيّ لمؤلفات عصورٍ مختلفة تماماً، انطلاقاً من اللحظة التي تقدّم بعض التشابهات السطحية، وتبدو أنها تقابل- قريباً أو بعيداً- الصورة المأمولة.

إن أية مقاربة للأدب العجائبي أو الخارق للواقع، لا بد لها من رصد صفة من صفات الخارق للواقع أو أكثر، في النص المتناول:

- الحدث العجائبي: تحرّك الأشياء من تلقاء نفسها، اشتعال النار وحدها، تغيّر صورة المكان فجأة، حوادث غير متوقّعة كالانتقال الخاطف، أماكن مسحورة، سماع أصوات مثيرة ومرعبة، سطوع أنوار مبهرة مفاجئة في العتمة، تحول الماء إلى دم، أحلام مزعجة، كوابيس....

- أدوات عجائبية: بساط الريح، التفاحة والطاقية، العصا السحرية، مكنسة المشعوذين، قبعة الإخفاء، الفانوس السحري، آلات خارقة، مراكب فضائية خارقة وصحون طائرة، أدوات مسحورة تحكي....

- الشخصية العجائبية: مصاص دماء، ملاك، جنّي، إلاه، شخص متقمّص، مارد القمقم أو الفانوس، رجل فضائي من مجرات أخرى، رجل متحوّل بأحد الأشكال الحيوانية، شخصية خرافية أو أسطورية بقدرات خارقة للواقع....

- اللغة والسرد العجائبيين: أسئلة المتن وأشكال الخطاب، سلطة الخيال كتضخيم صور الأشياء والوصف، مستويات اللغة والأسلوب، آليات حكائية تكسر النمط المألوف، سكونية السرد وقوالبه، الإيحاء والانزياح الدلالي، اللعب على الألفاظ والمفردات....

إن البحث في أيّ عمل أدبيّ، وتلمس صفة فيه أو بعض الصفات مما أشرنا إليه، لا يمنحه جنسية خاصة توسم بالعجائبي أو الخارق للواقع، بل لا تصنّفه في بوتقة خاصة، كرواية الخيال العلمي مثلاً، رغم تفاوت درجات منطقيتها وقبولها عقلياً، أو إمكانيات تحققها يوماً، رغم أن الهدف من كتابتها ليس السبق العلمي للمكوّن العلمي الواقعي، بل تتعدد الأهداف أيضاً وتختلف من عمل تخييلي لآخر.

ولعل الصورة التي قدّمها القرن التاسع عشر بشكل عام، والرومانسيون بشكل خاص، عن الخارق للواقع، ما زالت تتوسع أفقياً وعمودياً في الرواية المعاصرة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، سلسلة ستيفاني ماير[18] الكاتبة الأمريكية (مواليد 24 ديسمبر/ كانون الأول 1973)، التي اشتهرت بسلسلة مصاصي الدماء الرومانسية Twilight" الشفق"، ونالت رواياتها شهرة عالمية، حيث فازت بالعديد من جوائز الأدب، وباعت أكثر من 70 مليون نسخة على مستوى العالم، وحيث ترجمت إلى 37 لغة مختلفة، وأخرجت سينمائياً في عدة أفلام.

[1] ذوات العدد48

[2] د. عبد الهادي صالحة، مقال بعنوان "الخارق للواقع.. القلق الوجودي في الأدب"، الملحق الثقافي لجريدة الثورة السورية، بتاريخ 25/9/2012. http://thawra.sy/_print_veiw.asp?FileName=HYPERLINK "http://thawra.sy/_print_veiw.asp?FileName=3768176220120925085420"3768176220120925085420

[3] المقال نفسه.

[4] المقال نفسه.

[5] "العجائبية في أدب الرحلات.. رحلة ابن فضلان نموذجاً"، أطروحة لنيل شهادة الماجستير في الأدب العربي، إعداد الطالبة الخامسة علاوي، إشراف الأستاذ الدكتور حمادي عبد االله، جامعة منتوري- قسنطينة- الجزائر، السنة الجامعية 2005، موضوع البحث.

[6] الإحالة السابقة نفسها، موضوع البحث.

[7] جويل مالريو، الخارق للواقع، ترجمة الدكتور عبد الهادي صالحة، دمشق 2017، (قيد الطبع).

[8] د. عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، المجلس الوطني للثقافة، الكويت- كانون الأول 1998، ص 56

[9] مالكوم براديري، الرواية اليوم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ترجمة أحمد عمر شاهين 1996، ص ص 43- 44

[10] "العجائبي في الرواية العربية المعاصرة.. آليات السرد والتشكيل"، أطروحة مقدمة لنيل درجة دكتوراه في الأدب العربي باختصاص النقد المعاصر، إعداد الطالب عبد القادر عواد، إشراف الأستاذ الدكتور عبد القادر شرشار، جامعة وهران- الجزائر، السنة الجامعية 2011- 2012، المقدمة.

[11] "العجائبية في الرواية العربية المعاصرة مقاربة موضوعاتية تحليلية"، أطروحة مقدمة لنيل درجة دكتوراه في الأدب العربي، إعداد الطالبة بهاء بن نوار، إشراف الأستاذ الدكتور الطيب بودربالة، جامعة الحاج لخضر- باتنة- الجزائر، السنة الجامعية 2012- 2013، ص3

[12] "العجائبي في الرواية الجزائرية المعاصرة.. رواية نصف وجهي المحروق نموذجاً"، أطروحة مكملة لنيل شهادة الماستر في الأدب العربي، إعداد الطالبة الياقوت بن سيدهم، بإشراف الأستاذ الدكتور عثمان مقيرش، جامعة محمد بوضياف- المسيلة- الجزائر، السنة الجامعية 2014- 2015، ص18

[13] تزفيتان تودوروف، مدخل إلى الأدب العجائبي، ترجمة الصديق بوعلام، دار الكلام، ط1، الربـاط 1993، ص5

[14] د. أوريدة عبود، توظيف الأسطورة في الرواية الجزائرية المعاصرة، مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية- العام الثالث- العدد 19مايو 2016

[15] الإحالة السابقة، د. أوريدة عبود.

[16] جويل مالريو، إحالة سابقة.

[17] إحالة سابقة، د. بهاء بن نوار، ص4.

[18] ستيفاني ماير، موسوعة ويكيبيديا الحرة.