السنّة في العرف الإسلامي العامّ


فئة :  مقالات

السنّة في العرف الإسلامي العامّ

السنّة في العرف الإسلامي العامّ

لقد استعمل العلماء كلمة (السنّة) منذ عصر الرسول الخاتم استعمالاً أخصّ من الاستعمال اللغوي عند العرب؛ فقد قصَروا الطريقة فيها والسيرةَ على طريقة رسول الله وسيرته في الدين، باعتباره صلّى الله عليه وآله جاء بدين يبلّغه عن الله، وليس له سيرةٌ سيّئةٌ؛ لعصمته. فسيرته صلّى الله عليه وآله هي سنّته التي أمر الناس باتّباعها في إطار الشرع، لا في إطار المعنى اللغويّ العامّ[1].

فالمعنى المراد للسنّة: هو طريقة الإسلام، والهدي النبوي، والطريقة المشروعة المتّبعة في الدين، والمنهج النبوي الحنيف، ومنه قولهم: فلانٌ على السنّة، وقولهم: سنّةٌ وبدعةٌ[2].

وتطلق السنّة على ما يُقابل البدعة؛ وذلك فيما يحدثه الناس في الدين من قولٍ أو عملٍ ممّا لم يؤثَر عن النبيّ، فيُقال: فلانٌ على السنّة، إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبيّ صلّى الله عليه وآله، ويُقال: فلانٌ على بدعةٍ، إذا عمل على خلاف ذلك.

1- السنّة في الاصطلاح

أ. في اصطلاح المحدّثين: بحث علماء الحديث في أحوال النبيّ الخاتم صلّى الله عليه وآله، باعتباره محلّ القدوة والأسوة في كلّ شيء، فنقلوا كلّ ما يتّصل به من سيرةٍ وخلقٍ وشمائل وأخبارٍ وأقوالٍ وأفعالٍ، ولذا فالسنّة عندهم هي: «ما أضيف إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو وصفٍ - سواءٌ أكان خَلقيّاً أم خُلقيّاً - أو سيرة»[3]. وهذا التعريف ليس تعريفاً قرآنيّاً ولا نبويّاً ولا ولويّاً، وإنّما هو تعريفٌ علمائيّ، لذا فهو خاضعٌ للقبول والرفض.

ب. في اصطلاح الأصوليّين: اتّفق الأصوليّون على أنّ المراد بالسنّة هو ما صدر عن النبي صلّى الله عليه وآله من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ، واختلفوا في مدلولها من حيث السعة والضيق.

فالشاطبي وغيره وسّعوها إلى ما يشمل الصحابة، حيث اعتبر ما يصدر عنهم سنّةً، ويجري عليه أحكامها الخاصّة من حيث الحجّية، بينما وسّعها أعلام الأصوليّين من مدرسة أهل البيت إلى ما يصدر عن الأئمّة الأطهار، فهي عندهم: كلّ ما يصدر عن المعصوم قولاً وفعلاً وتقريراً، ولا طريق لنا إلى الوصول إليها إلّا ما نقله الرواة والمحدّثون وأصحاب السيَر والمؤرّخون، ثمّ إنّه وقع كلامٌ بين الأصوليّين في أنّه هل السنّة هي المحكيّ بالخبر، أي: نفس قول المعصوم وفعله وتقريره؟ أم هي الروايات الحاكية لقول المعصوم وفعله وتقريره؟

مذهبنا هو الأوّل، وهو مختار الشيخ الأنصاري؛ لذا أرجع البحث عن حجّية خبر الواحد إلى البحث عن أحوال السنّة[4]. وذهب آخرون إلى الثاني؛ قال المولى محمّد كاظم الخراساني: «المراد من السنّة: الأخبار الحاكية عن قول المعصوم وفعله وتقريره»[5].

وبعبارة أخرى: بحث علماء الأصول في أحوال الرسول صلّى الله عليه وآله، باعتباره المشرّع الذي يضع القواعد للمجتهدين من بعده، ويؤصّل الأصول التي يستدلّ بها على الأحكام، فعنوا بما يتعلّق بذلك، وهي: أقواله وأفعاله وتقريراته؛ فالسنّة عندهم: «ما صدر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله - غير القرآن - من قول أو فعل أو تقرير، ويصلح أن يكون دليلاً لحكمٍ شرعيّ»[6].

ت. في اصطلاح الفقهاء؛ تطلق السنّة عند الفقهاء على معانٍ، منها:

الأوّل: كلّ حكم يستند إلى أصول الشريعة، في مقابل البدعة فإنّها تطلَق على ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنّة، وربّما استعملها علماء الكلام بهذا الاصطلاح.

الثاني: ما يرجّح جانب وجوده على جانب عدمه ترجيحاً ليس معه المنع من النقيض، وهي بذلك ترادف كلمة المستحبّ، وربّما كان إطلاقها على النافلة في العبادات من باب إطلاق العامّ على الخاصّ.

الثالث: قد تطلق السنّة عندهم ويقصد بها الطريقة المسلوكة في الدين من غير وجوب ولا افتراض، ونعني بالطريقة المسلوكة ما واظب عليه النبيّ صلّى الله عليه وآله ولم يتركه إلّا نادراً، فبالتقيّد بالمسلوك في الدين، خرج النفل، وهو: ما فعله النبيّ مرّةً وتركه أخرى، فهو دون السنن الزوائد؛ لاشتراط المواظبة فيها.

قال أبو هلال العسكري: «وإذا قلنا سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله، فالمراد بها طريقته وعادته التي دام عليها وأمر بها»[7]. وقال في رياض السالكين: «والسنن: جمع سنّة، وهي في اللغة: الطريقة مَرْضيّةً أو غير مَرْضيّة، وفي اصطلاح الشرع: هي الطريقة المسلوكة في الدين من غير افتراض ولا وجوب. فالسنّة: ما واظب النبيّ صلّى الله عليه وآله عليها مع الترك أحياناً. فإن كانت المواظبة المذكورة على سبيل العبادة سمّيت سنن الهدى، وإن كانت على سبيل العادة سمّيت سنن الزوائد. فسنّة الهدى: ما يكون إقامتها تكميلاً للدين، وهي التي يتعلّق بتركها كراهةٌ وإساءةٌ، كالجماعة والأذان والإقامة ونوافل الصلاة اليوميّة، وسنن الزوائد: هي التي أخذها هدى، أي: إقامتها حسنة ولا يتعلّق بتركها كراهةٌ وإساءةٌ، كسنّته صلّى الله عليه وآله في قيامه وقعوده ولباسه وأكله»[8].

وقال الجرجاني: «السنّة في الشريعة: هي الطريقة المسلوكة في الدين في غير افتراضٍ ولا وجوبٍ. فالسنّة: ما واظب النبيّ عليها مع الترك أحياناً، فإن كانت المواظبة المذكورة على سبيل العبادة فسنن الهدى، وإن كانت على سبيل العادة فسنن الزوائد»[9].

ث- تعريف السنّة عند الحداثويّين

بعد عصر العولمة، وما يشهده من تقدّمٍ مذهلٍ في عالم الاتّصالات وعالم التواصل الفكري والثقافي، بات على العالم أن يلاحق ثقافة عصره، وإلّا تجاوزه المكلّفُ المثقّف إلى غيره؛ لأنّ شباب العصر - خصوصاً الجامعيّ منهم - أضحى يملك ثقافةً عاليةً أضفتها عليه مطالعاته والظروف الزمكانيّة التي يعيشها، وهذا يُلزم العالِم أن يلمّ بجزئيّات ما يُطرح على الساحة الثقافيّة والفكريّة، حتّى يستطيع مخاطبة شباب العصر.

انطلاقاً من هذه الحقيقة، نمرّ على بعض تعريفات الحداثويّين - المعاصرين - للسنّة.

الأوّل- تعريف محمّد شحرور:

لقد مهّد في تعريفه بتخطئة ما اصطلح عليه العلماء في تعريفهم للسنّة النبويّة المطهّرة، بقوله: «ومن هنا يأتي التعريف الخاطئ برأينا للسنّة النبويّة، بأنّها كلّ ما صدر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله من قولٍ، ومن فعلٍ، أو أمرٍ، أو إقرارٍ»[10]. وكان سبب رفضه لتعريف السنّة بحجّة أنّ: «هذا التعريف للسنّة ليس تعريف النبيّ صلّى الله عليه وآله نفسه، وبالتالي فهو قابلٌ للنقاش والأخذ والردّ»[11]، ويؤكّد ذلك مرّةً ثانية بقوله: «إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصحابته لم يعرّفوا السنّة بهذا الشكل، وتصرّفات عمر بن الخطاب تؤكّد ذلك، مع العلم بأنّ أسس التشريع الإسلامي هي الكتاب والسنّة، وهذا صحيح، ولكن ليس الكتاب والحديث». ثمّ يصرّح بأنّ: «هذا التعريف كان سبباً في تحنيط الإسلام»، وينتهي بتعريفه للسنّة، بأنّها: «منهجٌ في تطبيق أحكام أمّ الكتاب بسهولةٍ ويسر، دون الخروج عن حدود الله أو أمور الحدود، أو وضع حدودٍ عرفيّةٍ مرحليّةٍ في بقيّة الأمور، مع الأخذ بعين الاعتبار عالَم الحقيقة الزمان والمكان والشروط الموضوعيّة التي تطبَّق فيها هذه الأحكام، معتمدين على قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البَقَرَة: 185]، وقوله: {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحَجّ: 78]»[12]؛ فهو يجعل القرآن الكريم هو الأصل، أمّا السنّة، فهي تطبيق ما ورد من القرآن في حياة الناس بسهولةٍ ويسرٍ؛ للآيتين السابقتين، وهذا يحتاج إلى معرفة كيفيّة تطبيق رسول الله القرآن في حياة الناس. وقد برّر اعتماده على الآيتين السابقتين في فهمه للسنّة بقوله: «لأنّ السنّة جاءت من (سَنَّ) وتعني في اللسان العربي: اليسر والجريان بسهولة، كقولنا: ماءٌ مسنونٌ؛ أي: يجري بسهولة، وهذا ما فعله النبيّ صلّى الله عليه وآله تماماً، إذ إنّه مارس تطبيق أحكام أمّ الكتاب متحرّكاً ضمن حدود الله، وواقفاً عليها أحياناً، من خلال عالم الحقيقة النسبي الذي عاشه هو - لا نحن - ولم يكن في يوم من الأيام حالماً أو متوهّماً ولا مُطلِقاً». ويتابع شحرور قوله: «لذا فإنّ فعله صلّى الله عليه وآله في القرن السابع في شبه جزيرة العرب، هو الاحتمال الأوّل لتفاعل الإسلام مع مرحلةٍ تاريخيّةٍ معيّنةٍ، وليس الوحيد، وليس الأخير، حيث إنّه كان خاتم الأنبياء والمرسلين، ولا يمكنه أن يفعل إلّا هذا للحفاظ على حيويّة الرسالة والنبوّة إلى أن تقوم الساعة، وبما أنّ رسالته تقوم على الحدود فهو الرسول الوحيد الذي سُمح له بالاجتهاد؛ لأنّه الخاتم، ولكي يُعلّم الناس أن يجتهدوا لوحدهم من بعده، حيث إنّ الإسلام هو تشريعٌ إنسانيٌّ ضمن حدود الله»[13].

الثاني- تعريف الصادق النيهوم:

عرّف السنّة بأنّها: تعني الثبات في دورةٍ أبديّةٍ؛ أي: يتكرّر الأمر نفسه من دون تغيير، وإصرار الفقه على اعتماد السنّة النبويّة علميّاً، تكرار ما فعله النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم في القرن السابع عصراً بعد عصر، وجيلاً بعد جيل، بغضّ النظر عن ملاءمته للناس في واقع الحياة، وهي كارثةٌ أحاقت بالتشريع الإسلامي مبكّراً، وربطته بسنن الحياة البدويّة في صحراء العرب، وجعلته تقاليد سلفيّة موروثة، وقتلت في المسلم كلّ قدرةٍ على تحرير حاضره من الماضي، بما في ذلك أن يتخلّى عن عادةٍ بدائيّةٍ مقزّزةٍ، مثل قطع الأعناق بالسيف، والثابت أنّ القرآن لا يستعمل كلمة السنّة النبويّة، بل يستعمل سنّة الله؛ أي: فطرته التي فطرَ الناس عليها»[14]. فهو يرى أنّ المحدّثين الذين عرّفوا السنّة بالتعريف المتقدّم أورثوا الأمّة الإسلاميّة كارثةً أحاقت بالتشريع الإسلامي؛ لأنّهم ربطوا السنّة بسنن الحياة البدويّة في صحراء العرب، وقتلت في المسلم القدرة على تحرير حاضره من الماضي، فهو لم يستطيع أن يتخلّى حتّى عن قطع الأعناق بالسيف، التي تعدّ من العادات البدائيّة التي تنفر منها الطباع.

الثالث- تعريف حمّادي ذويب:

يقول: «إنّ المتأمّل في مادّة (سَنّ) يلحظ من خلال التعابير المتداولة لدى العرب تمحورها حول معاني الحركة والجريان والنشاط والفعل المنتج للحياة، لكنّ هذا المعنى هُمّش بالرغم من الأهمّية التي اكتسبها لدى المدارس القديمة قبل الشافعي من خلال مفهوم العمل الجاري أو السنّة الحيّة»[15]. ويؤكّد: «أنّ دالّ السنّة قد تحوّل من الحركة إلى الثبات؛ لاعتباراتٍ مذهبيّةٍ عقائديّةٍ ولغويّةٍ، تبدّلت أساساً من خلال التفاسير التي ثبّتت دلالة السنّة في معنى المعياريّة»[16]. ويعرض ذويب مفهوم السنّة على أنّه مفهومٌ تاريخيٌّ ونسبيٌّ صاغه الأصوليّون لأمورٍ معيّنةٍ؛ بقوله: «إنّ مفهوم السنّة الأصولي الذي غُلّف بالمقدّس وأصبح ضمن اللا مفكَّرِ فيه، لرسوخ اعتقاد الضمير الإسلامي في صحّته ومشروعيّته المتأصّلة في تعاليم الله، ليس إلّا مفهوماً صاغه الأصوليّون نتيجة مقتضياتٍ مذهبيّةٍ وتاريخيّةٍ معيّنةٍ، وهو بالتالي مفهومٌ تاريخيٌّ ونسبيٌّ لم يعرفه النبيّ ولا صحابته»[17]. وينتقد ذويب مفهوم السنّة بأنّه توسّع عبر الزمن ليشمل تقرير النبيّ صلّى الله عليه وآله؛ فلم يكن كذلك من قبل، ويتّهم العلماء بذلك قائلاً: «إنّ مفهوم سنّة النبيّ كان يدلّ لدى بعض الأصوليّين على أقوال الرسول وأفعاله، ثمّ أضيفت إليه في مرحلةٍ لاحقةٍ إقراراته، وهذا ما يبرز أنّ المفهوم كان يتوسّع مدلوله مع اطّراد إجرائه عبر الحقب»[18]، ثمّ يصرّح بتخطئة تعريف السنّة، بقوله: «لذلك ليس غريباً أن نجد في عصرنا من يصرّح أنّ هذا التعريف الأصولي للسنّة خاطئ، وأنّه كان سبباً في تحنيط الإسلام».

ويخرج بالنتيجة التالية: «إنّ الفهم السوسيولوجي للدين، يدعو إلى مراجعة مفهوم السنّة الأصولي، واعتباره مفهوماً نسبيّاً تاريخيّاً من صنع الفقهاء والأصوليّين»[19]. وفي نهاية كتابه، نجد ذويب يعتمد تعريف شحرور للسنّة نفسه ويعتبره: «أنموذجاً من المواقف التي تخبر عن اهتزاز مكانة السنّة الأصوليّة في نظر المفكّرين المُحدثين»[20].

2- مناقشة التعريفات المتقدّمة للسنّة

لم تكن التعريفات الثلاثة المتقدّمة تعريفاتٍ بالمعنى العلمي الذي ادّعاه أصحابها؛ لأنّ الحدّ يجب أن يكون جامعاً لأفراد المعرَّف، مانعاً من دخول غيرها فيه، بعيداً عن التطوال. وما ذكروه لم يكن جامعاً مانعاً، مضافاً إلى أنّها كانت طويلةً كما هو عند شحرور، أو كانت شرحاً لمعنىً كما عند زميليه.

ويمكن إجمال الإشكالات على تعريفاتهم بما يلي:

أوّلاً- مغالطتهم في المعنى اللغوي للسنّة

في حين يرى حمّادي ذويب أنّ المتأمّل في مادّة (سَنّ) يلحظ من خلال التعابير المتداولة لدى العرب تمحورها حول معاني الحركة والجريان والنشاط والفعل المنتج للحياة، وأنّ هذا المعنى هُمّش، أي: تحوّل من الحركة إلى الثبات؛ لاعتباراتٍ مذهبيّةٍ وعقائديّةٍ ولغويّةٍ رسّخها البعض باتّباعه المعياريّة والانتقاليّة لمعنى السنّة الذي يلائم غايته الأيديولوجية[21] نجد أنّ الصادق النيهوم خالف ذويب في معاني الحركة والنشاط المنتج للحياة، فقال: «إنّ كلمة (سنّة) تعني: الثبات في دورةٍ أبديّةٍ، وأنّ الأمر نفسه يتكرّر من دون تغيير»[22].

ونرى شحرور يقول: إنّ السنّة جاءت من سَنّ، وتعني: اليسر والجريان بسهولة[23].

وعلى كلٍّ فأيّاً كانت وسيلتهم لفهم السنّة، فإنّ الغاية في النهاية واحدة؛ فمَن قال: إنّ السنّة حركةٌ ونشاطٌ وجريانٌ، يريدنا أن نطوي بعجلة الحركة والنشاط والجريان زمان ومكان السنّة، ومَن قال: إنّ السنّة تعني الثبات، يريدنا أن نتحرّر من هذا الثبات ونُخرج السنّة من حياتنا! فاختار كلّ واحدٍ منهم المعنى الذي يناسب غايته وهدفه، فَهُمْ وإن تباين الاختيار بينهم، قد أجمعوا على نبذ السنّة.

ولتمام المناقشة نتناول تعريف محمّد شحرور للسنّة، لتحقيق دراسته لمعنى سَنّ اللغوي الذي اعتمد عليه في تعريفه للسنّة. قال محمّد شحرور: «حيث إنّ السنّة جاءت من سَنّ، وتعني في اللسان العربي: اليسر والجريان بسهولة، كقولنا: ماءٌ مسنون؛ أي: يجري بسهولة»[24].

وللتحقّق من كلام شحرور لابدّ من الرجوع إلى اللسان العربي في تفسير معنى السنّة التي جاءت من سَنّ، وبالذات إلى المرجع نفسه الذي اعتمده شحرور، وهو كتاب مقاييس اللغة لابن فارس، حيث قال: «لقد استعرضنا معاجم اللغة العربيّة فوجدنا أنّ أساسها هو معجم مقاييس اللغة لابن فارس، تلميذ ثعلب الذي ينفي وجود الترادف في اللغة»[25].

وعند الرجوع إلى ابن فارس، نجده يقول في معنى سَنّ: «السين والنون: أصلٌ واحدٌ مطّردٌ، وهو جريان الشيء واطّراده في سهولة، والأصل قولهم: سَنَنْتُ الماءَ على وجهه أَسُنُّه سَنّاً، إذا أرسلتَه إرسالاً، ثمّ اشتُقّ منه: رجلٌ مسنون الوجه، كأنّ اللحم قد سُنّ على وجهه، والحمأ المسنون من ذلك كأنّه صُبَّ صَبّاً، وممّا اشتقّ منه: السُنّة، وهي السيرة، وسُنّة رسول الله: سيرته. قال الهذلي:

فلا تجزعنْ من سيرةٍ أنت سرتها

فأوّل راضٍ سنّةً من يسيرها

وإنّما سُمِّيت بذلك لأنّها تجري جرياً، ومن ذلك قولهم: امضِ على سَننك وسُنّتك، أي: وجهك، وجاءت الريح سَنائن: إذا جاءت على طريقةٍ واحدةٍ»[26].

ومن الواضح أنّ شحرور أخذ كلمتين فقط من كلام ابن فارس، وهما: الجريان والسهولة، وبنى عليهما تعريفاً للسنّة، خالف به بقيّة كلام ابن فارس.

ولو أضاف إليهما كلمة: (مُطّرد) التي ذكرها ابن فارس لاستقام المعنى أكثر؛ لأنّ معنى اطّرد الأمر: استقام، يقال: اطّرد الشيء اطّراداً؛ إذا تابع بعضه بعضاً، وإنّما قيل ذلك تشبيهاً، كأنّ الأوّل يَطرد الثاني، ومنه قوله:

أتعرف رسماً كاطّراد المذهب

لعمرة وحشاً غيرَ موقف راكب[27]

فالاطّراد: الاستقامة، والاستقامة لا تعني التبدّل والتغيّر من حينٍ لآخر، بل تعني المتابعة دون انحراف، ثمّ إنّ ابن فارس صرّح بقوله: ممّا اشتقّ منه (أي: من سَنّ): السنّة وهي السيرة، وسنّة رسول الله سيرته، وإنّما سُمّيت بذلك؛ لأنّها تجري جرياً، وفسّر الاطّراد بأنّه الاستقامة، فاتّضح المعنى بأنّ السنّة: هي المتابعة للسيرة دون انحراف. وسيرة النبيّ الأكرم هي أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وأمره، ونهيه.

هذا هو معنى سَنّ في اللسان العربي وفي المعجم الذي اختاره شحرور، فلم يسعفه فيما ذهب إليه، بل كان دليلاً على عدم دقّة رأيه في معنى السنّة.

ثانياً- انتقاصهم للسنّة المشرّفة

لقد وصف شحرور السنّة بأنّها: «سببٌ في تحنيط الإسلام»[28]، وتابعه على ذلك ذويب[29]، ثمّ وصفها شحرور - أيضاً - بأنّها سيفٌ مسلّطٌ على رأس كلّ فكرٍ حرٍّ نيّر، وبانتصار تيّارها عاشت الأمّة المأساة والخيبة، وقُتل الفكر النقدي عند الناس[30]. ووصف النيهوم السنّة بأنّها: «كارثةٌ أحاقت بالتشريع الإسلامي... وقتلت في المسلم كلّ قدرةٍ على تحرير حاضره من الماضي»[31]. ومتى أصبحت إماطة الأذى عن الطريق، والنظافة والطهارة، والوفاء بالعهود، واحترام المواثيق، ونصرة المظلوم، وحسن الجوار، وحسن المعاملة، وكفّ الأذى عن الناس، وإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، واحترام الكبار، والعطف على الصغار، وتوقير العلماء، وبرّ الوالدين وغيرها من مكارم الأخلاق والسلوك الإنساني الراقي المتحضّر الذي تأمر به السنّة سيوفاً مسلّطةً على رقاب الناس، وسبباً في تحنيط الإسلام، وكارثةً قتلت في المسلم كلّ قدرةٍ على التحرّر[32].

ألم يكن طلب العلم والتعلّم، ونظم الأمر، والحثّ على العمل، والتأكيد على إتقانه، وتحمّل المسؤوليّة، وغير ذلك من القيم التي تشيّد المدنيّة وتبني الحضارة سنّةً نبويّةً؟! فكيف تكون السنّة سيفاً ذُبح به الفكر الحرّ!

وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّنا وإن كنّا لا نوافق بنحو الموجبة الكلّية ما ذكره بعض الحداثويّين عن أثر السنّة السيّئ في فهم المنظومة المعرفيّة الدينيّة، فإننا أيضاً لا نستطيع قبول كلّ ما ورد في السنّة من المعارف، وهذا ما نوكل الحديث عنه إلى دراساتٍ أخرى.

[1] - أي: السيرة حسنةً كانت أو قبيحةً.

[2] - انظر: منهج النقد في علوم الحديث، نور الدين عتر، دار الفكر، بيروت؛ دمشق، ط 3، 1418هــــ، ص27؛ السنّة النبويّة وبيان مدلولها الشرعي مع التعريف بحال سنن الدار قطني، عبد الفتاح أبو غدّة، مكتب المطبوعات الإسلاميّة، حلب، 1412هــــ، ص17؛ الفوائد المستمدّة من تحقيقات الشيخ عبد الفتاح أبو غدّة، ماجد درويش، دار الإمام أبي حنيفة، طرابلس - لبنان، 1416هــــ، ص10

[3] - السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار الورّاق، ط 3، 1423هــــ، ص47

[4] - انظر: فرائد الأصول، الشيخ الأنصاري، م. س، ج1، ص238.

[5] - نهاية النهاية، الشيخ علي ابن المرحوم الشيخ عبد الحسين الغروي الإيرواني، صنّفه في مدينة مشهد، 1345هــــ، ج2، ص63

[6] - السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي، مصطفى السباعي، م. س، ص47 (بتصرّف).

[7] - معجم الفروق اللغويّة الحاوي لكتاب أبي هلال العسكري وجزء من كتاب السيّد نور الدين الجزائري، تحقيق: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، 1412هــــ، ص285

[8] - رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد الساجدين، السيّد علي خان المدني الشيرازي، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، ط 4، 1415هــــ، ج7، شرح ص204

[9] - أضواء على السنّة المحمّديّة، محمود أبو ريّة، نشر البطحاء، ط 5، ص39

[10] - الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، محمّد شحرور، الأهالي للطباعة والنشر، دمشق، 1990م، ص548

[11] - م. ن، ص548

[12] - م. ن، ص548

[13] - م. ن: ص549

[14] - إسلام ضدّ الإسلام.. شريعة من ورق، الصادق النيهوم، دمشق، ط 2، 1995م، ص139.

[15] - السنّة بين الأصول والتأريخ، حمّادي ذويب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، 2005م، ص30.

[16] - م. ن، ص30.

[17] - م. ن: ص85.

[18] - م. ن، ص52.

[19] - م. ن، ص59.

[20] - م. ن، ص ص31 - 317.

[21] - م. ن، ص30

[22] - انظر: إسلام ضدّ الإسلام، الصادق النيهوم، م. س، ص139

[23] - الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، محمّد شحرور، م. س، ص549

[24] - م. ن، ص549

[25] - م. ن، ص44.

[26] - مقاييس اللغة، لابن فارس: مادّة (سَنّ).

[27] - م.ن: مادّة (طرد).

[28] - الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، محمّد شحرور، م. س، ص548

[29] - السنّة بين الأصول والتأريخ، حمّادي ذويب، م. س، ص59

[30] - انظر: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، محمّد شحرور، م. س: 569

[31] - إسلام ضدّ الإسلام، الصادق النيهوم، م. س، ص139

[32] - الاتّجاه العلماني المعاصر في دراسة السنّة النبويّة، دراسة نقديّة، تأليف: غازي محمود الشمّري، دار النوادر، سورية، لبنان، الكويت، ط 1، 1433هــــ، ص75