الصمت وفضاءات التأويل (في كليلة ودمنة)


فئة :  مقالات

الصمت وفضاءات التأويل  (في كليلة ودمنة)

الصمت وفضاءات التأويل[1]

(في كليلة ودمنة)

أحمد أوالطوف[2]

تهدف التأويلية، باعتبارها مشروعاً، إلى التوغل في فهم التجربة الإنسانية للذات والآخر؛ وذلك عبر فهم التراث والفكر والوجود بصورة كلية وشاملة، ودور القارئ المؤول هو العمل على تجسيد صور التواصل في فضاءات محتملة بين العالم والإنسان، وبين الواقع والممكن، وكذا بين النص والمتلقي.

ومن أجل تعميق التواصل مع الذات والآخر، لا يقتصر عمل المؤول على فهم ما هو مضمر ومكبوت داخل فضاء النص مثلاً، بل قراءة النص وإيجاد معناه الخفي بقصد فهم الذات والآخر من خلال تجربة إنسانية منفتحة على الممكن، وفي أفق معرفة الغايات لابد من تأويل البعد الرمزي للنصوص السردية الحكائية المدروسة، التي قامت على كتابة تجربة إنسانية برسائل لم تقل بطريقة صريحة ومباشرة، لكن مقاصدها مسكوتٌ عنها وخطابها صامت.

1- مفهوم الصمت

يُعدُّ الصمت في النص قولاً غير منطوق لسبب من الأسباب التي تجعل المتكلم يمسك لسانه، ويحترز من عواقب الكلام الصريح، ومن هذه الزاوية الصمت مذهب في الكلام، يخاطب الآخر بطريقة ضمنية تكون بالغة الأثر من النطق المباشر. وعلى هذا الأساس تناول الصمت، باعتباره خطاباً مسكوتاً عنه، أو خطاباً لم يُقل بعد، حيث يجبر القارئ على التعامل مع النص باعتباره أداة حية، يفترض استنطاقه وقول ما بداخله وفق ذخيرة المتلقي المعرفية وتراكمات تجاربه في الحياة المعيشة.

تتسم فلسفة المقال بالبحث عن الخطاب الصامت بوصفه لغة متلفظاً بها، ودور المؤول هو وضع الخطاب المنطوق في سياق تداولي بين المخاطِب والمخاطَب لتأويل الدلالة والوصول إلى عمق المعنى المقصود.

2- الفرق بين الصمت والسكوت

إن السكوت هو إمساك عن الكلام مع القدرة عليه. أما الصمت، فهو تلفظ بكلامٍ ذي وجهة واحدة أو وجهتين أو أكثر، ويمكن أن يؤدي بالمؤول إلى احتمالات شتى، ومن هذه الزاوية، الخطاب الصامت خطاب صعب المرتقى؛ لأنه يضع المؤول في محك البحث عن المعنى.

تأسيساً على هذا الفرش النظري المقتضب، نسعى إلى تناول موضوع الصمت في نماذج سردية تنتمي إلى جنس الحكاية المثلية في (كليلة ودمنة) لابن المقفع، واستناداً إلى تحليلنا لـحكايتي «الشيخ وبنيه» و«الرجل الهارب من الذئب واللصوص»، وكذا حكايات أخرى من حيث انفتاحها على آفاق متنوعة بعد أن أنجزت نصوصها وأطلقتها حرة للقراءة؛ غير أنّ العلاقة التي ربطتها بالقارئ، ظلت محكومة بثنائية الإخفاء والإظهار؛ فحرصت دائماً على إخفاء مغازيها بأسلوب رمزي، في الوقت الذي يسعى فيه المتلقي إلى إماطة اللثام عنها؛ إلا أن هذه المقاصد لا تكمن دائماً في نوايا كاتب الحكاية المثلية، بل تنتج عن ذلك التفاعل بين ظاهر النصوص وباطنها؛ أي بين المقول والمسكوت عنه.

تشترط «الحكاية المثلية» على قارئها منذ البداية التسلح بآليات تأويل البعد الرمزي؛ بوصفه شرطاً أساساً للقراءة النموذجية في «كليلة ودمنة»، ودراستنا هذه؛ ستنصب بدورها على عدم البوح في الخطاب السردي أو دراسة الكلام والأقوال السردية، باعتبارها نوعاً من الصمت.

إن الكتابة السردية في (كليلة ودمنة) لها وجهان؛ وجه يوصل إلى الغرض المقصود، ووجه آخر يخفيه؛ فما قيل هو سرد حكايات مثلية هدفها الإمتاع بحسب ما جاء في مقدمة الكتاب، وما لم يقل هو مضمرات النصوص، وكلاهما مدمج في الخطاب السردي الصامت.

3- بلاغة الصمت

عَدَّ ابن المقفع الصمتَ من البلاغة، مقراً بقدرته على الإبانة والتعبير عن المقاصد؛ لأن «البلاغة اسم جامع لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة، فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جواباً، ومنها ما يكون ابتداءً، ومنها ما يكون شعراً، ومنها ما يكون سجعاً وخطباً، ومنها ما يكون رسائل. فعامّة ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى، والإيجاز هو البلاغة»[3].

وعلى المنوال نفسه، راح البلاغيون القدامى، حيث ذهبوا إلى «الصمت من زاوية الإبلاغ والإبانة مقومين قدرته على الإبانة قياساً –صريحاً أو ضمنياً- على النطق»[4]؛ لأن أمر الفحص عن المنطوق في الخطاب الصامت عسير الإدراك، وعزيز المنال عند المتلقي، فقد جاء الخطاب الصامت في الحكاية المثلية لافتاً للنظر بغيابه، وهذا إقرار ضمني بأن بلاغة الصمت التي نبحث عنها تقع في فجوة بين كاتب النص ومستقبله أو خارجه، أو بين سطور الأقوال السردية، وهي ما يتوجب أن «يستبطنه المحاج ولا يصرح به؛ إذ هو من مقومات الخطاب الاستراتيجية التي لا تبدو ولا تظهر إلا إذا وعى المؤول أن قوانين تصريف الكلام قائمة على ظاهر عيني وباطن حقيقي»[5].

4- البلاغة وجدلية النطق والصمت

تعرف البلاغة بالنطق والإبانة والإفصاح، لكن «الحكاية المثلية» تلتزم بلاغة الصمت والمسكوت عنه بدخولها منطق الصراع السياسي؛ فصمتها ليس مطبقاً، بل تُنجز فلسفته في غالب الأحيان بكلام مخصوص، فتظل تُظهر وتُخفي، ثم تَلمح وتَكشف عن مغازيها بصيغ عديدة متفاوتة الإيقاع؛ معتمدة صيغة عسيرة البيان. وعلى الرغم من أن لغتها بسيطة واضحة؛ فمعناها لا يوجد في النصوص، بل يستشفه المتلقي بمجهوده التأويلي الذي يساهم في إنطاقها، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف يكون المسكوت عنه بليغاً؟ أو كيف يكون «الصمت» في الكلام بليغاً؟ وحال البلاغة النطق والإبانة والافصاح.

بعد أن امتثل بيدبا الفيلسوف أمام دبشليم الملك «سجد له واستوى قائماً، وسكت»[6]، وهو اعتراف صريح من بيدبا بوجوب طاعة الرعية للحاكم واحترامه، أما علامة السكوت فتحمل أكثر من وظيفة أنجز السرد بعضها على لسان شخصيات رمزية على هامش الحكايات المثلية، وبعضها الآخر جاء على شكل سرد الحكايات المثلية؛ فالسكوت يدل في معنى من المعاني، على احترام المقام الملكي وهيبته. يقول بيدبا: «إن ذلك لم يكن مني إلا لهيبته والإجلال له ولعمري إن الملوك لأهل أن يهابوا»[7]. فبعد سكوت بيدبا، سكت الملك مباشرة، وأشعلت آليات التفكير؛ فانتقل فعل السكوت من بيدبا إلى الملك بواسطة التفكير، وهي سمة إيجابية بالنسبة إلى المثقف.

وفي معنى آخر يدل السكوت على الفضيلة، كما يقول الحكماء والملوك في بيان بيدبا الآتي: «وقد قالت العلماء: الزم السكوت؛ فإن فيه سلامةً؛ وتجنب الكلام الفارغ؛ فإن عاقبته الندامة. وحكي أن أربعةً من العلماء ضمهم مجلس ملكٍ، فقال لهم: ليتكلم كلٌّ بكلام يكون أصلاً للأدب»[8].

تصرح أقوال العلماء المسترجعة من التاريخ بالسكوت المجنب للندم والخطأ، وتحذر من الكلام الكثير الفارغ، الذي تعقبه الندامة، وقد استدلوا على ذلك فقالوا؛ حتى إن الملوك كانت تعطي أهمية كبرى لتلك الموضوعات، بحيث حكوا أنه في يوم من الأيام ضمّ مجلس أحد السلاطين مجموعة من العلماء، فطلب منهم أن يتحدث كل واحد بكلام يكون نبعاً للأدب، فقال الأول: «أفضل خلة العلماء السكوت.

وقال الثاني: إن من أنفع الأشياء للإنسان أن يعرف قدر منزلته من عقله.

وقال الثالث: أنفع الأشياء للإنسان ألا يتكلم بما لا يعنيه.

وقال الرابع: أروح الأمور على الإنسان التسليم للمقادير»[9].

يمكن أن نستشف، من خلال هذه الخطابات، نزوعها نحو الصمت، «وإذا ارتبطت البلاغة بالصمت أو «السكوت» فإنها ترتبط بما يثير تناقضه الظاهر مع طبيعتها الاستهلالية مفارقة تتصل بعوائق أدائها بالمعنى الذي يجعل من دال «السكوت» علامة توازي النطق بما يلفت الانتباه إلى حضور مدلولها»[10]؛ فالبلاغة إبلاغ بالنطق وتواصل غير صامت، بقدر ما هو صامت.

يدعو كلام العلماء والحكماء أيضاً، من خلال هذا النص، إلى الصمت الذي جاء متماثلاً؛ فتارة يصمت الفيلسوف، وتارة أخرى يصمت الملك، وقد حقق الصمت المزدوج بين طرفي الحوار «بيدبا ودبشليم» نوعاً من التوازن، وفي الوقت نفسه تقوى موقع السياسي تجاه الملك، ما فتح الباب ثانية للمثقف في الكلام لتحقيق رغبته المتمثلة في جلب الملك للإصغاء، فبدأ السلطان يكرر أقواله: «وأنا قد فسحت لك في الكلام»[11]، «يا بيدبا تكلم مهما شئت فإنني مصغٍ إليك ومقبل عليك وسامع منك حتى أستفرغ ما عندك»[12].

لم يَسلم السياسي أو «قناع ابن المقفع»، إن صحَّ التعبير، من فعل التكرار أيضاً، وبدأ يكرر عبارات من قبيل:

«ما ندمت على ما لم أتكلم به قط، ولقد ندمت على ما تكلمت به كثيراً».

«عجبت لمن يتكلم بالكلمة فإن كانت له لم تنفعه، وإن كانت عليه أوبقته».

«إذا تكلمتُ بالكلمة ملكَتني، وإذا لم أتكلم بها ملكتها».

«أن يكون على لسانه قادراً، فلا يتكلم إلا بما يأمن تبعته»

«أنا على ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت».

«عرفت الكبير من أموري بالصغير من الكلام»

«السكوت عند الملوك أحسن من الهذر الذي لا يرجع منه إلى نفع، وأفضل ما استظل به الإنسان لسانه»[13].

تتمحور كل هذه الموضوعات حول الصمت أو الخطر الملازم للكلام؛ وتوصي بمراقبة اللسان، كما تميل إلى اختيار السكوت إن كان الكلام سيعود على صاحبه بما لا تحمد عقباه، ولكن المؤلف حاول الجمع بينهما؛ فقدم نصائحه بالصمت والكلام؛ ذلك أن المرور عبر الكلام أو المحكي السردي ضروري للتمكن من توظيف الحجج المختلفة لإقناع القارئ بمغازي النصوص المثلية والتأثير فيه.

وقد ذكر أبو هلال العسكري في السياق نفسه أن البليغ هو الذي «لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السوقة، ويكون في قواه التصرف في كل طبقة»[14]. وعليه، كان لابد أن يخرج بيدبا من سكوته، والتكلّم بما يناسب المقام الملكي.

أدرك بيدبا، الذي يشكل «قناع ابن المقفع» في سرده أن الصمت موقف سياسي والمتأمل لحجج الخطاب الصامت المذكورة سابقاً «يدرك أنّها ذات طابع سياسي، فهي تَعدّ الصمت مذهباً في التحفظ من الأذى واتقاء الشر»[15]؛ لأجل ذلك سيقت الحكايا المثلية بصيغ مباشرة، وأخرى غير صريحة، خرج بيدبا من سكوته إذاً؛ فتكلم بلسان العلماء تارة، وأنطق حيواناته تارة أخرى؛ فأوصل رغبة الرعية التي لا تريد زوال الملك، بل تتغيّا عدله وإنصافه، كما جاء في مقدمة (كليلة ودمنة)؛ يقول الكاتب: «أيها الملك السعيد جده الطالع كوكب سعده قد ورثت أرضهم وديارهم وأموالهم ومنازلهم التي كانت عدتهم فأقمت فيما خولت من الملك، وورثت من الأموال والجنود فلم تقم في ذلك بحق ما يجب عليك»[16].

إن في حديث دبشليم مع الملك بلاغة عميقة، وقوة حجاجية كبرى تجلت أولاً في الأسلوب الذي صيغت به الحكاية، وثانياً في الآليات والألفاظ التي تم التعبير بها عن محتوى الخطاب، ثم في الشواهد والأدلة الموظفة لإقناع المخاطب أو الطرف الثاني في الحوار؛ وعلى الرغم من أن الغلبة في التأثير كانت للفيلسوف، إلا أنّ السلطان شكل بدوره محوراً رئيساً في تشكل النص؛ وإن غلب عليه الصمت؛ فالكلام ليس وحده وسيلة للإقناع، بل نستطيع أن نحتج أو نتحاور دون استعمال الكلمات والألفاظ؛ كما أن «الصامت ناطق من جهة الدلالة»[17].

5-الخطاب الصامت من رمزية الدلالة إلى عنف التأويل

تجبر خطورة الموضوعات المتناولة في خطاب الحكاية صاحبها على الصمت؛ إذ يعتبر خياراً لا مندوحة عنه؛ إنه اختيار واعٍ ومقصود من جهة، لكنّه اضطراري من جهة ثانية، لذلك استخدمت الحكاية كتابة سردية ورموزاً حيوانية، وأدب النصيحة الموجه إلى فئة الأمراء والملوك وهو أدب لإخفاء المقاصد وإضمار الرسائل.

حاول الراوي في (كليلة ودمنة) قول كلامٍ يبدو صريحاً، وهو يقصد في الآن نفسه أموراً أخرى، ووحده المتلقي الحصيف يمكن أن يعي الشيء المقصود؛ المباشر منه وغير المباشر؛ فيتجاوز ما يوحي به ظاهر السرد إلى الخفي المقصود، لكن إضمار الرسائل والوصايا في السرد لا يمكن أن يهتدى إليها في جميع المقامات التواصلية، وهذا ما يخشاه صاحب خطاب الحكاية المثلية ألا وهو الخوف من تضييع المعنى؛ لذا حاول أن يستحضر أثناء كتابته للنصوص قدرات المتلقي على التحليل والاستنتاج والتأويل، ليجعل كل متلقٍّ أو قارئ يمتلك إمكانية فك الرموز السردية المنضوية في النصوص، وفهمها فهماً عميقاً.

يتضح لقارئ نصوص الحكاية المثلية منذ الوهلة الأولى أنّ مقاصدها غالباً ما تأتي لإقناع المتلقي بصدق ما يقال أو تثبيته في نفسه لأجل العمل به؛ فهي تهدف إلى التأثير في المتلقي إما بدفعه إلى تبني رأي ما، وإما بالاستجابة إلى طلب معين؛ وهو نوع سردي يميل إلى مخاطبة المستمع أو المتلقي الكوني؛ بحيث يوظّف مجموعة من الحجج بعضها صريح، وبعضها الآخر مضمر؛ بيد أن غاية كليهما تصبو دائماً إلى إشراك المتلقي في استنتاج المعنى الذي سيصبح من ملكيّته، تماماً، كما تلزمه أن يعمل به بطرقها المخصوصة؛ لأنها تسمح بالكشف عن المعنى الحجاجي في الأقوال المضمرة؛ لكي يجد المتلقي نفسه «منغمساً في موقف حواري وفهم نشيط عندما تستدعيه فراغات النص»[18]؛ التي توحي للقارئ باستنتاج المعنى من تلقاء نفسه؛ حتى يكون ألزم له بالحجة، وأشد تسليماً به، وأكثر إذعاناً له من المعنى الذي يُقَدَّم إليه جاهزاً ومباشراً في شكل دلالة صريحة.

ترتبط الأقوال أو الحجج المضمرة في الخطاب السردي «بمجهود المخاطب التأويلي»[19]؛ فتثير هاجس التفكير لدى القارئ، وتفتح أبواب تأويلها على آفاق متعددة، كما تقوم على إبلاغ المعنى دون النطق به، وهذا ما يفسر مبدئياً توسل المؤلف بالكتابة السردية الموسومة بـ«صمت الخطاب».

وعى مؤلف «الحكاية المثلية» خطورة السلطان، وعواقب جرأة تقديم النصح له وإن أبدى استعداده أو تقبله لفكرة سماعها، فقد فهم أنها تستحضر قارئاً نموذجياً من قبيل رجال السياسة والأمراء، وأنه المستهدف الأول من الخطاب؛ من أجل ذلك، تعمد الالتجاء إلى عالم الحيوان وإنطاقه، بغرض إيصال خطاب مضمر للتعامل مع أطراف حساسة فرضت استخدام «صمت الخطاب»، وكشف الممارسات الخاطئة للسلطان؛ ودعاه إلى التحلي بقيم وأخلاق الملوك، وإلى ضرورة الرجوع عن جبروته، والقيام بواجباته تجاه نفسه ورعاياه.

قدمت الحكاية المثلية نصائحها بحيلة المحكي؛ فأتت الأحداث متتالية والخطاب مموهاً؛ يصرح أحياناً ويلتجئ إلى السكوت في أحايين أخرى؛ يقول المؤلف على لسان الثعبان المزدوج: «أرى الملك قد أقام في مكان واحد لا يبرح منه فما سبب ذلك؟»[20] «رأيت الملك قد أقام في مكان واحد لا يبرح منه خلافاً لمألوفه وهو -أعظمه الله- منيع الجانب نافذ الأمر آمن الساحة فرأيت أن أتطاول عليه بالاستفهام على وجه النصيحة»[21].

بدا الملك في حالة حيرة لما سمع خوار الثور، فظلت تنهال عليه الأسئلة عن مدى الخطر الذي يمكن أن يحدق به من صاحب هذا الصوت، ولما لاحظ دمنة قَلَقَ الأسد، استغل الفرصة، فاقترب منه وقال بجرأة من يخبر مكامن الأمور: «هل راب الملك سماع هذا الصوت؟ قال: لم يربني شيء سوى ذلك، وهو الذي حبسني هذه المدة في مكاني، وقد صح عندي من طريق القياس أن جثة صاحب هذا الصوت المنكر الذي لم أسمعه قط عظيمة؛ لأن صوته تابع لبدنه. فإن يكن كذلك فليس لنا معه قرار ولا مقام»[22].

يفيد طرح الأسئلة في هذا المثل تنبيه أحد طرفي الحوار إلى بداية الحديث، وإدخاله في العملية الحجاجية باستخدام الاستفهام نظراً لما يعمله من جلب القارئ أو المستمع في عملية الاستدلال، بحيث إنه يشركه بحكم قوة الاستفهام وخصائصه، فهو أسلوب إنشائي ومن سمات الاستفهام البلاغي في الحكاية المثلية؛ أنه يخدم مقاصد الخطاب، ويؤدّي دوراً أساساً في الإقناع بالحجة.

توجهت إذاً أقوال الحكاية المثلية، وكذلك «الثعلب والطبل» بصورة غير مباشرة إلى الملك، على الرغم من خطابها الصامت؛ ذلك أنّ «الصمت يفتح باب التأويل بلا حدّ ولا ضابط، إنه ينطق بأشياء يعزّ على القارئ منالها وإدراكها»[23]. والمتأمل لهذا المثل على وجه الخصوص، لا يخفى عنه ما ينضوي عليه من ذم دمنة للسلطان المرعوب من خوار شتربة، رغم نصحه له بعدم الاستسلام للحيرة، وأن لا تخدعه المظاهر؛ بحيث يمكن أن يكون أفشل الأشياء أجهرها صوتاً وأعظمها جثة؛ فالتأويل هو الذي أعطى باطن الحكاية المثلية معناها بردها إلى أصلها، وهو الذي قادنا إلى استخلاص المضمر فيها، والمتمثل في عدم الاستهانة بكل ضعيف مهما كان بسيطاً، وعدم إعطاء القوي أكثر مما يستحقه مهما كانت مكانته رفيعة؛ إذ إنه مفتاح المعاني الخفية في النصوص، وبفضله نستطيع استكشاف ما وراء السطور، «وإلا فلا معقولية لأقوال الحيوان بعيداً عن المعنى الباطن»[24].

بُنيت هذه الحكاية المثليّة على فكرة الظنّ القائمة في ذهن الأسد، وقوامها أنّ قوة الصوت تدلّ على قوة صاحب الجسد العظيم، أو قياساً على صاحب البنية الجسدية التي تخيلها، وهي أطروحة أو حجة مناقضة للعقل والمعرفة والاكتشاف؛ إنه من الحجاج الذي يفضي إلى تغيير ذهنية الأسد؛ فالثعلب، بعد دخوله إلى السلطان، استند إلى تجربته مع الطبل؛ حيث قال: «ليس من كلّ الأصوات تجب الهيبة»؛ فقدم الخطاب حجتين مبنيتين على المعالجة والاستكشاف: الأولى «رآه أجوف لا شيء فيه»، والحجة الثانية تمثلت في قوله: «أفشل الأشياء أجهرها صوتاً وأعظمها جثة».

إنّ الحمولة الإقناعية للمعاني، التي أرادت أن توصلها هذه الحكاية المثلية إلى متلقيها، هي أن إدراك الحقائق لا يكون بالعقل وحده، بل في تكامل إدراك ما تنقله حواسنا مع تجارب واقعية؛ إنها تقدم نقداً مضمراً ولاذعاً في اتخاذ مواقف فردية حول أشياء لم نرها، ثم نصدر عليها أحكاماً من تلقاء ذواتنا، كما تشير إلى أن قوة الفرد تستقيم بالعقل والحكمة، إضافة إلى الأخذ بالمشورة، ومن هنا نجد دمنة يخدم مشروعه أو المهمة المنوطة به عند الأسد.

تتجه سياسة البلاغة في الحكاية المثلية إلى «متلقٍّ منفصل عن صانعها، لتحدث في هذا المتلقي تأثيرات مقصودة سلفاً، يراد بها استمالته إلى فكرة أو رأي أو موقف لسلطة تؤكد هيمنتها»[25]؛ إنها سلطة الإقناع «بالحكاية المثلية» التي وصل بها الملك إلى غاية الخطاب؛ يقول الأسد: «إنّ دمنة داهية أديبٌ. وقد كان ببابي مطروحاً مجفواً، ولعله قد احتمل علي بذلك ضغناً، ولعل ذلك يحمله على خيانتي وإعانة عدوي ونقيصتي عنده؛ ولعله صادف صاحب الصوت أقوى سلطاناً مني فيرغب به عني ويميل معه عليّ»[26].

إن المتأمل لهذا النص لا يخفى عليه كيف استطاع الملك/الأسد استخراج المضمر في الخطاب، وكيف دمج المؤلف متلقّيه في فهم النص، ومنحه فرصة إعادة إنتاج معانيه لتفيض بها قراءته التأويلية؛ فالأسد يمكن أن يحيل على كلّ قوي ومتجبّر في الحياة اليومية، ودمنة يحيل على كلّ ضعيف يطمح إلى الوصول إلى مبتغاه بطرقه المخصوصة، وكأن المؤلف يريد بأقواله إخبارنا بأنّ عصره يحكمه قانون غاب يتسيّد فيه القوي الضعيف؛ فعبر عن مقاصده بطرق ملتوية غير مباشرة أحياناً، وبصيغ صريحة في أحايين أخرى، موظفاً أساليب بلاغية متنوعة.

6-الخطاب الصامت وفضاءات التأويل

يُعدُّ الفضاء تصوراً ذهنياً يشتمل على كلّ موجودات الواقع؛ فهو لا يفرق بين النص والموضوع والعالم، بل هو تصور كليّ للأشياء، كما أنه مشاركة في الحياة الوجودية، والمتلقي الحصيف يسعى إلى فهم وتفسير وتأويل الدلالة والحياة، بوصف النص «تجربة حياة» في زمن تاريخي ومكان كوني وموضوع مطلق، غير أن المتأمل للفضاء الكوني يجد فيه الإنسان وثيق الصلة بالعالم، وأنّ العالم وثيق الصلة بالإنسان، وتأويل المتلقي في هذه الحال يجعله ينصب على تحديد ماهية أو كنه الظواهر الإنسانية في علاقتها بالموجودات والثوابت والمكونات. ويدفعه إلى العمل على فهم هذه المكونات وتعقل أشيائها وتأويلها تأويلاً ينسجم مع الذات والوجود، وذلك في إطار علاقة جدلية بين الشروط الموضوعية والتاريخية والاجتماعية.

ومما يزيد المتلقي من إدراكه لتأويل فضاءات (كليلة ودمنة) تلك القوة في إبلاغ المقاصد عن طريق الخطاب الصامت؛ لما له من بالغ التأثير في نفسية المتلقي. وقد ذكر بيير ماشيري أنّ «الصمت هو أهم ما في النص أو الأثر الأدبي لا الكلام»[27]. وبحَسَب ابن المقفع «رأس الأدب حفظ السر»[28]، والصمت يستفز المتلقي «لفك مغالق الرموز وملء مواطن الفراغ والتيه في مجاهل التأويل، فالنص الصامت نص منفتح بلا حدود، طيع، متعدد إمكانات التأويل»[29].

صيغت نصوص الحكاية المثلية في فضاء سياسي مضطرب، وجاء خطابها صامتاً مموهاً بالسرد الضبابي الذي يعتم على القارئ رؤية المعنى، مخافة رد فعل السياسي صاحب السيف، فحاولت أن تقدم نصيحة غير مباشرة للأسد الملك المتكلف، استناداً إلى صورة بلاغية تمثيلية، وهي حكاية «القرد والنجار»، التي يشير ظاهرها إلى غفلة القرد، وسذاجة تكلفته وزر عمل لم يكن أهلاً له؛ إذ ركب خشبة قطعها النجار، وأوقع ذيله في الشق، فكان ما لقيه من ضرب على يد النجار أشد مما أصابه منها؛ جاءت هذه الصورة بحجة صامتة في الحكاية مفادها النصح والتهذيب والإصلاح في مسير إقناعي وظف فيه المحاجج طاقة الصمت، وعبر عنه بأقوال سردية وإمكانات تأثيرية عالية.

يبدو ممّا سبق أنّ ظاهر «الحكاية المثلية» هو السرد، أمّا باطنها فهو عبارة عن حجج أضمرها ابن المقفع في الأقوال لكي يقدم للملك مجموعة من النصائح على لسان الشيخ لما أدرك فُقدانه للحكمة في تسيير مملكته، وعاث في الأرض ظلماً وفساداً؛ وإذا وقفنا على المسكوت عنه الثاني؛ فسنجد أن حكم السلطان لن يطول، وسيتهدم كل ما بناه آباؤه وأجداده بشق الأنفس؛ كل هذه الأفكار اعتمد فيها المؤلف بلاغة الصمت والمسكوت عنه، من أجل تمرير الآراء والحقائق، بقوة إقناعية عالية تؤثر بعمق في نفس القارئ.

ترتبط البلاغة إذاً في الحكاية المثلية، بحسب ابن المقفع، بالصمت والسكوت؛ وكأنه يود القول، إنّ البحث والتأمل يقتضيان بالضرورة الجمع بين المنطوق والكلام والأقوال؛ ففي حكاية «الشيخ وبنيه» على سبيل المثال، ارتبط الخطاب الصامت بالحوار مع القوى السياسية في مرحلة إنتاج الحكاية، وفي مثل «الرجل الهارب من الذئب واللصوص» كان الصراع مع القدر، أما الحكايات المثلية الأخرى، فكان معظمها مصيرياً، وبلاغتها متنوعة غايتها الرئيسة التأثير والإقناع؛ ذلك أن البلاغة «إبلاغ، وتأثير الإبلاغ لا يرجع إلى مضمون المبلغ عنه، بل إلى كيفية الإبلاغ»[30]، أو الصيغة التي جاءت بها الحكاية من صمت الخطاب وإضمار المقاصد في النصائح غير المباشرة الموجهة إلى الملك؛ لكن البلاغة تخرج أحياناً عن طوعها، ما يجعلها «أداة للتعبير عن رفض واقعها، يتجلى ذلك على مستوى النطق، حيث يقترن الاحتجاج بسياق الجواب والابتداء؛ وعلى مستوى الصمت ومنه الاستماع أو ما يصل الاحتجاج وسكوته بواسطة الإشارة التي هي سكوت عن شيء ونطق له في آن»[31].

لقد أضمر ابن المقفع مقاصد أقواله في سرد الراوي الفرعي، فبعد عبارة «ومن أمثال ذلك»، التي نسبها إلى شخصية بشرية مجهولة، اختبأ خلف حكايات خرافية للتملص من نسبة الخطاب إليه؛ وبها بلغت القوة الإقناعية السردية أقصاها في الإضمار؛ لكن الحكاية المثلية -وإن امتازت بصمت الخطاب- صاغت كلاماً رفيعاً عاقلاً على لسان الشخصية الحيوانية «دمنة»، وهنا يكمن «التناقض الصارخ بين القول السامي، الذي لا ينطق بمثله في الغالب إلا خواص الناس وبلغاؤهم، والقائل المنحط الذي يتنزل في هذه الحالة إلى أدنى مرتبة، عالم الحيوان»[32].

تتجلى أهمية دراستنا لصمت الخطاب في فضاءات الحكاية المثلية، إذاً، في كونها تزيدنا «إدراكاً للخطاب السردي والوقوف على أنّ المعنى حصيلة متضادين هما القول وعدم القول»[33].

ووفقاً لذلك، يمكن القول إن ابن المقفع كان في عصره مقموعاً سياسياً؛ شأنه في ذلك شأن مثقفي العالم في كل الأزمان؛ ففكّر في وضع مخرج له ولمن كان معه، ثم وجّه قدراته العقلية إلى إنتاج بلاغة رمزية قوامها التلميح بصور الحكاية المثلية الشفافة، والاختباء وراء رموز سردية تكشف ما لم يستطع قوله، واختار على سبيل المثال؛ الثور شتربة، أو ذلك الرمز الحيواني الذي انطلقت حكايته من مثل «الشيخ وبنيه»، بعدما فارقه الرجل المتكفل بمعالجته من الوحل الذي وقع فيه «فلم يزل يدب حتى أتى مرجاً خصيباً كثير الماء والكلأ، لما قضي أن يصيبه في ذلك المكان من العرض الذي لم يكن ليخطئه»[34].

يلمح ابن المقفع في خطاب هذه الحكاية المثلية إلى أنّ مصير الثور المحتوم هو نفسه مصير الرجل الهارب من الموت. وفي الوقت ذاته يحاول إسقاط المصير نفسه على المخاطب المفترض؛ فالصمت في خطاب الحكاية جزء من خطة تغري القارئ بهدف البحث عن معناه من أجل أن يؤثّر فيه.

نفهم من هذا الكلام أنّ المقام الحجاجي قائم على ثنائية القول وعدم القول؛ إذْ ما لم يقل في الخطاب يكون، في أحايين كثيرة، أهمّ مما قيل؛ والتعالق بين وجهي المعنى في الحكاية المثلية المتجسد في المعنيين المباشر والمضمر «يكسب النص الحكائي المفارق جوهره التخييلي عبر الاستبدال والتخفي في تمثيل الخبرة والسلوك الإنساني»[35].

كلما اقتربت الحكاية المثلية من منطقة الخطر بنت معانيها وفق ثنائية جدلية هي الظاهر والباطن، ولم تقف عند هذا الحد، بل حاولت أن تجعل القارئ يبصر دوافع اصطناعها لهذه الحيل الكلامية، يقول المؤلف: «ينبغي لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وضعت له؛ وإلى أي غايةٍ جرى مؤلفه فيه عندما نسبه إلى البهائم وأضافه إلى غير مفصحٍ؛ وغير ذلك من الأوضاع التي جعلها أمثالاً، فإن قارئه متى لم يفعل ذلك لم يدر ما أريد بتلك المعاني، ولا أي ثمرة يجتني منها، ولا أي نتيجة تحصل له من مقدمات ما تضمنه هذا الكتاب»[36].

اختار ابن المقفع أسلوب الرمز والتصوير قصداً منه إلى جرّ الشباب وذوي الهزل إلى الاستمتاع بطرائف الحكي، ثم الدفع بهم بطريقة غير مباشرة إلى تمحيص الرموز المستخدمة في السرد، والبحث عن دلالتها ومحاولة تطبيقها على الواقع المعيش.

إن السرد في هذا «التمثيل «مثل» دال على ممثول؛ فالمثل هو الصورة الظاهرة، والممثول هو الأصل لهذه الصورة ومعناها المقصود»[37]، وهذا يعني أن للسارد مقاصد معلنة وأخرى خفية يروم تأديتها استناداً إلى الخطاب الصامت، بحيث يوجهه إلى قارئ مثاليٍّ مؤهل لتأويل أقواله المتخيلة على الوجه الصحيح، ويترك له حرية النفاذ إلى المقاصد الحقيقية المغلفة والمموهة بضبابية الشكل الأدبي.

يقول ابن المقفع: «إن الفيلسوف لحقيق أن تكون همته مصروفة إلى ما يحصن به نفسه من نوازل المكروه ولواحق المحذور. ويدفع المخُوف لاستجلاب المحبوب. ولقد كنت أسمع أن فيلسوفاً كتب إلى تلميذه يقول: إن مجاورة رجال السوء والمصاحِب لهم كراكب البحر، إن هو سلم من الغرق لم يسلم من المخاوف، فإذا هو أورد نفسه موارد الهلكات ومصادر المخوفات عدَّ من الحمير التي لا نفس لها؛ لأن الحيوانات البهيمة قد خصت في طبائعها بمعرفة ما تكتسب به النفع وتتوقى المكروه، وذلك أننا لم نرها تورد أنفسها مورداً فيه هلكتها، وأنها متى أشرفت على مورد مهلك لها مالت بطباعها التي ركِّبت فيها شُّحاً بأنفسها وصيانة لها إلى النفور والتباعد عنه»[38].

يلقي المؤلف مسؤولية تأويل أقوال الفيلسوف المسترجعة على عاتق المتلقي، لينطقه بالمعنى، ويتظاهر بالحياد، فيكون ناطقاً بصمته، صامتاً في نطقه، قائلاً ما شاء متحفظاً ومحترزاً، من دون أن ينقلب عليه القول، ويكون دليلاً في فضحه أو توريطه؛ إنها عملية ذهنية شبيهة بالقياس المضمر يذكر فيها المتكلم المقدمات، ويدر النتائج ليستدرج المتلقي ويلزمه باستنتاجها.

لقد توسل المؤلف في النص السردي الذي ساقه كليلة لتنبيه أخيه إلى ما يخطط له من محاولة الظفر بالحظوة لدى السلطان بعدة آليات حجاجية للنفاذ إلى الغاية المرجوة، ففضلاً عن اعتراضه الصريح على صحبة السلطان، لجأ إلى الإحالة على أقوال العلماء بقصد إكساب خطابه قيمة علمية ومعرفية ترقى به من المستوى التمثيلي البسيط القابل للرفض أو القبول، إلى المستوى العلمي القادر على ممارسة سلطة الإقناع، فجسد على لسانهم تشخيصاً يسري على أخيه، ويتمثل في كون الطموح المبالغ فيه يُنزِّل الإنسان منزلة الأهوج الذي يقوم على الأحوال الثلاث السالفة الذكر، التي ساوى بينها في الأثر، وكلها تيمات ساقها ابن المقفع على لسان الغير بطريقته المخصوصة لتخدم آليات صمت الخطاب.

حاول الكاتب في إنتاج خطابات صامتة دفع القارئ لمواجهة المسكوت عنه سياسياً، والبحث عن مواطن السر «الكامن من وراء جعل بليغ الكلام يتجسد من خلال لسان البهائم»[39]، والرموز الإنساية التخييلية، فصمت الخطاب في الحكاية المثلية هو صمت مقصود وواعٍ، تبرره مقاصد السارد «المتكلم» في «الرجل الهارب من الذئب واللصوص»، وهي حكاية ظلّ ظاهرها يكشف عن رجلٍ رمى نفسه في نهر للنجاة من ذئب أفزعه؛ فأنقده الناس من الغرق المحقق، ثم قصد حائطاً يستريح تحته مما قاساه، فتهدم عليه الحائط وقتله، إنه مثل عميقٌ «لا دلالة له بعيداً عن باطنه، ولا فهم له دون رد معناه الأول الظاهر على معناه الثاني الباطن الذي هو الأصل والمقصد»[40]، فالعمق في الحكاية يكمن في ذاتها، وفي قراءة ما لم يكتب على حسب ما تمثّل في صورة الرجل الهارب من الموت، هروبه من القدر المحتوم له، وارتماءه بأحضانها وهو لا يدرك ذلك.

يتضمن خطاب الحكاية الصامت، نصيحة مبطنة ذات مقاصد خفية مضمرة؛ تدفعنا بطرق غير مباشرة، إلى ضرورة فهم أشياء غير مصرح بها في ظاهرها؛ وتحوم حول عدم الفرار من القدر المكتوب، وتنبه الملك إلى إمكانية انهيار مملكته، بعد أن صار الطغيان ديدنه.

رسم ابن المقفع «بمثل الشيخ وبنيه» صورة عن نفسه، واستعملها للتأثير في مخاطبه، ثم ترك الشيخ يقدم النصح لأبنائه، كما ترك كليلة يذم صحبة الملوك على نحو غير مباشر، واصفاً كلّ من يقف على بابهم بالأهوج، يقول: «وقد قيل لا يواظب على باب السلطان إلا من يطرح الأنفة»[41]؛ بيد أن مشروع النصيحة المبطن في الحكاية المثلية قوبل بالصمت والحياد، وعدم إبداء أي رأي داخل الخطاب الرئيس من قبل السلطة الحاكمة؛ ما شكّل صمتاً وحياداً من قبل الأسد الملك إزاء النصوص المعروضة مطمحاً قوياً لسلطة الحكاية الحجة؛ ورغم ذلك اعتمدت استراتيجية تلميحية صامتة في التعبير عن المقاصد، وهو ما فرضه السياق التواصلي بين فواعل الخطاب.

صفوة القول أنّ فهم المتلقي للنص السردي ذي الخطاب الصامت لا يعني فهم وامتلاك تجربة المبدع، بل فهم التصور الوجودي وتعقل التجربة الحياتية التي يأتي فيها الفهم والتأويل عملية متغيرة نظراً لتغير الأفق والتجربة من فضاء إلى آخر، فالنص خاضع لتجربة القارئ العام أو «المتلقي الكوني» والحوار بين النص والمتلقي هو حوار مفتوح على آفاق وفضاءات تأويلية متعددة. لذلك، فالمشاركة في الفضاء التواصلي، الذي لم يكتمل بعد، سيبقى فضاءً حراً وفجوة تلتقي فيها كل التأويلات السليمة والبعيدة عن الغلو والافراط في إسقاط المقاصد والمعاني التي تثقل كاهل النص.

[1]- مجلة تأويليات العدد 3

[2]- باحث - المغرب.

[3]- عبد الله بن المقفع عن جابر عصفور، ضمن كتاب: المجاز والتمثيل في العصور الوسطى، ألف، دار قرطبة للطباعة والنشر، الدار البيضاء، ط2، 1993ص11

[4]- محي الدين حمدي، مدخل إلى «الصمت في النص السردي»، مجلة كلية الآداب واللغات، جامعة محمد خيضر، بسكرة، ع 8، 2011

[5]- علي الشبعان، الحجاج والحقيقة وآفاق التأويل بحث في الأشكال والاستراتيجيات، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2010، ص188

[6]- عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، تحقيق وتقديم عمر أبو النصر، دار العودة، بيروت، 2002، ص21

[7]- المصدر نفسه، ص25

[8]- نفسه، ص25

[9]- نفسه، ص25

[10]- جابر عصفور، «بلاغة المقموعين»، ضمن كتاب: المجاز والتمثيل في العصور الوسطى، دار قرطبة للطباعة والنشر، الدار البيضاء، 1993، ط2، ص9

[11]- عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، تحقيق وتقديم عمر أبو النصر، ص22

[12]- المصدر نفسه، ص24

[13]- نفسه، ص25

[14]- أبو هلال العسكري عن جابر عصفور، «بلاغة المقموعين»، ضمن كتاب: المجاز والتمثيل في العصور الوسطى، ص8

[15]- حمادي صمود، عن محمد مشبال، بلاغة رسالة «في تفضيل النطق على الصمت» للجاحظ، البلاغة وتحليل الخطاب، ع1، 2012، ص100

[16]- المصدر نفسه، ص26

[17]- محمد العمري، تداخل الحجاج والتخييل: التحاجج طبيعته ومجالاته ووظائفه، تنسيق حمو النقاري، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 134، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص19

[18]- ميشيل آدم، عن محمد مشبال، «بلاغة النص السردي القديم ومفهوم التأويل»، البحريين الثقافية، المجلد 17، العدد 59، كانون الثاني/يناير 2010، ص43

[19]- عبد الله صولة، الحجاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية، سلسلة لسانيات، المجلد 13، منشورات كلية الآداب، منوبة، 2001، ص265

[20]- عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، تحقيق وتقديم عمر أبو النصر، ص85

[21]- عبد الله ابن المقفع، كليلة ودمنة، دار صادر، ص54

[22]- المصدر نفسه، ص54

[23]- هوفل (Heuvel)، عن: عبد الله البهلول، في بلاغة الخطاب الأدبي: بحث في سياسة القول في نصوص من الأدب العربي القديم، قرطاج للنشر والتوزيع، ط1، 2007، ص39

[24]- جابر عصفور، «بلاغة المقموعين»، ضمن كتاب: المجاز والتمثيل في العصور الوسطى، ص37

[25]- المرجع نفسه، ص6

[26]- عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، تحقيق وتقديم عمر أبو النصر، ص86

[27]- Pierre Macherey، عن عبد الله البهلول، في بلاغة الخطاب الأدبي، ص40

[28]- عبد الله بن المقفع، عن جابر عصفور، «بلاغة المقموعين»، ص19

[29]- Pierre Macherey، عن: عبد الله البهلول، في بلاغة الخطاب الأدبي، ص40

[30]- المرجع نفسه، ص6

[31]- جابر عصفور، «بلاغة المقموعين»، (المقولة لصاحب العمدة، ج1، ص302)، ص11

[32]- سعيد يقطين، «بيان القراءة عند ابن المقفع»، آفاق، مجلة اتحاد كتاب المغرب، عدد مزدوج 61/62 سنة 1999، ص22

[33]- محمد الخبو، الخطاب القصصي في الرواية العربية المعاصرة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة صفاقس، ص135

[34]- عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، تنسيق الشيخ إلياس خليل زخريا، ص128

[35]- شرف الدين ماجدولين، بيان شهرزاد: التشكلات النوعية لصور الليالي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 2010، ص160

[36]- عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، تحقيق وتقديم عمر أبو النصر، ص53

[37]- جابر عصفور، «بلاغة المقموعين»، ص35

[38]- عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، تحقيق وتقديم عمر أبو النصر، ص19

[39]- سعيد يقطين، «بيان القراءة عند ابن المقفع»، آفاق، ص23

[40]- جابر عصفور، «بلاغة المقموعين»، ص35

[41]- عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، تحقيق وتقديم عمر أبو النصر، ص72