العقل البشري بين حوارين: حيّ وميت


فئة :  مقالات

العقل البشري بين حوارين: حيّ وميت

تقديم:

لطالما دار الحوار مِنْ أجل "الخَلاص الإنساني"، ولأجل "البناء الحضاري"، ويتم هذا الحوار بـ "آليات الحوار: الخُلاصة الإنسانية". إني أعي أية كارثة وجودية نعيش إذ أضع هذه المحاور نصب عينيّ، ولا سيما فيما يتعلق بمقتنيات وجودنا العالي، أعني تلك المقتنيات التي تُميِّزنا عن الحيوانات؛ ففي الوقت الذي أبدعَ الإنسان وامتازَ، ساعة انفصل عن حيوانيته بالعقل؛ فقد أخفقَ مرة أخرى ساعة تمظهر هذا العقل تمظهره العالي العَاَلِم، إذ أصبح قادراً ليس فقط على الاحتراب بموجب الاختلاف، وإنما على تبرير هذا الاحتراب، والدفاع عنه بشراسةٍ وعنفٍ دامٍ.

سأجمع كل المحاور السابقة وأضعها في جِراب واحد وأغلق عليها، نوعًا من حسن النوايا مني لإعادة "صندوق باندورا" إلى وضعه الأول قبل أن تُرتكب خطيئة فتحه. لكن ثمة سؤال مُلِحّ، إزاء هذه المحاولة، يقول: هل يمكن الإبقاء على باب الخطأ والخطيئة مُغلقًا في وجه المفاتيح الوجودية، لغاية الحفاظ على طهارة الوجود الإنساني ومنحه صكّ البراءة الطهراني؟ لا أعتبرها لفتة عبقرية في متن الأسطورة أن طارت الفراشة من صندوق باندورا المُرعب، بل العبقرية الكبرى هي في تطاير الشرور في وجه الإنسان وتلقّيه صفعة قاصمة على وجهه، لا سيما بعدَ أن تبجّح بانفصاله عن حيوانيته، وخلاصه إلى عقله المُميّز.

هل هو جدير بإقامة حياته، طالما أنه يتبجّح بقوته وتفوقه، ومفارقته لكلّ الموجودات في هذه الحياة وتعاليه عليها، لناحية امتلاكه لقوة عقلية هائلة لم يتسنَّ لأحد غيره امتلاكها؟ ستتشابك الأسئلة والإجابات وتتعالق بعضها مع بعض، ضمن بوتقة واحدة، في هذه الورقة، بشكل يخدم غرض هذه الورقة، وهو الوصول إلى خلاصة تُؤكّد موجودية الإنسان ضمن سياق مفتوح على ذوات إنسانية عديدة، بعيدًا عن ثقافة الإقصائية والإلغائية والاستئصالية التي قد يُبلورها الوجود العالي، كما يتمثّله العقل العَاَلِم، العقل المُتفقِّه؛ فالإنسان يتأكد أكثر ما يتأكد في تعدّديته وتنوعيته، وإفضاءاته إلى آفاق شاسعة غير مُتناهية.

سأعيد الأسئلة إلى الواجهة، في محاولة ثانية، وأنسج خيوطها تباعًا، لكي نرى إلى أين يُمكن أن ينتهي بنا المطاف.

الحوار من أجل ماذا؟ الخلاص الإنساني:

يبدو هذا المحور مُتقدّمًا بعض الشيء، أو أنه فائض عن الحاجة في بداية ورقة بحثية، ولا سيما أنّ ثمة أسئلة أكثر إلحاحًا عقليًا وواقعيًا. لكن، ولوضوح الرؤية، ينبغي وضع هذا السؤال في المقدّمة، والتعقيب عليه بدءًا. فثمة هاجس كبير، في شِرعة الوجود الإنساني العاقل، حول المآلات الإنسانية النهائية، خارج إطاراتها اللاهوتية الميتافيزيقية؛ أعني المآل الإنساني هنا والآن، في الزمان والمكان. فما المُبتغى لهذه الملحمة الوجودية، بالنسبة للإنسان؟ دعونا نتدرج في تتبّع القضية، من خلال طرح مجموعة من الإشكالات المبدئية، قبل أن تنفتح الأسئلة والإجابات بعضها على بعض وتُشكّل مُنمنماتها التكوينية. أي الطرق نستخدم في الوصول إلى حالة الخلاص النهائي، وهذا السؤال تشابكي إلى درجة الالتصاق مع سابقه، في حال امتثلنا، على سبيل المثال، لآليات الحوار، الحوار العقلاني تحديدًا، أم لم نمتثل، هل سنصل إلى حالة الخلاص؟

هل يتساوى الإنسان، فيما يتعلق بالخلاص النهائي، سواء امْتَثَلَ للحوار بصفته تجليًا لمَلَكة العقل، أم لم يمتثل؟ لقد دَبَّ الإنسان على هذه الأرض، وبدأ فورًا بإعمال عقله في مادة هذا العالَم؛ فمنذ اللحظة الأولى أرادَ لوجوده الفردي والجمعي أن يصطبغ بصبغةٍ إيجابية لا سلبية، فيتحوّل من كائن مُنفعل بالوجود إلى كائن فاعل فيه؛ أخذ بإعمال عقله في حادثات هذا العالَم وإحداثياته، بما يخدم غرضيته النهائية. فخَلُصَ الإنسان، بالتقادم، إلى الكلمة بصفتها واحدة من العبقريات العقلية الكبرى، فعبرها استطاعَ أن يُنظِّم أفكاره، ويمنحها تراتبًا منطقيًا، فصارت قائمة على مقدمات تروم الوصول إلى نتائج محدّدة. ولستُ بحاجةٍ إلى التذكير هُنا بالعلاقة الوطيدة بين الكلام والمنطق والعقل. فقط أنوِّه إلى أن واحدة من تجليات الإنسان في هذا الوجود، لا سيما فيما يتعلق بتمايزاته ومفارقاته النهائية لعالم الحيوان، تكمن في الكلمة بحدّ ذاتها، من حيث هي مكنة هائلة لديها القدرة على التحكّم بمجريات الوجود الداخلي والخارجي للإنسان، إذ أمكن للإنسان مع الكلمة أن يُرتّب عالمه ضمن مصفوفة من الأفكار المُترابطة والمتماسكة، والدالّة على إمكان إنساني هائل، فهو، تجليًا أخيرًا، كائن عاقل ولا معنى له من ناحية وجودية إلا بهذا العقل.

الحديث هنا عن الإنسان مطلقًا؛ فقد يوجد إنسان أبكم أو ليس لديه القدرة على التعبير أو أنه يتعامل مع الناس رمزًا، لكن ذلك لا ينفِ القاعدة بشكلٍ من الأشكال، بل يعمل على تثبيتها ومنحها أفقًا تفاعليًا من جهة، وتمايزيًا من جهة ثانية. فقد تدرج الإنسان بالكلمة في ترتيب أفكاره، فيما يتعلق بعلاقته بذاته أولاً، وبإلهه ثانيًا وبعالمه ثالثًا. فعن طريق الكلمة منح وجوده طابعًا خاصًا ميزه عن باقي البشر، وإذا كان لهذه الكلمة أن تتطوّر ضمن سياق جمعي على هيئة لغات حيّة وفاعلة، فقد امتلك الإنسان جهازًا من الاصطلاحات التي ساعدته على تشكيل شبكة مفاهيمية حول موضوعات ذات اهتمام مشترك.

وعليه، فقد بدأ الإنسان بترتيب أفكاره حول موضوعات شتى، إلى درجة تمكّن معها من ترتيب العقل من الداخل ومنحه طابعًا ذهنيًا خالصًا، عبر قوالب منطقية ساهمت بشكلٍ كبير في نقل الإنسان نقلة هائلة على المستوى الوجودي. لقد تمكن العقل – بعد محاولات مضنية وجبّارة – من السيطرة، ليس فقط على مُخرجاته العينية، وإنما على بنيته الداخلية كذلك، فثمة مقولات أساسية تُحرّك بندول ساعته وتمنح الإنسان سبيلاً للخلاص من حيوانيته وغرائزيته مرة واحدة وإلى الأبد.

الخلاص إذن هو خلاص بنيوي أساسًا متعلق بالعقل وفاعليته في ترتيب الوجود الذهني والواقعي ضمن مقولات ذهنية محضة، فعبر هذا الطريق انفصل المرء عن علائقه الحيوانية، أشنّاته الدبقة، مادته المُتعالقة مع مرحلة الحيونة، وأسَّسَ منطقة خاصة به، جعلته قادراً على إحداث نقلة نوعية في الوجود على المستوى الذهني، قبل أن يُحرّك ساكنًا على أرض الواقع.

تكمن مشكلة الحيوان في أنه رَهْنٌ بواقعه ليس إلَّا، وكلّ تحركاته تتأتّى ضمن سياق واقعي غرائزي انفعالي، على عكس الإنسان العاقل، فهو خارج، في تجلّيه الأكبر، التصنيف الحيواني اللوغرتماتي، إذ أمكنه زحزحة العالَم بآلة عقله؛ أي أنه يصير فاعلاً في الوجود ذهنًا، بانتظار أن ينفعل الواقع لفعل الفاعل، ويتغير بالتقادم.

لذلك يعد الخلاص من مشيمة التواصل بالمرحلة الحيوانية، لناحية الانفصال عنها، والتواصل من ثمَّ مع العقل بصفته أيقونة إحكام السيطرة على مجريات هذا الوجود، فعبر هذا العقل استطاع الإنسان لأول مرة أن يُنظِّم عالَمه من الداخل، داخل عقله، ففي الداخل رُتِّب الوجود ذهنيًا، وهذا ما يستعصي على الحيوان، ومن ثمَّ تمَّ الانتقال إلى مرحلة الواقع المَعيش عيانًا. لذا تأتَّى الخلاص الإنساني ضمن شرطية زمكانية، لما لها من علاقة التحامية مع مسار الأنسنة بما يُحقّق عمارة الأرض وبناء الحضارة.

لِمَن البناء الحضاري؟

ستكون الإجابة على سؤال "لِمَن؟"، اعتمادًا على ما سبق، معروفة سلفًا؛ فالحوار للإنسان ومع الإنسان ومن أجل الإنسان، وصل إلى مرحلة الخلاص النهائي، بانتقاله من مرحلة "الحَيْوَنَة: إلى مرحلة "الأَنْسَنة" والكلمة والقدرة على ترتيب الوجود ذهنيًا. وأود أن أشير إلى نوعين من الحوارات التي يخوضها الكائن العاقل في سبيل البناء الحضاري؛ أما النوع الأول فحوار سلبي والثاني إيجابي. والأول تمارسه ذوات معدودة ومحدودة تفترض في ذاتها تطوّرًا، غير متوفر عند غيرها، يدفعها إلى الإنابة عن ذواتٍ أخرى، والثاني تمارسه البشرية جمعاء، أو بالأحرى هي مارسته ولا زالت تمارسه وستبقى تُمارسه إلى أن تفنى بشكلٍ كامل ونهائي. سأنتقل لمعاينة النوع الأول والذي سأطلق عليه "الحوار الميت" وأفصّل مأساويته، لأعود بعد ذلك إلى النوع الثاني وسأسميه "الحوار الحيّ" لتلطيف درجة حرارة الأول، وبثّ الأمل بعد يأس مُفتَرَض.

أولاً- الحوار الميت، الذوات المُتناحرة:

إنَّ مرحلة الخلاص الإنساني التي سلفت الإشارة إليها، وُسِمَت وحُدّدت معالمها الرئيسة بالعقل، بصفته الميزة الإنسانية الكبرى. ولكن، حتى في المسائل العقلية البحتة؛ أي تلك المسائل التي ناقشت العقل من الداخل، مستخدمة العقل ذاته في تلك النقاشات، كانت مثار جدل دائم، إذ لم يتم التوصل إلى مرحلة "المُتفّق عليه" في هذا الشأن، بل بقيت الأسانيد والمتون مثار عمليات أيض عقلي.

لم يكن العقل محض أرض طاهرة ساعة خاض غمار أول جدل بين الذوات العاقلة، بل كان مُعزّزًا بنوايا مُسبقة، فوصول الإنسان إلى مرحلة العقل كانت قد اقترنت بمخاضات وولادات مُتتالية ومتنامية، فلم ينتقل من مرحلة العمى البدئي إلى مرحلة التكوّن الجنيني دفعة واحدة، بل مرَّ بتجارب عديدة، طورَّت مفاهيمه حول ذاته، وصار قادرًا، في نهاية المطاف، على الاصطلاح على جهاز مفاهيمي حول ذاته. لكن الرصاصة الأولى لم تكن فارغة كما قد يتبادر إلى الذهن، إذ تمَّ دمغ البدايات الأولى بنوعٍ من الطهارة البكورية، لكن ثمة دناسة صبغت تلك الطهارة وشكلّت معالمها البَعْدية ومنحتها طابعًا دنسًا، إذ بدأت معالم العقل تتمظهر في العيان الإنساني وفقًا لمرجعيات تربت عليها العقول.

لم يكن ثمة عقل محض بالمعنى الفلسفي للكلمة، بل ثمة عقل ناجز داخليًا، عبر تطوير مقولاته التأسيسية حول ذاته، وذات العقل جاهز خارجيًا، عبر ليس فقط استعداده لخوض غمار أول حِجاج عقلي حول قضية بعينها، بل الاستماتة في الدفاع عنها، فهو مُعبَّأٌ سلفًا بمرجعيات تقود مسار مُدخلاته، وإن انطلقت من طهارة علنية، ناحية مُخرجات بعينها دون سواها، مما يفضح مسار تلك الطهارة العلنية؛ فالدناسة الباطنة أقوى بكثير من تجلياتها الطاهرة، لا سيما في اللحظات الحاسمة.

من هنا، أمكنني اعتبار الحِجاج العقلي نوعًا من التخم المُتنازع عليه سلفًا؛ فالذوات تدخل إلى منطقة الحجاج ليس لغاية الوصول إلى الحقيقة الموضوعية، بل لتحقيق الذات في العالَم. وهُنا، أمكنني أنْ أبرِّر هذه الأنانية المأساوية، وإن كُنت أشعر بنوعٍ من تأنيب الضمير، لناحية رجرجة المفاهيمية العقلية لمصطلح الحقيقة، فهي ليست مفهومًا قارَّا بالمعنى التوافقي، رغم عراقته العظيمة، بل هو من أكثر المفاهيم خَتَلاً ومُراوغة، فهو أشبه بالدائرة التي استعصت على التربيع. لكن هذا التبرير سيُوقعنا في مَحاجة لاحقة، لناحية تبرير الحق الذاتي، وتقذير كل الحقائق الغيرية الأخرى.

مَنْ سَيُبتّ بشكل واضح وقاطع فيما يتعلق بمفاهيمية الإنسان، الإنسان المُتعدِّد، حول مصطلح الحقيقة، طالما أن ثمة إمكان قائم، سواء على المستوى الذهني أو أثناء التطبيق العملي، باعتبار الحق الذاتي هو التجسيد الأخير للحقيقة، وممارسة الإكراه الإلغائي حول مفاهيم الآخرين حول ذات الاصطلاح؟ سيفرض هذا الإشكال المنهجي على الإنسان العاقل نوعًا من التصالح بين العقل النظري والمسار العلمي لتمظهرات ذلك العقل، بما يتجاوز حدود العقل الفردي ذاته ناحية العقل الجمعي، بانفتاحه على مسارات شتّى. لكن الحاصل، كتجلٍّ للقطيعة بين النظرية والتطبيق، هو تمجيد العقل الفردي في تفاعلاته مع الخارج، وتقذير العقل الجمعي في تفاعلاته مع الداخل، ويتجلّى هذا التمجيد والتقذير بشكل واضح، ساعة المواجهة الحاسمة بين الذات الفردية/ الجمعية الأولى في مواجهة الذات الفردية/ الجمعية الثانية.

إنَّ الصيغة التي تُريد أن تُفضي إليها هذه المُداخلة، هي أن صيغ الحوار إذ تُخاض من قِبَل العقل العالِم؛ أي العقل الفاعل، هي صيغ غير طاهرة وغير مُجدية ولا هَمَّ لها إلا إثبات ذوات أصحابها؛ أي أنها غير مُفضية إلا إلى أُحاديات وقطعيات ومزيد من العزل، ومن الأمثلة على ذلك الحوار بين الأديان بصفته حوارًا مُمارسًا من قبل ذوات عالِمة، وعلى دراية بإحداثيات الذات من الداخل وتفاعلاتها مع الخارج. إنه حوار مُؤَسَّسٌ على نوايا مُسبقة، بلغة علم النفس، لذا أتت نتائج هذه الحوار الكارثي، الحوار الميت كما سميته له آنفًا، منسجمة مع مقدماته.

إلى أين أفضى هذا الحوار، عقب كل هذا الصراخ الذي أُطلق حول أهميته؟ لقد اجتمع الشيوخ والكرادلة والحاخامات...إلخ، تُغذّيهم مرجعياتهم، تطويرًا لمفاهيمية العقل الأحادي، لرأب الصدع اللاهوتي والتأكيد عميقًا على القيم الروحية التي تجمع أصحاب الديانات. هذا العسل الصافي كان السم قد دُسّ في جِراره، فكم من الدماء سالت عَقِب هذه الحوارات الميتة الزائفة عديمة الجدوى؟ وإلى أين انتهى المطاف عقب كل هذه الحوارات، وما هي الأرضيات المشتركة التي أفضت إليها تلك الحوارات؟ إنَّ الآلية الداخلية التي يشتغل عليها الحوار الميت هي آلية تعي ما الذي تُريد الوصول إليه، أو هي بالأحرى آلية تمجيدية للعقل الذاتي وتقذير للعقل الغيري؛ فالوعي المُمارَس قَبْلاً داخل المنظومة العقلية، هو وعي غير طاهر، وإنْ أظهر طهارة لاحقًا. فالعسل الحواري لحظة التفاعل، يتغذى على سُمّ تأسيسي، لذا أمكنني رؤية الحوار بين الذوات العقلية الفاعلة ميتًا.

ثانيًا- الحوار الحيّ، النسق الحضاري:

ثمة حوار حي إزاء الحوار الميت، حوار أفضى إلى إعمال الإنسان في العالَم، لإنتاج الحضارة. إنّه أحد الإفضاءات البَعْدية للوجود الإنساني القَبْلي، إذ أثبتَ الإنسان وجوده في هذا العالَم، واستطاع أنْ يُحدث نقلة نوعية في وجوده على المستوى الكُلّي، نظرًا لانبثاقه عن الإنسان الكُلِّي. إن "روح الشعب" في الفلسفة هي بعد "الروح المُطْلَق"، وهذا شيء في غاية الأهمية، لما ينطوي عليه هذا الروح من تجلٍّ لفكرة اللانهائية ضمن شرطها الزمكاني. فالثراء الحاصل بواسطة هذه الروح هو استنطاق واعٍ لاستبطانٍ لاواعٍ، يدفع بدءاً ناحية التعدّدية والثرائية الهائلة، إذ ثمة وعي ضمني بأَنَّ إقامة الحضارة وعمارة الأرض بحاجةٍ، من ثمَّ، إلى إنسان مُتعدّد مُتنوّع، نظرًا للمهام العديدة التي تنتظر الإنسان في هذا العالَم.

إن مفهوم الروح المُطْلَق قائم أساسًا على فكرة اللانهاية، وعليه فإن روح الشعب تجلّ للروح المطلق، فيما يتعلق باللانهاية ومتح للإمكان اللانهائي الذي يتموضع بين جنبي الإنسان الكُلِّي. لكن السؤال المحوري هُنا هو: مَنْ هو الإنسان الكُلّي، وكيف يتجلّى في الحوار الحيّ؟ لا مندوحة من تجلية هذا السؤال ضمن سياق تسلسلي حتى يُؤتي أُكلَه، وتُثْمِر سياقاته التطورية، وعليه، فأولى خطوات هذه التجلية ستكون بفكفكة هذا الإنسان إلى عناصره الأولية، والإشارة من ثمّ إلى مُجاراة هذا الإنسان، في حالته المُفكّكة للعقل أو تجاوزه له من ثمَّ. وليس ثمة وجود فعلي لإنسان كُلِّي، وكل ما نُعاينه هو إنسان بصفةٍ فردية كحدّاد أو نجّار أو طبيب...إلخ، أو إنسان بصفة جماعية مثل إنسان العصور الوسطى أو العصر الحجري أو الإنسان البرازيلي، دلالة على الهوية الوطنية، أو الإنسان العربي، دلالة على الهوية القومية، أو الإنسان المسيحي، دلالة على الهوية الدينية، أو الإنسان الأوروبي، دلالة على الهوية القارية، أو الإنسان الشيعي، دلالة على مذهبية بعينها داخل أحد الأديان، أو الإنسان الجنوب أردني، دلالة على المنطقة الجغرافية داخل بلد بعينه، إلى آخر هذه التقسيمات. وعليه، فالإنسان الكُلّي لا وجود له إلا نظريًا؛ كشيء متموضع داخل الذهن ليس إلا، أما عيانًا وواقعًا، فالمسألة خاضعة إلى تشظيات كثيرة وعديدة. إلا أن مجموع هذه التشظيات الجزئية العيانية تُشكِّل الإنسان الكُلّي النظري.

إنَّ حشدًا للأجزاء المُتمظهرة واقعًا سيفضي بالضرورةً إلى كُلٍّ ذهني، مع الاحتفاظ بمسافة بينهما، لما تنطوي عليه العملية برمّتها من فراغ إمكاني لا سبيل إلا ردمه نظرًا للاستحالة التي تنطوي عليها عملية جمع الشتات الإنساني لناحية التشظيات اللانهائية لهذا الشتات العظيم. فالكُلّ مُفارِق لمجموع أجزائه من حيث هو تجرّد عقلي صرف، لأجزاء لا حصر لها عيانًا. لذا ثمة استنطاق لهذا الإمكان الكُلِّي عبر تشظٍّ لانهائي في الزمكانية، فالكُلّ اللانهائي في الأعلى يُلازمه تفتّت لانهائي في الأسفل، لخلق التوازن الوجودي والشروع بدءًا في عمارة الأرض وبناء الحضارة الإنسانية. إنَّ الذات المُطْلَقة إذ تشرع في مُعاينة الوجود واقعًا، فإنَّها تتمظهر فورًا تفتّتًا عبر ذوات ذات مسلكيات مُتعدّدة، بما يخدم الغرض الإنساني اللانهائي في هذا الوجود، والذي لا يمكن اكتمال شرطه البنائي إلا عبر تشظٍّ في الذات الإنسانية؛ فالنقص في الذات الكاملة عبر تفتّتها، هو شرط أساسي في البناء الحضاري وإعمار الأرض. فالذات الكاملة كيان سالب، صامت، غير فاعل، لذا هو غير قادر على البناء، وليصبح بنَّاءً عليه أن يصير مُوجبًا، وفاعلاً في الزمن والمكان.

هذا الانتقال من الحالة التجرّدية الساكنة إلى الحالة العيانية المُتحركة، يتطلب إحداث خلل بنيوي في الصيغة الأساسية لهذه الذات، فاكتمالها ينبغي أن يصير نقصًا، ودفقيتها الفاعلة على أرض الواقع يتطلّب تعدّداً في الذات المُطْلَقة. وهذا ما حدث ابتداءً، إذ وُجدت ذواتًا لا حصر لها، وتدافعت بناءً للحضارة الإنسانية وإقامةً للعمران البشري، فعبر تلاقح هذه الذوات تشكلّت معالِم الحوار الحي بين البشر جميعهم، إذ كان هذا الحوار بمثابة تجلٍّ لروح الشعب التي تموضعت في ذوات عديدة. لقد تحاور الحدَّاد في مرحلةٍ متطورة ومتقدمة، في صياغة المشهد الحضاري الإنساني، مع البنَّاء والمُزارع والعسكري والشرطي والإمبراطور والموسيقي والرسام والكهربائي والنجّار والفيلسوف والشاعر، والصبي والشاب والشيخ والبنت الصغيرة والزوجة والصديقة والأم، والمُعلمة والممرضة والأميرة والكاتبة والطبيب وعامل النظافة وحارس الحدود، والمُصوّر الفوتوغرافي والسينمائي والفيزيائي والحكيم والحكَّاء وفني المختبرات والصيدلي، والغطاس والقبطان والشيخ والكاهن والحاخام والمُتعبد والمُصلِّي، وعامل الميناء والراقص والمُمثّل والسائق والطيّار والباحث والسكرتير، إلى آخر هذه السلسلة البشرية العريقة، ابتداءً بإنسان العصور السحيقة مرورًا بإنسان العصور الحديثة وصولاً إلى إنسان العصور المستقبلية، إذ تنشكلُ حلقات الحوار البشري غير المُعْلَن فيكتمل العقد الإنساني، عبر عمارته للأرض وبنائه للحضارة. فهذا التواطؤ المُقدَّس بين ذوات إنسانية يعمل على بلورة سياق حواري إنساني ما كان للحضارة أن تقوم لولاه.

إننا بإزاء نوعين من الحوار: أحدهما ميت، وإن قام على أساسٍ واعٍ بضرورة التحاور وإنجاز المشروع العقلاني الإنساني ونقله من طور الخصام إلى طور التصالح والتسامح، وثانيهما حيّ وإن قامَ على أساسٍ غير واعٍ وغير مُعْلَن، فَبِهِ قامت الحضارة ودفقت في هذا العالَم. وعليه، يحقُّ لنا أن نسأل سؤالاً هَهُنا حول الآليات المُناسبة للحوار، إجابةً على سؤال سابق، ومدى فاعليتها في الحركة الحضارية الإنسانية؟ وهذا ما سيكون محور عنواننا التالي:

آليات الحوار، الخلاصة الإنسانية:

خلصنا إلى نقطة مهمة فيما يتعلق بنوعي الحوار بين بني البشر، هي أنَّ الحوار الحيّ هو ذروة النشاط الإنساني اللاواعي في البناء الحضاري، وإن كانت الأدوات المستخدمة في الحوار أدوات غير عاقلة، كما هي في الحوار الميت؛ فالذوات التي تتدافع في الحوار الحي هي ذوات ليس بالضرورة أن تكون مُتفقهة وعالِمة ومتنوّرة، بل هي مدفوعة دفعًا وجوديًا أساسًا، لذا فهي تسعى سعيًا دؤوبًا إلى التشارك، دون أن تستخدم مقولات: كالحوار والنقاش وما إلى ذلك من هراء مُنمَّق، مع ذوات أخرى في بلورة سياق إنساني تفاعلي، يعمل على بناء الحضارة وعمارة الأرض.

إننا إزاء آليات حوارية غير عالِمة غير مُرشَّدة وغير مُقنَّنة في قوالب جاهزة ومُتفَّق عليها، بل هي آليات حماسية اطمأن بعضها على البعض الآخر بالتقادم، وأفضت إلى اتفاق غير علني على أنَّ الحضارة الإنسانية تتجاوز منطق الاتفاق والاختلاف الذي قرَّرَهُ العقل العَاَلِم، ولا يمكن الركون إلى حالةٍ انتظارية حتى يتم تشكيل لجان للحوار العَاَلِم، وانتظار ما تُسْفِر عنه من مُقرّرات ونتائج، فمقولة الحياة الدافقة إذ تتمثلها البشرية جمعاء، لا يمكن أن تنتظر ثلة من بني البشر لكي تستقيم بنائيتها، بل هي دافقة أزلاً أبدًا، وما النشاط الإنساني ضمن سياقاته الجمعية إلا تأكيٍد على أنَّ مقولة "روح الشعب" تتفوق على مقولة "العقل العَاَلِم"، نظرًا لانطواء المقولة الأولى على دفق إنساني هائل وعارم، وتموضع المقولة الثانية في أذهانِ حفنة ليس إلا من بني البشر.

إنَّ الحوار الحياتي الذي سَنَّت شِرعته المُقدّسة أذهان إنسانية لا حصر لها، لهو ذروة النشاط الحضاري الإنساني في هذا العالَم، وإنْ كان الخلاص الإنساني قد وضع حدًّا لمرحلة "الحَيْوَنَة" بالعقل. ثمة خيانة للمأثرة الأصلية التي جلَّاها الإنسان يوم أن انفصلَ عن حيوانيته بالعقل، إذ كان من المفترض أن يقود السياق الانبنائي والتراكمي لهذا الخلاص إلى ما هو أكثر جدوى وحياةً، إلا أن الحاصل للأسف هو مزيد من الموت والخراب والدمار للإنسان والحضارة. فقد أفضى الحوار الميت إلى تنازع على الحقيقة الذاتية بصفتها خلاصًا للذات وللآخر أيضًا، وهذا بعينه ما نادى به الآخر لناحية أن الحقيقة الذاتية مأثرته وما على الآخرين سوى اتبّاع سبيلها القويم.

مع أول حوار صدامي بين ذوات عَاَلِمةٍ تناحرت على الحق والحقيقة بصفته مأثرة ذاتية، كان الإنسان العاقل العَاَلِم المُتفقّه قد عاد القهقرى إلى زمن "حَيْوَنَته"، فقد شكلّ ذلك التقهقر إرهاصًا إنسانيًا نكوصيًا، بُرّرت بموجبه كل الانهيارات التي حاقت بالإنسان والحضارة. وعليه، فالخلاصة التي أرى أنها تصلح خاتمةً ليس فقط لورقتي البحثية هذي، إنما أيضًا للإنسان في تجلّيه الحضاري، هي في انفتاحه على الإنسان الآخر، بعيدًا عن أية استلابات قَبْلية أو نوايا مُسبقة، إذ يُصار إلى خلق تشاركية تتجاوز أُطر العقل المُؤطِّر والتحديدات التي يفرضها سلفًا، إلى ما يمكن أن يفضي إلى إنسان تُعدّدي إلى ما لانهاية.

تلك مهمة صعبة ومعقّدة، لأنها ستستلزم من الإنسان تجاوز تحديدات فرضت عليه وفرضها على نفسه بالتقادم، لكنها مهمة تستحق العناء والمكابدة، وإن استغرقت عُمْرًا، لأنها ستفضي إلى تجلية الجانب اللانهائي عند الإنسان، لا سيما ذلك المُتعلق بشرطه الزمكاني، من خلال تعدّديته عبر ذوات إنسانية أخرى لا حصر لها، ولربما وجد الإنسان أساسات هذا الحوار الهائل في القيم الأساسية التي يحتكم إليها الضمير الإنساني، كقيم الحب والخير والجمال...إلخ.

رُبَّ قائل: هذا محض هراء، فلطالما انزوت البشرية في شرنقة هذه المفاهيم، ولكن إلى أين وصلت؟ إن العبقرية الإنسانية إذا كانت قد كمنت في البدء بتجاوز "الحَيْوَنَة" بالعقل، مع ما اعتورَ هذه التجاوزية من إخفاقات لاحقة، فإن العبقرية الكبرى للإنسان، لا سيما في مرحلة ما بعد تجاوز الحيونة، هو في مُعاينة "الحَيْونَة العقلية" كما تجلت في التأطيرات والتحديدات التي فرضها العقل العَاَلِم، لا سيما الصيغة التنازعية والتصادمية بين أقطاب هذا العقل، ومن ثمَّ تجاوز هذه الحيونة والتصالح مع الذوات الإنسانية الأخرى، والاندفاع باتجاه تمثّلها حُبًّا يدفع باتجاه عمارة الأرض وبناء الحضارة الإنسانية. والإنسان بتجاوزه محنة "حَيْوَنَة عقله" مرحلةً ثانية بعد أن تجاوز "حَيْوَنَتَهُ" بالعقل بدءًا، فإنه يُثبت أن عبقريته الكبرى ليست في التسلّي بالمنظر الخلَّاب للفراشة المُلونة التي انطلقت من صندوق باندورا، وذلك بالعيش عيشًا سلبيًا والركون إلى الهدوء والطمأنينة، دونما اختبار للقيم الكبرى المتموضعة فيه من الداخل، بل باستنزاف الحياة مُكابدةً، في سبيل التحرِّر الارتقائي، وذلك بالاعتلاء على شرط الحيونة المزدوج؛ شرط الحيونة الصرفة ومن ثم شرط الحوار الميت الذي تتمثله الذوات العَاَلِمة المُتناحرة، والتسامي إنسانيًا إلى ما لانهاية، بما يُحقّق بناء الحضارة وعمارة الأرض.

---------------------------------------------

الهوامش:

1-صندوق باندورا هو صندوق الشرور كما جاء في الأسطورة الإغريقية؛ فبعد أن سرق "بروموثيوس" النار، بدأت سلسلة من العقوبات لبني البشر، ومنها "باندورا". المرأة التي مُنِحَت صندوقًا مليئًا هدايا، وكان لـ "إبيميثور" شقيق "بروموثيوس" أن تزوج من باندورا، فقامت بفتح الصندوق فخرجت كل الشرور، فسارعت إلى إغلاقه وبقي بداخله الأمل.

2-ثمة إشارات قادمة من علوم نشأة اللغات حول النقلة النوعية الكبيرة التي انتقلها الإنسان إثر تعلّمه اللغات والقدرة على تنظيم أموره ضمن رموز لغوية داخل العقل. وتجدر الإشارة هُنا إلى أن ثمة محاولة من الدكتور "محمد شحرور" أشار فيها إلى أن الإنسان انتقل من مرحلة البَشَر إلى مرحلة الإنسان ساعة تعلّم اللغة، وقد أشار في تحليله للآية القرآنية {ويسألونك عن الروح} إلى أن المقصود بالروح هو الكلام والقدرة التنظيمية التي استطاع الكائن البشري بموجبها أن ينتقل نقلة نوعية في مسيرته الوجودية. وفي هذا المجال، لا سيما ما تعلّق بأطروحة الدكتور محمد شحرور، يمكن الاطلاع على كتابه (الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة).