العقل المُعتَقل


فئة :  مقالات

العقل المُعتَقل

العقل المُعتَقل

يوسف هريمة

قد يناضل الإنسان كثيرًا من أجل تحرير نفسه من الاعتقالات التي تطال جسده، فتسجنه، أو تحد من حركته، وديناميته، وقد يناضل أيضا سعيا إلى تحسين أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية. ولكن قليلا ما نلتفت إلى أننا نعيش أيضا بـ "عقل معتقل" كما يدعوه أدونيس، وهو عقل مكبوت، ومسجون، ولكن بين جدران تاريخ من التضليل والقمع، وهنا يبدأ النضال؛ لأننا في الواقع لا نقدر أن نغير ما نجهله، وإنما نغير ما نعرفه.

لقد كتب أدونيس مقالته الشهيرة بـ: "العقل المعتقل" ليضعنا أمام هذا التمايز، وهذه المفارقات التي يعيشها الإنسان المسلم تحديدا، وربما الإنسان عموما، حينما يعتقد بأن الاعتقال كما جرت عليه الأدبيات القانونية، أو الحقوقية هو وضع الإنسان بين جدران أربعة، أو هو نوع من سلب حريته، والحد من حركته، في حين أن الاعتقال الحقيقي هو أكبر من هذا وذاك، حين نتحول إلى ضحايا عقل بدل أن نفكر به، نسجن فيه، وتتقلص إمكانيات تحقق وجودنا الفعلي داخل نسق إنساني ينشد التحرر، ولكنه يفقده بفعل هذا النزوع نحو النضال بأفق مسدود، غالبا ما يتحول إلى استلابات جديدة، وبمظاهر أخرى من أشكال العبودية والاستعباد.

قبل أن ترفع صوتك عاليا، أو تشير بقبضتك، أو سبّابتك إلى السماء، تذكّر دوما أنّ من يرفع السقف كثيراً، أو لِنقُلْ من يحلُم كثيراً يشبِه إلى حدٍّ بعيد مساعداً لأحد المحاسبين في مخزن أقمشة أو في أيِّة شركة أخرى كما يقول فرناندو بيسوا. لماذا؟...لأنّ الحالمين، أو من يجهدون أنفسهم في صناعة الوهم كمن يسجِّلون الأرباح وهُم الخاسرون، يجمَعون ثمّ يمضون، يُغلِقون الميزانية والرّصيد الخفيّ دائماً عليهم.

هكذا هم الحالمون لا يبقى لهم سوى السراب...

هنا يأتي دور الفلسفة، فما يجب أن ننتبه إليه هو أن مهمّة الفلسفة الأولى كما يؤكّد بيير هادو ليست أنْ توصل لك نسقاً من المفاهيم والقضايا التي تعكس على التّقريب نسق العالم أو الكون. لكنْ مهمّتها الأولى هي أنْ تعلّمك كيف تعيش انطلاقاً من فلسفة معيّنة. فالغاية من المبادئ الفلسفية هي تطبيق هذه المبادئ "إنّ النّجار لا يأتيك لكي يشرح لك فنّ النّجارة، بل ليبني لك بيتاً"؛ معنى ذلك أنّ من الحمق أنْ يكتفي المريض بقراءة علاجاته دون تناولها. وقد كان لفظ الفيلسوف يطلق على من يعيش حياة فلسفية دون أنْ يكون دارساً أو مدرّساً لها.

حينما يغيب العقل، أو يسدل الستار عليه بفعل ما يعيشه من ظروف اعتقال، قد تشتد حينا، وتنفرج أحيانا أخرى، يغيب الفهم. فالفهم هو ما نحتاجه اليوم أوّلا وأخيرا كما نبّهنا لذلك سلافوي جيجيك؛ لأننا نحتاج قبل أنْ نحلم بالتغيير، أن نحلم بالفهم. فأشدّ الأفكار خبثاً هي تلك التي تجعلك تحلم بتغيير العالم، في الوقت الذي تعجز فيه عن تغيير ذاتك، وكأننا نستحضر مقولة ديكارت التي صاغها صياغة رواقية، حيث إنّ السّعادة تكمن في: "تغيير رغباتنا أكثر من تغيير نظام العالم". إنه الفهم أو محاولة الفهم كما يؤشر عليها جيجيك، إذ إنّ أول ما يمكن للمرء فعلُه، هو عدم الانجراف وراء إغراء التصرّف، وعدم التسرّع من أجل تغيير العالم (وبالتالي تجنّب إمكانية الاصطدام بالحائط: لهذا لما سئل عن ماذا بوسعنا فعله في مواجهة الرأسمالية العالمية؟). قال: الأجدر بنا أن نعمل على إزالة اللثام عن مختلف مظاهر الهيمنة في هذه الإيديولوجيا. في الحقيقة، لحظتنا التاريخية الحالية هي نفسها لحظة أدورنو: "الذي أجاب عن سؤال: ماذا بوسعنا فعله؟ سأجيب بكل صدق: "لا أعرف شيئا". كل ما أستطيعه، هو العمل على تحليل الأشياء كما هي. سيعترض أحدهم بالقول، إن كل محاولة نقدية تستدعي اقتراحا إصلاحيا. ينبغي التذكير، بأن الأمر هنا، لا يعدو أن يكون حكما مسبقا بورجوازيا. كثيرا ما حدث عبر التاريخ، أن الأعمال التي سُطرت لها أهداف نظرية محضة، هي نفسها التي أحدثت تغييرا في العقليات، وبالتالي، في الواقع الاجتماعي.

وبما أننا نعيش حالة من الاعتقال العقلي، والتأخر الجماعي، والعصاب الثقافي الموروث عن أزمنة مستوردة، فلم تعُدْ لنا القدرة سوى على النّحيب والعويل، هكذا تعلمنا، وهكذا نشأنا في ثقافة الرفض والتشكي، نطلب الخلاص ولا خلاص، نرنو إلى التغيير فيزيد الواقع تعقيدا. في الوقت الذي تُعلِّمنا فيه الفلسفة أنّ المطلوب منّا هو الفهم وليس التغيير. تلك الموعظة الأخيرة لبوئتيوس التي تجعل من الفلسفة ارتقاء إلى حيث يكون لدينا من حرية العقل ما يقهر القهر، فلا نعود نرى القيد قيدا، ولا السجن سجنا. فالفلسفة ليست معرفة كما يرى سبونفيل؛ لأنّه لا وجود لمعارف فلسفية كما يظنّ الكثيرون. ففي اللّحظة التي ينتمي فيها شيءٌ ما إلى المجال المعرفي، يتوقّف حينذاك أنْ يكون فلسفيا، فعلى سبيل المثال سؤال: هل توجد الأرض وسط الكون؟ فقد كان هذا سؤالا فلسفيا لآلاف السِّنين، لكن بمجرد أنْ عُرف أنّ الأرض ليست وسط الكون، توقَّف هذا أنْ يكون قضية فلسفية. هذا يحيلنا على قضية أخرى أشار إليها سبونفيل أيضا هي: ماذا أفعل بالمعارف بعد امتلاكها؟. ماذا أفعل بها كي أسيِّر حياتي؟ المسألة الحقيقية بحسب سبونفيل ليست ما هو الإنسان؟ رغماً عن كانط. ولكن كيف نعيش؟ هنا يأتي دور الفلسفة بوصفها نمطاً للعيش، وفنّاً للحياة، حيث إنّ الفلسفة كما رآها أبيقور ليست: "سوى نشاط يمنحنا الحياة السّعيدة بخطابات وتأمّلات مبرّرة".

لكن ما معنى أن يكون العقل معتقلا؟

المجتمع المتخلف هو التجلي الأكبر للعقل، حينما يكون معتقلا؛ أي أن يكون مقيما في الماضي دون أن تكون له القدرة على اجتراح أجوبة لأسئلته الواقعية، ومصيره المستقبلي. إنه غارق في سلفيته، إلى الحد الذي يقيم معها علاقة يستحيل معها كل انفصال. وقد يكون هذا مستساغا من الناحية النفسية، حيث كلما شعر هذا العقل بمقدار النّقص الذي يحياه في واقعه، وبمقدار الحصار الذي تفرضه عليه الثّقافة المنغلقة، تحوّل فعل النّكوص، والتقهقر، والتراجع لديه إلى وسيلة دفاعية يتغيّا من خلالها تثبيت حصون التخلّف، ووضع ستائر أمام كل جديد خوفا مما يسميه بالفتنة، أو البدعة، أو التحديث. إنها الآلية الوحيدة لعقل تخريبي أوقف حركة النّقد، وعطل آلية الفكر والتّفكير، فلم يعد ينتج سوى بلاغات وإنشاءات أوصلتنا إلى حالة من الجمود والتخلف؛ لأنّ هذا الأخير في نهاية المطاف ليس قدرا حتميا، ولا هو بنية اجتماعية مسلطة علينا بفعل عوامل خارجية. ولكنَّه توقف العقل بفعل اعتقاله عن إنتاج الأفكار، واستبدالها بالأوهام. ولعلّ ما أكّد عليه إبراهيم البليهي في مكاشفاته يفيدنا في هذا الصّدد، فالإنسان المتخلِّف أو المجتمعات المتخلّفة التي لم تستطع أنْ تبرح مكانها، أو تنزاح حركتها عن مسار الرّكود والجمود لا تستحقّ حتى أنْ توصف بالمجتمعات المتخلّفة؛ لأنّ الوصف بالتخلّف يوحي للمتتبع قارئاً كان أو مستمعاً بأنّ المتخلّف يركض خلف الّذين سبقوه ولكنّه لم يستطع بعد اللّحاق بهم. لهذا قال: "التخلّف لا يعود إلى التأخّر في بداية الانطلاق، وإنّما يرجع إلى الجهل بنقطة البداية أو الرّفض الصّريح أو الضّمني لهذه البداية".

ليس العيب أن تبحث في الماضي عما يجعلك مشرقا في هذا الحاضر، ولكن العيب هو أن تبحث عن وجودك الفعلي في خطاب ماضويّ يبحث عن فردوس مفقود، بأفق يقدِّم نفسه للإنسان على أنّه المالك لليقين، والقابض على الحقيقة وذلك مكمن خطورته. فالعودة إلى الأصول ليست فقط عودة تأمّلية، أو وقفة للاعتبار والتأسّي، بقدْر ما هي عودة إلى حيث النّقاء والصّفاء والطّهرانية التي تجعل الإنسان ضحيّة نزعة معيارية صنمية للتّراث، ملغية بذلك طابعه الإنساني، نازعة عنه الدّوافع المحرّكة للتّاريخ والبشر، في انتقائية تحوِّل الحدث الإيديولوجي، والفكرة التّاريخية إلى صنمٍ يفضي بالإنسان إلى تقديس المعيار، أو بتعبير أدقّ تقديس الوهم. وهكذا يتحوّل العقل المعتقل إلى حاضنة وبيئة لإنتاج الوهم حين يمنح لنفسه إمكانية استعادة الماضي بتفاصيله وحيثياته، كما يصير مدخلا لصناعة أجهزة عقائدية لرعاية أشكال التطرّف والتشدّد والإرهاب والتخلّف.

العقل المعتقل وذهنية التحريم:

مشكلة العقل المعتقل هو أنه في حالة خصام دائم مع كل قيمة جميلة، بالرغم من أنه يدعي في الكثير من الأحيان أنه لا يناقضها. ربما هذا هو ما أشار إليه بافيزي في مذكّراته أن الناس لمّا يسترجعون حريّتهم، لا يعرفون ماذا يفعلون بها!!!...وهنا المفارقة، إمّا يَسْتَعْبِدُون أو يُسْتَعْبَدون. فالعقل المعتقل لا بد أن يعتقل غيره، كما أنه عقل يدور في فراغ، ورتابة، والرتابة هنا ليستْ فقط قتلاً للوقت كما يتوهّم البعض، ولا هي استهلاك للذّات دون شعور بالخجل. إنّها أكبر من ذلك بكثير، لقد شبّهها فرناندو بيسوا بغبار أو قذارة متجمّعة على سطح أو في زاوية أو ركن بيت من البيوت. لكنّ مشكلتها أنّها في حاجة دائمة إلى التّنظيف. في الحقيقة نهتم كثيرا بغسل الجسد، ونظافته وطهارته. لكن لا نكترث لغسل المصير، والرّؤية، وطرائق التّفكير. فالحياة مليئة بالرّتابة، وعشّاق القذارة، لا شيء يمنعهم من مزاولة هوايتهم المفضَّلة: "إنّهم طيور مفتتنة بغياب الأفعى، ذبابٌ يطير عبر الجذوع، بدون أنْ يرى شيئا حتى يجد نفسه في المتناول اللّزج للسان الحرباء".

هنا ينشأ العقل المعتقل، وهنا يكبر وينمو، يُعتقل ويَعتقل، ولا شيء يمنعه من مزاولة مهمته الأولى، وهي الاستبداد عبر منظومة تتجذّر في المجتمع من خلال ثلاثية (التجريم/التحريم/التأثيم)، والتي تتيح للمرء أنْ يتمثَّل شعار "اخضع ترضع". فالتّجريم: يمارسه الاستبداد عن طريق أجهزته القمعية، أما التحريم: فهو وظيفة المؤسّسة الدينية، حيث لا خضوع دون تضييق مساحة المباح. أما التأثيم: فهو يعزّز التجريم والتحريم، بجعل طاقة الإنسان محدودة، بأنْ يشعرها دوماً بعقدة الذنب، حتى يكبح جماحها، أو يجعلها مهدورة لا نفع فيها.

ربّما نحن ضحايا هذا اليقين الذي تختزنه ذاكرتنا البعيدة، تلك الذّاكرة الموشومة بطابع الإطلاق في كلّ شيء، إلى الحدّ الذي بتْنا نعيش حالة كرهٍ يشبه الهلوسة، أو الوسوسة من الآخر. هذه الحالة الثقافية المستعصية على الفهم، أو على الأقلّ على التفهّم نمرّ منها أفرادا وجماعات، وهي نتيجة حتمية ليقين نحمله كاللّعنة، ومفاده أنّ أولئك الذين يملكون أكثر منّا، قد كسبوا ذلك من خلال سرقتنا، فالسّلطة سرقت حريتنا، والأغنياء سرقوا أموالنا، والغرب سرق حضارتنا، وكأنّنا بهذا اليقين نتطهَّر من إثم وذنب نشعر به تّجاه الآخرين، أولئك الذين كانوا وما زالوا السّبب الرئيس في كوننا لا قيمة لنا في عالم اليوم. وهكذا تنمو عاطفتا الظلم والضّغينة كما يؤكّد جون ريفيير، بوصفهما إسقاط معرفتنا اللاشعورية بكسلنا وخستنا على الآخرين. اليقين في الأشياء باختصار شديد هو المشهد الأخير من نهاية الوعي، أو الثّمرة الكبرى لمن يلاحق بكلّ دهشة حيوية الكسل والفشل.