العقلانية العلمية


فئة :  مقالات

العقلانية العلمية

العقلانية العلمية


مراد زكير

تقديم:

تسير الفلسفة والعلم في خطين متوازيين يتبادلان التأثير والتأثر[1] تحت ما يسمى "الفكر النظري"؛ فقد كان للتحولات العلمية أثر على الفلسفة، حيث شكلت منعطفات لحركتيها وبناء وتمحيص مفاهيمها من جديد، وإعادة النظر في أسسها. لذا، فمحاولة قراءة الفكر الإنساني قراءة تجزيئية والفصل بين مختلف الأنشطة الفكرية للإنسان- يؤدي إلى سوء فهم هذا الفكر[2]. العلم يجدد الفلسفة والفلسفة مفتوحة على العلم تتبع خطواته، لكي تكون وعيا بالعقلية العلمية، هذا التعقب والمسايرة هو ما يشكل عمق البحث الإبستيملوجي[3] الذي يعد جزءا من الفعالية الفلسفية.

وهذا لا يعني أن الباحث في مجال الإبستيمولوجيا يحل محل العالم الرياضي أو الفيزيائي...إلخ، فيعيد بناء المعرفة العلمية، وإنما خطاب الإبستيملوجي هو خطاب على خطاب العالم، يقف فيه على المنعطفات التي عرفها تطور المعرفة العلمية تلك المنعرجات أساسية لإعادة النظر في البداهات والمطلقات بالوقوف عند تحولات العقل العلمي لفهم كيفية حدوثها وتتبع دينامكيتها الداخلية.

يجب إذن، النظر إلى الفلسفة والعلم نظرة جدلية، نقصد بذلك:

أولا: النظر إلى الفلسفة في ارتباط بعلم عصرها؛ لأن كل مستجد أو تحول يعرفه العلم يكون له انعكاس على الفكر الفلسفي المعاصر له، بتأثير من التحولات العلمية في مرحلة محددة تعيد الفلسفة بناء ذاتها باحتضان المستجدات العلمية، كل نسق فلسفي يستجيب للعلم المعاصر له، ويتبنى نتائجه لتكون حججا على صحته، وهذا يبرره، تغير الأنساق الفلسفية، وإن لم يكن بشكل كلي، على إثر كل ثورة علمية.

ثانيا: النظر إلى النسق العلمي السائد في فترة تاريخية ما، في علاقته بالفلسفة المعاصرة له؛ لأن فهم الممارسة العلمية يتطلب ممارسة فلسفية عميقة، لكشف طبيعة وأسس المعرفة العلمية، كما أن كثيرا من المفاهيم العلمية تكونت ونشأت في الفلسفة لتخرج بعد اكتمال نموها إلى العلم، بل تصبح علوما مستقلة بذاتها.

يمكن البحث في الفلسفة والعلم، برؤية شمولية ومتناسقة، من بيان وإظهار خيوط تداخلهما، لحصول فهم متين بالنظر العقلي والممارسة العقلية الخالصة المقطرة والمعزولة عن الشوائب الإيديولوجية والسياسية، والمترفعة عن القراءات الاقتباسية والاختزالية.

سنحاول، انطلاقا من هذه الخلفية، البحث في الفكر النظري بالرجوع إلى "تاريخ العلوم" و"تاريخ الفلسفة"، بالوقوف على محطات من "تاريخ الأنساق النظرية"، وهي: الفترة اليونانية (أفلاطون) والمرحلة الحديثة، (الثورة الكوبيرنيكية في مجال الفلك وصداها في فلسفة ديكارت، فيزياء نيوتن وتجلياتها في فلسفة كانط) ثم المرحلة المعاصرة من خلال التناول الإبيستملوجي للمستجدات العلمية في مجال الفيزياء (النسبية والكم Quantique)، بغية الكشف عما يميز العقلانية المعاصرة عن العقلانية الكلاسيكية.

I- النموذج اليوناني للعقلانية

1- أفلاطون:

يميز أفلاطون بين المعرفة والرأي، حيث هناك فرق بين معرفة شيء ما والاعتقاد في أنه كذلك، وهذا يعني أن المعرفة ترتبط بالحقيقة؛ فمعرفة قضية ما تتضمن أن هذه القضية صحيحة. أما الاعتقاد، فقد يكون باطلا حتى وإن كان صحيحا، فلا يمكن القول إنه معرفة، اعتقادي عن شيء ما لا يدل على معرفتي بذلك الشيء، هنا يتضح أن المعرفة هي إدخال إضافة على الاعتقاد الصحيح هذه الإضافة هي التفسير والبرهان.

هذه المسألة في تحليل المعرفة بينها أفلاطون في محاورتين هما: "مينون" و"تيتياتوس" التي يناقش فيها أن العلم هو الاعتقاد الصحيح المؤيد بالبرهان، فحين يقول في الأولى أن المعرفة هي القدرة على التفسير. من هنا نستخلص أن المعرفة ترتبط "بما يكون" على خلاف الاعتقاد يرتبط بـ"ما يكون ولا يكون" وهذا ما يجعل الرأي ذا طابع حسي. لذلك، يصر أفلاطون على أن المعرفة تقتضي الانتقال من العالم الحسي إلى العالم المجرد؛ لأن العالم الحسي العالم العادي الذي تكشفه لنا الحواس، عالم التغير والفوضى يجب عقلنته فبواسطة العقل تنتظم فوضى الحواس، بمفاهيم عقلية خالصة مقطرة من كل شوائب التجربة الحسية؛ لأن بالعقل وحده نفهم موضوعات العالم الخارجي هكذا ننتقل من المحسوس إلى المجرد من العالم المادي إلى عالم الفكر، عالم المثل.

إن رفض أفلاطون للحواس مصدرا للمعرفة، ناتج عن إبعاد العقل عن التجربة، باتجاه الممارسة الخالصة للتفكير وهنا يعطي أهمية للرياضيات يقول: "إن علم الحساب لديه قدرة كبيرة على الارتقاء بالنفس إلى الأعالي، ودفعها إلى تأمل الأعداد في ذاتها، حيث ترفض بحث مجموع الأشياء المادية التي تمثل أشياء منظورة أو ملموسة"[4]، وبعد يأتي علم الهندسة ثم علم الفلك، نظرا لقمة التجريد فيه وغياب التجربة الحسية "علينا أن ندرس علم الفلك كما درسنا الهندسة بأن نضع لأنفسنا مسائل نحاول حلها، وسنترك السماء المحتشدة بالنجوم جانبا، إن شئنا أن نستخلص من هذه الدراسة ما يمكن أن نعود بالفائدة على ذلك الجزء العاقل بطبيعته في نفوسنا"[5]. يتضح من هذا أن الحقيقة تأتي من التفكير في الأشياء المجردة التي يغيب فيها كل ما هو محسوس، ومادام عنصر التجربة يختفي في الرياضيات فإنها خطوة حاسمة في بلوغ التفكير المجرد الذي لا دخل للتجربة فيه، لذا "هذه الدراسة (الرياضيات) ضرورية لنا بحق ما دمنا قد تبينا بوضوح أنها تدفع النفس إلى استخدام الفكر الخالص للوصول إلى الحقيقة في ذاتها"[6].

وفي محاورة "تيتياتوس" يناقش أفلاطون على لسان سقراط علاقة العلم بالحواس، ويسعى إلى الحصول على تحديد للعلم، حيث يدلي محاوره (تيتياتوس) بثلاثة تحديدات ينتقدها سقراط، وهي: العلم إحساس، العلم هو الرأي الصحيح، والعلم هو الرأي الصحيح المؤيد ببرهان عقلي.

التحديد الأول ينتج عنه القول بنسبية وتعميم المعرفة؛ لأن الأشياء متغيرة والحكم عليها سيكون متغيرا ونسبيا، مما يجعل الاتفاق حولها غير وارد، وتتغير من شخص إلى آخر، وهذا هو معنى قول بروتاغوراس: "الإنسان مقياس كل شيء"، هاته العبارة ذات الأصول الهيرقلطسية، (هيرقلطس) الذي يرى أن كل شيء في حركة، وحتى الأفكار لا يمكن أن تكون ثابتة، بل تتغير من شخص بتغير الأفراد، وانطلاقا من هذا يرفض سقراط أن يكون هذا التعريف حقيقيا للعلم، ما دام ينفي ثبات وضرورة الحقائق، فليس العلم إذن إحساس؛ لأن وراء الحواس حقيقة لا نستطيع حدسها إلا بالعقل.

أما التحديد الثاني، فيساوي العلم بالرأي الصحيح، والرأي ظن، قد يكون ظن بأشياء، رغم عدم حصول العلم بها، والآراء قد تكون صحيحة نتيجة صدفة، لكنها غير نابعة من يقين وضرورة، بل عن ظن.

أمام هذا الانتقاد يقترح تيتياتوس التحديد الثالث، ليصبح العلم هو الرأي أو الاعتقاد المؤيد ببرهان عقلي، لكن سقراط يرفضه؛ لأنه لا يضيف جديدا للتحديد الثاني، بل يصححه فقط، فبالإمكان تقديم براهين على آراء خاطئة وناتجة عن الظن، دون أن يعني ذلك أن تلك الظنون ستصبح صحيحة بمجرد تقديم براهين[7]، فالآراء تحمل براهينه في ذاتها. وعليه ليس العلم إحساس ولا اعتقادا صحيحا، ولا رأيا نبرهن عليه، وإنما العلم يحمل معايير صدقه في ذاته. وكل ما عد ذلك سينزع عن العلم الضرورة واليقين، العلم برهنة عقلية تفرض نفسها، وتكون الحقائق معيار صدقها، العلم استنباط وليس إدراك. لقد أراد أفلاطون أين يؤسس العلم على أساس صلب، بعد انهيار اليقين الرياضي على إثر الأزمة الفيتاغورية. لهذا يبحث عن أساس لليقين خارج التجربة والإحساس، بحثا عن أسس غير تجريبية.

هذا البحث عن ضمان لليقين المعرفي، خارج الإحساس ظل حاضرا في التقليد العقلاني بشتى تلاوينه؛ لأن التجربة الحسية لا تعطي الكلية الحقيقة والدقيقة. على خلاف التقليد التجريبي الذي بدأ مع أرسطو.

II- النموذج الحديث

1- ديكارت والثورة الكوبيرنيكية:

ظهرت نظرية كوبيرنيك، من خلال كتابه: "دوران الأفلاك السماوية" (1543)، واهتزت الأرسطية بجعله الأرض تدور حول الشمس، ظلت الكوبيرنيكية فرضية رياضية كانت تفتقد إلى أساس فيزيائي، ولكنها مع ذلك استطاعت زعزعة المألوف، وقد استمدت قوتها من كونها استطاعت رياضيا أن تحل مشكلة تحير الكواكب؛ وذلك عندما اعتبر كوبيرنيك أن تحريك الملاحظ سيحل هذه اللغز؛ لأن الأرض التي يوجد عليها الملاحظ ليست نقطة ثابتة، بل هي متحركة أيضا. والمشكلة تجد حلها في حركة الملاحظ[8]، وما التحير إلا وهم.

كان من نتائج إزاحة الأرض عن مركز الكون، انهيار مفهوم الحقيقة المطلقة والمعرفة الدقيقة بنظام العالم ومكوناته، ومن ثمة فقدان الثقة في المعرفة الحسية، فإذا كانت الأرض تدور وتتحرك، فهذا يعني أن الإنسان الملاحظ لا يقف على مركز ثابت، وبالتالي كل ما كان يراه لم يكن حقيقية الواقع، بل كان يرى العالم كما يظهر وفقا لزاوية نظره تلك، وبهذا فالمعرفة نسبية. لقد كان ثبات الأرض، يضمن للمعرفة الإنسانية صدقها وصلاحيتها المطلقة، ومع دوران الأرض ستصبح نسبية.

مما فرض ضرورة بناء العلم والفلسفة على العقل، فإدراك الحقيقة لم يعد يتطلب الملاحظة الحسية، بل يقتضي من الإنسان أن يتموقع بفكره، لا أن يبقى سجين الحواس.

أصبحت المنظومة الجديدة ترتكز على فلك كوبيرنيك، وفيزياء جاليلي، بعد انهيار الفلك البطليمي والفيزياء الأرسطية، ويجب أن يتماشى بناء فلسفة مع العلم الجديد، هذا ما فهمه ديكارت DESCARTES، لقد فهم أن الثورات الفكرية لا تكتمل بالاكتشافات العلمية، بل إن هذه العلوم الجديدة، تظل في حاجة إلى سند يكملها ويدعمها، وديكارت هو من سيعطيها هذا السند، والذي لن يكون سوى الفلسفة الجديدة. عندها ركز اهتمامه على مسار الفكر وطريقه؛ أي على الطريقة التي يهتدي بها العقل إلى الحقيقة العلمية، هكذا لم يعد الاهتمام منصبا على موضوع المعرفة، وإنما على أداة المعرفة نفسها، ولم يعد السؤال: هو ما موضوع المعرفة؟ بل أصبح: كيف أتوصل إلى المعرفة؟ وهذا هو موضوع "خطاب المنهج".

كتب ديكارت إلى مراسله وصديقه "الأب مرسين" يقول: "كنت قد عزمت على أن أبعث إليك بكتابي "العالم" في أعياد الميلاد هذه..، غير أنني سأخبرك أنه وبينما كنت أبحث هذه الأيام عن كتاب "نسق العالم" لجاليلي... أخبرت أنه قد طبع حقا، غير أن كل النماذج أحرقت في روما، وأن صاحبه قد أدين. وهذا ما أثار دهشتي حقا، إلى حد أنه جعلني أعزم على حرق جميع أوراقي -أو على الأقل- أن لا أطلع عليها أحدا؛ وذلك لأنني لم أكن أتخيل أن يجرم لا لشيء إلا لأنه أراد أن يثبت حركة الأرض… وإني لأعترف أنه إن كان هذا باطلا، فإن كل فلسفتي ستكون باطلة، لأنها تبرهن على حركة الأرض بوضوح. إن هذه الأخيرة مرتبطة على نحو وثيق بكل أجزاء رسالتي، حيث لا أستطيع فصلها عن هذه الأجزاء، دون أن يختل الباقي، ولكن لما كانت لا أريد أن يصدر عني أي خطاب تستهجنه الكنيسة، فإني أحببت أن ألغيه على أن أجعله يبدو ناقصا".[9]

ديكارت كان على وعي تام بأن العمل الذي يتبع الثورة العلمية هو إلغاء أنماط التفكير القديمة، وتقديم منطلق جديد. لكن البراديغم القديم لم يستسلم، ولم يغادر الساحة النظرية بعد، بل كان يقاوم الفكر الجديد مقاومة شرسة مادام أنه كان يحظى برعاية السلطتين الدينية والسياسية، من هنا كان العمل على إضعاف أساساته وتقويض دعاماته هو السبيل إلى إبعاده أيضا.

في كتابه مقال في المنهج يقول: "أول ما ينبغي أن يتوفر لدى الفيلسوف، قبل أن يخوض مغامرة البحث عن الحقيقة هو مطلب المنهج، ففشل الفلاسفة وعجزهم عن بلوغ الحقيقة مرده إلى أنهم لم يكونوا ممسكين بمنهج سليم وواضح… ومن الأفضل للإنسان أن يعدل عن التماس الحقيقة إذا لم يكن لديه منهج واضح."[10]

بين لديكارت أن بإمكانه أن يعيد بناء صرح العلوم من جديد، مادامت قد انهارت بانهيار أسسها، وقد خلص إلى هذا نتيجة لتأمله في الأعمال التي يقوم مؤلف واحد فقط: "فالمدينة التي صممها مهندس واحد تكون أحسن معمارا وبناء من مدينة شيدت تدريجيا، وطوال قرون من قبل بنائين دون تشاور بينهم"[11]. ونفس الشيء يقال عن المنهج والقانون.

إن إعادة بناء العلوم وفق مخطط يوحدها ويربط بين أجزائها المتفرقة، ويكون بعضها متوقفا على بعضها الآخر، يفترض سلفا أن يحصل القيام بمسح للطاولة وإفراغها من الشوائب التي علقت بها، لكن بطبيعة الحال بعد الإمساك بالمنهج الذي يجعل الأسس التي تبنى عليها العلوم.

غير أن البناء يتطلب أسسا جديدة، وبالتالي فقبل البناء لابد من تحطيم البناء القائم الذي أصبح متداعيا قابلا للانهيار في أية لحظة. وهذا لن يتم إلا بالشك، فالشك هو الأداة الأنسب للتخلص من كل الآراء المسبقة.

لهذا عندما استخدم قواعد المنهج وأعاد النظر في ما يتوفر عليه من معارف لم تصمد أي منها أمام قوة الشك؛ بمعنى أنه كان يحتفظ بتلك الأفكار دون برهان، وهذا يعطي للشك مشروعيته في أن يطال كل شيء، وجود الأنا، وجود الله، وجود العالم، حتى الحقائق الرياضيات.

ومنه يجب البحث عن الحقيقة داخل الذات، وعاد بالفكر إلى ذات مفكرة خالصة بعيدا عن كل الأشياء الطبيعية وعبر هذا الشك توصل إلى الحقيقة الأولى، وهي "أنه موجود مادام شيئا مفكرا"[12]، هكذا وصل إلى نقطة الارتكاز التي كان يبحث عنها، وهي الفكر.

والفكر يدرك وجوده في فعل التفكير، يقول: "لقد اقتنعت قبلا أنه لا يوجد في العالم شيء على الإطلاق، لا سماء، لا أرض، لا نفس، لا أجسام... ولكنني متيقن من أني موجود... ولا يمكن لأي كائن مهما كان قويا وشديد القوة أن يضللني ويجعلني لا شيء، مادامت أفكر"[13].

لكن كيف يمكن الخروج من الذات إلى الامتداد؟

استدعى ديكارت كائنا أقوى، هذا الكائن هو الله الذي هو الحقيقة الثانية بعد الكوجيطو.

نلاحظ هنا أن الفكر لم يخرج عن ذاته، ليصل إلى الله من خلال سلسلة العلل الطبيعية كما كان سائدا في الفكر الأرسطي، بل إن فكرة الله فطرية والله هو ضامن ما يتوصل إليه الفكر من حقائق في هذا إذن أن الله لا يخدع، لأنه كامل.

وصل الفكر الآن إلى حقيقة وجود الله، وبرهن على ذلك، لم يتبق إلا وجود العالم الذي مازال موضع شك، والحقيقة أن غاية ديكارت كانت هي العالم، فهو لم يثبت الحقيقتين السابقتين إلا ليؤسس للعالم، فغايته هي تأسيس الفيزياء، وبالتالي الوصول إلى العالم، والبحث عن طبيعة الأشياء المادية، وسبب هذا راجع إلى أن جوهر الأشياء المادية هو الامتداد، وإدراك حقيقة العالم لا يتوقف على ماديتها، بل على الامتداد باعتباره فكرة عقلية تتمتع بالوضوح والتميز. والامتداد هنا هو كل ما له أبعاد وخصائص رياضية كالطول والعرض والشكل والحركة، وهذه خصائص لا تدرك بالحس، وإنما بالعقل "العقل يدرك المعقولات، والحس يدرك المحسوسات"، فالعقل الآن يدرك كل الأشياء، ويقوم بكل عمليات التفكير، فالفكر والتخيل والإحساس والإرادة كلها أحوال للعقل فقط. أما الجسم، فلم يعد يفكر، فالفكر لا يمتد. والامتداد لا يفكر "وعلى الرغم من أنه لدي جسم اتصلت به اتصالا وثيقا، فلدي فكرة واضحة ومتميزة عن نفسي، باعتبار أنني لست إلا شيئا مفكرا، ولدي فكرة واضحة متميزة عن الجسم، باعتبار أنه ليس إلا شيئا ممتدا، لا شيئا مفكرا، لذا ثبت عندي أن هذه الأنا، أعني نفسي... تتميز عن جسمي... وهي قادرة على أن توجد بدونه".[14]

بهذا المعنى، أصبحت الطبيعة امتدادا عاطلا لا قدرة له على الفعل، وبهذا أفرغ ديكارت المادة من كل أشكال الحياة والفكر، فالمادة لم تعد تؤثر في المادة، والتمييز بين الفكر والامتداد، وبالتالي بين النفس والجسد هو الأساس الميتافيزيقي الذي قدمه ديكارت للفيزياء الحديثة.

وبالعودة إلى المبدأ الذي انطلقنا منه، والذي يظهر من خلاله أن حركية الأفكار لا ترتبط بغايات الفلاسفة والعلماء، بل تخضع لمنطق خفي يشتغل في عالم موضوعي بعيدا عن متناول الإنسان، يتجسد هذا المبدأ في نسق ديكارت ويحضر بقوة.

غاية ديكارت كانت هي التأسيس لفلسفة حديثة موازية للعلم الحديث، وكانت هذه الفلسفة هي الفصل بين الفكر والامتداد، بين النظر والعيان، بين النظرية والتجربة. وهذا هو المشكل الذي سيظل عالقا في الفكر باختلاف تلاوينه وصيغه.

2- كانط والعقلانية النقدية:

استطاع نيوتن أن يجمع شتات الأفكار الفيزيائية للعصر الحديث، في نظرية متناسقة منطقيا وموحدة، في إطار تصور منسجم ومتكامل للكون، شكل براديغما وخلفية نظرية لكل الأبحاث الفلسفية والعلمية إلى أواخر القرن التاسع عشر، كل الأفكار سواء العلمية والفلسفية تتحرك داخل هذا النسق، ولم تقبل أية فكرة لا تتماشى والمبادئ الفيزيائية لنظرية الجاذبية ويلقى بها في الهامش. ومن بين المبادئ التي أسس عليها نيوتن النظرية التي وضعها في "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية" (1685)، فكرة الجاذبية والزمان والمكان المطلقين.

وإذا كان العلم الحديث بلغ نضجه واكتماله مع نيوتن، فإن الفلسفة الحديثة ستبلغ أوجها مع كانط، وبذلك تشكل بؤرة الفلسفة الحديثة، فهي أكثر فلسفة استجابة للفيزياء النيوتنية. في هذا الصدد، سنحاول التركيز الحضور هذا العلم في الفلسفة الكانطية.

في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب "نقد العقل الخالص" يذكر كانط عالم الفلك كوبيرنيك (1473- 1543)، ويظهر إعجابه بالمنهج الذي اتبعه في كتابه "دوران الأفلاك السماوية"، باعتباره منهجا جديدا وثورة منهجية، قام إثرها تجديد علم الفلك، هذه الجدة ترتب عنها تجديد علم الطبيعة، هذا الإعجاب بعلم الفلك يدل على إعجاب بنجاحات وتقدم العلم، في الوقت الذي تفشل فيه الميتافيزيقا. هنا يحلل كانط ويفحص طبيعة العلم وأسباب نجاحها وفي نفس الوقت طبيعة الميتافيزيقا وسر تأخرها وحاول أن يبحث لها عن أسس جديدة في العلم المعاصر له، وهو الفيزياء النيوتنية والهندسة الأقليدية، ليبني نظرة بديلة نظرة نقدية للنظرة التقليدية، وهنا يعود إلى المبادئ التي تقوم عليها الميكانيكا النيوتنية والرياضيات للكشف عن أسس العقلانية.

لقد كان للثورة العلمية الحديثة انعكاس عميق على الفلسفة الكانطية، في مقدمة الطبعة الثانية "نقد العقل الخالص" يتحدث عن نشأة الفيزياء الحديثة ويذكر فرنسيس بيكون وغاليلي وطوريشلي، ويقول إن الملاحظة والتجربة تحتاجان إلى مبدإ عقلي لقيام العلم ويتم اكتشاف قانون الظواهر، لا يعرف العالم من الطبيعة إلا ما يفرضه عليها، والمقصود هنا بالفرض هو إضفاء الصورة العقلية يقول: "عندما عمل (غاليلي) على إسقاط كراته على سطح مائل تبعا لسرعة محددة واختارها هو بنفسه أو عندما افترض (طوريشلي) للهواء وزنا كان يعرف أنه مساو لعمود من الماء، وعندما عمل بعد ذلك (ستال)على تحويل المعادن (...) كل ذلك كان بمثابة نور جديد لجميع علماء الطبيعة، أدركوا أن العقل لا يدرك إلا ما يعينه وفق تصميماته الخاصة (...) إن علم الطبيعة مدين بالثورة السعيدة التي تمت في منهجه إلى هذه الفكرة البسيطة، يجب عليه أن يبحث في الطبيعة، لا عما يمكن أن يعلمه وما يجب أن يتعلمه منها، إنما وفقا لما يضعه فيها، بهذا النور دخلت الطبيعة في الطريق المؤكد للعلم بعد أن كانت باقية مدة طويلة في مرحلة المحاولة"[15].

يتضح من هذا، أن العقل يوجه الموضوعات بعد أن كان يسير وفقها، (وهذا هو معنى الثورة الكوبيرنيكية التي قام بها كانط في الفلسفة)؛ لأن العقل يمتلك أحكاما قبلية حول موضوعات التجربة، الظواهر تحكمها الفوضى، لا تحمل في طياتها قانون، ولو كان الأمر كذلك لا كانت منظمة، المادة عاطلة لا تفكر، وهذا هو مبدأ القصور الذاتي. لذا يتدخل العقل ليفرض قانونا ينظم الموضوعات الحسية.

وهذا هو الدافع إلى طرح سؤال: كيف تكون الفيزياء والرياضيات ممكنتين؟ كان الجواب العلم يحدد موضوعاته قبليا؛ أي إن موضوعات العلم لا تعتمد على التجربة، فرغم أن التجربة لها سبق زمني لكن هناك شيء يسبقها منطقيا يضفي على قضايا العلوم الشمولية والضرورة، هذا الشيء ينبغي البحث عنه في الحدس الخالص.

البحث للمعرفة العلمية عن الأسس العقلية القبلية هوما يسمح بإمكانها كمعرفة ويسمح حتى بإمكان التجربة.

في كتاب "مقدمات لكل ميتافيزيقا مستقبلية" يوضح كانط كتاب "نقد العقل الخالص" والمقصود هنا بالتوضيح، هو التصريح بما هو ضمني في العقل الخالص بخصوص إمكانية الفيزياء والرياضيات.

إذا كانت المعرفة الرياضية معرفة ضرورية يقينية ولا تستند لأساس تجريبي، إذا كانت إنتاجا عقليا خالصا وتتسم بالتركيب، فكيف يستطيع العقل تأسيس معرفة من هذا النوع بصورة قبلية؟

كل معرفة رياضية تكون تصوراتها حاضرة في الحدس الخالص، لكن هل من الممكن قيام حدس لا يعطى بعديا؟ الحدس يحتوي على صورة الحساسية التي تسبق كل الانطباعات الواقعية التي تؤثر على الذات، إدراك الموضوعات قبليا يتم بصورة الحدس وله صورتا المكان والزمان وبهما تبنى الرياضيات. الحدس الخاص مادة الأحكام التركيبية القبلية. علم الهندسة أساسه الحدس الخالص للمكان، لكن ماهي الهندسة التي يتحدث عنها كانط؟ إنها الهندسة الأقليدية، وكل ما عد ذلك سيكون تصورا عقليا خالصا غير قابل للتركيب، وشبيه بالقضايا الميتافيزيقيا. نشير هنا أن المكان في الهندسة الأقليدية مكان مطلق.

أما الفيزياء التي تفترض التآني بين فعلين أو حركتين، فذلك يتطلب حدسا قبليا بالزمان، جميع القضايا الفيزيائية تقوم على قبلية الزمان؛ بمعنى تقوم على حدس خالص للزمان غير مسبوق بالموضوع. لكن الحساسية لا تمد الذات سوى بأحكام أمبريقية jugements empiriques منظمة في الزمان والمكان، والقضايا الفيزيائية كلية وضرورية، لذا يجب الربط بين الوقائع الطبيعية ربطا عقليا، لذا لابد من وجود مقولة عقلية تضاف إلى الحساسية وتضفي على الأحكام العلمية المعقولية والترابط، هذه المقولة القبلية هي فكرة السببية.

لكن سيظهر مشكل آخر هو: كيف يتم الربط بين الحدوس الحسية والفهم، بين الحدس والعقل؟ هنا، سيقول كانط بـ "نظرية الرسم"، وهي نظرية تعتبر المخيلة حلقة وصل بين الحساسية والفهم، بإبداع رسوم تخطيطية أو رموز تنظم الحدوس الحسية؛ لأن العقل لا يفكر في شيء رسمه بشكل تخيلي، نظرية هي النظرية التي تقول بوجود "مجموع من العمليات الضرورية لربط تصور فكري بالحدس المقابل له"[16].

نلاحظ هنا الصفة القبلية للعقل عند كانط، حيث المكان والزمان صورتان قبليتان، بهما تصبح التجربة ممكنة ويتم حدس الموضوع الحسي، بإضفاء الطابع التركيبي عليه والربط بين الظواهر ربطا قبليا بواسطة الفهم، باعتباره ملكة اتصال بين المبادئ القبلية والمعطيات البعدية، هذا الربط يقتضي الضرورة والكلية التي تستمد من العقل.

III) العقلانية المعاصرة:

1- الثورة العلمية المعاصرة:

أدى عجز النظرية الفيزيائية الكلاسيكية عن استيعاب الشدود العلمي[17]والتحديات التي واجهتها، إلى حدوث انقلاب علمي فقدت، الفيزياء النيوتنية، على إثره سيادتها العلمية، بعد أن عجز العلماء الذين يعملون تحت مظلة البراديغم النيوتني، عن تفسير واحتضان الظواهر المستجدة وفق قواعد الميكانيكا الكلاسيكية، مما فرض ضرورة تغيير مجموعة من القوانين ووضع أخرى جديدة تستطيع عقلنة الواقع الفيزيائي الجديد؛ لأن العقل لا يستطيع تغيير الواقع وإنما يصوغ قوانين تنظمه. ومن بين الوقائع الأساسية التي نتج عنها، زحزحة وخلخلة النسق الفيزيائي الحديث، نذكر الظواهر الذرية، "وبقدر ما كانت التجارب الدقيقة تسمح بالنفاذ أكثر إلى هذا الميدان (الذري) والكشف فيه عن حوادث غريبة وغير متوقعة، بقدر ما أخذ المنظرون يجتهدون في تمطيط الأفكار وطرائق الاستدلال، التي حققت نجاحا كبيرا على المستوى الماكروسكوبي، لتشمل هذا الميدان الجديد"[18]، ظهور الواقع الميكروسكوبي أدى إلى البحث عن القوانين التي تتحكم فيه عن طريق تغيير الأفكار التي كانت سائدة وآليات الاستدلال المعروفة، مما أدى إلى مراجعة كاملة للمفاهيم الكلاسيكية، وتجاوز الإطار النظري الكلاسيكي للزمان والمكان، لأن حركة الإلكترون لا يمكن ضبطها في الزمان والمكان كما حددهما نيوتن، الجسيم ينفلت من قبضة التحديد في كل لحظة، وهذا ما تؤكده النظرية الكوانتية، التي تكشف أن المفاهيم الأساسية، التي تقوم عليها الفيزياء الكلاسيكية، عاجزة عن وصف الظواهر الذرية، وصفا ميكروسكوبيا. المفاهيم والتصورات والقوانين المنظمة للمجال الماكروفيزيائي لا تصلح في مجال مختلف تماما. مفاهيم مثل الجسم والقوة، داخل الواقع الجديد لا تمثل شيئا حقيقيا داخل الذرة، مع العلم أن هاته المفاهيم في إطار مفهوم مطلق للزمان والمكان المنفصلين، الزمان الكلاسيكي الذي يتشكل من لحظات متتالية متصلة، والمكان الكلاسيكي ذو الأبعاد الثلاثة (الطول والعرض والارتفاع) الذي تتموضع فيه الظواهر الفيزيائية، وهذا دحضته نظرية النسبية التي كشفت عن أن المكان والزمان غير منفصلين[19] يكونان إطارا واحدا ذا أربعة أبعاد، وعلى الرغم من أهمية ما قاله آينشتاين، فإن تحديد الأشياء في المكان والزمان كان ممكنا بالنسبة إلى الملاحظ، لأنه (الزمكان) مستقل عن الأشياء، وهذا لم يعد ممكنا في الفيزياء الكوانتية، حيث يفقد إطار الزمان-المكان قيمته في المستوى الذري[20]. لقد تم بناء مفهومي الزمان والمكان في الفيزياء الكلاسيكية بناء ذهنيا مستقلا عن الأشياء القابلة للملاحظة الحسية، إلى درجة أصبح هذا التصور يعتبر شيئا طبيعيا، وهذا ما أدى إلى اعتبار مفهوم الزمان ومفهوم المكان مفهومين قبليين.

وفي ضوء المستجدات العلميات للفيزياء الكوانتية، المتعلقة بالأشياء المتناهية في الصغر، وجب التخلي عن هذا التصور؛ لأنه لا يمكن تحديد "الزمان- المكان" بغض النظر عن الأشياء، فالخصائص الدينامية للشيء تؤثر على الزمكان[21]، ومثال ذلك: إذا تخيلنا ملاحظا ميكروسكوبيا يقوم بأبحاثه داخل مختبر ذري، فإن مفهومي الزمان والمكان لن يكون لهما بالنسبة إليه نفس المعنى الذي يحمله الإنسان العادي[22].

هذا الواقع الجديد، والعلاقة الجديدة بين "الزمان-المكان-الشيء" في الفيزياء، بالإضافة إلى ظهور الهندسات غير الأقليدية التي كشفت عن نسبية المكان، وظهور نظرية المجموعات في الجبر، كلها أسباب علمية تعلن عن نهاية عهد علمي وبداية آخر يعيد النظر في المسلمات والبديهيات، في علاقة العقل بالواقع، في علاقة الرياضيات بالفيزياء، في المنطق، هذا الكل العلمي سينعكس صداه في الفلسفة المعاصرة وسيدفع لبناء عقلانية جديدة. فماهي النتائج الإبيستملوجيا لهذه الثورة العلمية؟

2- العقلانية العلمية المعاصرة:

تنطلق العقلانية المعاصرة من تحليل طبيعة العلم المعاصر، وتؤكد على الطابع الرياضي، حيث لا يتم بناء التصورات العلمية بملاحظة العلاقات القائمة بين الظواهر تجريبيا، بل بإنشاء شروط نظرية تمكن من الوقوف على العلاقات الرياضية التي تحكمها؛ بمعنى بناء التجربة عقليا، لأن حدس ظاهرة ما لا يدل على أسس الواقعة أو الظاهرة دفعة واحدة، والموضوع العلمي غير معطى، وإنما يتم بناؤه على ضوء خلفية نظرية موجهة للملاحظة، الملاحظة العلمية هي دائما تحمل طابعا نظريا، وما الواقع العيني الملاحظ سوى مؤشر يفهم انطلاقا من فرض معين وبهذا يتحول من الواقع الخام غلى واقع علمي، لهذا التجربة نظرية أنزلت إلى الواقع (كما يقول جون ألمو)، حيث لا تكتسب التجربة معناها العلمي إلا حينما تنسب إلى نظرية، التجربة ليست تجربة في حد ذاتها بل ناتجة عن نظرية سابقة، يقول باشلار: "التجربة لا تكون جيدة إلا كانت تامة، وهذا ما لا يحدث إلا في التجربة المسبوقة بنظرية تامة"[23]، فما يسمح بمعرفة ظاهرة علمية أو حدث تجريبي هو النظرية التي تمده بقوته العلمية.

المعرفة العلمية تتطلب مادة معرفية مسبقة ولا يمكن قيام معرفة من عقل فارغ من مادة نظرية، بهذا تقيم العقلانية المعاصرة علاقة جدلية بين العقل والتجربة؛ أي هناك تأثير متبادل وحوار دائم بين الفكر والتجربة؛ لأن العلم لا يكتفي بشرح وتفسير المعطى، بل يفكر في إمكانات التجربة، ففي الممارسة الاختبارية لا تقف النظرية عند مستوى التفسير، بل تبحث عن الإمكانات التي تنظم التجربة رياضيا ومن هذا "التنظيم الرياضي لإمكانات التجربة نعود إلى التجربة بطرق أكثر يقينا"[24].

نلاحظ هنا الدور الذي توليه العقلانية المعاصرة للرياضيات، إنها تقوم بترييض التجربة، هذا الترييض ينقل التجربة من التجربة الأولى الساذجة إلى التجربة العالمة، حيث يتحد ويتجانس الواقعي (الفيزياء) بالممكن (الرياضيات)، تجانس يوفر شروط إمكان فهم الواقع وتفسيره، لأن العلم يفرض إبداع نظريات يكون الغرض منها تجاوز التناقضات التي تعوق تقدم العلم.

بهذا، يصبح الواقعي حالة من حالات الممكن كما يصبح تفسيره متعلقا بالمسلمات الأولى التي أنشأته وببنية أعم وهي بنية العقلي الذي له جذور واقعية عميقة باعتباره منفصلا عن الواقع. لهذا لا يبلغ الواقع العيني الخالص إلا من كان على علاقة بأية عملية إضفاء الصبغة الصورية (أو كما يقول روبير بلانشي). المعرفة انفتاح للعقل على الواقع، في هذا الانفتاح يسمو الفكر بالواقع كي يحيط به إحاطة شاملة، بإضفاء الطباع الرياضي الصوري عليه، حيث لم تعد الرياضيات مجرد مساعد لغوي أو لساني يساهم في تنظيم الواقع في معادلات رياضية، بل أداة اكتشاف ومفتاح لفهم الطبيعة؛ لأن العلم ليس تسجيل مرآوي لما يقع من ظواهر وإنما بناء رياضي للظاهرة.

هذا التداخل بين العقل والتجربة، الرياضي والفيزيائي يعبر عنه باشلار بقوله: "الحركة التي تغذي الفكر العلمي حركة تتأرجح بين ما هو قبلي وما هو بعدي حركة ترتبط فيها النزعة التجريبية بالنزعة العقلانية، كل واحدة منهما تعزز الأخرى وتبررها، لأن النزعة الاختبارية في حاجة إلى أن تتعقل، والنزعة العقلانية في حاجة أن تطبق، فبدون قوانين واضحة، استنتاجيه، مترابطة ومنسجمة، لا يمكن للنزعة التجريبية أن تكون موضوعا للتفكير، ولا مادة للتعليم وبدون براهين ملموسة، وبدون التطبيق على الواقع المباشر، لا يمكن للنزعة العقلانية أن تتوفر على قوة الإقناع التام، القانون التجريبي لا تتأكد قيمته إلا عندما يصبح استدلال، والاستدلال نفسه لا تتأكد مشروعيته إلا عندما يصبح أساسا للتجربة"[25]

المعرفة العلمية تتحرك بين القطبين الإبيستملوجيين الذات والموضوع، بين النظرية والتجربة بين الرياضيات والفيزياء. إنها عقلانية تطبيقية، تترجم الواقع التجريبي إلى نظرية رياضية منظمة تنظيما عقلانيا، وتعزل الواقع الفيزيائي عن العناصر اللاعقلانية التي تحملها التجربة الخام، تجربة الحس المشترك التي تشكل عائقا أمام التقدم العلمي؛ فالعلم الفيزيائي المعاصر بناء عقلاني، يبعد كل صرحه عن الشوائب اللاعقلانية، يجنب الظاهرة الفيزيائية كل مسار لا عقل، والفكر العلمي لا يقوم إلا بهدم الفكر اللاعلمي، هذا الهدم هو ما يجعل العقل في حيوية دائم التكون وقابل للتجديد والتقدم، على خلاف النزعة العقلانية الكلاسيكية التي تتميز بطابعها السكوني والجامد الناتج عن الاعتقاد في وجود مصدر مطلق. لذلك، يجب إضفاء طابع النسبية والمرونة على العقل، في إطار علاقة جدلية بين العقل والواقع، بين الرياضيات والفيزياء، وفتح قنوات الحوار بين أفلاطون وأرسطو، بنقد العقل والتجربة معا، والصلح بينهما.

خاتمـــة:

تتميز العقلانية التقليدية من أفلاطون إلى كانط بالانغلاق، حيث تعتبر العقل حاصلا قبليا على كل المقولات الضرورية لمعرفة العالم الخارجي، وعلى استعدادات ذهنية لا دور للتجربة فيها، فالعقل كامل البناء وخزان لأفكار فطرية، وهو الضامن لليقين، مادام العالم الحسي تملأه الفوضى ويعتريه التغير والحركة، فالحواس لا تمدنا إلا بالأوهام، وهي خادعة مما يجعلها عائقا أمام تأسيس معرفة يقينية، مما يؤدي إلى تهافت كل معرفة قائمة على الحواس، إذ ستكون نسبية وغير يقينية، لهذا يجب العودة إلى الذات والانغلاق على نفسها لإنتاج الحقيقة.

لقد حاول كانط تجديد العقلانية، بتحويل العقل من وعاء لأفكار فطرية، إلى فعالية تضفي الطابع التركيبي على المعرفة، يتخذ العقل هنا طابعا إيجابيا، لا يقوم بالحدس فقط كما هو عند ديكارت، وتحول إلى مجموعة معايير وقواعد لإمكانية قيام تجربة ومعرفة علمية بها، أصبح العقل نشاطا يعيد بناء الواقع والتجربة. ولم تنحصر وظيفته في مجرد تصنيفات منطقية، مثلما يوجد عند أرسطو. لكن رغم ذلك ظلت الكانطية تؤمن بأولوية العقل على الواقع، لذلك يتم تصنيفها في إطار العقلانية الكلاسيكية.

ونشير هنا إلى أن الأساس العلمي الذي قامت عليه العقلانية الكلاسيكية، كان يشتغل في إطار الزمان والمكان المطلقين، ففي البراديغم الأرسطي كان الزمان والمكان مطلقين ومنفصلين، ومع الثورة العلمية الحديثة سيظل الزمان والمكان مطلقين، لكن لم يعودا مستقلين وإنما أصبحا متداخلين، في مفهوم "الزمكان"، هذه الإطلاقية في الزمان انعكست على العقل، لذلك كان مطلقا ونهائيا.

مع ظهور الهندسات اللاأقليدية، سينهار المكان الأقليدي المطلق، ويظهر المكان النسبي، ومعه نسبية الزمان مع نظرية النسبية في الفيزياء، لكن سيبقى "الزمكان" مع أينشتاين مستقلا عن الأشياء، ليأتي دور الفيزياء الكوانتية، التي ستؤكد استحالة فصل الأشياء عن "الزمان-المكان".

هذا التطور في الأساس العلمي سينعكس على العقلانية المعاصرة، التي ستعتبر العلاقة بين العقل والواقع علاقة جدلية، تنشأ مبادئها من استيعاب الواقع والتلاؤم معه. فالعقل يبني مفاهيمه في علاقة بالموضوع الخارجي، وبهذا لم يعد العقل ثابتا وساكنا، وأسسه لم تعد فطرية وقبلية، إنه عقل منفتح على التجربة، والواقع ليس شيئا معطى، إذ كل شيء يبنى في علاقات حوارية من العقل إلى التجربة، ومن التجربة إلى العقل.

وبهذا، فإن النظرة إلى الأساس الذي تقوم عليه النظريات العلمية تأثرت بشكل كبير جدا بالاكتشافات العلمية وتقدم العلوم، فانتقلنا من تأسيس النظرية على التجربة العلمية (النزعة التجريبية) إلى تأسيسها على المبادئ والبراهين العقلية المنطقية (النزعة العقلانية) علما أن هاته النزعة لم تتخذ شكلا واحدا، بل تفاوتت رؤيتها ما بين تلك التي تعصبت للعقل على حساب الواقع، وتلك التي أضفت طابع المرونة على العقل واعتبرت أن النظرية هي نتاج علاقة جدلية بين العقل والواقع، بين الرياضيات والفيزياء، هذا التداخل بين العقل والتجربة، يعبر عنه باشلار بقوله: "الحركة التي تغذي الفكر العلمي حركة تتأرجح بين ما هو قبلي وما هو بعدي حركة ترتبط فيها النزعة التجريبية بالنزعة العقلانية"

و لا شك أن كل هاته التقلبات التي عاشتها العلوم والأسس التي تنبني عليها انعكس بشكل أساسي على معايير علمية النظريات، والتي اختلفت هي الأخرى باختلاف الأسس التي تنبني عليها النظريات العلمية.

[1] A. KOYRE, Etudes d’histoire de la pensée scientifique, Gallimard 1973, p. 11

[2] A. KOYRE, Du monde clos à l’univers infini, Gallimard 1973, p. 9

[3] ظهر مفهوم "الإبستيملوجيا" في القرن 19 وبالضبط سنة 1834 كنشاط يهتم بفلسفة العلوم.

[4] أفلاطون، الجمهورية، ت.فؤاد زكريا، ص. 262

[5] أفلاطون، الجمهورية، ت.فؤاد زكريا، ص. 269

[6] أفلاطون، الجمهورية، ت.فؤاد زكريا، ص.263

[7] أفلاطون، محاورة تيتياتوس، ت, أميرة حلمى مطر.

[8] عبد المجيد باعكريم، نحن والواجب الفلسفي، أسئلة الواجب والوجود الإنساني، منشورات مجلة وليلي، 2005

[9] من رسالة إلى الأب مرسين، نونبر 1633، واردة بـ:

Descartes, Discours de la méthode, GFF-Flammarion, Paris, 1992, p 245-246.

[10] رونيه ديكارت، مقالة الطريقة لحسن قيادة العقل، ترجمة: جميل صليبا، الطبعة الثانية، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت، 1970، ص 21

[11] نفس المرجع، ص 21

[12] ديكارت، تأملات ميتافيزيقية، ص.55

[13] نفس المرجع، ص 53

[14] نفس المرجع، ص 119

[15] E. KANT ; CRITIQUE DE LA RAISON RURE ; P.U.F;1968 ; préface de la seconde édition ; P. 17

[16] J. La croix ; KANT ET LE KANTISME ; P.U.F.1966 ; P.31

[17] يمكن الرجوع بخصوص معنى الشذوذ العلمي إلى كتاب توماس كون "بنية الثورات العلمية".

[18] Louis de Broglie ; Continu et discontinu en physique moderne, 1949 p.67

[19] Ibid., p.69.

[20] Bernard d’Espagnat, Une incertaine réalité, 1985, P. 175

[21] Louis de Broglie ; Continu et discontinu en physique moderne, 1949 p.71

[22] هذا المثال الذي قدمهLouis de Broglie استخدم فيه فعل التخيل ليشير إلى التجربة الذهنية نظرا لعجز التجربة المختبرية عن تأكيد النظرية الكوانتية التي ستلجأ إلى الرياضيات وخصوصا الاحتمالات للبرهنة على صلاحيتها.

[23] G.Bachelard, le nouvel esprit scientifique ; 1934 ; P.U.F ; P.10

[24] IBID. ; P.44

[25] G. BACHLARDE ; LA PHILOSOPHIE DU NON ; 1940 ; P.4