العلمانيّة وحريّة الضمير والتعبير


فئة :  مقالات

العلمانيّة وحريّة الضمير والتعبير

العلمانيّة وحريّة الضمير والتعبير*


يذكر المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت) في كتابه قصة الحضارة حكاية مثيرة عن أجواء الخوف من (التعبير) في أوروبا، كالتي نعيشها حالياً، عن القس (جان مسلييه 1678ـ 1733م) راعي أبرشية (أتربيني) في شمبانيا الذي كان في كلّ عام (يمنح الفقراء كلّ ما يتبقى من راتبه بعد تسديد نفقات حياته المعتدلة البعيدة عن الإسراف والتبذير)، ولكنّه عاش أزمة فكرية حادّة بقيت فيها أفكاره محبوسة في زنزانة الجمجمة طوال حياته، في حالة خوف وترقب أن يفتضح أمره، ويقرأ الناس ما كتب من هرطقة، وعندما مات (بعد ثلاثين عاماً من حياة هادئة مثالية في وظيفة الراعي، قضى نحبه وهو في الخامسة والخمسين موصياً بكلّ ما يملك لأهالي الأبرشية)، فدفنه أهل القرية بكلّ إجلال وتعظيم، إنّه التقي النقي الطاهر العلم، تاركاً خلفه مذكراته في ثلاث نسخ من مخطوطة بعنوان (عهدي الجديد)، وعندما بدأ الناس يطّلعون على ما جاء في أوراقه أصيبوا بزلزال؛ فوضعوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وبدؤوا في صبّ اللعنات على رأس ذلك الشقي الخائن، كيف استطاع أن يتكتّم على آرائه الضلالية طيلة ثلاثة عقود؟

كلّ التساؤلات الخطيرة والعقد التي تتطلب الحلّ واللاعقلانية لنظام الأفكار المسيطر في عصره قام (مسلييه) باستعراضها بأسلوب شيّق، وعرض ذلك في صفحات مطوّلة؛ فلم يترك مسألة عويصة، أو وضعاً غير منطقي للكنيسة والفكر الديني والعرف السائد، إلّا وتعرّض له في نقد لا يعرف الرحمة، ولكنّها سطور كتبها بينه وبين نفسه في هدوء الليل، في غيبة عن عيون الفضوليين والجواسيس والرقيب؛ فلم يُطلعْ عليها كائناً قط حتى الموت، مع اعتذار شديد لأهل القرية لأنّه كتم آراءه عنهم كلّ تلك الفترة؛ فلم يكن يوماً معتقداً بما كان يمارسه من طقوس وصلوات وكنيسة وناقوس، و(توسّل إليهم في المخطوطة أن يغفروا له أنّه خدم الخطيئة والأهواء طوال مقامه بينهم)، فقد تقلد عمله ليس طمعاً في المال، بل امتثالاً لما أمره به أبواه.

من الطرافة ذكر بعض نفثات هذا الرجل الذي أطلق العنان لـ(حرية التفكير)، في الوقت الذي حبس كلّ (مجاري التعبير) عنده طوال حياته؛ لنعرف مصير الأفكار المحبوسة عن (التعبير).

كتب يقول: (لن أضحّي بعقلي لأنّه وحده يمكّنني من التمييز بين الخير والشر وبين الحق والضلال، لن أتخلى عن الخبرة لأنّها مرشد وهادٍ أفضل بكثير من الخيال أو من سلطان المرشدين. لن أرتاب في حواسي، ولست أتجاهل أنّها يمكن أحياناً أن تؤدّي بي إلى الخطأ، ولكنّي من جهة أخرى أدرك أنّها لن تضللني دائماً، إنّ حواسي تكفي لتصحيح الأحكام والقرارات المتسرعة التي ملت إلى اتخاذها).

لقد كانت كتابات (مسلييه) في مقاييس عصره أكثر الكتابات إيغالاً في مخالفة السائد والمسيطر من الأفكار، لذا لم يتجرأ (فولتير) نفسه إلا على نشر أجزاء منها، ورأى فيها شيئاً من التطرف حاول تعديله.

ومن الواضح أنّ مسلييه كان قد وصل إلى اللاعودة مع الكنيسة والمسيحية، كما فعل (برتراند راسل) الفيلسوف البريطاني لاحقاً عندما نشر كتابه المثير (لماذا أنا لست مسيحياً؟).

وصفوة القول في رأي مسلييه أنّ المؤامرة كانت (بين الكنيسة والدولة لإرهاب الناس إلى إذعان مريح للحكم المطلق)، وعندما يتحدّث عن الحروب الدينية في أوروبا يقول: (زعزعت الخلافات الدينية أركان الإمبراطوريات، وأدّت إلى الثورات، وخربت أوروبا بأسرها، ولم يكن من الميسور إخماد هذه النزاعات الحقيرة حتى بأنهار من الدماء. إنّ الأنصار المتحمّسين لدين يدعو إلى البرّ والإحسان والتآلف أثبتوا أنهم أشدّ ضراوة وقساوة من أكلة لحوم البشر أو المتوحشين). وعندما يصل إلى عقيدة الكنيسة في الفداء طرح السؤال المربك: كيف يمكن أن يضحّي الربّ بابنه البريء يسوع الذي لم يرتكب إثماً؟

وعندما يتحدث عن ازدواجية رجال الدين في عصره يقول: (ويكفي لنتحرّر من الوهم أن نفتح أعيننا على أخلاق أشدّ الناس تمسّكاً بالدين ونفكر فيها مليّاً، وسنرى طغاة متعجرفين ورجال بلاط ومغتصبين لا حصر لهم، وحكاماً لا ضمائر لهم، ودجالين وزانين وفاسقين وإباحيين فجرة وعاهرات ولصوصاً وأوغاداً من كلّ صنف)، ليصل في نهاية أطروحته إلى أنّ (الناس أشقياء لمجرد أنّهم جهلة، وهم جهلة لأنّ كلّ شيء يتآمر على الحيلولة بينهم وبين الاستنارة، وهم أشرار لمجرد أنّ عقولهم لم تتطوّر بدرجة كافية).

يتابع الرجل: (لقد طال العهد بمعلمي الناس وهم يركزون أبصارهم على السماء، فليرجعوا بأبصارهم ثانية إلى الأرض. لقد تعب الذهن البشري من اللاهوت المبهم والخرافات السخيفة والأسرار العويصة والطقوس الصبيانية، فلينشغل هذا الذهن البشري بعد هذا الإرهاق بالأشياء الطبيعية والأهداف الواضحة والحقائق المعروفة والمعرفة النافعة).

وبعد أن ذكر جان مسلييه ما سلف، يختم عهده الجديد بعبارة يتحدّى فيها كلّ الذين يمقتونه ويصبّون عليه اللعنات (دعهم يفكروا أو يحكموا ويقولوا ويفعلوا ما يريدون، لن أعبأ بهم كثيراً، بل إنّي اليوم لم أعد أعبأ كثيراً بما يحدث في العالم).

يعلق المؤرخ (ديورانت) على صدق وصراحة هذا الرجل غير المعهودة على هذا النسق من العبارات الصاعقة: (هل وجد ثمة عهد أو ميثاق مثل هذا في تاريخ البشرية جمعاء؟ يعيش منسياً لا ذكر له في قرية قد ترتعد فيها كلّ النفوس رعباً وهلعاً إلا نفسه هو، لمجرد الاطلاع على أفكاره الخفية، ولهذا لم يتحدث بمثل هذه الحرية إلّا لمخطوطته، ومن ثمّ اختمر ذلك في ذهن فرنسا، وأسهم في التمهيد لسقوط النظام القديم ونشوة الابتهاج بالثورة الفرنسية.

قام (فولتير) بنشر أجزاء من كتاب الكاهن (مسلييه)، كما أنّ (ديدرو) و(دي هولباخ) قدّما خلاصة له عام 1772م تحت عنوان (رجاحة عقل الكاهن مسلييه)، ولكنّ النص الكامل للكتاب لم يطبع إلا بعد 130 سنة من موت صاحبه في عام 1864م، والمخطوط اليوم محفوظ في المكتبة الوطنية في باريس.

جان مسلييه قبل ثلاثة قرون مشى على نصيحة من يريد لنا (حرية التفكير)، ويغلق أفواهنا عن البيان ليضعنا في زنزانة (حرمة التعبير)، على شكل كاريكاتور في مصادرة لكلّ الوعي الاجتماعي.

أفظع ما يصادر في حرية الفكر ليس التفكير بل التعبير، فيقولون مسموح لك بـ(حرية التفكير) كما تشاء وحرام عليك (حرية التعبير) إلا كما نشاء.

هل هذا قول عاقل رشيد أم متعصب مستبد؟

هذا هو أحد مفردات القانون الميمي الثلاثي في العالم العربي (ما في ـ ممنوع ـ ما يصير)، ولكن متى طلب العقل إذناً بالتفكير لممارسة وظيفته؟ فالدماغ يفكر كما يخفق القلب وتتنفس الرئة، فهذه مغالطة أولى.

ثم هبْ أننا قطعنا الألسنة، كما كان يفعل الفراعنة مع خدم الأهرام، فيدفنون مع كنوز فرعون وأسراره، أو كما كان يفعل السلاطين مع خصي الذكور كي يضمنوا سلامة حركتهم بين الحريم؛ فعندما نأمر اللسان ألّا ينطق ونخصي الذكور لكي لا يتحرشوا بالحريم، هل يستجيب اللسان أو الخصي حقاً أم يحدث ما حصل في قصة (الحلاق والملك ومزامير الرعاة)؟ وما تكرّر من مؤامرات الطواشي مع الحريم في القصور السلطانية؟ فهذه مغالطة ثانية.

يُحكى أنّ ملكاً كان يفتك بكلّ حلاق يقصّ له شعره لأنّه كان يفشي سرّ أذني الملك الطويلتين، حتى جاءه شخص كتم هذا السر، واستمرّ في الحلاقة وحافظ على سلامة رأسه، ولكنّ الحلاق المسكين حتى ينفّس عن احتقانه فيعبرعمّا يختلج في صدره، لم يكن أمامه إلّا أن يذهب في غفلة عن العيون وجواسيس السلطان ومخبريه إلى شاطئ النهر، وهناك أمام هدير الماء المتدفق كان يصرخ بأعلى صوته تعويضاً عن كلّ الاحتقان السابق: أذنا الملك طويلتان مشوّهتان قبيحتان...، حتى جاء ذلك اليوم عندما نبتت فيه عيدان البوص التي يستخدمها الرعاة للنفخ وإصدار الأنغام، وعندما بدؤوا في النفخ ارتجّت الحقول مع مزامير الرعيان، فلم تعد ترسل أنغامها الخاصة، بل كانت تردّد بدون توقف مع كل نفخة هواء من فم الراعي جملة واحدة: أذنا الملك طويلتان... طويلتان.

فلسفة التفكير والتعبير

مسموح لك أن تفكر كما تشاء، وحرام عليك أن تعبر إلا كما نشاء، هل هذا قول عاقل أم مهووس؟ هكذا يريد منا خياطو الفكر العربي الذين يفصّلون لنا اليوم بدلات طفولية سخرية للناظرين، في إعلان وصاية على أمّة قاصرة قد وضعت عقلها في جيبها، وأتقنت فن الخرس وهضمت دور الانصياع إلى الأبد.

المواطن العربي اليوم محاصر في مثلث من المحرّمات بين الدين والسياسة والجنس، كلّ ضلع فيه يمثل حاجزاً شاهقاً لا يستطيع أفضل حصان عربي رشيق أن يقفز فوقه إلا بالقفز إلى الإعدام؛ فأمام حائط الدين يطلّ مفهوم الردّة، وأمام جدار السياسة يبرز مصطلح الخيانة، وعند حافة الجنس تشعّ كلّ ألوان الحرام والعيب، ولو كان البحث في معهد من طراز (كينسي) للبحث العلمي في أمريكا؛ فالعقل مصادر ومؤمم وملغى حتى إشعار آخر.

طائفة أعلنت الوصاية على العقل، ورفعت شعار التخصّص فيما يشبه الكهنوت، ووضعت شروطاً للاجتهاد لن تجتمع إلا في كائن أسطوري فوق بشري، والسياسيون صادروا الضمير ونشروا الرعب؛ فلا يستطيع المواطن التصريح بأفكاره ولو بمنشور سري، وعقلية التقليد الآبائية وضعت الخطوط الحمر أمام جدار كهربي صاعق عليه إشارة (جمجمةٍ وعظمتين) كما في غرف التوتر الكهربائي العالي.

ولكن هل نحن فعلاً كذلك؟ الواقع أننا نمارس العادة السريّة في التفكير، فحشد من الذكور يسافرون فيتندرون بأقذر قصص الجنس الرخيصة، وماسح الأحذية يبوح بأخطر أفكاره السياسية لمن يثق به، وعالم الدين المستنير يحتفظ بالآراء الجريئة لنفسه مسايرة لجمهور أعمى وسلطة عوام أثقل من نجم نتروني.

هناك علاقة في البيولوجيا بين العضو والوظيفة؛ فالعضو الذي لا ينشط يضمر، والجهاز الذي لا يعمل يموت، وحركات مفاصلنا مع نسمات الصباح تحرّرنا من اليبوسة، وتدريب عقولنا على النقاش والجدل يفتح طرقاً عصبية رائدة دوماً، والعقل النقدي حيٌّ، والعقل النقلي ميت؛ لأنّ الأول يعمل بكلّ الطاقة، والثاني يحفز الذاكرة فلا يزيد عن علبة حديد مثل الكمبيوتر.

إذا انكمش العضو ضمرت العضلات وترققت العظام وجسأت المفاصل، هذه هي مشكلة الأطباء مع المرضى المشلولين لفترة طويلة، ولو عادت الحياة إلى العصب؛ فالمفصل يروي قصة الكارثة على شكل تشوّه معيب وقسط مستديم؛ وهكذا فالمرض والاختلاط (المضاعفات COMPLICATION) يتفاعلان على نحو جدلي متبادل التأثير، يدفع الإنسان إلى هاوية لا رجعة منها.

ما يحدث في البيولوجيا يتكرّر في السيكولوجيا والسوسيولوجيا؛ فالإنسان الذي اعتاد الاستلقاء يصعب عليه المشي وتحريك العضلات، والفرد المأسور في أنظمة سياسية وبرامج ذهنية تصادر العقل لفترة طويلة، يتحوّل إلى كائن ممسوخ أشبه بالقردة والخنازير، والمجتمعات الخرساء التي أتقنت فنّ الصمت تقترب من حافة الموت، بتفسخ شبكة العلاقات الاجتماعية وتوقف العمل المشترك.

يمثل الإنسان الكائن الواعي فيتميز عن النبات، ولكن ثقافتنا تريد منا أن نفتح كتب النبات فنتحلى بصفاته فنتكاثر ونتنفس ونتغذى، ولكن بدون نطق أو وعي، فمتى أنشدت شجرة قصيدة، أو اعترضت نبتة على خرافة؟ وإذا أردنا الحركة فيجب أن نقلد النباتات المتسلقة ببطء وضعف، بدون إثارة أيّ انتباه، فنزحف على بطوننا زحفاً.

إذا كان الوعي هو الانفكاك عن رتابة الطبيعة؛ فليس أمام العقل إلا أن يفكّر ويعبّر، والتفكير يقود آلياً إلى التعبير، ما لم يصدّ بآليات الإرهاب والقمع أو السخرية والتكذيب.

التفكير يقود إلى التعبير، والتعبير ينعكس على التفكير؛ فينمّيه ويصحّحه ويعمّق مجراه، ومن خلال التعبير سواء بالنطق أو الكتابة إلى مستوى التواصل العالمي بالإنترنيت يتحوّل العقل الفردي إلى عقل جماعي عملاق، ولم ينمُ العقل الإنساني إلا بواسطة هذه الآليّة من التعبير العلني والإفصاح عنه في ضوء النهار، تحت سمع الجميع في مؤتمرات ومناظرات، حفظتها الكتابة كذاكرة جديدة تراكمية، ولم يكن للعلم أن يتطور لولا نزع غطاء السريّة عنه، ومناقشة أيّ شيء علناً، بدون خوف من الاتهام بالزندقة، فالعلم يخترق كلّ التابو، ولا يعرف الحدود، أو يعلن عن استراحة أو توقف، كما لا يقدّم استقالته أو تغشاه حيرة، لأنّه من الله الذي يعلم السر وأخفى، وفوق كلّ ذي علم عليم.

قبل عصر الكتابة كانت الخبرات تموت بموت الأفراد، ولكن مع الكتابة والنقاش الجماعي أصبح الفرد يأخذ خبرات الجنس البشري المتراكمة خلال ملايين السنين، فيمتصّها من المحيط الاجتماعي، ويتمثلها خلال سنوات الطفولة القليلة، لذا كان التعبير وأدواته حياة العقل الإنساني الجمعي.

من هنا كانت سنوات الطفولة عند الإنسان نسبياً طويلة بالنسبة للحيوان، كما أنّها حاسمة في جعل الإنسان كائناً اجتماعياً، ويتمّ صقل أداة التعبير بنظام اللغة المفتوح في السنوات الأولى؛ فإذا لم ينطق الإنسان خلال سنوات الطفولة خسرها إلى الأبد، كما أظهرت ذلك أبحاث علم الاجتماع الإنثروبولوجي.

لا غرابة أن لعن القرآن الذين يكتمون المعلومات، أو يؤجّرون أقلامهم لأصحاب النفوذ؛ فيشترون به ثمناً قليلاً؛ فأقسم بالقلم وما يسطرون، وبالطور وكتاب مسطور، وأول كلمة أنزلت كانت أمراً بالقراءة، وفي الإنجيل (في البدء كانت الكلمة)، فهذه هي أساسيات فلسفة التفكير والتعبير.

المنافق هو الذي يضمر غير ما يعبّر عنه، في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً، ومرض التقيّة هو التظاهر بعبارات تستر وضعاً متبايناً، والقرآن أراد من المؤمن التخلّص من مرض النفاق والتقيّة في ضربة واحدة، واعتبر أنّ من يكتم قناعاته ملعون من الله وملائكته والناس أجمعين، وخلَّد موقف الإعلان والتعبير في سورة كاملة أعطاها اسم الرجل (المؤمن) الذي لم يسكت فقال لفرعون لمَ تقتلون رجلاً يقول ربي الله؛ فموسى لم يذنب بشيء يستحق عليه القتل، ولم يمارس سوى حق التعبير في انتقاد وضع فاسد.

في الواقع لم يكن (جان مسلييه) الذي ذكرناه فيما سبق كافراً بالله عندما سمح لعقله بالاعتراض على الفكر السائد، كما لم يكن (نيتشه) ملحداً عندما أعلن موت الله، كما لم يهرطق (فوكو) بإعلان موت الإنسان.

كلهم مؤمن عميق اليقين أقرب إلى حرارة التصوّف، ولكنّهم كلهم يرفضون تصورات الكنيسة، ويتمرّدون على فكر العصر، وهو ما فعله الأنبياء في التاريخ دوماً؛ فقال معارضوهم من الملأ لم نسمع بهذا في آبائنا الأوّلين، وهذه الآليّة لا تخصّ المسيحيين دون المسلمين أو البوذيين دون الهندوس؛ فهي قانون إنساني يسري مفعوله على جميع البشر، وعندما يدّعي البعض أنّهم أبناء الله وأحباؤه يكون الجواب: فلمَ يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممّن خلق.

يروي لنا تراثنا أنّ الشاعر (جميل) اقتيد إلى الخليفة المعتصم لكلمة قالها، فأمر بإعدامه، وكان (السيّاف) جاهزاً إلى جانب الخليفة، فأنشد الشاعر يريد إنقاذ رقبته:

أرى الموت بين النطع والسيف كامناً    يلاحظنـــي مـن حيـــث ما أتلفّـــتُ

وأيّ امــرئ يـُـدلي بعـــذر وحجــّـــة    وسيف المنايا بيـــن عينيه مصلـتُ

وما جزعــي من أن أمـوت وإنـّـــني     لأعلـم أنّ المـــوت شـيء مؤقـّـــتُ

ولكنّ خلفــــي صبية قـد تركتـــــــهم    وأكبــادهم مـــــن حسرة تتفتــّــــتُ

كأنّـي أراهـــــم حيـن أنعى إليهــــــم     وقد لطموا تلك الوجـــوه وصوّتــوا

فإن عشت عاشـوا سالمين بغبطـــــة     أذود الردى عنهم وإن مـــتُّ موّتوا

تقول الرواية إنّ قلب الخليفة المعتصم أشفق عليه، فضحك وقال: كاد والله يا جميل أن يسبق السيف العذل، اذهب فقد وهبتك للصبية، وعفوت عن الهفوة، وخلع عليه وعقد له على شاطئ الفرات، وأحسن وأجمل السيرة. وهكذا فمصير الإنسان معلق بكلمة واحدة، وموته وحياته تنتهي بسبب (تعبير) تفوّه به.

نحن نروي هذه الواقعة لأنّها من مفاخر التاريخ العربي، إلى درجة أننا نعيد استنساخها لتوضع في يوميات التقويم السنوي كحكمة يومية، نستفتح بها نهارنا في تكريس ثقافة النمرود الذي قال لإبراهيم أنا أحيي وأميت، في عار ما بعده عار، وتاريخ مخجل يحتاج إلى إعادة كتابته من جديد بعيداً عن سِيَر وعّاظ السلاطين.

الكلمة بريئة، ونحن الذين نشحنها بالمعنى، واللفظ قمر يعكس المعنى من شمس الفكر، ونحن ننقش الكلمات في أوراق الكفن الأبيض، والمعنى يهبها الحياة على شكل كائن يتجسّد منتصباً من تابوت الألفاظ.

لم يكن (أبو حامد الغزالي) مجانباً الحقيقة عندما اعتبر أنّ توليد المعاني من الألفاظ ورطة قاتلة؛ فمثلها مثل ألعاب السيرك التي تخرج الأرانب من القبعات السوداء، كما فعل بعض من كتب عندما أخرج أحدهم من لفظة (ولا يضربن بأرجلهن) أنّ معناه (الستربتيز = التعري)؛ فيمكن توليد كلّ المعاني من أي لفظ بعمل بهلواني، واعتبر (الغزالي) في كتابه (المستصفى) أنّ من أراد تحصيل المعاني من الألفاظ (ضاع وهلك وكان كمن يستدبر المغرب وهو يطلبه)، ومن قرّر المعاني أولاً، ثم أتبع الألفاظ المعاني فقد نجا.

حريّة التعبير، أين حدودها؟

ولكن أين حدود التعبير؟ من الذي يقرّر هذا أمام تمرّد العقل وسباحته التي لا تعرف الشواطئ؟ ما قيمة أيّ تفكير ما لم يجد طريقه إلى التشكل بالتعبير نطقاً وكتابة ونشاطاً؟ إنّ من يسمح للتفكير بالانطلاق والتعبير بالانحباس يغتال الفكر والتعبير معاً؟

إذا سمحنا للعقل بالتفكير وكمّمنا الأفواه عن التعبير كنا كمثل من ينطلق بسيارة مشدودة الفرامل، فهل يفعل هذا أحد منا؟ لقد صادرنا الكلام فلا يفتح المواطن فمه إلا عند طبيب الأسنان، عندما نقول إنّنا مع التفكير ولكن لا بدّ من تنظيم التعبير فنحن في الواقع نطلق نكتة، ولا نريد التعبير إلا بإلغاء كلّ تعبير، تحت شعار لا حرية لأعداء الشعب لنصادر كلّ حرية، من هو العدو؟ وأيّ حرية نعني؟

يجب أن نشجّع على التفكير بدون حدود، والتعبير بدون قيود، ونحرّم شيئاً واحداً وهو استخدام القوة لفرض الآراء خروجاً ودخولاً، ومن عنده قدرة على إقناع الناس فليلق حباله وعصيّه ويسحر الناس.

نحن نظنّ أنّنا إذا سمحنا للحق والباطل بفرص متكافئة فإنّ الباطل سيهزم الحق، ذلكم ظنّكم الذي ظننتم بربّكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين. نحن نظنّ أنّنا إذا فتحنا المجتمع لجميع الآراء فإنّ الإسلام سيختفي من الأرض، ولكنّ الذي ثبت أنّ الإسلام صمد عبر التاريخ، ويكسب أتباعاً باستمرار ليس أقلها (أخوات محمد) في ألمانيا من نساء جرمانيات وليس تركيات، اعترفت مجلة الشبيجل الألمانية أنّ عددهن يتجاوز الخمسين ألفاً، وكتاب (جيفري لانج) عن (الصراع من أجل الإيمان) يبيّن كيف أنّ أستاذ الرياضيات الأمريكي الملحد أسره القرآن، فاعتنق الإسلام، ولكنّ اتصاله بالمسلمين فجعه.

أيّ فكرة خاطئة ستتهاوى ولو بعد حين، ومن يحمل في جيبه عملة مزيفة لن يستفيد منها، وسينتهي مصيره وراء القضبان، ومن ملك الذهب صرفه في بنوك العالم جميعها، وأيّ نظام فكر يقوم على الوهم والإكراه لن يصمد مهما حاولنا ترويجه وحراسته، وآية الفشل على أيّ نظام أنه لا يقوم إلا بحراسة الإرهاب، وقد انهار الاتحاد السوفيتي بسبب داخلي محض بدون أيّ هجوم خارجي، وهو يملك ما يدمّر به الكرة الأرضية مرات، لأنّه كان أعظم نظام إكراه في العقيدة؟

يجب أن نعلم أنّ قوة أيّ فكرة هي من داخلها وليس من خارجها، وأنّ النظام الذي يعتمد القمع يضرب أول مسمار في نعشه، ويدشن أوّل مظاهر هزيمته.

اعتبر القرآن أنّ الباطل يمكن أن ينمو فيصبح شجرة، والديكتاتوريات أصبحت في بعض الأمكنة أشجاراً باسقة، ولكنّ مصيرها في النهاية أنّها تسقط؛ فبقدر ما تنمو بقدر ما تقترب من النهاية، لأنّها لا تملك الجذور، فتسقط تحت ثقل الأغصان؛ فاجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.

هذه هي عظة التاريخ، والربيع العربي هو أول البداية لتسونامي قادم أشدّ ممّا جرى ودمّر.

يجب السماح لجميع الأفكار بالتواجد مهما تناقضت، فالمجتمع ينمو بتعددية الآراء، ولذلك خلقهم؛ فيجب أن يسمح لكلّ الاتجاهات بالحضور والدعوة والمناقشة العلنية مهما حملت من أفكار وبرامج، وهذا يعني بناء مجتمع الـ(لا إكراه في الدين)، وهذه فكرة مفتاحية في القرآن، فمع ممارسة الإكراه في المجتمع واحتكار السلطة وإنشاء نظام الحزب الواحد، سواء كان قومياً أو إسلامياً، تتمّ مصادرة كلّ الآراء لرأي يتيم في جيب سلطان مطلق، وهذا يعني بناء طرق سريعة باتجاه واحد، وصناعة سيارات تمشي إلى الأمام فقط؛ فإذا دخلت "الكراج" انحشرت، فلم تخرج، فهل يقول بهذا رجل رشيد؟.

إنّ قتل الناس من أجل آرائهم هو أسلوب فرعوني وليس إسلاميّاً؛ فقد كان الرسول يكرّر لأصحابه أهميّة الرأي العام: أتريدون أن يشاع بين الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه؟

أعدم (سقراط) بالسم عام 399 قبل الميلاد بجريمة (التعبير)، لأنّه ينشر الإلحاد ويفسد عقول الشبيبة، ونفي الفيلسوف الرواقي (إبكتيتوس) من روما بالتهمة نفسها، وقضى (ابن رشد) بقية الشيخوخة في قرية (الليسانة) اليهودية تحت الإقامة الجبرية، وطرده الغوغاء من مسجد قرطبة، وضرب (ابن تيمية) بالنعال وسيق إلى التعزير، ثم مات في سجن القلعة من أجل (تعبيره) عن أفكار خطيرة، سلّم بها لاحقاً خصومه، مثل مسألة الطلاق الثلاث في جلسة واحدة يبقى واحداً ولو قال ثلاثاً.

المشكلة في الأفكار أنّها لا تعيش ولا تتكاثر بدون التلاقح في ربيع (التعبير)، فهي تخضع لقانون الزوجية؛ فالغازات في الطبيعة لا تعرف العزوبة، وهي تعيش على شكل أزواج من جزيئات الأكسجين والهيدروجين والماء، ويحمل النحل غبار الطلع فتتلاقح به الأشجار، ولا يلد الحيوان والإنسان صغاره بدون الاتصال الجنسي، ولا تشكل الأفكار شذوذاً على هذا القانون، فهي تتلاقح وتتوالد وتكبر.

"ومن كلّ شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكّرون". القرآن يقول بالزوجية، وهيجل بالجدلية، والرأسمالية بالسوق الحرّة والعولمة. ولكن لماذا لا توجد حرية تعبير في العالم العربي؟ لماذا لا تتحرك مظاهرة احتجاج واحدة في العديد من العواصم العربية في أخطر قضايا الأمّة؟ هل لأنّ السياسيين لا يسمحون؟ أو لأننا ليس عندنا فكر يستحق التعبير؟

هناك علاقة جدلية ما بين الفكر والتعبير؛ فعندما تمّ اغتيال الفكر عبر التاريخ ولدت أمّة خرساء حاضرة بأشدّ من الغياب، أتقنت فن الصمت إلى يوم يُبعثون.

والسؤال لماذا يحدث ما يجب ألّا يحدث؟ وهل يختنق الفكر حقاً بحبس مجاري التعبير؟

في الواقع عندما يولد الفكر لا يمكن محاصرة (التعبير)، فله ألف لسان، والكلمة كائن حي، وأهمّ مزايا الحياة التكاثر والحركة، والكلمة المحاصرة تبحث عن جداول تنبجس من خلالها ولو بعد حين.

هكذا تشققت الأرض في (بادوا) بإيطاليا للماء القادم من (سييرا نيفادا) من أندلس ابن رشد، وأعيد الاعتبار لغاليلو بعد أربعة قرون، وأرسل مسبار فضائي باسمه إلى المشتري، ووُضع لجيوردانو برونو الذي أحرق في روما عام 1600م نصب عام، بلاغاً للناس وهدى وموعظة للمتقين.

عندما نسمح للمواطن بالتفكير ونحرمه من (التعبير) نريد في الواقع كائناً أسطورياً لا ينتسب للأرض، على صورة إنسان مقصوص اللسان، كمن يريد "كمبيوتر" بدون شاشة وطابعة.

تمدّنا البيولوجيا والسيكولوجيا بأمثلة؛ فإذا احتقن الخرّاج وجب أن يفرّغ للخارج بأيّ وسيلة، وإلا اتخذ طريقه بنفسه، وقد ينفجر للداخل فيقتل صاحبه. وفي السيكولوجيا تعالج العقد النفسية بالتحليل النفسي؛ فإذا ظهرت للسطح تعافى الإنسان ونشط.

نحن نتجرّع الدواء مع كلّ وعينا أنه قد يتسبب في (أعراض جانبية)، ونسوق السيارة مع وقوع الحوادث يوميّاً، ونجري الجراحات المعقدة مع توقع حدوث (المضاعفات)، وكذلك التعبير، يجب أن نطلق الضمير، ونحرّر اللسان من الخرس، مع توقع كلّ الأعراض الجانبية.

يجب أن نتوقع بعض الآثار الجانبية الضارة مقابل مجتمع صحي، يتناصح به الناس ولا يخافون إذا أطلقوا لسانهم في التعبير عمّا يرونه صحيحاً أو ضلالاً، والمجتمع الساكت ميّت حتى يبعثه الله، ومعظم المجتمعات العربية تعيش هذه الكارثة، مثل وباء متوطن منذ أيام يزيد وكافور الإخشيدي، كما تعيش البراغيث في فروة الثعلب المسكين.

عندما نريد أن نضع القيود على (التعبير) يفيد أن نستحضر تجربة النبي الذي اتهمته قريش بأنّه يسفّه أحلامهم ويعيب آلهتهم، وأنه صابئ مرتد منحرف، وأنه شاعر تربّصوا به ريب المنون، وأنه ساحر كذاب وأنه مجنون لأنّه ينطق حراماً وممنوعاً، ويحتاج إلى رخصة في الكلام من السلطات المسؤولة، فكيف يسوّي محمّد بين الرجل والمرأة والعبد والسيّد والقرشي والفارسي؟

كلّ مجتمع يحرِّم التعبير بقدر (راديكالية) الفكرة، ولكنّ المشكلة أنّ المجتمع لا يتقدّم إلا بالأفكار الراديكالية التي تمسّ واقع الناس وتعالج الاستعصاءات الثقافية، وأمّا الالتفاف على الواقع بالكلمات فهذا أقرب إلى صناعة السحر، لنضيف إلى القاموس لفظة، ويخسر الواقع حقيقة.

من يريد أن يكتب كي لا يكتب، فمن الأفضل ألّا يكتب، ومن يريد أن يتسلق ظلّ الكلمات فسوف يعيش في الظلّ إلى يوم القيامة.

جيء بامرأة خارجية إلى الحَجّاج، فقال لأصحابه: ما تقولون فيها؟ فأشار عليه من حوله بقتلها لحجتها وبلاغة لسانها وجرأتها على الأمير. فقالت له لقد كان وزراء صاحبك خيراً من وزرائك يا حجّاج، قال: ومن صاحبي؟ قالت: فرعون، فقد استشار وزراءه في موسى عليه السلام، فقالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين، ولكنّ أصحابك يوصونك بقتلي بدون تأخير.

حريّة التعبير واللاعنف

عندما يُسلَّم المهاجر إلى كندا بطاقة الجنسية وورقة التهنئة يوضع في يده جنباً إلى جنب مرسوم الحريّات والحقوق الكندي (CANADIAN CHARTER FOR FREEDOMS AND RIGHTS) الذي يتضمّن حقوقه وواجباته كمواطن ينتسب إلى العالم الجديد، وأهمّ ما في هذه الوثيقة حرية (الاعتقاد) و(التعبير) و(الاجتماع) سلمياً؛ فيتعنق أو يترك الدين الذي يشاء، وينطق بدون خوف من الجواسيس، وينشئ الأحزاب بتشجيع وترخيص من الحكومة، ويعترض في مظاهرات صاخبة مع أو ضد؛ في قوة ما فوق نووية لانطلاق مارد الحريّة من قمقم الاستبداد، في مجتمع يرى أنّ الحرية للجميع، بمن فيهم من يطلق عليهم (أعداء الشعب)، لأنّ الحرية لكلّ الناس اتفقنا معهم أو اختلفنا، فيتمتع بها الجميع عسلاً سائغاً للشاربين، ويحظر فقط (استخدام القوة) لفرض الآراء، فمن يستطيع إقناع الناس وكسبهم فليمددْ بسبب إلى السماء.

لن تبنى ديموقراطية مع (العنف)، ومؤشّر السلامة في المجتمع اتفاق جميع الفرقاء على إلقاء السلاح، فلا تؤلَّه القوة.

ولكن لماذا ننتمي نحن إلى العالم القديم، وتُسمّى أوروبا وكندا العالم الأول؟ إنّ الغرب دفع ثمن الرحلة غالياً حتى وصل إلى شاطئ الديموقراطية وساحل القانون. نحن لا نستوعب معنى فصل السلطات، نحن نعيش حالة الطوارئ ولا نعرف ذلك، نحن نعيش خارج القانون ولا ندري، نحن نستورد السيارة والمجالس النيابية ولكننا لا نستطيع إنتاج السيارات ولا إيجاد حياة نيابية إلا على شكل كاريكاتور بدون حياة وبدون نيابة، في قصّة مترجمة يرويها أخرس مهمّته الكلام.

لا بُدّ من حرية التعبير وبدون حدود وعلى إطلاقه ضمن قاعدتي السلام والاحترام، وإذا نطق من نظنّ أنّه يقول حراماً وممنوعاً فيمكن أن نرد عليه لا أن نخرِّسه، وإلا أصابنا الخرس أجمعين، وهو على كلّ حال داء دوي نعاني منه منذ ألف عام، فإذا نطقنا وجب أن نهمس فنقول كلاماً لا يوقظ نائماً ولا يزعج مستيقظاً في محافظة مثالية على النوم العام.

بالتعبير تظهر وجهات النظر فتتزاوج وتتناقض وتتوالد وتتكاثر، سُنّة الله في خلقه، ولكنّنا نريد مواطناً أخرس، يفكر عنه آخرون بالوكالة، معلنين الوصاية على عقله في شهادة صاعقة أنّه قاصر.

وبحرية التعبير تطفو الأفكار الخاطئة فتخضع للتمحيص والنقد، للتهميش أو الترسيخ، أمّا المطاردة فتدفع الأفكار إلى الانزواء في الجبال، وكثرة انتشار الإثنيات في منطقة بعينها ضمن شرانق محنّطة سببها الجغرافيا؛ فمع أنّ مصر كانت فاطمية لفترة قرنين وصُمِّم الأزهر للدعوة لها، فليس على ظهرها اليوم فاطمي واحد، والأزهر يبشر بكلّ شيء إلا الدعوة الفاطمية بسبب جغرافي بحت، لأنّ الناس لا يمكن لها أن تعيش إلا بجانب النيل، تختلط وتتبادل الأفكار والبضائع، وما عدا ذلك ليست إلّا صحارى للدفن، كما دفن موسى جيل الاستبداد في رحلة التيه.

ويحدثنا التاريخ أنّ كثيراً من الدعوات، وأمام ضغط هذه الحقيقة، لم تكن لتحافظ على نفسها إلا بالانتقال إلى مكان آخر تعيش في صَدَفة حلزونية من الانزواء والتقوقع في رؤوس الجبال، وبذلك تفسّر الجغرافيا أسرار انتشار الدعوات وتغلغل الطوائف والأديان.

يجب أن نؤسّس لمجتمع إنساني منفتح، فنضع القواعد التالية: تفكير بدون حدود، وتعبير بدون قيود، وكتابة وطباعة بدون رقابة، وإلغاء نظام التجسس على المواطن، فلا يؤاخذ على شيء إلا بذنب جناه، بدليل مادي، مع توفير ضمانات الدفاع عنه، وليس لتقرير كتبه مخبر سرّي في جنح الظلام.

ولكنّ كلماتي هذه لا قيمة لها، وهي أشبه بالمواعظ الأخلاقية، جميل أن تلقى، وقد تنفّس عنّا شيئاً من مشاعرنا البئيسة المكبوتة، ولكنّ السؤال المصيري: كيف نصل إلى تغيير هذه الأوضاع؟

يأمرنا القرآن بثلاث وصايا من (حسن الظن) و(ألّا نغتاب) و(عدم التجسس)، ونحن نعمل ضدّها بحرص ودأب، فلا نحسن الظنّ بالإنسان، والأصل عندنا أنّه متّهم حتى تثبت براءته، ونملأ القوائم السوداء من المطلوبين على الحدود، ونغتاب الآخر أنه رجعي أو ملحد، وننشئ أنظمة أمنيّة تجسسيّة بحجم الديناصورات اللاحمة، التي أصبحت خطيرة حتى على نفسها وعلى الحاكم، بشبكة أوسع من الإنترنيت، وبدقة عمل أكثر من وكالة ناسا لارتياد الفضاء، في وطن لا تعمل فيه الخدمات العامة، يعيش حالة الطوارئ، حتى يوم الزلزلة.

إنّ النظام البيزنطي الذي طوَّره البيت الأمويّ قد انهار على سكانه، وتحولت عملية اعتلاء كرسي السلطة جلوساً على كرسي الإعدام بالكهرباء، ومنذ أيام العباسيين نرى خادماً مثل (يونس) يمتلك من مفاتيح القوة ما يقتل به الخليفة المقتدر، فيُحمل إليه رأسه، كما ينقل المسعودي، فيبكي ويلطم.

وانتهاءً بالاتحاد السوفييتي الذي اضطر مرغماً أن يفكك جهاز الرّعب الذي طوَّره، بعد أن أرسل من أنشؤوه وعائلاتهم إلى معسكرات الاعتقال، مثل زوجة مولوتوف، وكما يقول المثل العربي: سمِّن كلبك يأكلك، وبعد انهيار جدار برلين تبيّن أنّ نظام الاستخبارات في ألمانيا الشرقية كان قد وضع عشرين ألف غرفة تنصّت على المواطنين، وتكوين إضبارة أمنيّة لكلّ مواطن، مثل ملائكة العذاب، ما يلفظ من قول إلّا لديه رقيب عتيد.

في عام 1999م استطاع المجتمع الأمريكي أن يضع أكبر شخصية سياسية تحت المساءلة، في حكاية تروى عن أمّة عظيمة تنجب رؤساء وتحاكمهم وتبدّلهم وتستغني عن خدماتهم فلا يعودون، في رواية عن أمّة ودود ولود لعبقريات لا تنتهي، وفي الوقت الذي يودّع العالم وراثة الملك والحكم الفردي، نبدأ نحن في محاولة شحن الحياة في جثث ماتت منذ قرون، كمن يفترض به أن يدخل الجامعة فيدخل مدارس محو الأميّة.

ألا يوجد عندنا حرية تعبير، أم أنّه لا يوجد عندنا ما نعبّر عنه؟ هل هناك عائق أمام انتشار الكلمة، فهي محاصرة لا يُسمح لها بالتجول، أم أنّها تمارس عملية انتحار داخلي؟

أمّا السياسيون فيقولون إنّه لا يوجد حرية تعبير بسبب استبداد الحاكم، ولكن هل المعارضة ستسمح للحاكم بالتعبير لو جلست محله؟

إنّ قوم موسى كانوا يستعجلون مثل هذا الأمر، فقالوا له لم تتغير أوضاعنا، وكنا نتفاءل أن يصير الأمر إلينا (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ماجئتنا)، فلم يتغير شيء والحالة هي هي؟ كان جواب موسى إنّ الامتحان الأكبر هو عندما تسقط تفاحة السلطة في أيديكم هل ستتحولون إلى فرعون جديد بعباءة إسلامية؟ عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون؟

إنّ إمكانية إيجاد مثقف يرى التغيير بدون أن يقعد في جيب الحاكم أو يتآمر عليه أصبحت مهمّة مستحيلة على ما يبدو، جاء في الإنجيل إذا فسد الملح فبماذا يملّح؟ وإذا كان النور الذي فيك ظلاماً، فكم يكون الظلام؟

جاء هشام بن عبد الملك إلى مكة معتمراً، فأدخل عليه طاووس فخلع نعليه وتقدّم ببساطة، فحيّاه كيف أنت ياهشام؟ ثم جلس، فغضب الخليفة الأموي حتى همَّ بقتله، فنصحه من حوله بالتريث، فهو في بيت الله العتيق، فالتفت إليه هشام، وقد امتقع وجهه من الغضب، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ أجاب طاووس بهدوء وماذا فعلت؟ قال: خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تكنّني، ولم تقل لي يا أمير المؤمنين، ثم جلست قبل أن آذن لك، فالتفت إليه طاووس ببراءة وقال: أمّا خلعي نعلي بحاشية بساطك فإنّني أخلعهما بين يديّ ربّ العزة خمس مرات في اليوم ولا يغضب منّي، وأمّا أنني لم أكنّك فإنّ الله كنَّى أعداءه فقال تبت يدا أبي لهب، ونادى أحبّاءه من الأنبياء فقال يا يحيى، يا عيسى، يا داود، وأمّا أنّني لم أقل لك يا أمير المؤمنين، فإنّه ليس كلّ المؤمنين راضٍ بإمارتك، فخشيت أن أكون كاذباً، وأمّا أنّني جلست بجانبك، فإنّي سمعت أمير المؤمنين عليّاً بن أبي طالب يقول من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى رجل جالس والناس حوله قيام، فزلزل هشام، ثم التفت إليه ضارعاً، فقال: ياطاووس عظني، قال: سمعت أمير المؤمنين عليّاً بن أبي طالب يقول: إنّ في جهنّم حيّاتٍ وعقاربَ كالبغال، تلدغ من لا يعدل في رعيّته، ثم قام وانصرف.


* نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، العدد السابع، 2015، التي تصدر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.