العلوم الإنسانية والدين عند المسلمين


فئة :  مقالات

العلوم الإنسانية والدين عند المسلمين

نشأت معظم العلوم الإسلامية في ظل الفرضية الدينية القائلة بانحباس الحقائق في المدوّنة القرآنية، وعُدّت علوم الدنيا، كالتاريخ، واللغة، والأدب، والفلسفة، والمنطق، علومًا زائدة، لا فائدة يرتجى منها، فاندرجت فيما اصطلح عليه بـ "الفضلة"، لأنها لا تسهم في خدمة "العلم الإلهيّ" امتثالا لحكم نبوي في تحديد مراتب العلوم، فقد وردَ عن الرسول قوله: "العلم ثلاث، وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، وسنّة قائمة، وفريضة عادلة"، فـ"العلم" هو: القرآن، والحديث، وأحكامهما، وما سوى ذلك فهو "فضل". أمّا هذا "الفضل"، فيشرح معناه حديث نبوي آخر مؤدّاه أن الرسول دخل المسجد يومًا، فرأى جمعا من الناس على رجل فقال: "ما هذا؟" قالوا: "يا رسول الله هذا رجل علاّمة". قال: "وما العلاّمة؟" قالوا: "أعلم الناس بأنساب العرب، وأعلم الناس بعربيّة، وأعلم الناس بشعر، وأعلم الناس بما اختلف فيه العرب"، فقال: "هذا علم لا ينفع، وجهل لا يضرّ".

علوم الدنيا، كالتواريخ، وعلوم العربية، وعلوم الاختلاف، فضلات، وهي بالقطع، إذا أخذ الحديث بمعناه الظاهر، ليست من الضروريات؛ فالضروريات هي كلّ ما تمتسّ إليه الحاجة، ونقيضها التوافه والمهملات؛ أي ما يكتمل به الشيء وليس من أصله، فالعلم بها لا نفع فيه، والجهل بها لا يسبب ضررا. وسرعان ما تفاقم خطر ذلك الترتيب بحسب الذريعة العقائدية القائلة بالاستغناء عن كلّ شيء سوى القرآن والحديث إلى اعتبار ما سواهما مضرّا لقائله وسامعه في الدنيا والآخرة، فكلّ ما لا يقدم خدمة تُسهم في تعميق فهم الناس بالدين لا نفع فيه.

نُظر إلى مظاهر التعبير الدنيوي على أنها بِدَع مستحدثة، فكلّ ما لا ينهض على واقعة لها علاقة بالدين عُدّ بدعة، ووصف بأنه ضرب من التخليط

لا مُشاحة في موقف القائلين بأهمية النص الديني، ولا مُماحكة في قولهم بفرادته، فذلك واضح البيان عندهم، فهو الخالد وغيره إلى زوال، وعلومه هي الباقية، وما سواها بائدة. ورد عن الرسول قوله: "لا تكتبوا عنّي شيئا سوى القرآن، ومَن كتب عنّي غير القرآن فليمحه". لا تجوز المزاحمة بين كلام الله وكلام عبيده، ومن أجل صون ذلك الكلام المقدَس ينبغي الاقتصار على تدوينه من دون سائر أحاديث البشر، ومن ذلك الحديث النبوي، إذ لمّا استؤذن الرسول أن يدوَّن حديثه، قال مستنكرا: "أكتابًا غير كتاب الله تريدون؟ ما أضلّ الأمم من قبلكم إلاّ ما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله". وإلى ذلك ورد عنه قوله في المعنى نفسه: "إنما ضلّ من كان قبلكم بالكتابة"، فلكي تحافظ الأمة على تماسكها ينبغي عليها تجنب الخلط، فالتداخل نوع من الهذر المكروه، وكتب البشر تسبب الضلالة؛ لأنها توهم الناس بأنها نظير كتب السماء.

لماذا ضلّت الأمم السالفة؟ لأنها خلطت بكتبها المنزّلة كتبها المؤلّفة. لا يسمح، في التجربة الإسلاميّة، تكرار الخطأ مرّة أخرى. ينبغي التحذير من إمكانيّة الوقوع في ضلالة جديدة. هذا ما يمكن استخلاصه من تلك الأحاديث النبوية، ومع أن السياق العام لها مرتبط بموضوع التدوين، والإعلاء من شأن الأسانيد، فلا يجوز نزع المقاصد الصريحة الأخرى عنها، فالمركزية الدينية تحامي عن نفسها في التحذير من المحاكاة؛ فالمحاكاة نوع من التشبّه، بل المطابقة، التي تنتهي بإزالة الحدود بين الديني والدنيوي، وهو أمر مرذول في التجربة الدينية التي يراد لها أن تكون المصدر الأول لكلّ شيء.

نُظر إلى مظاهر التعبير الدنيوي على أنها بِدَع مستحدثة، فكلّ ما لا ينهض على واقعة لها علاقة بالدين عُدّ بدعة، ووصف بأنه ضرب من التخليط، وبخاصّة حينما استقام، في العصور المتأخرة، فهم أحاديّ الجانب للدين ورسالته امتثل للنسق الخطّيّ من التفكير والاعتقاد، فهمٌ لا يقبل التنوّع، ولا يلتفت إلى المسارات المتشابكة المكوّنة للظاهرة الدينيّة. أصبح كلّ جديد "بدعة". وتثير البدعة رعدة في وسط خامل. يقيم الجديد تماسّا قلقا مع القديم، ويدفع به إلى حافة الأزمة، فيبطل مفعوله، ويحول دون فاعليته. يُحدث الجديد تخريبا كليّا في القديم يلحق الأسس، والمقولات، والتصوّرات، فالدخيل يزعزع مكانة الأصيل. وفي الفكر التقليديّ لا تقبل التحوّلات الدنيوية، ولا بدَّ من مقاومة البدع التاريخيّة.

استندت المركزيّة الدينيّة إلى مفهوم كتاب الله، فحينما جرى تثبيت كلام الله في المصحف، صار الكتاب هو المرجعيّة الأساسيّة، والمنهل الذي لا ينضب، فانكبّ عليه المفسرون، والفقهاء، والمؤرخون، والأدباء، والفلاسفة، يبحثون عن ضالتهم فيه، ووجدوه مشعًّا بالإيحاءات التي تحيل على حقائقَ كثيرة. كان العرب أميين بلا كتاب، وأصبح لديهم، بالمصحف القرآنيّ، كتاب يلوذون به، ويبحثون فيه عن ماضيهم، وحاضرهم، ومستقبلهم، ففي هذا الكتاب لا يكمن اليقين المطلق، فحسب، إنما الصراط المستقيم للحياة، ففيه النجاة الكاملة، وفي تضاعيفه الإجابات الكبرى، ولا حاجة للمؤمن بأن ينحرف عن ذلك الصراط. فلكي يفوز بالنجاة ينبغي عليه أن يقترب إلى الكتاب حيث الحقائق الكبرى. الكتاب جامع لشتات التمزقات القديمة، ومنقذ من الضياع.

مثّل كتاب الله الجامع مرحلة جديدة ظهرت بعد أفول أخرى سِمتها الأساسيّة التفرّق. هل يمكن أن يحمل ذلك معنى خاصًّا، باعتباره يدشن لمرحلة جديدة، ويؤسس لمسار مختلف؟ بإزالة "الفضلات" لا بدَّ أن يتفق الجميع على أمر واحد، وهو الإقرار بكتاب واحد يحلّ محلّ النزاعات القديمة. صار القرآن هو المركز، ورؤيته الحتمية هي الخيار الوحيد، فأخذ البحث اتجاهين مختلفين: ينبغي إعادة تفسير الماضي على وفق الرؤية الدينيّة الجديدة، ونبذ الاختلافات في مسار الأمم، وتواريخها، وموروثاتها، وينبغي، من ناحية أخرى، رسم مستقبل علوم الدنيا في ضوء الرؤية الدينيّة. ينبغي أن يصاغ العالم الواقعيّ على غرار العالم النصيّ للكتاب، فالمجتمع القرآنيّ هو المثل الأعلى، والمعيار النهائيّ، ويجب أن يمتثل التاريخ البشريّ، في الماضي والمستقبل، لكلّ ذلك.

أين الدنيا من كلّ ذلك، وأين علومها؟ قدّم علم الكلام تفسيره: العالم، بحسب الرؤية الدينية، عالم افتراضي من صنيع القلم واللوح المحفوظ؛ أي إنه فعالية كتابية، فالكون بكلّ ما فيه يعيش في سراب الكتابة منذ ابتداء الزمان إلى منتهاه، وإنما الوجود تدافع حروف القلم على اللوح المحفوظ بإرادة الله. بحسب هذا التفسير قدّم القرآن صياغة وجودية للكون بوساطة الكتابة، فجعله قائمًا بها. صاغ أبو حامد الغزاليّ، في كتابه "إحياء علوم الدين" الرؤية الكتابيّة للعالم صياغة عرفانية تستجيب لشروط التأويل الديني، بقوله: إن الله "كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في اللوح المحفوظ، ثم أخرجه إلى الوجود على وفق تلك النسخة، والعالم الذي خرج إلى الوجود بصورته تتأدى منه صورة أخرى إلى الحسّ والخيال، فإن من ينظر إلى السماء والأرض، ثم يغضّ بصره، يرى صورة السماء والأرض في خياله، حتى كأنه ينظر إليهما. ولو انعدمت السماء والأرض، وبقي هو نفسه لوجد صورة السماء والأرض في نفسه كأنه يشاهدها، وينظر إليها، ثم يتأدى من خياله أثر إلى القلب، فيحصل فيه حقائق الأشياء التي دخلت في الحسّ والخيال، والحاصل في القلب موافق للعالم الحاصل في الخيال، والحاصل في الخيال موافق للعالم الموجود في نفسه، خارجًا من خيال الإنسان وقلبه، والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة في اللوح المحفوظ".

اقترح "حجّة الإسلام" تصوّرا تخييليّا-عرفانيا للوجود، فالعالم مخطوط سرّيّ، وكتابة إلهيّة على اللوح المحفوظ، وقد استقام عيانًا، وأصبح، بإرادة إلهيّة، موجودًا حينما أمر الخالق بأن يتجسّد بوصفه مادة محسوسة. وتبدو درجات التمثيل التي اقترحها الغزاليّ لمستويات الحسّ والتخيل مثيرة ومغرية. فهي انطباعات متدرّجة، لعالم لا يوجد إلاّ في تخيلاتنا؛ فالأصل محفوظ في اللوح، ولا سبيل للوصول إليه، وإدراكه، بل وتتعذر معرفته، يعيش المرء وهم التخيّلات السعيدة، كالناظر إلى السماء والأرض، فيثبّت صورتهما في نفسه، فتصبح تلك الصورة هي الحقيقيّة بالنسبة إليه، حينما تتوارى الأشياء. ليس ثمة حاجة للحقائق العيانية؛ لأن الحقائق التي اقترحها الغزاليّ قابعة في الخيال. تترتّب شؤون العالم بالعلاقة بين القلم واللوح استنادا إلى مبدأ الفاعليّة، فاللوح يتقبّل صور القلم الذي يقوم بمهمّة الفاعل، في حين تتخلّق صور الموجودات على سطح اللوح، ولقد أُمر القلم، منذ الأزل، بخط صور الموجودات على صفحة اللوح، فتلك الموجودات محكومة بطبيعة العلاقة بين القلم واللوح إلى الأبد تبعًا لمراتب الإبداع، وبوساطة العلاقة المترابطة بينهما يتميز الوجود بالديمومة والأبديّة. الكون علامة ركناها القلم واللوح، وأنّ ديمومة الوجود مقترنة بفعل الكتابة، وأنه لا يكتسب صيرورته من كونه واقعا، إنما من كونه نتاجا كتابيّا أوجده الخطاب الذي لا يمثل سوى ذاته، إذ هو لا يحيل على غيره.

التفكير العربي الإسلامي كان مداره البؤرة الدينية التي مثّلها القرآن الكريم، وقد استقام أمره بمنأى عن معايير الفلسفة الاغريقية

لم يتفرّد الغزالي بوصف الرؤية الكتابية للعالم، فمواردها متناثرة في كثير من المظان الخاصة بموضوع "الخلق"، وتكاد تكون ركيزة ثابتة في الأحاديث النبوية الخاصة بذلك. وبصرف النظر عن صدق نسبتها للرسول، فقد كان تأثيرها فاعلا في تثبيت سياق ثقافي افتراضي جرى دعمه دينيا، جرى فيه اعتبار النصّ الديني وحواشيه من أحاديث وشروح وتفسيرات هي المركز الفاعل في الثقافة الإسلامية، وتأدى عن ذلك استبعاد ما لا علاقة مباشرة له بذلك المركز، ومع ذلك، فمن المحال كبح الجهود البشرية في المساهمة بالشأن الدنيوي شرط ألا يتعارض ذلك مع الرؤية الدينية، وعلى هذا استظل التفكير الدنيوي بظلال التفكير الديني، ولم ينقطع عنه في كثير من حقول التفكير الأساسية.

ما لبث أن أصبح القرآن مدار التفكير الديني بسائر ضروبه، واستقام علم الكلام الذي شغل بصوغ الأدلة العقلية، وإيراد الأدلة النقلية، على صواب العقيدة الدينية، ودرء الشبهات الدنيوية عنها بالجدل الذي بنى فرضياته على أسس دينية. وكانت غايته تثبيت اليقين في نفوس المؤمنين وذلك بنزع الظاهرة الدينية عن سياقها التاريخي وإطلاقها في الزمان والمكان، وتركيز اهتمام علم الكلام على صفات الله، وصفات النبي، والإعلاء من شأنهما، ودعم فكرة التوحيد، والإيمان، وإقرار أصول الدين، ودحض مزاعم الفرق الدهرية بدنيوية الظاهرة الدينية؛ فالدفاع عن الدين كان غايته، وقد جعل منه الفارابي علما قائما بذاته في كتابه "إحصاء العلوم" وعرّفه بأنه "ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحمودة التي صرّح بها واضع الملّة، وتزييف كلّ ما خالفها بالأقاويل"، ولا ارتباطه بالدين الإسلامي كان أبو حنيفة النعمان قد اصطلح عليه بـ "الفقه الأكبر". إنه العلم الشريف الذي انصرف إلى ترسيخ عقيدة المؤمنين في نفوسهم، من ناحية، ورسم أفعالهم في التعبير عنها، من ناحية ثانية. وبلغ هذا العلم غايته، في القرن السادس الهجري، على يد الإمام فخر الدين الرازي في كتابه الكبير "المطالب العالية من العلم الإلهي" الذي جمع أصوله وفروعه، ورسم حدوده، ووصفه بأنه "أشرف العلوم على الإطلاق".

وخلال رحلة علم الكلام من بدياته الأولى إلى أن استقام علما إسلاميا جليل الشأن توسعت موضوعاته فلحثَ في الوجود، والنفس، والعقل، والمعرفة، وصار من المتعذر فكّ الاشتباك بين موضوعاته الأساسية وموضوعات الفلسفة؛ فالنموذج الفكري السائد paradigm كان دينيا يخلع على الظواهر سمة دينية مهما كانت، ولم تستقل الفلسفة بأسئلتها العقلية والمعرفية عند كبار أقطابها مثل الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، فقد كان التفكير ينتظم في سياق النموذج الديني الذي يخلع على الظواهر الدنيوية غطاء دينيا، فلم ينج كبار الفلاسفة من الحديث عن قدم العالم وحدوثه، وعن صفات الله، وعن المعاد، وعن خلود الروح، وبهذا فعلم الكلام هو جوهر العلوم الإنسانية الإسلامية كما عرفها ومارسها المفكرون المسلمون بعد تطعيمها بشذرات من الفلسفة الإغريقية. وعلى الرغم من حضور البطانة الدينية للفكر الفلسفي الإسلامي، فلا يصح نزع السمة العقلية عن فلاسفة الإسلام لكنها سمة ترتبت مفاهيمها وفرضياتها في إطار من الرؤية الدينية للعالم، فقد حجبت المركزية الدينية عنهم قدرة النظر إلى الدنيا بمعزل عن الدين، ومبحثهم الفكري ظل أمينا على مراعاة شروط تلك المركزية.

يصحّ القول بأنّ التفكير العربي الإسلامي كان مداره البؤرة الدينية التي مثّلها القرآن الكريم، وقد استقام أمره بمنأى عن معايير الفلسفة الاغريقية التي دخلت على خاصة المشتغلين بتكييفها مع فرضيات علم الكلام بعد وقت طويل، وإلى ذلك أشار الفارابي بقوله: "إنّ اسم الفلسفة يوناني، وهو دخيل في العربية، ومعناه إيثار الحكمة"؛ أي إن الفلسفة بالمفهوم الإغريقي "دخيلة على اللسان العربي بوصفه لغة القرآن، وبالتالي، دخيلة على الوحي نفسه"، كما خلص "فيليب فالات" إلى ذلك، ومع أهميتها فقد عزفت عنها "الملّة" واقتصر أمرها على خاصة الخاصة، وقد ذكر الفارابي في متن كتاب "الحروف" بأن تأثيرها عليهم ظهر في عصره "الفلسفة الموجودة اليوم عند العرب منقولة إليهم من اليونانيين". يريد أن مقولاتها عّرفت في وسط مخصوص بين المتفلسفين، لكن علم الكلام هو الذي استبد بالمسلمين خاصتهم وعامتهم، وكان عماد التوحيد عندهم.

يفتح لنا تعليق الفارابي باب السؤال على الكيفية التي تسرّبت بها بعض الأفكار اليونانية إلى العلوم الاسلامية؛ أي السياق الحامل للفلسفة "المنقولة". قدّم أبو حيان التوحيدي، في إحدى مقابساته، على لسان محاوره أبي سليمان المنطقي-وهو من كبار المتضلّعين بعلوم الأوائل، ويكاد يكون عند التوحيدي بمقام سقراط عند أفلاطون-جوابا وافيا على تعرّج طريق تلك الفلسفة المنقولة من اليونان، الطريق الوعر الذي يبق منها شيئا جوهريا ينفع الفكر "المضيّف" لها، فطريق وصولها إلى قلب "دار الإسلام" قطّع أوصالها، وحرّف مقولاتها، ونقض أسلوبها، فظهرت بغير ما كانت عليه في محضنها اليوناني قبل أكثر من ألف عام من محاولة العرب الاقتراب إليها.

أجمل أبو سليمان الأمر بقوله: "إنّا لا نظنّ أن كلّ من كان في زمان الفلاسفة بلغ غاية أفاضلهم، وعرف حقيقية أقوال متقدّميهم، بل كان في القوم من رأى رأي العامة وحطّ إلى ما حطّت إليه، ولم يبن منهم كثير شيء مع قدم الزمان ولقاء المحقّين الفاضلين. وهذا إذا حصل لا يكون قادحا فيما نصصناه من القول في حقائق التوحيد الذي ظفر به خُلصان الحكمة، وفرسان الصناعة. على أنّ الترجمة من لغة يونان إلى العبرانية، ومن العبرانية إلى السريانية، ومن السريانية إلى العربية، قد أخلّتْ بخواص المعاني في أبدان الحقائق، إخلالا لا يخفى على أحد. ولو كانت معاني يونان تهجس في أنفس العرب مع بيانها الرائع، وتصرّفها الواسع، وافتتانها المعجز، وسعتها المشهورة، لكانت الحكمة تصل إلينا صافية بلا شوب، وكاملة بلا نقص. ولو كنّا نفقه من الأوائل أغراضهم بلغتهم كان ذلك، أيضا، ناقعا للغليل، وناهجا للسبيل، ومبلغا إلى الحدّ المطلوب، ولكن لابد في كلّ علم وعمل من بقايا لا يقدر عليها الإنسان، وخفايا لا يهتدي أحد من البشر إليها؛ وذلك للعجز الموروث عن الهيولى، والضعف الثابت في الطينة الأولى؛ وهذا لكي يكون الله تعالى ملاذا للخلق، ومعاذا للعالم".

نشأت معظم العلوم الإسلامية في ظل الفرضية الدينية القائلة بانحباس الحقائق في المدوّنة القرآنية، وعُدّت علوم الدنيا، كالتاريخ، والأدب، والفلسفة... علومًا زائدة

لم يصرف أبو سليمان المنطقي اهتمامه إلى وصف طبيعة ذلك الفكر في أصوله، ولم يحكم عليه بالصواب أو بالخطأ، إنما صرفه إلى تداول ذلك الفكر في سياق الفكر الإسلامي، فوجده تعرّض للحيف عبر الترجمات الوسيطة التي "أخلّت بخواص المعاني في أبدان الحقائق" إخلالا صريحا صدر عن سوء الترجمة العربية للأصول اليونانية، الترجمة غير الدقيقة، وربما المحرّفة التي تأخذ في حسبانها السياق الثقافي الإغريقي الحامل لها، ففهمت على غير الوجه المراد منها، وإلى ذلك يضاف جهل العرب باللغة اليونانية التي توارت عن الاستعمال، فتعذّر عليهم مباشرة علومها العقلية، وبافتراض أنهم ذللوا ذلك متخطّين اللغات الوسيطة إلى اللغة الأصلية، وهو من شبه المحال، لكانت الحكمة اليونانية وصلت "صافية بلا شوب، وكاملة بلا نقص". ولهذا استقبل بعض المفكرين المسلمين ما كان قيد التداول منها في مجتمعهم الثقافي بعد أن تعرضت للتهذيب والتشذيب والتغيير الذي تقتضيه شروط التلقّي في مجتمع مسلم، مع ما لحقها في ارتحالها بين اللغات والثقافات العبرانية والسريانية التي سبقت العربية التي كانت حديثة عهد بمفاهيم تلك الفلسفة، وبعد أن فرغ أبو سليمان المنطقي من ذلك، أشار إلى ما يتعرض له المفكرون من إرغام لهم مصدره عامة الناس، فمنهم من "رأى رأي العامة وحطّ إلى ما حطت إليه" موالاة لجمهور يتوقّع منهم الدفاع عن عقيدته، وصون دينه. ولم يستغرب ذلك الناطق بلسان التوحيدي، فهذا هو ديدن المشتغلين بالأفكار "فلابد في كلّ علم وعمل من بقايا لا يقدر عليها الإنسان، وخفايا لا يهتدي أحد من البشر إليها" فذلك من العجز الموروث عند بني البشر في تفكيرهم وتدبيرهم "لكي يكون الله تعالى ملاذا للخلق، ومعاذا للعالم".