العُنفُ المُقدّسُ


فئة :  مقالات

العُنفُ المُقدّسُ

في الأصل كان العنف مقدّساً:

إنّ العنف المقدّس يستند إلى اعتقاد من يقوم به أنه لا يقوم بفعل محرّم أو ممنوع، بل إنه يقوم بفعل مطلوب وناجع وضروري من أجل إنفاذ إرادة الكائن الأسمى الذي هو محوَر الاعتقاد. إنّ الإله يأمر به ويباركه بل يفرضه، ومن يتقاعس عن القيام به يعتبر قليل الإيمان، ولذلك يمكن القول إنّ العنف يدخل في نطاق العبادة لأنه يمثّل جزءاً من العقيدة. ينطبق هذا بشكل خاص على ظاهرة التضحية التي عرفتها المجتمعات القديمة: تقديم الأضاحي (ذبائح) هو في الأصل فعل طقسي الغاية منه التقرّب للآلهة أو استحضار أرواح الأجداد أو التعبير عن الشكر أو طلب المغفرة.

إنّ الأضحية، القربان الدامي، مَثّل النموذج الأساسي للعنف المقدّس. ولئن كان في الأصل ظاهرة إنثروبولوجية قديمة ارتبطت بالوعي الجماعي البسيط (الوثنيّات القديمة وعقائد التأليه الطبيعية الإحيائية والطوطمية) فإنها تحوّلت فيما بعد إلى ظاهرة اجتماعية سياسية في المجتمعات المركّبة والمتطوّرة والتي لم تفقد ظاهرة التقديس. إنّ "العنف المقدّس" هو العنف "الذي يتمّ التشريع له انطلاقاً من مرجعية دينية أو أسطورية أو إيديولوجية. ولكنّ العنف المقدّس لا يأخذ ملامحه من النصوص التأسيسية فقط، بل يتجسّد في أكثر المظاهر قسوة وفظاعة، في الحرب وفي التعذيب الذي يمارس ضدّ أتباع دين مغاير أو ضدّ معتنقي عقيدة أو مذهب مخالف".[1]

لعل ظاهرة العنف المقدّس التي تطرح أكثر من إشكال كما تثير الفكر وتحرج الحساسية هي ظاهرة التضحية بالبشر. إنّ الأضحية البشرية ظاهرة قديمة جداً عرفتها أمم وشعوب كثيرة على مر التاريخ، ويبدو أنها كانت معروفة قبل ظهور الديانات التوحيدية. يعرّف لوازي Loisy الأضحية في قوله "الأضحية هي عمل شعائري، تحطيم غرض ملموس حيّ أو يُظَنّ أنه ينطوي على حياة، جرى الاعتقاد بأنّ من خلاله يمكن التأثير في القوى الخفيّة، إما للتخلّص من أذاها عندما يُفتَرَض أنها مؤذية أو خطرة، وإما لترقية عملهم لمنحهم الرضا والحفاوة، والدخول في تواصل وحتى في تآلف معها".[2] والأضاحي باعتبارها قرابين يستعملها المؤمن للتقرّب من الآلهة واستجلاب عون وبركة الأرواح، هي عادة ما تكون حيوانات أو بشراً. لقد عرف العرب مثلاً الأضاحي البشرية مثل بقية الساميين. تقول الروايات التاريخية إنّ "المنذر الثالث قد ضحّى للآلهة العزّى بابن خصمه الحارث الخامس. كما قدّم لها، في مناسبة أخرى أربعمائة راهبة. وكان "الغرِبّان"، وهما نوعان من مسلّات صغيرة، يُفرَكان بدم الأضاحي البشرية المنحورة لأجل هذه الآلهة".[3] القصة التي ذكرها ابن هشام بخصوص نذر عبد المطلب جدّ النبي التضحية بابنه عبد الله، دليل على أنّ تقليد الأضحية البشرية كان معروفاً وممارساً في الجزيرة العربية (مكة) قبل الإسلام استمراراً للتقليد الإبراهيمي[4]. إنّ ارتباط ممارسة العنف بالأديان، وخاصة منها الأديان التوحيدية، يُعدّ معطى أساسياً في تاريخ الأديان، كما يتأكّد من خلال التقاليد والعادات الدينية التي استمرت إلى اليوم.

نحن نعرف أنّ الحروب الأكثر دمويّة في تاريخ البشرية هي الحروب الدينية، تلك التي اشتعلت بين جماعات ذات انتماءات عقائدية ومذهبية مختلفة. دائماً يستعمل فيها الدين كوسيلة للتحشيد وكمرجعية للتبرير. الحروب الصليبية والفتوحات الإسلامية من أبرز الأمثلة على ذلك: القتل باعتباره طاعة لتعاليم الدين يجعله فعلاً مقدّساً، مبارَكاً، مؤذناً بدخول الجماعة مرحلة جديدة من الازدهار.

مهما كانت النتائج الوخيمة للعنف فإنّ من يقوم به يجد دائماً التبرير الكافي لمواصلته والتمادي فيه. الاعتقاد هو الذي يوفّر ذلك التبرير. إنّ عقيدة المؤمن ودينه أو مذهبه بشكل خاص يعطيه الاقتناع التام بأنّ العنف الذي يمارسه هو أمر جيّد ونافع أو يتطلبه الاستمرار الطبيعي للأشياء: لا بدّ من إسالة الدم، تقديم الأضاحي في أوقات معيّنة، لأنه بذلك الفعل يستمرّ الماضي في الحاضر ويتواصل في المستقبل (دورة الزمان). الزمان الطقوسي هو زمان دائري. البداية الموغلة في القدم تتجدّد باستمرار بحيث لا يشعر المؤمنون مطلقاً بقطيعة مع الزمان الأول، زمان البدء. يمكن اعتبار العنف المقدّس عنفاً أصولياً بما أنه يمثل استعادة للزمان الأول واستذكاراً للبدايات. قد يكون هذا التفسير الأنثروبولوجي لأصل العنف وجيهاً ومقنعاً إلى حدّ ما، ولكنه ليس التفسير الوحيد المتداول. قبل محاولات علماء الإنثروبولوجيا والإثنولوجيا تقديم نظريات تفسيرية لظاهرة العنف، اهتم الفلاسفة بالعنف في سياق اهتمامهم بمشكل ماهية ووجود الإنسان. اعتبر العنف بمثابة قانون عامٍّ يحكم العلاقات البشرية. ويمكن إرجاعه إلى طبيعة الإنسان الثابتة. ومادام الإنسان عنيفاً بطبعه وينزع إلى إيذاء الآخر وقتله فإنّ بناء النظام السياسي سيكون لازماً لتصريف نوازع العنف الكامنة لدى أفراد الجماعة. ما دام الإنسان ذئباً للإنسان فلا فائدة من انتظار صلاح أخلاقي من شأنه أن يحسّن الوجود البشري، بل لا بدّ من إقامة سلطة عليا لها من القوة ووسائل الهيمنة ما يمكّنها من السيطرة والتحكّم في الأفراد والجماعات وفرض طاعة القوانين على الجميع. من المعروف أنّ الفيلسوف الإنجليزي وليم هوبز Hobbes كان مِنْ أهمّ الذين أبرزوا الخاصيّة الإنثروبولوجية للعنف، واعتبارها أساساً لتصوّر السلطة المطلقة. كما أنّ كانط عبّر عن التناقض الذي يسم وجود الإنسان بسبب نزوعه إلى العنف المتناقض مع نزعته الاجتماعية، فالعنف يعبّر عن أنانية الإنسان وميله الى استعمال الآخرين كوسائل لإشباع رغباته. في هذا السياق تحدّث كانط عن الاجتماعية اللااجتماعية l’insociable sociabilité. ومادام الاعوجاج طبيعياً فلا بدّ من تدخّل سلطة سياسية، هي نتاج لصراع القوى أو توافُقها، تتمتع بحق استعمال العنف وفق قواعد وأساليب يتمّ التواضع عليها. نستطيع إذن أن نميز بين العنف الطبيعي والعنف السياسي. إنّ النظرية السياسية الحديثة هي بمثابة تأمّل في مسار تحوّل العنف الطبيعي إلى عنف سياسي، وعمل على تبيِين طبيعة ذلك التحوّل وشروطه ونتائجه.

العنف كظاهرة سياسية:

يحيل مفهوم العنف الطبيعي الذي يظهر في "حالة الطبيعة" (حالة الطبيعة هي حالة حرب لدى الفلاسفة مثل هوبز) إلى مفهوم سلطة الدولة المطلقة وكذلك إلى مفهوم الاستبداد. مادام الشرّ متأصّلاً في الإنسان ومادام العنف ملازماً للعلاقات بين الناس، فإنّ السلام الضروري لاستمرار الحياة الاجتماعية يتطلّب إقامة سلطة عليا تكون وحدها مخوَّلة باستعمال العنف ضدّ كل من يخرج عن قواعد الاجتماع المدني. هذه الفكرة هي جوهر النظرية التعاقديّة عند هوبز. "الإنسان ذئب للإنسان" والنزوع إلى العنف متأصل فيه، ولذلك لا بدّ من منع تحوّل العنف إلى سبب لتدمير الحياة الاجتماعية.

على طرف نقيض من موقف هوبز نجد موقف روسّو المدافع عن خيرية الإنسان الطبيعية والقائل إنّ حالة العنف نتاج للحالة الاجتماعية. وقد عبّر في هذا السياق عن اندهاشه وأسفه من توجّه هوبز، على رجاحة عقله، إلى التأسيس للطاعة الكاملة من قبل المحكومين لسلطة مطلقة هي سلطة العاهل.

«Qui peut avoir imaginé sans frémir le système insensé de la guerre naturelle de chacun contre tous? Quel étrange animal que celui qui croirait son bien attaché à la destruction de toute son espèce! […] voilà pourtant jusqu’où le désir ou plutôt la fureur d’établir le despotisme et l’obéissance passive ont conduit un des plus beaux génies qui aient existé»[5].

"من ذا الذي يستطيع أن يتخيل دون أن ترتعش فرائصه النسق اللامعقول للحرب الطبيعية لكل واحد ضدّ الجميع؟ أيّ حيوان غريب ذاك الذي يعتقد أنّ خيره مرتبط بتحطيم نوعه (...) نرى الى أيّ مدى قادت رغبة أو بالأحرى سُعار إقامة الاستبداد والطاعة السلبية واحداً من العقول النيّرة".

لا نجد اختلافاً كبيراً بين روسّو وهوبز في ما يتعلّق بالحرب الطبيعية. نحن نعرف أنّ روسو تصوّر ضرورة العقد الاجتماعي المؤسِّس للمجتمع السياسي أو المدني انطلاقاً من بلوغ حالة الطبيعة مرحلةً يصبح فيها الصراع والعنف مانعاً لاستمرار الجميع في البقاء. (وهذا يعني أنّ حالة الطبيعة هي حالة اجتماعية، وبالتالي فحتى إن اختلف روسو مع هوبز في تحديد طبيعة الإنسان فإنه يلتقي معه في تصور نتيجة الاجتماع وفي القول بضرورة حل مشكل العنف). حالة الطبيعة ليست حالة عنف دائم، فالعنف ليس سوى حدث عارض، واقعة عابرة في سياق حالة الحرب الطبيعية الدائمة، هذا ما يقوله هوبز[6]. ولكن ما يمثّل إشكالاً حقاً هو أنّ العنف استمرّ في الحالة السياسية، وتواصل في إطار الدولة الحديثة القائمة على شرعية الاعتراف، أي على الطاعة والخضوع الطوعي. إنّ الدولة وحدها يحقّ لها ممارسة العنف، ليس فقط في شكل حرب ضدّ الأعداء في الخارج، بل أيضاً ضدّ من يُهدّد في الداخل سلامة السلطة واستقرار المجتمع. ولكن يجب أن نلاحظ أنّ عنف الدولة عادة ما يكون جزئياً، موضعياً، عابراً، وذلك لأنّ استمرار أعمال العنف لا يدلّ دائماً على قوّة الدولة بل قد يكشف ضعفها، ولتجنّب ذلك الخطر تلتجئ الدولة إلى وسائل أخرى لممارسة هيمنتها. هكذا يكون التساوي أمام العنف وأمام الموت دافعاً إلى إقامة النظام السياسي وضامناً لاستمرار هذا النظام نفسه. الجميع يقبلون بالدولة مادامت قادرة على فرض سلطتها بالقوّة. "من هنا كانت السياسة بالتحديد الوسيلة التي يتم بفضلها الفرار من التساوي أمام الموت إلى تمايز يؤمّن لأصحابه وضعية خالدة. (هوبز هو فيلسوف السياسية الوحيد الذي يلعب لديه الموت دوراً محوريّاً على شكل خوف من الموت العنيف. لكنّ المساواة أمام الموت لم تكن العامل الحاسم لدى هوبز. العامل الحاسم لديه كان تساوي الخوف الناتج عن قدرة متساوية على القتل يتمتع بها كل واحد، وهذا التساوي هو ما يُقنع الناس الذين يعيشون في مجتمع طبيعي بأن يتجمّعوا في جماعة ذات مصالح مشتركة)".[7]

العنف الداخلي ظاهرة مدمّرة لكيان المجتمع ولبُنيان الدولة ولعلّه لا يقلّ خطراً عن العدوان الخارجي، ولذلك تعمل الدولة الحديثة على منعه والقضاء على أسبابه قبل استفحاله. طبعاً وسيلتها الأساسية في ذلك، من بين وسائل أخرى، هي ممارسة العنف الشرعي. ولكنّ خطر الجماعات المناهضة للدولة والساعية الى إعادة بناء المجتمع لا يتمثّل في استعمال العنف والتفنّن في ممارسته ضدّ المجتمع وأجهزة السلطة القائمة، بل في كون هذا العنف مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالمقدّس. إنّ الجهة التي تمارسه لا تعطي لنفسها فقط الحق في القيام به، بل إنها تتمثّله كواجبٍ ديني وأخلاقي فرَضته عليها سلطة عليا فوق بشرية. المثال الأبرز في هذا السياق هو العنف الأصولي الديني، عنف الجماعات الدينية التي تنطلق من نصوص دينية هي موضوع تقديس من قبل جماعة أوسع من المؤمنين. وهكذا يكون العنف المدمّر الذي تمارسه القلّة مستنداً إلى المرجعية القدسية التي تشترك فيها مع الأكثرية (أمّة المؤمنين أو أتباع الملة الواحدة). هناك نصوص في التوراة وفي القرآن تدعو صراحة إلى قتل الكافر أو المخالف في العقيدة أو المرتدّ أو صاحب الكتاب أو الوثني. هذا هو العنف الذي نسميه مقدّساً: عنف بحكم استناده إلى نص تأسيسي أصلي مقدّس، قد لا يُنظر إليه من قِبَل فاعليه ومن يتعاطف معهم على أنه فعل إجرامي، بل ينظر إليه باعتباره إيجابيّاً ويُقبَل كتعبير عن درجة الإيمان والتفاني في التضحية في سبيل المقدّس. بحسب منطق العنف المقدّس، تكون كل أشكال العنف، مهما كانت قاسية وهمجية بما في ذلك القتل، مقبولة ومشروعة. كيف لا يكون الأمر كذلك والنصوص المقدّسة تؤكّد على ذلك منذ الأزمنة الأولى، كما أنّ سِيَر التاريخ ومأثوراته تصوّر العنف المقدّس كأساسٍ لتشكّلِ الجماعة واكتسابها هويّتها الخاصة؟

هل لنا أن نجازف بطرح الفرضية التالية، وهي أنّ "العنف المقدّس" الذي نشهده اليوم هو استمرار للعنف نفسه الذي عرفته البشرية في الأزمنة الغابرة قبل تكوّن الوعي العقلاني وتشكّل الحساسيّة الحديثة التي بموجبها أصبح يُنظر إلى الإنسان ككائن متميّز له كرامة وحقوق؟ يرى روجي كايوا Roger Cailloix أنّ الظاهرة الوحيدة القديمة التي تتّسم بالعنف المفرط والتي تجد صداها اليوم في الحرب هي ظاهرة الأعياد والاحتفالات المقدّسة التي عرفتها شعوب وجماعات قديمة. في هذه الاحتفالات "كلّ التجاوزات تغدو مباحة لأنه من هذه التجاوزات بالذات، من العربدات وأعمال العنف والتبذير ينتظر المجتمع انبعاثه آملاً أن يخرج بعنفوان جديد".[8] مثلما كانت الأعياد القديمة مناسَبة للقيام بكلّ ما هو ممنوع ومحرّم على أفراد الجماعة، كذلك الحرب المعاصرة تُمثّل مناسبة للتحلُّل من القوانين الدولية ومن الضوابط الأخلاقية، فالتقتيل والتعذيب والأسر هي علامات على الانتصار والتفوّق ونجاح المهمة العسكرية. يقول كايوا: "القتل في الحرب كالسّفاح في العيد، عمل ذو وقعٍ ديني إنه، حسبما يزعمون، من نوع الذبيحة البشرية التي لا تعود بأيّ نفعٍ مباشر. ذلك ما يجعل الوجدان الشعبي، تحديداً، يميّز بينه وبين القتل الإجرامي. إنّ الشريعة التي تفرض على المحارب التضحية بحياته هي نفسها التي تأمره بقتل عدوّه".[9] عندما نتحدث عن الحرب كمظهر من مظاهر العنف فنحن نلامس نوعاً آخر من أنواع العنف هو العنف اللامقدّس أو اللاديني. يبدو هذا العنف مكتفياً بذاته ولا يحتاج إلى تبرير. ولكن هل الأمر كذلك حقاً؟ إنّ "العنف بطبيعته أدواتي، وهو ككلّ وسيلة يظل على الدوام بحاجة إلى توجيه وتبرير في طريقه إلى الهدف الذي يتّبعه، ويحتاج إلى تبرير يأتيه من طرف آخر".[10]

العنف الأصولي والدين السياسي:

يجد العنف ما يبرّره في كونه تعبيراً عن الحياة، بل هو مظهر من مظاهرها. من أجل استبعاد أسباب الموت والدمار لا بدّ من القوّة اللازمة والعنف لتأكيد قوة الحياة. نجد فكرة الحياة باعتبارها قوة وقدرة على الخلق لدى فلاسفة مثل برجسون Bergson ونيتشه Nietzsche. ولكنّ مفكراً كجورج سوريل George Sorel رفع العنف إلى مرتبة الفعل البروليتاري المثبت للحياة في مواجهة القوى الارتكاسية للطبقة البورجوازية. لقد دعا سوريل إلى أن يكون العنف فعلاً ثورياً خاصاً بالبروليتاريا ومُوجّهاً لحركة الإضرابات العمالية. إنّ "الثورة الاشتراكية هي امتداد لهذه الحرب التي يمثّل كلُّ إضرابٍ كبير حلقة منها، ولهذا فإنّ النقابات تتحدّث عن هذه الثورة بلغة الإضرابات. إنّ الاشتراكية تُختزَل لديهم في الفكرة، في الانتظار، وفي الإعداد للإضراب الشامل الذي يشبه الصراع النابليوني الذي سيلغي نظاماً مُداناً un régime condamné".[11] يجب أن نُنبّه هنا إلى أنّ سوريل لا يبرز قيمة الإضراب كفعل احتجاج جماعي رافض فقط، بل إنّ ما يهمّه هو الإضراب العنيف باعتباره وسيلة متاحة للبروليتاريا للتمرّن والتقدّم في طريق الثورة. فلسفة سوريل هي إذن فلسفة تمجّد العنف لأنه فعل إثبات وتأكيد لحياة الجماعة.

"Je constate qu’il s’élabore aujourd’hui une philosophie suivant ce plan qu’on soupçonnait à peine il y a quelques années ; cette philosophie est étroitement liée à l’apologie de la violence"[12].

إنّ تصور سوريل للعنف المُحرِّر والمخلّص ساهم في ترسيخ ما يمكن تسميته بـ "أخلاقية العنف" La moralité de la violence. وأخلاقية العنف هذه ستكون مُرتَكَزاً للأديان السياسية في القرن العشرين وستعطيها مكانة دينية[13]. إنّ العنف الأصولي لا يقتصر على العنف المقدّس المبرّر دينياً، ولكنه يتعلق أيضاً بالدين السياسي الخاص بالدولة الحديثة (يمكن أن يأخذ الدين السياسي اسم القومية أو الاشتراكية أو الدولة الوطنية أو النازية أو الإسلاموية...). تتأتى صفة الأصولية من كون هذا العنف يؤسّس ويعيد تأسيس نظام الجماعة وسلطة حكمها. "إنّ الأشكال القصوى للعنف من الإرهاب الثوري إلى الإبادة الجماعية génocide يمكن أن تنتمي إلى مفهوم العنف الأصولي La violence fondamentaliste لأنّ العنف ليس في الدين بل الدين حالّ في العنف[14]".

سيواصل فرانتز فانون Frantz Fanon بعد سوريل، وعلى غرار كثير من الماركسيين، في سياق تقريظ العنف الثوري نفسه[15]. يعبّر العنف باعتباره ممارسة جماعية عن التلاحم القوي الذي من شأنه أن يجعل جماعة من المقهورين تشعر بقوّتها وبأسها وبالتالي بحقّها في الحياة: "إنّ ممارسة العنف إنما تُلحِم الناس مع بعضهم بعضاً ككلٍّ واحد، طالما أنّ كل فردٍ يشكل حلقة في سلسلة عظيمة، جزءاً من منظومة العنف الكبيرة التي تقوم كردّ فعلٍ على العنف الكولونيالي".[16]

إنّ العنف العاري الدنيوي غير المقدّس هو أيضاً يمكن أن يجد تبريره خارجه، لا في مرجعية متعالية، بل في تصوّر ما يعطي للعنف وجاهة ومبرّراً وأحقية وجودٍ: العنف الثوري ضدّ العنف الكولونيالي[17] أو العنف الثوري ضدّ الاستغلال الرأسمالي أو ضدّ الدولة البوليسية. إنّ تقريظ العنف عند فانُونْ لا يستند إلى حكم مسبق أو فرضية فلسفية، بل يقوم على معاينة الواقع والتاريخ الإنساني والاستعماري منه بوجه خاص. ليس العنف في تصور فانُونْ أمراً عشوائياً، ولكنه قانونُ صراعِ القوى الأساسي. "إنّ العنف الذي كان سبباً في إقامة العالم الكولونيالي كما كان سبباً في تحطيم الأشكال الاجتماعية الأهلية les formes sociales indigènes بلا كَلَلٍ، والذي كسّر الأنساق المرجعية للاقتصاد دون تقييدات (...) سيأخذه المستعمَر على عاتقه فيضطلع به في اللحظة التي تُقَرّر فيها الجماهير المستعمَرَة أن تكون التاريخَ بالفعلِ فتدخلَ المدنَ الممنوعةَ. إنّ نَسْف العالم الكولونيالي هو، من هنا فصاعداً، صورة الفعل الأكثر وضوحاً والقابلة للفهم التي يمكن لأيّ فرد من الشعب المحتلِّ أن يَستعيدها".[18] في مواجهة الاستعمار الاستيطاني الذي هو مؤسَّسَة قَوامها العنف والقهر، لا سبيل أمام المستعمَرين إلا المقاومة العنيفة ولا وسيلةَ أمامهم للانعتاق إلا قلب موازين القوى أي جعل عنفهم أكثر تأثيراً أي أكثر رعباً وترهيباً. يقول فانون في صياغة لا تخلو من سخرية من الذين يدعون إلى أسلوب "اللاعنف": "ليس الاستعمار آلة تفكير، وليس جسماً وُهِبَ العقلَ، بل هو العنف في حالة الطبيعة، ولا يمكن أن يُطاح به إلا بواسطة عنف أشدّ".[19]

قد يكون العنف في كل الوضعيات والملابسات التي يظهر فيها تعبيراً عن أزمة الوجود الاجتماعي، فبسبب صعوبة العيش المشترك وبسبب انعدام الضمانات الكافية للعيش السلمي يعود كل طرف فرداً أو جماعة إلى منطلقه الأول وإلى استعداداته الأولى: استعمال قواه الطبيعية للمحافظة على حياته وتجنّب الموت. الحفاظ على الحياة يقتضي المبادرة بالعنف، المجازفة بالحياة في سبيل القضاء على الآخر باعتباره مصدر الخطر. يمكن أن نستذكر هنا الحلّ السياسي الذي تولّد عن انفعال الخشية من الموت: الخوف من الموت هو الذي جعل ابتكار أسلوب وجود آخر أمراً ممكناً. إنّ الوجود السياسي يعني التخلي عن الحق في استعمال القوّة (العنف) والتنازل عنه للدولة. أليس هذا الحلّ وجيهاً ومعقولاً اليوم أيضاً؟ بل ألسنا نتأكّد يوماً بعد يوم من صلاحيته (ضرورة الدولة المدنية). إنّ ما يُسمّى بالعنف المقدّس ليس في حقيقة الأمر إلا عنفاً سياسياً مقنّعاً. إنّ أيّ عنف يمارَس في سياق اجتماعي تاريخي، ولو استند إلى المقدّس أو تخفّى بأيديولوجيا مقدّسة، هو عنف سياسي، لأنّ رهانه الخاص به هو فرض واقعٍ سلطوي معيّنٍ: الاستحواذ على السلطة أو فرض المشاركة فيها أو توجيه المجتمع وجهة معينة. ما دام رهان العنف هو الإكراه والتحكم والسيطرة فهو عنف سياسي، وما جانبُه المقدّس إلا أحد عناصر قوّته. "العنف والسلطة - تقول أرندت- ليسا بأي حال ظاهرتين طبيعيتين، أي تجلّ لمسيرة الحياة، بل إنهما ينتميان إلى ملكوت السياسة المهيمِن على قضايا البشر، هذا الذي لا يمكن ضمان إنسانيته إلا بقدرة الإنسان على الفعل وقابليّته لأن يبدأ شيئاً جديداً".[20]

إنّ العنف السياسي هو، بمعنى ما، عنف أصولي. من الباحثين من يرى أنّ العنف الأصولي أو المقدّس لا يمكن أن يُنسَب بصورة حصرية إلى الأديان. "من الخطأ أن نَنسِب الممارسات الأصولية سواء تلك التي تمثلت في الغزوات الصليبية في الماضي أو في الجهاد المعاصر في الحاضر إلى المسيحية وإلى الإسلام. إنه الرعب الانتحاري la terreur suicidaire، كما هو الحال في تقليد "الأموك" Amok الماليزي، الذي يعطي مرتبة مقدّسة، لا الشرعنة الدينية إذا افترضنا أنه لا بدّ من شرعنة".[21]

"Il serait tout aussi erroné de reprocher au christianisme ou à l’islam en tant que tels les pratiques fondamentalistes des croisés d’autrefois ou des combattants du djihad moderne. C’est la terreur suicidaire elle-même, comme dans la tradition de l’Amok malaisien, qui donne un statut sacré, pas la légitimation religieuse, à supposer qu’il en faille une".

لا يستمدّ العنف مبرّر وجوده من ذاته، بل إنه لا يوجد من تلقاء ذاته. إنه دائماً تعبير أو تجلٍّ لشيء آخر. ولعله تعبير عن عقيدة ما، ترجمة لاعتقاد معيّن يخص جماعة ويميزها عن غيرها. وسواء كانت العقيدة دينية أو لائيكية، ذات مصدر مقدّس أو دنيوي، فإنّ العنف المرتبط بها هو عنف أصولي بواسطته تستعيد الجماعة زمان انبعاثها وتقوي وحدتها فتكون في أفضل حال لمواجهة المخاطر.

إلى أيّ حدّ يمكن لمبدأ اللاعنف le principe de la non violence أن يمنع العنف أو على الأقل يقلل من خطورته؟ نحن هنا أمام التناقض الأزلي بين المبدأ والواقع، بين المعيار والفعل. إننا كثيراً ما نواجه الواقع الذي لا نقدر على التحكم فيه وتوجيهه بما يتلاءم مع مصالحنا بمعيارية المبادئ وعلوية القيم. ولكن هل تغيّر المبادئ واقع تتحكم به القوى والمصالح؟ إنّ تبني مبدأ اللاعنف ليس إلا موقفاً أخلاقياً يؤكد العجز عن إلغاء العنف. إنّ هذا المبدأ يتحوّل لدى المهاتما غاندي إلى رؤية أخلاقية عامة تستهجن العنف وكل أشكال الظلم، ولئن لم يلغِ العنف والحرب فإنه على الأقل يعبر عن رفضه وإدانته، وكذلك عن الأمل في إقامة عالم يعُمّه السلام. يقول غاندي: "إنّ تبني مبدأ اللاعنف يحملنا على الانزياح عن كلّ أشكال الاستغلال. (...) إنّ اعتراضي على الحروب ليس معناه رغبتي في منع أولئك الذين يريدون المشاركة فيها ولكني أحاول ترشيدهم، أجتهد في بسط تصوراتي وأترك لهم حرية القرار فيما بعد. أريد القول لمن ينقدني شاركني آلام ليس الهند فقط بل آلام العالم كله سواء نتجت عن الحرب أم لا، إذ لا يمكنني ألا أبالي بهذه المجزرة التي تمتدّ في كل اتجاه، إنه من غير اللائق على البشر بالخصوص أن يستسلموا لهذه المذبحة المعمّمة التي هي الحرب، وإنني لا أشكّ في أنه ليس ثمة حلّ آخر لمشاكلنا".[22]

إنّ "أخلاقية العنف" ما فتئت تنتصر، وأمّا دعوة غاندي إلى إيتيقا اللاعنف فقد لا تعدو أن تكون تعبيراً عن موقف سلبي لحكيم شرقي هو أقرب إلى التأمل منه إلى الانخراط في العالم. ليس في هذا أي استنقاص من قيمة موقف اللاعنف، ولكننا أردنا التنبيه، في ختام القول، إلى التناقض بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، بين الواقع والممكن.

 

المراجع:

- روجي كايوا، الإنسان والمقدّس، ترجمة سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2010

- هنا أرندت، في العنف، ترجمة إبراهيم العريس، دار الساقي، بيروت، 1992

- يوسف شلحت، الأضاحي عند العرب، ترجمة خليل أحمد خليل، دار الطليعة، بيروت، 2013

- منوبي غباش، "المقدّس والعنف"، مجلة يتفكّرون، الرباط، عدد 5، 2014، ص ص 66-106

- Rousseau, «Que l’état de guerre naît de l’état social», Œuvre complète, Vol. III, Paris, 1964.

- Charles-Yves Zarka, Hobbes et la pensée politique moderne, Puf/Quadrige, 1995.

- Gandhi, Tous les hommes sont frères, Ed. Folio, 1969.

- Frantz Fanon, Les damnés de la terre, Maspero, Paris, 1970.       

- Georges Sorel, Réflexions sur la violence, (texte consultable sur le Site web: http://www.uqac.uquebec.ca/zone30/Classiques_des_sciences_sociales/index.html).

- Georges Sorel, Réflexions sur la violence, (texte consultable sur le Site web: http://www.uqac.uquebec.ca/zone30/Classiques_des_sciences_sociales/index.html).

- Bernd Weisbrod, «La violence fondamentaliste: violence politique et religion politique dans le conflit moderne», ERES. (http://www.Cairn.info/revue_internationale_des_sciences_sociales_2002_4_page_551htm).


[1] انظر بحثنا: المقدّس والعنف، مجلة يتفكّرون، الرباط، عدد 5، 2014 ص ص. 66-106

Loisy, Sacrifice [2]، ذكره شلحت، الأضاحي عند العرب، ص 14

[3] شلحت، الأضاحي عند العرب، ترجمة خليل احمد خليل، دار الطليعة، بيروت، 2013، ص 90

[4] يوسف شلحت، الأضاحي عند العرب، ص 90

[5] Rousseau, «Que l’état de guerre naît de l’état social», Œuvre complète, Vol. III, Paris, 1964.

[6] Charles-Yves Zarka, Hobbes et la pensée politique moderne, Puf/Quadrige, 1995, p.128

[7] أرندت، في العنف، ص ص 61-62

[8] روجي كايوا، الإنسان والمقدّس، ترجمة سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2010، ص 234

[9] كايوا الإنسان والمقدّس، ص 239

[10] أرندت، في العنف، ترجمة إبراهيم العريس، دار الساقي، بيروت، 1992، ص 45

[11] Georges Sorel, Réflexions sur la violence, (texte consultable sur le Site web:

 http://www.uqac.uquebec.ca/zone30/Classiques_des_sciences_sociales/index.html)

[12] Georges Sorel, ibid., p.195

[13] Bernd Weisbrod, «La violence fondamentaliste: violence politique et religion politique dans le conflit moderne», ERES, (http://www.Cairn.info/revue_internationale_des_sciences_sociales_2002_4_page_551_htm) «cette nouvelle "moralité de la violence", au sens du Sorel, cette "volonté de libération" par la violence, qui a donné aux nouvelles religions politiques du XXᵉ siècle le statut religieux». 

[14] Bernd Weisbrod, Ibid.

[15] Frantz Fanon, Les damnés de la terre, Maspero, Paris, 1970

[16] فرانتز فانون، معذّبو الأرض، ترجمة جمال الأتاسي وسامي الدروبي، دار الطليعة، بيروت، 1968

[17] Frantz Fanon, Les damnés de la terre, pp. 7-9

[18] Les damnés de la terre, p. 9

[19] Les damnés de la terre, p. 25: «Le colonialisme n’est pas une machine à penser, n’est pas un corps doué de raison. Il est la violence à l’état de nature et ne peut s’incliner que devant une plus grande violence».

[20] أرندت، في العنف، ص 75

[21] Bernd Weisbrod, «La violence fondamentaliste: violence politique et religion politique dans le conflit moderne», ERES,

[22] Gandhi, Tous les hommes sont frères, Ed. Folio, 1969, p.166.