العولمة الثقافية والسياسات الاقتصادية مطارحات نقدية في الخلفيات الفلسفية


فئة :  مقالات

العولمة الثقافية والسياسات الاقتصادية مطارحات نقدية في الخلفيات الفلسفية

العولمة الثقافية والسياسات الاقتصادية

مطارحات نقدية في الخلفيات الفلسفية

ملخص

يأتي البحث لتسليط الضوء على الخلفيات الفلسفية والتأثيرات المجتمعية التي أفرزتها العولمة في بعديها الاقتصادي والثقافي؛ وذلك من أجل الوقوف على مدى خدمة العولمة الاقتصادية في تطوير دول العالم الثالث وتنميتها، فضلا عن التحقق من تداعيات الاقتصاد المعولم على مختلف مناحي الوجود الإنساني، حيث يسعى إلى صياغة نمط اقتصادي واحد، وتمريره عن طريق الثقافة، قصد ترسيخه في الأذهان، ومن لم يساير بعض أنواع الممارسات الاقتصادية يبقى محكوما عليه بالتخلف والرجعية، حتى غدا الإنسان مجرد وسيلة، يُتَحَكَّمُ فيها عن طريق مجموعة من الأنماط الثقافية ذات البعد الاقتصادي. إن الخطورة الكامنة وراء ذلك تتجلى في اختراق الإنسان في كينونته وحريته، فلم يعد ذلك الإنسان المتفكر العاقل، وإنما أضحى مسلوب الاختيار ومفروضا عليه أن يساير الممارسات الاقتصادية التي تفرضها عليه العولمة.

مقدمة

تشكل العولمة اليوم في سياقنا المُعولم بأبعادها المختلفة وعاء يحتضن مختلف الممارسات الاقتصادية لدى شعوب العالم، حيث تجعل الفروق الثقافية للفعل الاقتصادي ضيقة، إن لم تكن غائبة في بعض أشكالها؛ وذلك راجع إلى الصورة التي تُؤطر بها العولمة السوق الكونية، حيث جعلت جدل المحلي والدولي ينمحي، وفي ظل هذا الانفتاح أصبحت طباع الإنسان وعاداته الاقتصادية تتوحد في مختلف بقاع العالم، كأن الجغرافيا لم يعد بإمكانها رسم حدود بينة في عالم اليوم. هذا الأمر سيزداد رسوخا مع هيمنة المؤسسات المالية الدولية على السياسات الاقتصادية للدول، خصوصا النامية منها، أو التي في طريقها للنمو، مما أفرز أشكالا مختلفة من الأعطاب على مستوى التثاقف الاقتصادي؛ فمن جهة يسعى الإنسان في الدول النامية أن يتخذ الأنموذج المُعولم مثالا يقتدى به في مختلف الممارسات الاقتصادية، ومن جهة أخرى يجد نفسه في مآزق عدة، أهمها: التفاوت الاقتصادي، الهشاشة، التلوث، البطالة، الأمر الذي لا يسمح له بأن يصل إلى الصورة المخيلة له عن طريق العولمة الثقافية، التي تجسد الإنسان العالمي "المعياري"، وبذلك يجد نفسه بين مطرقة الصورة المحلية التي نفر منها، باعتبارها أصبحت تمثل الطراز القديم الذي لم يعد يتماشى مع صورة الإنسان المعولم، وبين سندان الصورة الكونية التي لم تتجسد فيه أبعادها ليكون إنسانا آخر، بفعل الأعطاب المذكورة، وهنا نكون أمام مفارقة خطيرة لفعل العولمة الثقافية في بعدها الاقتصادي، حيث يصبح الإنسان في صورته المقهورة مجرد سلعة، بعدما كان يطمح لأن يكون ممتلكا لها في نسخة أخرى من الإنسان المعياري؛ ذلك الإنسان الذي يمارس معاملاته الاقتصادية بحرية، ويدبر شؤونه الداخلية بأريحية. إذن هذه الصورة الموهومة للعولمة الاقتصادية لا توجد إلا على مستوى بنيات الأبعاد الثقافية التي يرسمها بدرجة أولى الإعلام بوسائله المختلفة، حتى يكاد يكون الإعلام والعولمة قرينين، أو وجهين لعملة واحدة. من هنا جاء هذا البحث لتسليط الضوء على الأبعاد الثقافية التي تخلفها العولمة الاقتصادية، خصوصا في جانبها التسويقي السلعوي، وفي بعدها الاستهلاكي المتجذر بفعل وصايا الإعلام.

سيعالج البحث إشكالية جوهرية تتمثل في الوقوف على الخلفيات الفلسفية والتأثيرات المجتمعية التي أفرزتها العولمة في بعديها الاقتصادي والثقافي؛ وذلك من أجل الوقوف على مدى خدمة العولمة الاقتصادية على تطوير دول العالم الثالث وتنميتها، فضلا عن التحقق من تداعيات الاقتصاد المعولم على مختلف مناحي الوجود الإنساني. وسيعتمد البحث المنهج التحليلي من أجل الإجابة عن الأسئلة والإشكالات المطروحة.

1- العولمة الثقافية والممارسات الاقتصادية: ضبط وتحديد

إن الحديث عن عولمة الثقافة هو حديث عن صلة العولمة بالثقافة؛ ذلك أن العلاقة بينهما تتسم بالتعقيد، من خلال أن الثقافة تحاول الوقوف في وجه العولمة حتى لا تفقدها خصوصيتها، لكن العولمة الثقافية تسعى إلى تفتيت الحدود وإذابة الحواجز بين الثقافات، وتشكيل ثقافة عالمية واحدة، أو بالأحرى فرض الثقافة الغربية على باقي المجتمعات بدعوى الكونية، وبذلك نكون أمام شكل من أشكال الاحتلال الثقافي. ويمكن القول إن العولمة تحقق عملية دمج متعالٍ لا يقتصر على التفاعل بين الدول، وإنما يوجهها لنمط معين من الاقتصاد والاجتماع والتثاقف، لذلك فهي تمارس نوعا من التعالي بحكم السلطة التي تمتلكها، وهكذا تتحول كل المسارات العالمية المتفرقة إلى مسار واحد بفعل الاختراق العولمي المزعج، هذا الاختراق الذي ينجم عنه عدة تحولات على مستوى السياسة والاقتصاد والثقافة...لكن يبقى دائما ذلك التجانس المنشود مشكوكا فيه؛ وذلك بفعل عملية التطبيق المتبناة من قبل الدول التابعة لموجهة الاختراع تلك، إلا أن التمدد الثقافي يسري على الكل بفعل سلطة الإعلام المهيأة لهذا الغرض. فلو كان الأمر يقتصر على التفاعل والتبادل الثقافي لما حدث تشوه في الخِلقة المجتمعية ولما رأينا تلكم التحولات البنيوية التي تسربت إلى كيان المجتمع.

من الأشكال التي تبرز هذا المعطى هو محاولة صياغة نمط اقتصادي واحد، وتمريره عن طريق الثقافة[1]، بهدف أن يترسخ في الأذهان أن من لم يساير بعض أنواع الممارسات الاقتصادية يبقى محكوما عليه بالتخلف والرجعية، حتى غدا الإنسان مجرد وسيلة، يتحكم فيها عن طريق مجموعة من الأنماط الثقافية ذات البعد الاقتصادي. إن الخطورة الكامنة وراء ذلك تتجلى في اختراق الإنسان في كينونته وحريته، فلم يعد ذلك الإنسان المتفكر العاقل، وإنما أضحى مسلوب الاختيار ومفروض عليه أن يساير الممارسات الاقتصادية التي تفرضها عليه العولمة. إن هذا الإنسان المخترق أصبح قابلا لكل صورة ترسمها له يد العولمة الممدودة أصابعها على دول العالم، حيث لم تعد له القدرة على إبصار ألوان ثقافته، بفعل ارتداء نظارات له تريه إلا يراد لها أن تريه، بل لو كان الأمر بمقدوره لغير من لون جلدته، وليس من لون ثقافته فحسب، حيث إن سحر العولمة خيل له، وهو يسعى أن اللون المنشود، سواء أكان لود جلد أو لون ثقافة، هو لون واحد، والكل مدعو أن يتزخرف به.

مما يوضح خطورة العولمة الثقافية أنها تقوم بصياغة مفاهيم براقة تحمل بين جوانحها قيم العصرنة والتقدم، تحت شعار أن من أراد أن يدخل في زمرة المتقدمين، فلا بد أن يتبع نظاما في الأكل والشرب واللباس والموضة...، حيث ساهمت وسائل الإعلام بشكل كبير في تقرير هذه الأشكال الثقافية للممارسات الاقتصادية، فأصبح الناس يسارعون ويلهثون وراء هذه المظاهر، حتى يأخذوا صكا يقر لهم بالعصرنة والتقدم، وهو في حقيقة الأمر سلب لحريتهم واختيارهم الاقتصاديين.

هنا نجد أن العولمة تشكل لنا ثقافة تصارع باقي الثقافات في أبعادها المختلفة، ومنها الاقتصادية على الخصوص، حيث إن الثقافة لا تخرج عن كونها جملة من النظم والمعارف والعلوم والأفكار التي تميز مجتمعا عن آخر، إلا أن العولمة حاولت إبادة مختلف الثقافات، والاكتفاء فقط بثقافة واحدة، هي الثقافة الغربية التي أصبحت مزينة بزينة السوق والاستهلاك. تبقى هذه الثقافة الموجهة قاصرة عن النفاذ في قلوب المجتمعات، إلا إذا كانت هذه الأخيرة تشهد الضعف والتراجع والتأخر على مختلف المستويات، خصوصا المستوى الاقتصادي؛ ففي هذه الحالة يكون باستطاعة العولمة أن تمارس هيمنتها على الشعوب، عن طريق فرض سلطتها الاقتصادية، كأن تظهر بوجه المنقذ الذي يحاول تقديم الإعانات والقروض التي تخفف أعباء الحياة وضنكها عن الشعب المقهور، وبذلك ترتفع الأصوات بالشكر والتبجيل للمؤسسات المقرضة، وهي لا تعرف أن الذي يخرج من حناجرها ليس ما هو مبطون في قلوب أسيادها، هذه السيادة التي تظهر بعد عدم تمكن الدول من رد تلك القروض التي أصبحت تثقل كاهلها، ليظهر الوجه الآخر للمؤسسات المقرضة يطلب منها التعديل في سياساتها واقتصادها وتعليمها وغير ذلك، من أجل أن تتمكن من رد تلك القروض، ليتم التحكم في هذه المجتمعات، كما تم التحكم في أفرادها من قبل بعد تغريرهم بمظاهر الحياة المزخرفة التي تساير قيم العصرنة والرقي، كما أصبح مفهوم الإنسان ينطبق على الإنسان الغربي وحده، وهذا في حد ذاته عبارة عن القضاء على الشعوب. وبما أن إنسان دول العالم الثالث أصبح مهمشا بفعل العولمة، فليس بغريب أن تستبعد المجتمعات التي ينتمي إليها، بل وحتى المنظمات التابعة لها.

هنا يبقى السؤال المطروح كالآتي: ما مصير باقي الثقافات المحلية التي لفظت أنفاسها بفعل غزو العولمة؟

هذا السؤال الصعب لا تتم الإجابة عنه إلا من خلال إعادة بعث الثقافة المحلية الميتة، تلك الثقافة التي حجبتها ظلال العولمة، وهنا نقصد بعث القيم والرموز والذكريات التاريخية لمجتمع ما، حيث يسترجع ذاكرته المفقودة، ويتحرر من مختلف أنواع الاستيلاب، حتى يتسنى له بناء اقتصاده وتطوير حياته كما ينبغي هو، لا كما شاء غيره.

لكن الأمر الأخطر من كل ما تقدم، هو محاولة العولمة اختزال الثقافة في أنماط معينة، لا تمثل في حقيقة الأمر إلا التفاهة، ولا تعبر إلا عن السفاهة، في حين أن الثقافة كما تقدم جملة من النظم والقيم والمعارف والأفكار التي ساهمت في بناء مجتمع ما وشكلت خصوصيته، وهذا بالذات هو ما تستهدفه العولة الثقافية من أجل القضاء عليها، تمهيدا لفرض أنواع معينة من العيش، وأنماط معينة من الممارسات الاقتصادية، حتى يتم اختراق الفرد والمجتمع معا، سياسيا واقتصاديا وفكريا. وهنا نكون أمام انتقال من العولمة الثقافية إلى ثقافة العولمة، "ولو التمسنا بدايات لاختزال مفهوم الثقافة وقص أطرافها في الفكر الحديث خصوصا، لوجدنا ذلك مع تنامي نفوذ العامل الاقتصادي وهيمنته على توجيه الحياة بمنطقه في الربح وقيمه في الاستهلاك كان هذا لدى الدول العظمى السباقة إلى تطوير اقتصادياتها، سواء بفعل الكشوفات الجغرافية أو الثورات الصناعية أو امتصاص خيرات المستعمرات.. أو غير ذلك، الشيء الذي جعل الاقتصاد لديها يحقق نوعا من “الاستقلال” الثقافي. وانتقل هذا بحكم التبعية والتقليد إلى البلدان المتخلفة من غير أن تعرف بنياتها التحتية الاقتصادية تلك التحولات الجذرية، أو أن تكون إفرازا طبيعيا لها. فتجد تلك البلدان، وعلى رأسها كثير من بلدان العالم العربي والإسلامي، وهي المقصودة لدينا بالدرجة الأولى، تتلمس طريق التحديث على النموذج الغربي، تتملص تدريجيا من ثقافتها التاريخية وتتنكر تدريجيا كذلك لأصولها المرجعية"[2].

أدت التبعية الثقافية بشكل عام إلى إضعاف دول على حساب أخرى، مما أحدث تغيرات اقتصادية خطيرة على الدول المقلدة، مما أدى إلى أزمات كبيرة خيمت ظلالها على شعوبها، فلا هم حافظوا على ثقافتهم واقتصادهم المحليين، ولا هم ربحوا من تقليدهم للممارسات الاقتصادية التي رسمتها لهم العولمة في أجمل لوحة، "ولئن كان الغرب الذي أنتج تطوره الاقتصادي المهووس بالربح السريع على حساب القيم والأخلاق، ثقافة عبر عنها كثير من نقاده، من أبنائه خصوصا، بـ “الثقافة المصنعة” أو “الثقافة الآلية” أو “الثقافة الرقمية” أو “ثقافة الاستهلاك” إلخ، قادرا بحكم قوة بنياته التحتية على امتصاص مضاعفات هذا المنتوج السلبية ولو إلى حين، وخاصة المضاعفات الاجتماعية “الحريات الفردية والأسرية والجماعية..”، والبيئية “دمار التلوث والتسلح والحروب وجنون التصنيع والعبث العلمي..”.. فإن البلدان الأخرى عاجزة كل العجز عن ذلك، مما يعرضها إلى أزمات وكوارث مضاعفة لا تجد حلا لها إلا في المزيد من الارتماء في أحضان الغرب. بمنطق تحليلي آخر، إن الغرب لا يهيمن ويستعبد في عولمته بالقوة والضغط والتفوق.. وحسب، ولكن أيضا وبقدر كبير بتصدير الأزمات والأوبئة وأشكال الميوعة والانحلال* التي تطال الإنسان والحيوان والجماد.. وهذه الكائنات جميعها لا يمكن أن تجد أمنها الذاتي إلا في ثقافة تؤطرها وتقنن أشكال العلاقة والتسخير فيما بينها نحو قيم الخير والعدل والصلاح"[3].

يمكن أن نستخلص مما تقدم النقاط الآتية:

  • إن العولمة الثقافية تشكل وتوجه المجتمع والإنسان حسب تطلعاتها الاقتصادية، كما تزوده في الوقت نفسه بالقيم والمبادئ تحت إطار الكونية، مما يفقده خصوصيته وهويته.
  • إن الكونية الحقيقية تستدعي الحفاظ على خصوصيات الآخر، والإسهام في الإنجاز الحضاري والاقتصادي، وعدم الانطواء على الذات، بهدف بناء المشترك الإنساني، انطلاقا من الثقافات المحلية الخصوصية، وهكذا لا يتم الانسلاخ من الهوية وفي الوقت ذاته يتحقق الإسهام الحضاري والاقتصادي.
  • إن الانخراط في الفعل الاقتصادي الكفيل بتحقيق التقدم والازدهار للمجتمع لا يوجب التنازل عن الثقافة المحلية للمجتمع، كما أن الممارسات الاقتصادية التي ترسمها العولمة الثقافية عن طريق الإعلام ممارسات تستدعي بدرجة أولى جلب الأفراد للاستهلاك غير المحدود تحت ذريعة العصرنة والموضة.

2 - العولمة الاقتصادية وتنمية الإنسان المقهور: وعد أم وعيد؟

تشكل العولمة الاقتصادية انفتاحا على العالم، باعتبارها "حركة متدفقة ثقافيا واقتصاديا وسياسيا وتكنولوجياً، حيث يتعامل مدير اليوم مع عالم تتلاشى فيه تأثير الحدود الجغرافية والسياسية، فأمامنا رأس مال يتحرك بغير قيود وينتقلون بغير حدود، ومعلومات تتدفق بغير عوائق حتى تفيض أحيانا عن طاقة استيعاب المديرين. فهذه ثقافات تداخلت وأسواق تقاربت واندمجت، وهذه دول تكتلت فأزالت حدودها الاقتصادية والجغرافية، وشركـات تحالفت فتبادلت الأسواق والمعلومات والاستثمارات عبر الحدود، وهـذه منظمات مؤثرة عالمياً مثل: البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، ووكالات متخصصة للأمم المتحدة تؤثر بدرجة أو بأخرى في اقتصاديات وعملات الدول ومستـوى وظروف معيشة الناس عبر العالم"[4]، لذا يبقى السؤال المطروح في هذا السياق: ماذا حققت العولمة الاقتصادية للإنسان المقهور؟ هل حققت وعودها أم أعلنت وعيدها؟

من أهم التحولات المترتبة عن العولمة الاقتصادية هي تغير مفاهيم الاقتصاد ورأس المال، حيث أضحى الاقتصاد الرمزي منافسا للاقتصادي العيني، بالإضافة إلى تزايد التبادلات التجارية بين الدول، كما أدت إزالة الحواجز بين الأسواق إلى رفع المنافسة، مما جعل دولا لم تعد تقوى على المنافسة نظرا لاعتمادها على سلع لم تعد لها قدرة تنافسية عالية، كما أن بروز المنظمات العالمية وزيادة انفتاحها على الأسواق من خلال اعتماد آليات العرض والطلب ومن خلال تطبيق سياسات الإصلاح والتكييف الاقتصادي جعل مجموعة من الدول الأخرى تتضرر بفعل العولمة، وهو بالذات ما يحدث للدول النامية أو التي في طريقها إلى النمو.

أصبح التحكم في الاقتصاد العالمي رهين بالمنظمات العالمية التي أصبحت توجه الأنشطة الدولية، مثل ما يفعل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي ومنظمة الأمم المتحدة، وغيرها، كما سمحت العولمة الاقتصادية بتشكل العديد من التكتلات الاقتصادية وتحكمها في السوق، كل هذه الأمور لم تكن في صالح الدول الفقيرة، حيث أصبحت تعاني من المديونية مع عدم قدرتها على السداد، بالإضافة إلى التحويلات التي كانت توجهها إلى الدول المتحكمة سواء أكانت أرباح ديون أو شركات أو تكاليف.

يمكن القول إن العولمة الاقتصادية جعلت الدول المتقدمة تتخلى عن الدول النامية دون أن تستغني عنها، نظرا لأنها تستفيد منها، على الرغم من تلك الدعوات التي يطلقها عرابو العولمة -كما هو الأمر بالنسبة إلى كلاوس شواب[5]، - التي تبرز محاسنها وفوائدها، إلا أنها تبقى مجرد خطابات غير مقنعة على المستوى العملي، وبذلك ستصبح تلك الرؤى التي رآها الإنسان المقهور - أو إنسان العالم الثالث كما يحلو لأهل الغرب تسميته- في يقظته بفعل العولمة الثقافية مجرد أضغاث أحلام حالت دون تحقق الوعود التي كان يلقيها الإعلام المعولم على مسامعه ويراها رأي العين في وسائله المستخدمة للاصطياد الاقتصادي، فوجد نفسه سلعة، وهو الذي اعتقد أنه يتبع العصرنة من خلال تقليده لمظاهر الاستهلاك والرفاهية، فتحول الوعد إلى وعيد يهدده في هويته وفي ميزانيته على السواء، مما سيعمق من الأزمة النفسية لهذا الإنسان المقهور.

من هذه الأزمات يمكن التمثيل بما يأتي:

  • انتشار البطالة بسبب الوصاية أو الحاجة أو إلى تخفيض الأجور، حيث لم تعد المنافسة ممكنة بعد إنشاء منظمة التجارة العالمية.
  • تهريب الأموال الوطنية.
  • مخاطر غسل الأموال.
  • التعرض لهجمات المضاربة.
  • إضعاف السيادة في مجال الاقتصاد والسياسة.

يبقى تحقيق الإصلاح في البلدان النامية متوقف على إحداث إصلاحات جذرية تخرج من التحكم إلى الحكامة. أما الانخراط غير المسؤول في منظمات تستهدف خزائن الدولة وتمتص جهد أفرادها، فلن يغير في الأمر شيئا، وهذا ما "يخلق بشكل حتمي -عند غياب نظام للتعديل وإعادة التوزيع للموارد، أكثر مما كان عليه الحال على مستوى الاقتصاد الوطني- شروط تركيز هائل للثروة المادية والثقافية في أيدي فئة قليلة من سكان العالم، تلك التي تتميز بقدرات أو مواهب أو مواقع أو علاقات أكبر وأكثر، على حساب القسم الأكبر من الساكنة البشرية.

بمعنى آخر، إن الفرص الجديدة التي تفتحها العولمة للتحرر والحرية ليست تلقائية ولا متاحة بالضرورة للجماعات والأفراد كافة. إنها مرتبطة بالسياسات التي تتبناها الدول الكبرى، التي تتحكم بالتدفقات الرئيسة المالية والتقنية والعلمية لهذه السوق العالمية، ومن ورائها الدول جميعا، والنخب المسيطرة، لوضع فوائض التجارة والتبادلات الثقافية المعولمة"[6].

يظهر مما تقدم، أن النتائج الإيجابية للعولمة الاقتصادية لا تستفيد منها إلا الدول المركزية؛ أي التي تحتكر الوسائل والإمكانيات. وفي المقابل، فإن الدول الفقيرة تزداد فقرا، بفعل خراب البلاد وانتشار البطالة والاضطراب، هنا يمكن القول إنه بفعل هذه الأضرار، فإن الشعوب تفضل العيش خارج العولمة عوض العيش داخلها، ومن جهة أخرى يمكن القول إن العولمة في شقها الاقتصادي تشبه إلى حد بعيد قانون الغاب، حيث لا يسمح بالعيش إلا للأقوى، نظرا لما يتم ممارسته من هيمنة على الشعوب المنكوبة. إذن فنظام العولمة نظام متحيز وغير عادل، يحاول أن يفرض الثقافة الغربية على الشعوب حتى يسهل غزوها فكريا واقتصاديا وثقافيا؛ لأن في الحفاظ على الثقافة حفاظ على التاريخ وحفاظ على الاقتصاد. وباختصار يمكن القول إن نظام العولمة الاقتصادية هو عبارة عن غزوات اقتصادية ناعمة.

3- التأثيرات الاجتماعية للعولمة الاقتصادية: منافسة أم تهديد؟

نتج عن العولمة الاقتصادية تأثيرات اجتماعية خطيرة، ويمكن القول إن الفوضى الاقتصادية التي يشهدها العالم المعولم اليوم، ماهي إلا نتيجة للعولمة في بعدها الاقتصادي، حيث نشهد اتساع الفروق بين الأغنياء والفقراء، وانتشار ظاهرة البطالة والفقر، بالإضافة إلى تفشي الأمراض بأنواعها المختلفة، والتضخم المالي نتيجة للأموال السوداء، مما ترتب عنه بزوغ ظواهر أخرى كالعنف والإجرام، والسرقة والاحتيال والنصب، والحروب الأهلية والاضطرابات الاجتماعية...

كل هذا جعل دول العالم الثالث تتأخر عن الركب، حيث لم يعد لها أي تأثير في اتخاذ القرارات الدولية الكبرى بسبب الضعف الذي ينخر كيانها، يقول حسن أوريد في هذا الصدد: "لنقر أن دول العالم الثالث ليست في مركز القرار، فهي تتأثر أكثر مما تؤثر، ويشبه حالها حال هذه القبيلة التي لم يكن يؤبه لها أو يؤخذ برأيها وهي تيم، والتي صورها الشاعر الجاهلي أحسن تصوير:

وَيُقضى الأَمرُ حينَ تَغيبُ تَيمٌ وَلا يُستَأمرونَ وَهُم شُهودُ

[وَلا حَسَبٌ فَخَرتَ بِهِ كَريمٌ وَلا جَدٌّ إِذا اِزدَحَمَ الجُدودُ]

ولنعاين الآثار الظاهرة للعولمة على بلدان العالم الثالث؛ فهي لم تسلم من الآثار السلبية للعولمة، باستثناء دول شرق آسيا التي استفادت من قدرتها على المنافسة بسبب عمالتها الرخيصة. وقد نجم عن تطبيقات العولمة استفحال الفوارق بين دول الشمال ودول الجنوب، وبداخل دول الجنوب بين الأغنياء والفقراء. أما عدد التسريحات في دول العالم الثالث نتيجة العولمة، فهي أكبر، فضلا عن تدهور بيئي ناتج عن سعار في التصدير، مما سيؤدي على المدى الطويل إلى نقص في مصادر ثروات هذه الدول"[7].

ويضرب أوريد مثالا بالمكسيك، التي تشكل بحق ظاهرة تسترعي الانتباه، في انفتاحها على جارها الأكبر الولايات المتحدة الأمريكية، والانجراف المالي الذي عرفته. ولقد كان يطيب للكثيرين أن يقارنوا بين المكسيك والمغرب، ويعتبرون المغرب، في علاقته مع أوروبا، كالمكسيك في علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما كانت أشارت إليه المجلة البريطانية الرصينة The Economist في مقال بعنوان The 2M..، حيث أشارت إلى الإيجابيات فضلا عن السلبيات، حيث أوضحت أن المغرب مصاب بأعراض الداء المكسيكي The Mexican Syndrome، وهو ما يفسر الأزمة الاقتصادية، لا الجفاف وحده، ولا تعثر مفاوضات الصيد مع الاتحاد الأوروبي وحده[8].

على الرغم من هذه المخاطر التي بينها أوريد، إلا أنه قال في موضع آخر: "ليس للعرب إلا خيار أن يركبوا قطار العولمة ويؤدُوا ما تفترضه تذكرته من إصلاحات للدخول في عالم المنافسة. إن العولمة هي ريح العصر ومن العبث تجاهلها، لكن ذلك لا يعفينا من أن نفكر فيها ونكيفها وفق واقعنا ونكيف واقعنا مع مدها. أما عن ثقافتنا، فليس لرجل الأعمال أن يحرسها ولا للسياسي أن يرعاها؛ فتلك مهمة المثقف"[9].

هذا يبين الواقع المرير الذي يستعصي الفرار منه، حيث سيطرة العولمة الاقتصادية على دول العالم الثالث وأرخت بظلالها، بل بظلامها، فلم يعد بالإمكان أن تبصر هذه الدول أمامها، حيث لا ترى إلا نفقا واحد يمثل لها طوق النجاة، ألا وهو الارتماء في أحضان العولمة بأعين مغلقة، مع الرضى بالاتباع خيره وشره. وهو ما تمارسه بالذات المؤسسات الدولية المتحكمة، رغم عدم انضباطها بقواعد، حيث بإمكانها الانتقال من نظام لآخر دون حسيب ولا رقيب.

يقول أوريد في هذا الخصوص: "هناك إذن اختلاف بين ما قام عليه نظام صندوق النقد الدولي بالأمس وما يقوم به اليوم. فقد حصل تطور صارخ مع بداية السبعينيات حين أنهى أحد أهم أعمدة نظام بروتون وودس، وهو استقرار العملات بتزامن مع قرار الرئيس الأمريكي نيكسون سنة 1971 بوقف تحويل الدولار إلى ذهب، مما فتح الباب على مصراعيه لفوضى نقدية تأثرت من جرائها دول العالم الثالث ودشن فصلا جديدا في مهام الصندوق الدولي، وما اصطلح عليه بـ"إعادة الهيكلة". وقد اتسمت هذه المرحلة بمنح قروض لدول العالم الثالث وخفض حجم التشغيل العام، وتخفيض قيمة العملة. كما دشن هذا الصندوق محطة جديدة مع التحول الذي عرفته دول أوربا الشرقية من نظام اقتصادي موجه، إلى نظام السوق... وهو العلاج الذي اعتبر علاجا بالصدمة، نظرا للاختلالات التي أفضت إليها وصفات صندوق النقد الدولي. لكن تحولا غير متوقع طرأ من جراء الأزمات المرتبطة بعولمة سوق المنتجات مع إنشاء منظمة عالمية للتجارة، غايتها تحرير التجارة الدولية والسوق النقدية التي تسمح بتنقل الأموال بسرعة برقية"[10].

إن هذه الاختلالات الخطيرة نبه إليها غير واحد من المفكرين، فنجد مثلا محمد عمارة يشير إلى أن العولمة الغربية أرادت إلغاء هامش الاختيار الذي كانت تتمتع به الشعوب والأمم والحضارات غير الغربية، وإحلال مرحلة الاجتياح محل مرحلة غواية الترغيب والترهيب، فالعولمة حسب محمد عبارة ليست إلا تجسيدا لطور جديد يتبع خطى النزعة المركزية الغربية، وذلك بإدخال العالم داخل القالب الغربي على مختلف الميادين: الاقتصادية والسياسية، والقيمية والثقافية والعسكرية والتشريعية... حيث شبهها بالطوفان الغربي، الذي هو في الدعاوى الغربية نهاية التاريخ.. ومن لم يركب في سفينة النموذج الحضاري الغربي طوعا، فخطوط الصراع والإكراه معه وضده تحددها خطوط الثقافات والحضارات[11].

هذا ما يوضح بشكل جلي أن العولمة أصبحت تتحكم في الاقتصاد والسياسة والإعلام، فضلا عن توجيه الثقافة بما يخدم منطلقاتها وخلفياتها ومبادئها وغاياتها، وبذلك تظهر العولمة كثقافة جديدة تحارب الثقافات المحلية، مما يجعل أن الحفاظ على الخصوصيات المحلية يبقى أمرا مطلوبا. لذا على هذه المجتمعات التفكير بشكل مسؤول وبطريقة مؤسساتية من أجل تجاوز مختلف الإكراهات الاجتماعية التي أفرزتها العولمة، والتي يمكن إجمالها فيما يأتي:

خاتمة:

يمكن أن نخصص هذه الخاتمة لأبرز النتائج المتوصل إليها، ويمكن عرضها على الشكل الآتي:

  • إن العولمة الثقافية تشكل وتوجه المجتمع والإنسان حسب تطلعاتها الاقتصادية، كما تزوده في الوقت نفسه بالقيم والمبادئ تحت إطار الكونية، مما يفقده خصوصيته وهويته.
  • إن الكونية الحقيقية تستدعي الحفاظ على خصوصيات الآخر، والإسهام في الإنجاز الحضاري والاقتصادي، وعدم الانطواء على الذات، بهدف بناء المشترك الإنساني، انطلاقا من الثقافات المحلية الخصوصية، وهكذا لا يتم الانسلاخ من الهوية وفي الوقت ذاته يتحقق الإسهام الحضاري والاقتصادي.
  • إن الانخراط في الفعل الاقتصادي الكفيل بتحقيق التقدم والازدهار للمجتمع لا يوجب التنازل عن الثقافة المحلية للمجتمع، كما أن الممارسات الاقتصادية التي ترسمها العولمة الثقافية عن طريق الإعلام ممارسات تستدعي بدرجة أولى جلب الأفراد للاستهلاك غير المحدود تحت ذريعة العصرنة والموضة.
  • إن العولمة الاقتصادية عمقت جراح دول العالم الثالث، وخلفت مجموعة من المشاكل من أبرزها:

ü   انتشار البطالة بسبب الوصاية أو الحاجة أو إلى تخفيض الأجور، حيث لم تعد المنافسة ممكنة بعد إنشاء منظمة التجارة العالمية.

ü   تهريب الأموال الوطنية.

ü   مخاطر غسل الأموال.

ü   التعرض لهجمات المضاربة.

ü   إضعاف السيادة في مجال الاقتصاد والسياسة.

  • تمثل العولمة إحدى جبهات النزعة المركزية الغربية، حيث سعت ولا تزال تسعى إلى إفقار الشعوب وبناء رفاهية الغرب على حساب الأمم الأخرى، عن طريق تحويل المجتمعات إلى هوامش تحمي أمن الغرب، أي انها تمثل وجها آخر للاحتلال.
  • أسهمت العولمة الاقتصادية في تحقيق الظلم الاجتماعي، عن طريق الليبرالية الرأسمالية المتوحشة، إما عن طريق إهمال الشعوب الهامشية إن احتقارا أو إفقارا، بنهب خيراتها سواء بالاحتلالات المباشرة أو عن طريق فرض سياساتها داخل الدول.
  • إن ما تم إنجازه في العالم الثالث في ظل العولمة يبقى ضئيلا جدا؛ وذلك ظاهر باتساع الفروق بين هذه الدول والدول المركزية.

 

المصادر والمراجع

  • أحمد سيد مصطفى, تحديات العولمة والتخطيط الاستراتيجي، الطبعة الثانية، 1999
  • أوريد حسن، الإسلام والغرب والعولمة، منشورات الزمن، مطبعة ازناسن، سلا، ط: 3، 2015
  • عمارة محمد، بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية، مكتبة الإمام البخاري، ط: 1، القاهرة، 2009
  • عمارة محمد، مستقبلنا بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية، دار نهضة مصر، 2001
  • غليون برهان، أمين سمير، ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، دار الفكر، دمشق، ط: 3، 2013
  • ماتلار أرمان، التنوع الثقافي والعولمة، تعريب: د. خليل أحمد خليل، دار الفارابي، ط: 1، 2008

المواقع الإلكترونية:

 

 

[1] وهو ما يعرف بتدجين المتنوِّع المختلِف. تنظر لمزيد من التفصيل: ماتلار أرمان، التنوع الثقافي والعولمة، تعريب: د. خليل أحمد خليل، دار الفارابي، ط: 1، 2008، ص17-20

[2] شبار سعيد، الثقافة والعولمة: قراءة في جدل المحلي والكوني أو ظاهرة التثاقف، 2018، https://hiragate.com/11339، 03/09/2023

[3] شبار سعيد، الثقافة والعولمة: قراءة في جدل المحلي والكوني أو ظاهرة التثاقف، 2018، https://hiragate.com/11339، 03/09/2023

[4] أحمد سيد مصطفى, تحديات العولمة والتخطيط الاستراتيجي، الطبعة الثانية, 1999, ص 7. وانظر أيضا: غليون برهان، أمين سمير، ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، دار الفكر، دمشق، ط: 3، 2013، ص10-13

[5] رئيس المنتدى العالمي الاقتصادي وأحد المتحمسين للعولمة.

[6] غليون برهان، أمين سمير، ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، ص 18

[7] أوريد حسن، الإسلام والغرب والعولمة، منشورات الزمن، مطبعة ازناسن، سلا، ط: 3، 2015، ص 70

[8] نفسه، ص71

[9] أوريد حسن، الإسلام والغرب والعولمة، ص88

[10] أوريد حسن، الإسلام والغرب والعولمة، ص92

[11] انظر: عمارة محمد، مستقبلنا بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية، دار نهضة مصر، 2001، ص12. وعمارة محمد، بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية، مكتبة الإمام البخاري، ط: 1، القاهرة، 2009، ص31-40