الفضائيات الدينية أو في تسليع الدين


فئة :  مقالات

الفضائيات الدينية أو في تسليع الدين

في دراسة سابقة لنا عن "الخطاب الديني في الفضائيات العربية"، أوضحنا بأن ظاهرة الدعاة الجدد، إنما هي ظاهرة مصرية المنشأ بامتياز. لقد كانت كذلك منذ بداياتها الأولى؛ أي عندما كانت تتم من بين ظهراني الصالونات والأندية والفنادق المصنفة، حيث يلتقي الداعية مع مريديه و"تابعيه"، لا سيما من طبقة رجال المال والأعمال، ومن الطبقة المتوسطة العليا؛ أي المترفة نسبيا قياسا إلى باقي مكونات الطبقات إياها.

لم تنتشر الظاهرة لتطال العالم العربي إلا بعد مدة من ذلك، ليس فقط بفضل تنقل الدعاة بين الدول العربية، ورواج كاسيط الراديو على نطاق واسع، ولكن أيضا بفضل قدوم القنوات الفضائية الدينية التي جعلت من هؤلاء الدعاة، نجوما حقيقيين، لا بل من القوة والتأثير ما جعل البعض يطلق عليهم "دولة الدعاة الجدد".

ويبدو من متابعة البرامج التي كانوا يثوون خلفها وطبيعة المواد التي كانوا يقدمونها، أن هؤلاء إنما كانوا يراهنون على بعض القضايا التي كانت تستأثر باهتمام "جمهورهم" ولا تغوص كثيرا في الإشكاليات الدينية التي لا تجيب كثيرا عن الانتظارات المعبر عنها. ولذلك، فتركيزهم على قضايا "جانبية" من قبيل التطوير الذاتي، والتوازن الروحي، والحق في التمتع بمباهج الحياة الدنيا، إنما الغرض منها تقييم مكانة الفرد في المجتمع وتحفيزه للمواءمة بين البعد المادي الضاغط والحاجة الروحية التي بها "تطمئن النفوس": إنهم لا يقدمون دروسا في الفقه أو في الشريعة أو في أصول الدين، بل مجموعة من المعارف الدينية في إطار من التشويق والفرجة، يراهن الداعية من خلالها على صناعة زبناء ومستهلكين، وليس جمهورا متدينا "صافيا".

لقد خلصنا في البحث المذكور إلى أن الدعاة الجدد قد "استبعدوا قضايا السياسة والشأن العام من مجال اشتغالهم، إما كخيار مقصود للتركيز على الثروة والمال والشهرة، أو كاستراتيجية مضمرة لدرء رد فعل السلطة، أو كقناعة لديهم ثابتة".

وعلى هذا الأساس، فإن "دعاة الفضائيات" قد انطلقوا من مجموعة معطيات على الأرض ليبنوا عليها في صياغة خطابهم، من زاوية المضمون كما على مستوى الشكل:

+ المعطى الأول، ويتمثل في اقتناعهم بأن ثمة نزوعا متزايدا من لدن عامة الناس، بجهة رفض إقحام الدين في المجال التداولي السياسي العام، ومطالبتهم بضرورة استبعاده من خضم التجاذبات السياسية والاجتماعية، أو اعتماده كأداة رمزية لاستمالة الناس ودفعهم للاصطفاف خلف هذا التيار السياسي أو ذاك. إنهم من هنا إنما يدفعون بضرورة النأي بأمور الدين والحؤول دون أن يكون هذا الأخير أداة مبارزة سياسية أو انتخابية أو وسيلة للنفاذ للسلطة.

ومع أن ذات الخطاب يبقى لازمة قارة لما يقدمون من برامج ومواد، إلا أنهم على الرغم من ذلك لا يخفون، وإن في قرارة أنفسهم، ميولهم لفائدة النخب الاقتصادية والسياسية العليا؛ أي تلك التي تكون لديهم القاعدة الجماهيرية الكبرى، والتي لا تبدي استعدادا يذكر للتماهي مع من يكدر عليها أو يحاسبها، فما بالك أن يسائلها عن مصادر ثروتها أو عن الطرق والسبل التي تحصلت بها أو بواسطتها عليها. إنهم من هنا إنما يدفعون بنموذج في الإسلام يدعونه "الإسلام الاجتماعي"، وينفروا من تعابير الإسلام السياسي التي يحملها خطاب الحركات الإسلامية، أو تتبناه التيارات الدينية المناوئة للسلطة أو المزايدة عليها في الشرعية.

ولذلك، فإن التوصيفات التي تعبر عن طبيعة ما يقدمون لا تخلو كلها من صواب: "أسلمة الليبيرالية الجديدة"، "أسلمة البورجوازية"، "دعاة العلمانية الجديدة"...لا بل ذهب الأمر ببعض الدعاة لحد قطع ارتباطاتهم مع الحركات التي كانوا ينشطون من بين ظهرانيها (جماعة الإخوان بالنسبة لبعض الدعاة المصريين) أو يهادنون تلك التي تطعن في طبيعة "رسالتهم" جملة أو تفصيلا (الحركات المتشددة).

من هذه الزاوية، فإن الدعاة الجدد إنما يعتبرون أنفسهم "علماء محايدين". فتبجيل الثروة والربح والنجاح ليس خطاب معارضة ولا هو من الأدبيات المناهضة للسلطة. بيد أن المرجعية الدينية التي يبني عليها هؤلاء خطابهم، أو يستحضرونها عند تعرضهم لهذه المسألة أو تلك، قد تكون مصدر إشكال. فالتركيز على المجهود الفردي لبلوغ مراتب الثروة مثلا، قد لا يكون مثار مزايدة، لكنه يصبح كذلك وأكثر، عندما يشترط لتحقيق ذلك، خلق بيئة خالية من الفساد والزبونية والريع والمجازاة مقابل الولاء...لا بل ومطالبة الحاكم، وإن بطريقة غير مباشرة، بالعدل في توزيع الثروة أو الإنصاف في تبوء المسؤوليات.

+ المعطى الثاني ويتمثل في اللازمة السلبية التي تطال أداء الدعاة الجدد، والكامنة في استخدامهم للدين لتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية، في إطار من "تسليع الدين"، أو توظيفه لبلوغ مآرب تجارية نفعية مباشرة أو غير مباشرة. يقول طارق السويدان، وهو من الدعاة الجدد بفضائية "الرسالة": إننا "ندير الدعوة اليوم كما يدير التجار أعمالهم. إنه عمل مؤسسي منظم إداريا وماليا".

وهذا أمر أكيد، إذ على الرغم من أن بعض الدعاة الجدد يدفعون عن أنفسهم هذه "الشبهة"، ويعتبرون أن مداخيلهم متأتية مما يفردونه "للدعوة" من جهد، فإن الثابت أن العديد منهم جنوا أرباحا عالية، وباتوا يشتغلون في ظل عقود تجارية "تحتكر بموجبها هذه القناة أو تلك، هذا الداعية أو ذاك، ولا تسمح له بتنويع منابره".

+ المعطى الثالث: صحيح أن خطاب الدعاة الجدد يروم ترويج مادة دينية "حداثية وجذابة" و"قريبة من الناس"، إلا أن ذات الملمح لا يجب أن يخفي أنهم إنما يقدمون قضايا وإشكاليات تختزل الدين في جزئيات بسيطة، تلك التي "تخفف عن الناس"، عوض تقديمه كقيم كبرى ومحفز مركزي على الإصلاح والتغيير.

يقول عمرو الشوبكي: "إن هوجة الدعاة مثلت أكبر عملية تسطيح منظم لعقول الشباب، حيث قدمت من خلالهم رسالة فيها من البلادة والبلاهة ما يكفي لتدمير قيم أمة بأكملها...والمشكلة لم تكن متمثلة فيما يردده الدعاة الجدد من مقولات، وإنما في حالة التخدير الشامل الذي تم فرضه على العقول فيما يعرف بحجاب العقل".

ويلاحظ آخرون على خطاب الدعاة الجدد استحضاره المكثف "للنصوص والسير والأحداث والروايات، من دون ذكر لمصادرها أو التدقيق في صحتها، مما يترك المجال لسرد كل الأحداث، الحقيقية والمزيفة على السواء، بل أحيانا يتم الاعتراف بضعف بعض الروايات، ولكن بدعوى أن مضمونها تربوي، فإن ذلك يبرر الاستشهاد بها".

فخطاب الدعاة الجدد خطاب موغل في القصص والحكايات والأساطير والبطولات، والرموز الكبرى الذين أثروا الدين، أو دافعوا عنه، أو قدموا أموالهم وأنفسهم للذود عنه. لكن ذلك، حتى وإن كان سليما بالمطلق، فإنه يجعل متلقي هذا الخطاب يستكين ويحتمي بأمجاد تعوضه عن انكسارات الحاضر، وتجعله يعيش زمنا غير زمانه.

ثم إن المتلقي لا يتساءل أو يسائل مرجعية الخطاب المقدم إليه (هل هو سلفي مضمر، أم صوفي مبطن، أم حامل لإيديولوجيا دينية غير بائنة)، بقدر ما يتلقفه ويندغم بصلبه، دون مناقشته أو الاعتراض على بعض عناصره، فما بالك التعليق عليه أو نقده.

إن التقديس الذي يشحن به متن الخطاب الديني، يولد تعجيزا سيكولوجيا"، يقول البعض، لا بل إنه خطاب يخفي العجز، ويذكي الحنين للماضي، ويعطي الإحساس بانتفاء الحيلة من بين يديه أمام تحديات العصر.

إنه خطاب يعمل على "ترسيخ تقليد ديني تاريخي، يلقي بالمتدين في عوالم لاهوتية، تضفي على سلوكه الاجتماعي غربة وجودية، تنزع عنه الإرادة، تشل حركته، وترهن مصيره بيد السلطات الدنيوية التي تشجع على تدين أناني".

ثم إنه خطاب يكاد لا يختلف كثيرا عن خطاب المبشرين الإنجيليين، حتى باختلاف السياق وتباين المرجعية. وهو ما سنتناوله في مادة قادمة.