الفوضوية السياسية في فلسفة سارتر


فئة :  قراءات في كتب

الفوضوية السياسية في فلسفة سارتر

الفوضوية السياسية في فلسفة سارتر

قراءة في كتاب "الاتجاه الفوضوي في فلسفة سارتر" للأستاذ عبد الحي أزرقان


في سياق الوجود والعدم

يحمل كتاب سارتر (الوجود والعدم) نفسا أنطولوجيا فينومينولوجيا. وهو عدا عن ذلك، يمثل الخلفية النظرية التي سينبثق عنها تيار الوجودية. يقتفي هذا الكتاب آثار أعمال هوسرل، في الحين الذي نجده يعكس بعمق تأثرا بأعمال هيدجر خاصة (الوجود والزمن) و(ما الميتافيزيقا؟). العلاقة بين الوجود والعدم ستصبح الخيط الناظم الذي يسترشد به سارتر لتوصيف الواقع الإنساني(الدازن بالمعنى الهيدجري). الإنسان هو الوجود الذي عبره «يأتي العدم إلى الأشياء». هذا العدم الذي يفصل الإنسان عن ذاته هو وعيه الخاص، اللامدرك.

الوجود والعدم من زاوية منطقية يتنافيان، فالوجود لا يمكنه أن ينتج إلا الوجود. لكن الأمر يختلف من زاوية أنطولوجية. الإنسان، من حيث إنه يتساءل حول الوجود، فهو قادر على تمثل محيطه وفهمه كإمكانية محضة وبسيطة كان بالإمكان ألا توجد. ذلك هو معنى التساؤل الميتافيزيقي: لماذا هناك شيء بدلا من لا شيء؟

Pourquoi y-a-t-il quelque chose plutôt que rien ?

يتغلب الإنسان على وجود الواقع كله للنظر في إمكانية العدم. إنه ما يمكن، عبر الفكر، أن يوجد خارج الوجود. هذه القدرة على فرز عدم يرجئ الواقع، هو ما سيسميه سارتر الحرية.

فوضوية سارتر

يتناول الأستاذ عبد الحي أزرقان، في الباب الثاني من مؤلفه، أشكال تسرب الاستلاب إلى التشكيلات الاجتماعية. يحاول أن يكشف عن نواتج تمأسس الممارسة الإنسانية التي بين، في الباب الأول من مؤلفه، أنها قائمة على نوعين من البنيات: بنيات مباشرة تنتج الاستلاب (وحدة خارجية تتأسس على ما هو موضوعي وما هو شيئي؛ بنيات أساسية تنتج التحرر.

ويجدر التأكيد أن الوحدة تحتل موقعا مركزيا في فلسفة سارتر، فهي تمثل مظهرا لأساس العلاقات الإنسانية ولأهدافها ومشكلاتها. ما يهم سارتر هو طبيعة الوحدة التي تفرزها هذه البنيات. وحدة تنتج الاستلاب، وهي وحدة خارجية تنبني على الواقع المادي، أساسها قائم على الغيرية؛ ووحدة أخرى هي ثمرة الحرية وتخدمها تنتفي فيها الغيرية.

وعليه، فإن طبيعة الوحدة هي مقياس كل علاقة إنسانية، لذلك عد سارتر الوحدة الحقة تلك التي تتحقق فيها الإنسانية كما لو أنها فرد واحد، والمقصود من ذلك أن تتطابق الممارسة الإنسانية كافة بهدف تحقيق غاية واحدة. تتحقق الحرية/التحرر بانتفاء الغيرية.

كيف يمكن التحرر من الاستلاب؟

يقول الأستاذ عبد الحي أزرقان ما يلي: «ولعل طبيعة الممارسة الفردية هي نفسها التي تؤدي إلى مثل هذه النتيجة، وليس الميل الفطري لدى الإنسان إلى الانضمام إلى الآخرين، ولا الحاجة الفردية في التغلب على مصاعب الحياة. ولكن إذا كان ضروريا أن يدخل الفرد في علاقات مع الآخرين، ويشكل معهم وحدة، فإنه ليس ضروريا أن تكون هذه الوحدة ملائمة للحرية الفردية وللتحرر الإنساني» ص ص 155-156. الوحدة الخارجية تؤدي إلى تعميم الاستلاب داخل المجتمع.

في كتاب الوجود والعدم، سوف يرفض سارتر الاعتراف بأية وحدة بين الممارسات، نجده يقر بالاستلاب ويرفض الوحدة في مظهريها الداخلي والخارجي، فلا وجود لذات جماعية سواء بحسبانها ذاتا فاعلة أو منفعلة. في هذا كتاب يمثل المصير جحيما.

أما في دفاتر الأخلاق، فقد أصبح سارتر يميز بين نمطين من الوحدة: وحدة زائفة ووحدة حقيقية، بينما في كتابه نقد العقل الجدلي، فنجده يعتني بالفكرة التي بسطها في دفاتر الأخلاق مع الاعتراف بالوحدتين، حيث يصل الأولى بالاستلاب والثانية بالحرية/التحرر.

الوحدة الخارجية: تعميم الاستلاب ودحض الذات الجماعية

من خلال (الوجود والعدم)

ينتج عن العلاقات البين فردية وهم الذات الجماعية الناتج بدوره عن وهم الانسجام الداخلي. فما الذي تنتهي إليه تجربة الذات الجماعية؟ للإجابة عن هذا التساؤل يدفع سارتر في دفاعه عن الفردية ودحضه الجماعية، يقول الأستاذ عبد الحي بهذا الخصوص: «إن تناول سارتر للذات الجماعية في إطار كتابه الوجود والعدم، يخضع للروح الثابتة عبر مختلف صفحات الكتاب، وهي تجاوز الفردية لكل كيان جماعي تجد نفسها فيه لتثبت ذاتها باعتبارها فردية؛ كما يعمق الفكرة الأساسية للمرحلة الأولى لفكره التي تعتبر أن العلاقة مع الآخر علاقة يطبعها الاستلاب بالضرورة» ص 157.

يتصور سارتر أن الانتماء إلى جماعة (نحن) يحصل كشعور باستلاب جذري للوجود في ذاته، فالفرد هنا يكون مكرها على تحمل كيان كلي لا يشكل معه وحدة وإن كان ينتمي إليه، يصف سارتر هذه الانتماء بتجربة الذل والضعف، يقول سارتر: «فمن يعيش تجربة تشكيل نحن مع الناس الآخرين يحس أنه مغمور ضمن عدد لا متناه من الموجودات الإنسانية الغريبة. إنه مستلب بشكل جذري وميؤوس منه» (الوجود والعدم). يستدل سارتر هنا بتجربة الانتماء الطبقي محاولا دحض فكرة الذات الجماعية من حيث هي موضوع، ويعلق الأستاذ عبد الحي أزرقان قائلا: «هكذا نلاحظ أن مؤلف الوجود والعدم يمدد البعد الأنطولوجي إلى المجال الاجتماعي لتفسير هذا بذاك، إذ لا يمكن في نظره، للعلاقة التي يقيمها أفراد الطبقة العاملة مثلا بين قساوة ظروف حياتهم والامتيازات التي يتمتع بها مستغلوهم، أن تخلق عندهم وعيا طبقيا، أي انتماء إلى كيان واحد موحد. يستمد ما يسمح بظهور فكرة الوحدة لدى العامل جذوره من الوجود وليس من الواقع الاجتماعي (...) هناك طبقة مضطهدة، أي نحن منفعلة، بالنسبة إلى البرجوازي أو الإقطاعي وليس بالنسبة إلى المضطهد نفسه (...) وقوع نظرة الآخر علي إذن هو الذي يجعلني أشعر بالانتماء إلى كيان ما، وبذلك لا يحق لي هنا القول بتشكيل وحدة مع آخرين في إطار الـ (نحن) لأن العلاقة داخل هذه النحن علاقة مستلبة ولا يمكنها إلا أن تكون كذلك» ص 158. وهذا ذاته ما عبر عنه سارتر عندما يقول: «هكذا تجد الطبقة المضطهدة وحدتها الطبقية داخل المعرفة التي تأخذها عنها الطبقة المضطهدة، وظهور الوعي الطبقي عند المضطهد يطابق تقبل نحن كموضوع في إطار الخجل» غير أن المطالبة بالذاتية الفردية سبيل لإلغاء نحن الموضوع بتعبير سارتر. ص 159.

ولذلك يلح سارتر على اعتبار النحن الإنسانية مفهوما فارغا لأنه يشير إلى تحملنا لتجربة ملموسة بحضور وسيط مطلق، أي حضور الإله ولذلك يستنتج سارتر أن المفهوم الشامل للإنسانية والمفهوم الشامل للإله يتضمن أحدهما الآخر ويلازمه. إذا كان يشترط في تحقق الإنسانية لزوما وجود إله فإن هذه الإنسانية تفقد قيمتها طالما تستمد إنسانيتها من هذا الشرط؛ أي طالما هي غير مستقلة في وجودها إلا من خلال اعتراف خارجي. إن هذا الشرط يحول دون تحقق إنسانية كل الإنسانية بوصفها غاية مثلى.

تجدر الإشارة هنا إلى أن حضور فكرة الإنسانية في المسألة الأخلاقية ستوجه نظرة سارتر السياسية على المستوى النظري والعملي. يعتقد سارتر أن النحن في صيغة موضوع أكثر هشاشة من النحن في صيغة ذات، ذلك أن النحن في صيغة موضوع ليس لها أساس أنطولوجي، وبالتالي فإن الوحدة الناتجة عنها مجرد وهم. بينما النحن الذات لا تتمتع بكيان موضوعي مستقل. فالوجود يمر عبر الآخرين؛ أي عبر مشاركتهم إيانا في (النحن) كمشروع جماعي نؤسسه معا، أو كما يقول الأستاذ عبد الحي: «لا يأخذ المشروع الفردي معناه إلا في إطار مجموع المشاريع الأخرى» ص 161، غير أن سارتر يعد هذا المستوى من التجربة الجماعية مجرد مظهر سيكولوجي وليس أنطولوجيا، إذ ليس هنا توحيدا فعليا للموجودات، يقول سارتر: «فبدل أن يكون بروز بعد ملموس وواقعي للوجود هو شرط تجربة الوجود من أجل الآخر، تكون تجربة نحن الذات حدثا سيكولوجيا محضا يسري داخل وعي فردي، حدث يتطابق مع تحول حميمي لبنية الوعي ولكنه لا يظهر على أساس علاقة أنطولوجية ملموسة مع الآخرين، ولا يحقق أي وجود مع الآخر». يستبعد سارتر الأخلاق من البنيات المباشرة للوجود الإنساني، لأن الشعور السيكولوجي لا يمكنه أن يعد أساسا في التجربة الجماعية لتحقيق الوحدة. كذلك هو حال فكرة الإنسانية بوصفها ذاتا. ولذلك، بقيت الذوات منفصلة بشكل جذري. لا يعترف سارتر بوجود ذات مشتركة كما أن الذات الأخرى لديه هي مصدر الاستلاب (وقد استفاد سارتر هنا من فينومينولوجيا هوسرل). الذي يعتقد أن الذات المشتركة عبارة عن وسط بين الذات الفردية والعالم الخارجي. والذات المشتركة ليست ذاتية محضة، لأنها مغايرة عن الذوات المشكلة لها ولا هي موضوعية لتشكلها من ذوات تجعلها لا تتطابق مع موضوعية العالم الخارجي. وعليه، لا يمكن أن نتحدث عن ذات فردية مستقلة. وهكذا ننتهي إلى استحالة وجود كيان جماعي. «تتشكل الكيانات الجماعية كذات، لأنها تتفاعل في إطار معين وبصدد موضوع معين كذات واحدة، ولا يحتاج هذا الأمر إلى أن يحصل الوعي به لدى الفرد، ولا إلى إرادة» ص 164.

تتعارض فكرة الحرية مع فكرة التطابق؛ أي فكرة الأنا التي تساوي الأنا. ولذلك كان سارتر يقول بالانفصال داخل الذات، فهي شيء آخر مختلف تماما عما تريد أن تكونه، وهي تتحدد من خلال المشروع الذي تحققه لكنها لا تختزل في ما تحققه. إن انتفاء التطابق بهذا المعني يدل على الحرية. الذات التي تتجاوز نفسها باستمرار هي وحدها ذات حرة. غير أن هذا الادعاء يجعل منظور سارتر يتسم بالمفارقة «(...) فلا شيء في نظرنا، يقول الأستاذ عبد الحي، يسمح به أكثر من ابتعاده عن التطابق بصدد الذات الواحدة ومن انغلاقه بصدد الذات الأخرى. إنه يبين هنا أن ضمان الحرية للذات يكمن في انمحاء الذات الأخرى» ص 165. ثم يختم قائلا:

«لقد بقي سارتر في كتابه الوجود والعدم، كما يتضح من خلال رفضه للذات الجماعية في حدود الزاوية الأولى ليتخلى عنها في المرحلة الثانية ابتداء من دفاتر الأخلاق، ولكنه لم يتخل عنها لمغادرة فكرة التطابق، وإنما فقط لينتقل إلى الزاوية الثانية التي تسمح لنا بتصنيفه بكل سهولة في التوجه الفوضوي. وهذا ما يقلل في نظرنا من أهمية فكره في دعم البعد الاجتماعي في فلسفته وبالخصوص في المرحلة الأولى منها» ص 166.

مفهوم الفردية: في نقد العقل الجدلي

يقترن لدى سارتر إنكار الذات الجماعية بإنكار موضوعية الممارسة الفردية طالما أن لها طابعا خارجيا ومستقلا، فهي في حكم الاستلاب. ينتقد سارتر المادة بوصفها وسيطا بين الأفراد، إذ يراها شرا وإن اكتمال إنسانية الإنسان رهينة بتخلصه منها. يعلق الأستاذ عبد الحي على هذا الموقف بوجهة نظر طريفة حيث يقول: «لا يمكن لقارئ نقد العقل الجدلي ألا يستغرب لهذا المنحى الذي يسير فيه فيلسوف يعلن قطيعته مع الفكر الديني، ويعطي الأولوية للحياة الدنيوية ولجانبها المتصل بالمتعة. وإذا كان من اللازم التمييز بين سارتر ورجل الدين بهذا الصدد، فإننا نعتقد أن أحسن صيغة للتعبير عن هذا التمييز ستكون هي الآتية: ترفض المادة بالنسبة للثاني، لأنها مصدر نجاسة، وترفض بالنسبة إلى الأول لأنها مصدر خيانة. تخون المادة الممارسة، لأنها تقدمها دائما لصاحبها في شكل مغاير جزئيا أو كليا للنتيجة التي كان يتوخاها» ص 166.

يمتد تأثير المادة على الممارسة إلى مستويين يجعلها عديمة الفعالية وذلك لعدم تمكن الفرد من السيطرة على محيط حركتها، ولذلك سيكون هذا الأمر مبررا للتمسك بالوحدة الشاملة للتغلب على هذا المحيط.

مثال على التأثير الأول: قطع الأشجار لتوفير مساحات إضافية صالحة للزراعة، كان الهدف هنا هو التغلب على المجاعة، لكن في المقابل قطع الأشجار يؤدي إلى كارثة طبيعية أي انجراف التربة. التأثير الثاني للمادة على الممارسة:

تحول الممارسة الفردية ضمن إطار جماعي يغير المعنى الذي يعطيه الفرد لها، «فالفكرة الأساسية الكامنة وراء رفض المادة هي منع هذه الأخيرة للممارسة من أن تكون إنسانية محضة، كما كان الوجود لذاته يمنع الحرية من أن تكون حرية تامة. ولكن النقص الذي يعاني منه الوجود الإنساني يجعله في أمس الحاجة إلى المادة للانفلات من العدم التام، لأنها هي التي تسمح للعدم بأن يكون وجودا. وهكذا، فإن الممارسة لا يمكنها أن تكون كذلك إلا بارتباطها بالمادة، ولا يمكنها أن تفعل إلا في المادة وعبر المادة. فالمادة إذن شر لابد منه للإنسان» ص 168. وعليه، يكون الاستلاب شاملا وشموليا. إن واحدا من معاني الاستلاب هو أن يتصرف الإنسان وكأن الأمر استجابة لضرورة داخلية وليس إكراها خارجيا. الاستلاب بهذا المعنى يفيد إهمالا لدور الإيديولوجيا، يعلق الأستاذ عبد الحي على هذا الإهمال قائلا:

«لا يمكن تفسير الأمر، في نظرنا، إلا بالمنحى الذي سار فيه، وهو التأكيد على الممارسة إلى درجة جعل كل الأفعال الإنسانية أفعالا إرادية، كما أنه تحضير وتمهيد للنتيجة التي يوجه نحوها البحث، وهي الانتهاء إلى الفوضوية باعتبارها الحل للتناقضات والمفارقات التي تعرفها الممارسة. وتقوم الفوضوية على الإرادة التامة؛ أي على صدور كل الأفعال عن وعي تام بأصلها وبغاياتها حتى يتم التمكن منها. كما تقوم على المباشرة، بمعنى أنها تفعل بشكل مباشر في محيطها، وبالدرجة الأولى في الأشخاص الآخرين الذين يتوسطهم الفرد» ص 169. وبالنتيجة، فإن الممارسة تقود إلى الاغتراب. ولعل التركيز على الاستلاب يقود إلى إمكانية تفسير وفهم اغتراب العلاقات الإنسانية خارج علاقات الاستغلال، مصداقا لمقولة سارتر الشهيرة (الجحيم هو الآخر)، وهو تحديدا ما عبر عنه سارتر في الوجود والعدم عندما قال: «من لم يسبق له أن عاش تجربة الآخر لن يتمكن بتاتا من التمييز بين الموضوع المصنوع والمادية المحضة لشيء غير منتج» لم تعد المادة هنا وحدها عامل استلاب، بل إن وجود الغير «هناك استلاب للعلاقة الإنسانية سابق على الاستلاب الذي يلحقه بها الاستغلال الاقتصادي. وربما ينبغي القول إنه يتأسس عليه»، يصبح الاستلاب بالتعريف هو كل أشكال الروابط غير الرابطة الإنسانية.

السلطة من منظور سارتر

انسجاما مع فوضوية سارتر، فإنه يذهب إلى نقد كل أشكال المأسسة لأنها تعكس تراجع التحرر الفعلي للفرد. فهو على النقيض من «المفكرين الذين يرون في المؤسسة تتويجا للعمل التحرري، ووسيلة لضمان استمراريته بعد التغلب على ما يمكن تسميته بالمرحلة الطبيعية أو الحيوانية للإنسان، فإن سارتر يقوم بالعكس تماما. إنه يتناولها لتفسير التقهقر الذي يعرفه المجتمع بعد تحقيقه للتحرر وتغلبه على الاستلاب والاستغلال» ص 200. المؤسسة هي انعكاس لفقدان (شفافية وسيولة) الممارسة الفردية، فكلما تضخمت السلطة احتاجت إلى المؤسسة. لا يمكن استخلاص نموذج مجتمعي من فلسفة سارتر، لأن الحرية انتفاضة مستمرة، فلا وجود لمجتمع نموذجي إلا بالمعنى الذي يقوض فيه الفرد المؤسسة لأنها رمز الاستلاب. يعلق الأستاذ عبد الحي على هذا الموقف السارتري قائلا: «إنه يذكر المساواة، لكن لا يذكر بتاتا كيف ستتحقق (...) إنه يكتفي دائما بانتقاد الشر والدفاع عن الخير. وحينما يتجاوز انتقاد الواقع نحو بنائه فإنه لا يتجاوز الدفاع عن الثورة وضرورتها»، بهذا المعنى، فإن الثورة هي النموذج المجتمعي والبديل الوحيد الممكن. وقد بلغ دفاع سارتر عن الثورة ومشروعية العنف الثوري حد دعوته إلى حمل السلاح لأن «السعادة تحتاج إلى الدفاع عنها» كما جاء على لسان إحدى شخصيات سارتر في الشيطان والإله الطيب. ولا يمكن هزم شر ما إلا بواسطة شر آخر (كما ورد في الذباب). ص 203

غياب النموذج المجتمعي يجد مبرره في موقف سارتر من التنظيم والنظام، من جهة، ومطالبته الشديدة بحرية تنجزها ثورة دائمة، من جهة ثانية. فالثورة هي الوجه الآخر للحرية. مع الثورة ينتفي الاستقرار وليس بمكن أي تنظيم أي يقوم بوظيفته. وحدها الحرية تفعل فعلها في الوجود. ص204. بفضل الثورة، أو القيامة تتحقق تلقائية الممارسة وسيولتها في توافق تام مع الحرية، وبعيد عن أي تنظيم أو مؤسسة. فالمؤسسة هي بالطبيعة انعكاس للعلاقات العمودية بين الأفراد. فيعم الانفصال بين الأفراد لانتفاء الوساطة فتتضخم المؤسسة، ويصبح الأفراد لديه بدون قيمة. ويفسر سارتر الاستلاب الناشئ عن فقدان القيمة بكون أن «حاجيات ورغبات الأفراد تتشكل خارج إرادتهم وخارج ذواتهم (...) لتفرض عليهم عبر المؤسسة»، يعلق الأستاذ عبد الحي قائلا: «ولا يمكن للوسيط كإنسان منع العلاقة التي تمر عبره من أن تمس فردا أو أفرادا آخرين نظرا لتجلي ممارساته أمام الآخرين. إنه لا يتوفر على الوسائل الكافية لإخفاء جانب من الدور المنوط به، أو لتغييره. وإذا أقدم على ذلك فإنه سيواجه في الحين لتصحيح الممارسة وتصحيحه هو ذاته. ولهذا يذهب سارتر إلى أن الممارسة هنا تحقق الوحدة الداخلية للأفراد، أو الوحدة الفعلية. أما المؤسسة، فإنها تتوفر دائما على إمكانية توقيف الممارسة في حدود محيطها هي دون تمريرها إلى الآخرين، وكذلك على إمكانية تحويل معانيها وأهدافها. والأعوص من هذا كله هو توفرها على إمكانية خلق ممارسة جديدة، انطلاقا من وضعها هي ومن مصالح أفرادها هي، مع إعطائها طابع المجموعة التي توجد فيها. ويتم هذا كله في الخفاء لأن طبيعتها لا تسمح بالشفافية، كما أنها لا تسمح برد الفعل المباشر. وإذا انتشرت مراكز التحجر وسك الأفراد، فمعنى ذلك أنهم منفصلون عن بعضهم البعض ليصبحوا غرباء من بعضهم البعض، رغم الوحدة الظاهرية بينهم» ص 208-209. تقوم المؤسسة بتدجين الحرية، لأنها تكرس الغيرية، يعرف سارتر المؤسسة قائلا: «الوجود المؤسسي عبارة عن جمود داخل كل فرد، جمود مصنوع سلفا ينتمي إلى كائن غير عضوي سيتم تجاوزه من طرف حرية عملية تكون وظيفتها ... هي أخذ أبعاد موضوعية داخل هذا الكائن ذاته كتحديد جامد للمستقبل. تنتج المؤسسة خدامها مع العمل على التأثير فيهم مسبقا بواسطة تحديدات مؤسسية» ص 209.

لا تكمن قيمة سارتر في مساهمته الفلسفية فقط، وإنما تمتد لتشمل حقل العلوم الإنسانية بالنظر إلى مضمون وأبعاد التأويلات التي طبعت تلك المساهمة الفلسفية. ولعل هذه القيمة تستحق تحيينا من قبل الباحثين المتخصصين في فلسفة سارتر في أفق إعادة اكتشافه مجددا.