القلق الاجتماعي عند إريك فروم


فئة :  مقالات

القلق الاجتماعي عند إريك فروم

القلق الاجتماعي عند إريك فروم

إن القلق قدیم قدم الإنسانیة؛ فالإنسان الذي عاش في عصور ما قبل التاریخ لم تكن حیاته البدائیة خالیة من مصادر القلق، رغم أن صراعه في ذلك الوقت كان ینحصر في مواجهة الحیوانات المفترسة ومحاولة التغلب علیها. وبصفة عامة، فإن الإنسان في الأزمنة السابقة أكثر حظاً من هذا الزمن، فقد كان مصدر القلق لدیه من مصدر واحد. أما الیوم، فتعددت مصادر القلق، وأصبح مجرد الاحتفاظ بالتوازن والسلام النفسي یستلزم جهداً فائقاً ومواجهة مستمرة في جبهات متعددة ضد مصادر القلق والتوتر.

یوصف القلق بأنه لعنة عصرنا ونحن جمیعاً معرضون له؛ لأن الحیاة المعاصرة تسعى من دون رفق لأن تضغط علینا بقوة ولیس هناك من لا یشعر بالاضطراب أحیاناً؛ لأنه لا یستطیع تحمل بعض أعباء حیاته الیومیة ومربكاتها التي تفوق قوة احتماله وطاقته. كما يمكن أن يتملك بعض الأشخاص سيلا من مشاعر الخوف الذي يترك آثاراً سلبية لدى التعامل مع الآخرين، لتتولد مشاعر الارتباك والقلق لدى معايشة مواقف يومية اعتيادية، فتتحول لحالة من الرهاب الذي يعرف بالقلق الاجتماعي.

يعتبر اضطراب القلق الاجتماعي أحد أنواع الاضطرابات النفسية التي قد يصاب بها بعض الأفراد، حيث تتمظهر لديهم من خلال سيطرة الأفكار السلبية حيال اعتقادهم بالتعرض للإذلال أو الإحراج في الوسط الاجتماعي يشعرون فيه بالقلق من انتقاد الآخرين لهم، أو من خلال مراقبتهم، أو تكوين الآراء والأحكام حول شخصيتهم، أو ارتكاب الأخطاء في العلن بسبب قلة المهارات الاجتماعية التي يملكونها. وفي بعض الأحيان، قد يتحول هذا القلق إلى نوبة من الذعر، حيث يشعر الأشخاص الذين لديهم هذا الاضطراب بالخوف لمدة أيام أو عدة أسابيع من أحداث لم تحدث بعد، ومع أنهم يشعرون بأن أسباب هذا الخوف غير موجودة على أرض الواقع، إلا أنهم لا يستطيعون تجاوز الخوف الذي لديهم بسببها.

وفي العموم، نجد أنه من الطبيعي أن يشعر الإنسان بالتوتر والقلق في مواقف الاجتماعية والمهنية معينة. فعلى سبيل المثال، قد يسبب الخروج في موعد عاطفي أو إلقاء عرض تقديمي أمام جمهور كبير الشعور بتوتر وهذا أمر طبيعي، ولكن في حالة اضطراب القلق الاجتماعي (الرهاب الاجتماعي) نجد أن التعاملات اليومية والروتينية تسبب المصاب قلقاً بالغاً، وارتباكاً وشعوراً بالحرج بسبب الخوف من أن تكون محل مراقبة أو حكم سلبي من الآخرين لذا توصف الحالة هنا بأنها حالة مرضية، إلا أننا قبل أن نخوض في استعراض فلسفة القلق الاجتماعي عند فروم وجب علينا توضيح مفهوم القلق الاجتماعي اصطلاحياً.

يُعرّف مفهوم القلق الاجتماعي لغوياً: بأنه الاضطراب، الانزعاج، عدم الاستقرار النفسي، إحساس بالضيق والحرج، وقد يصاحبه بعض الألم، كما يمكن تعريفه بأنه شعور بعدم الارتياح، مثل التوتر أو الخوف، يمكن أن يكون خفيفاً أو شديداً. وقد يعترض أي شخص. أما اضطراب القلق العام، فهو حالة طويلة الأمد تجعلك تشعر بالقلق حيال مجموعة واسعة من المواقف والقضايا، بدلاً من حدث واحد محدد. ويمكن أن يسبب أعراضا نفسية (عقلية) وجسدية. بناءً على ما تقدم، يمكننا القول إن القلق الاجتماعي عبارة عن اضطراب مزمن يتميز بخوف مفرط وغير مبرر من الإحراج والهوان في المواقف الاجتماعية، مما يؤدي إلى ضيق شديد وعدم القدرة على أداء الوظائف اليومية. ويعد القلق الاجتماعي اضطراباً شائعاً، ويبدأ إجمالاً في الطفولة أو سنوات المراهقة، وإن لم يتم علاجه أدى إلى انطوائية ومشكلات نفسية متعددة.

وهكذا، فإن السمة المميزة لاضطراب القلق الاجتماعي هي القلق الشديد أو الخوف من الحكم عليك، أو التقييم السلبي، أو الرفض في موقف اجتماعي أو أداء فعل ما مثل: احمرار الوجه أو التعثر في الكلمات، أو أن يُنظر إليهم على أنهم أغبياء أو محرجون أو مملون. ونتيجة لذلك، فإنهم غالباً ما يتجنبون المواقف الاجتماعية أو المواقف المتعلقة بالأداء، وعندما لا يمكن تجنب موقف ما، فإنهم يعانون من قلق وضيق كبيرين، كما يعاني العديد من الأشخاص المصابين باضطراب القلق الاجتماعي أيضاً من أعراض جسدية قوية، مثل: معدل ضربات القلب السريع، والغثيان، والتعرق، وقد يتعرضون لهجمات كاملة عند مواجهة موقف مخيف. على الرغم من إدراكهم أن خوفهم مفرط وغير معقول، فإن الأشخاص الذين يعانون من اضطراب القلق الاجتماعي غالباً ما يشعرون بالعجز عن قلقهم.

في حقيقة الأمر، لا تعتبر كل أنواع القلق مرضیة أو دلیلاً على اضطراب نفسي، فالقلق في حد ذاته ظاهرة طبیعیة، وإحساس، وشعور، وتفاعل مقبول، ومتوقع تحت ظروف معینة، وأحیاناً یكون للقلق وظائف حیویة تساعد على النشاط، وكذلك على حفظ الحیاة.

لذا سعى علماء النفس إلى تقسیم القلق إلى عدة أنواع؛ ومنهم من اعتمد في تقسیمه للقلق على الأسباب التي أدت إلى نشأة القلق مثل فروید، ومنهم من اعتمد على الآثار المترتبة على القلق، ولكن مهما كان المنطلق في تقسیم القلق، فإن الباحث في هذا السياق یجد أن هناك شبه إجماع لدى علماء النفس في تقسیم القلق إلى قلق موضوعي، وعصابي، وقلق خُلقي. ففي القلق الموضوعي يدرك الإنسان أن هذا النوع من القلق مصدره خارجي، وهو عبارة عن رد فعل لإدراك خطر خارجي، أو لأذى یتوقعه الشخص مستقبلاً، ویسمیه العلماء عدة أسماء مثل القلق الواقعي، أو القلق الصحیح، والقلق السوي. وهذا النوع من القلق أقرب إلى الخوف؛ ذلك لأن مصدره یكون واضح المعالم في ذهن الإنسان. ویطلق علیه أحیاناً القلق السوي، ویحدث في مواقف التحسب وتوقع حدوث ما لا تحمد عقباه كالخوف من الفشل، أو فقدان شيء، وأحسن الأمثلة لهذا الشعور هو قلق الطالب أثناء الامتحان أو قبله. أما القلق العصابي، فإنه ینشأ نتیجة لمحاولة المكبوتات الإفلات من اللاشعور والنفاذ إلى الشعور والوعي، ویكون القلق هنا بمثابة إنذار للأنا لكي یحشد دفاعه حتى لا تنجح المكبوتات اللاشعوریة في التسلل إلى منطقة الوعي والشعور، وإذا كان القلق الموضوعي یعود إلى مثیرات خارجیة في البیئة، فإن هذا القلق یرجع إلى عامل داخلي، وهو دفاعات الهو الغریزیة، التي توشك أن تتغلب على الدفاعات وتحرج الأنا إحراجاً شدیداً؛ لأنها تجعله في صدام مع المعاییر الاجتماعیة، وتجعله عرضة للعقوبات الذاتیة من جانب الأنا الأعلى؛ أي إن القلق العصابي هو الخوف من أن تخرج الحوافز الغریزیة للهو من دائرة السیطرة، وهو یتضمن الخوف من العقاب الذي سیحدث؛ ویعني ذلك أن القلق العصابي توتر داخلي لا مبرر له؛ أي إنه حالة تهيؤ نفسي وبدني لمجابهة خطر موهوم أو مبالغ فیه، حیث لا یتفق التوتر الحاصل مع الظروف المؤدیة له. وفي النهاية يتشكل القلق الخُلقي نتیجة الصراع الذي سیحدث داخل الشخص، ولیس صراعاً بین الشخص والعالم الخارجي. وهو نوع من أنواع الخوف من الضمیر، وینشأ عن الصراع مع الذات العلیا؛ وذلك نتیجة تحذیر أو لوم الأنا الأعلى للأنا، عندما یأتي الفرد أو یفكر في الإتیان بسلوك یتعارض مع المعاییر والقیم، التي یمثلها جهاز الأنا الأعلى أي إن هذا النوع یتسبب عن مصدر داخلي مثله مثل القلق العصابي الذي ینتج من تهدید دفاعات الهو الغریزیة، ویتمثل هذا القلق في مشاعر الخزي والإثم والخجل والاشمئزاز، ویصل هذا القلق إلى درجته القصوى في بعض أنواع الأعصبة، كعصاب الوسواس القهري الذي يصاحبه من السیطرة المستبدة للأنا الأعلى، ویخاف أكثر ما یخاف من لوم ضميره القاسي. كما ینشأ حین یحاول الفرد أن یخالف ما تعلمه من والدیه من مبادئ وأخلاق، وكذلك عندما یفكر في إشباع رغبات الهو، التي تتطلب منه أن یقدم على تجاوز كل ما هو محرم اجتماعياً ودينياً.

أما عن تعريف القلق فلسفياً وبالأخص في الفلسفة الوجودية، فإنه يشير إلى مشاعر عدم الارتياح تجاه الاختيار والحرية في الحياة. وفي هذا الصدد يقول جان بول سارتر في كتابه (الوجودية مذهب إنساني) "إن الوجود ليعلن صراحة أن الإنسان يحيا في قلق ويكابد القلق"، وهو يعني بذلك أن الإنسان عندما يلزم نفسه تجاه شيء ما، ويدرك بالوقت نفسه أن اختياره سيكون اختياراً يحدد له ماذا سيكون، وأنه لا يختار لنفسه وحدها بل يختار للإنسانية كلها في الوقت نفسه، ففي لحظة كهذه لا يمكن للإنسان أن يهرب من الإحساس بالمسؤولية الكاملة العميقة، وهذه الفرضية تبين ماهية القلق الوجودي تجاه تصرفاته، أو ما يمكن تسميته بالضمير أو مساءلة النفس. وهكذا يجد كل فرد يسأل نفسه: هل من حقي أن اتصرف بهذه الطريقة التي ستكون المثل الذي تحتذي به الإنسانية؟ وإذا لم يسأل الإنسان نفسه هذا السؤال فإنه يخدع قلقه ويخفيه.

- فلسفة القلق الاجتماعي عند إريك فروم: اتسمت المجتمعات الغربية بانفصال الناس عن أنفسهم وعن مجتمعاتهم، ولقد حدث هذا على الرغم من التقدم العلمي، والنمو الصناعي المتزايد، والسعي وراء الطرق التي توفر السعادة وتجلبها، وتؤمن الرفاهية للإنسان، ونتيجة مباشرة لذلك الانفصال، أصبح هناك اضطراب في التفاعل فيما بين العوامل النفسية المؤثرة والوسط الاجتماعي المحيط بالفرد؛ وبمعنى آخر بين بناء الفرد وبناء المجتمع، فالحياة الصناعية تتسارع يوماً بعد يوم، ويتحول فيها الإنسان إلى شيء مما يصيبه بالقلق واللامبالاة بالحياة، وقد يدفعه هذا في بعض الأحيان إلى كره الحياة والتذمر منها.

يشرح عالم النفس النقدي الألماني "إريك فروم" (1900- 1980) المشكلات النفسية لإنسان القرن العشرين، حيث قال: إن إنسان القرن العشرين قد تشيأ وأصبح "شيئاً". لقد غادر مربع كونه إنساناً ليدخل في مربع كونه شيئاً من الأشياء التي تمتلك وتباع وتشترى، وهذا الإنسان أبرز معاناته تتلخص في القلق، فلا إيمان لديه، ولا قناعة، وقليل القدرة على الحب، يهرب إلى الانشغال الفارغ، إدمان الكحول، الانغماس المتطرف في الجنس، ولذلك تظهر عليه كل الأمراض النفسية الجسدية.

إن تطور وتقدم الصناعات الاقتصادية والتكنولوجيا المتطورة على حساب القيم الإنسانية هي من تقف خلف مخاوف "إريك فروم" أو ملاحظاته حول إنسان القرن الذي عاش فيه. لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا ماذا لو أن "فروم" عاش حتى عشرينيات القرن الحادي والعشرين؟ حيث أدت العوامل الاقتصادية إلى شعور الفرد بالتشيؤ، هذا الشعور الذي يجعل الإنسان يرى نفسه كأنه سلعة قابلة للتبادل التجاري، وهذا الأمر أثر بالفرد، وجعل شخصيته مسلوبة، ومعزولة عن إخوانه من أفراد جنسه، كما يشعر بالعجز والإحباط والانسحاب وعدم الأمن، بذلك لقد ازداد القلق أكثر، ازداد الشعور باللا جدوى، لقد دخل الإنسان عصر الاكتئاب والآلة، ويبدو أن الجيل الذي ينشأ حالياً خلف الشاشات المتنوعة، شاشات التلفاز والحواسيب والموبايلات ومواقع التواصل الاجتماعي، التي تزداد يومياً بعد يوم قد ينقض تماماً الفكرة الأزلية بأن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي؛ لأن العلاقات الاجتماعية أصبحت شبه مفقودة لدى أبناء هذا الجيل في وقتنا المعاصر.

ومن انعكاسات التطور التقني أنه يؤثر سلباً في نفسية الإنسان وسلوكه، وكنتيجة مباشرة لهذا التقدم غدا الإنسان متلقياً سلبياً وكسولاً، وقد رافقه الشعور بالقلق؛ لأنه لا يرى معناً حقيقياً لحياته، فهو يضجر ويتغلب على ضجره بمزيد من التغيير المستمر للاستهلاك، ومحفزات الإثارة عديمة المعنى، وهذا ما يجعل تفكيره منفصلاً عن العواطف كما تنفصل الحقيقة عن الانفعال، والعقل عن القلب، فلا تستميله الأفكار؛ لأنه غدا مفكراً بلغة الحسابات والاحتمالات، أكثر من تفكيره بالقناعات والالتزامات، وبسبب التكنولوجيا الحديثة فإنه يجري الآن تغيير كل نماذج الإنتاج والاستهلاك السابقة، ويجري أيضاً استبدال الإنسان المستقل بالإنسان الذي يتخذ قراراته بنفسه. ويرى فروم أن الأزمات التي تضاعفت أكثر في البلدان المتقدمة التي كانت قد وصلت بالمفاهيم الإنسانية إلى مراتب عليا تنحدر الآن، وكأن القرن السابق هو الزمن الأخير الذي كان يشهد الصعود الإنساني إلى أعلى مراتبه.

ويعتقد فروم أن الإنسان المعاصر ينحدر من ذلك الجبل نحو الهاوية مرة أخرى، نحو الأماكن السحيقة ونحو المنحنى الساقط، ولا نعرف من خلال تتبع التاريخ الإنساني كم مرة انحدر الإنسان أو مات تماماً على المستوى القيمي والإنساني، لكن في هذا العصر وهو على خلاف كل العصور السابقة نستطيع القول: إن الإنسان قد تحول إلى آلة ولا قيمة منفردة له دون النظر إلى حياته الصناعية أو الاستهلاكية. لقد كان هذا الإنسان هو نتاج صناعة الرأسمالية وغياب مفاهيم الإنسان التي تم التأسيس لها منذ أكثر من أربعة قرون، لكنه الآن يتهاوى ويفقد أهم خصائصه ليكون شبيهاً للآلة.

من المعروف أن الزيادة في الشيء خير، لكنها أصبحت في مجتمعنا المعاصر شراً إلى درجة أصبح السؤال يطرح وبإلحاح قصد المعالجة: هل تقود الوفرة والرفاهية الزائدة والفيضان عن الحد إلى سعادة المرء، أم هي سبيل نحو القرف والملل والخمول؟

يذهب فروم، وهو الممثل للجانب النقدي للحضارة المعاصرة في شقها النفسي أن الإنسان المعاصر أصبح مستهلكاً على الدوام وفوق حاجاته الأساسية، مما سبب له متاعب نفسية مقلقة. ويضرب لذلك مثلاً طريفاً هو: عندما تراقب شخصاً يأكل ويلفت انتباهك، ويتأكد لك أنه يأكل كثيراً، إلى درجة أنه يتناول الطعام من هنا وهناك، وكيفما اتفق، وكلما سنحت له الفرصة، ويلتهم الحلويات بخاصة وباستمرار، فإن هذه الشراهة والاستهلاك المفرط لا يكونا من أجل تحقيق الإشباع الفسيولوجي وضمان البقاء، بل هما من أجل طرد الخواء والإحساس بأننا من دون قيمة. إن الشراهة هي محاولة للتحرر من الضيق الداخلي. فالمرء الذي يعاني الملل، يحس وكأنه فارغ لا قيمة له، وكأن شيئاً ينقصه كي ينشطه، فيستجيب لأكل الطعام، وكأنه يقول في نفسه: إنني شخص أمتلك شيئاً، إنني لست لا شيء. ويعمل على المزيد من ضخ الطعام لطرد الخواء. باختصار، الفراغ مفزع، والأكل المبالغ فيه ما هو إلا محاولة بائسة لطرد هذا الفراغ. بعبارة أخرى، الاستهلاك الكبير هو إعلان أن الإنسان فاقد لقيمته.

خلاصة القول، إن الإنسان لا يبحث عن شيء في الحياة إلا عن نفسه؛ أي إثبات ذاته ككائن مطلق؛ لأنه باختصار، كائن يتجاوز المادية، ومحركاته لا يمكن أن تكون فقط فسيولوجية أو نفسية أو اجتماعية، فهناك عوامل أخرى كامنة، تشكل الحافز الأساسي المحرك للإنسان، فإثبات الذات لا يكمن في امتلاك شيء أو آخر لأنها ليست هي الهدف، فتملك ما يحلو لك، فلن تهدأ ولن ترتاح. فخلاص الإنسانية وخلقها للمعنى لا يكمن في الاستهلاك أبداً. فالإنسان لن يكون إنساناً إذا ما لم يتم السماح لمواهبه الذاتية بالتفتح عن طريق الحرية والنشاط العفوي والحب. فقد قطع الإنسان نصف الشوط في حضارته واستطاع أن يتحرر من عبودية الخارج، ولم يبق إلا أن يتحرر من عبوديته الداخلية الذاتية ليصبح متحررا في ذاته لا في سياقات مفروضة عليه.‏

- الوجه الآخر للقلق (القلق الإيجابي يولّد الإبداع): قد يبدو الحديث عن توظيف مشاعر القلق والتوتر المرهقة بطريقة إيجابية غير منطقي، إلا أن علماء النفس يؤكدون أنه يمكن تحويل تلك المشاعر السيئة إلى طاقة إيجابية. يفكر الإنسان بطبيعته في كل خطوة يقوم بها وهذا أمر عادي لمواجهة تحديات الحياة وما تحتاجه من قرارات ومواقف مناسبة، لكن إذا بالغ الإنسان في التفكير يدخل في متاهة تسمى التفكير المفرط أو فرط التفكير. وفق دراسات عديدة، يعتبر القلق الإيجابي من أهم المفاهيم التي تقود حياة الإنسان نحو الإبداع والتميّز، ويمكن أن يساهم هذا النوع من الإجهاد الإيجابي في مشاعر التفاؤل والإثارة حول الحياة.

وقد أثبتت الدراسات أن القلق الإيجابي يرتبط لدى فئات مهنية واسعة عادة بمشاعر الإثارة والتحدي بدلاً من القلق أو الخوف. وتقول الدراسات السيكولوجية إن الأشخاص الذين تنتابهم حالات القلق يشعرون ببعض الراحة والطمأنينة، فتجاوز الشعور بالقلق يفتح أمامهم سلوكيات تتسم بالإيجابية والعقلانية في التعاطي مع متغيرات الحياة اليومية. فالقلق الإيجابي هو قلق فكري يخلق التجديد في الحياة ويقود الأفراد نحو الابتكار والإبداع.

تلعب نظرة الفرد وشخصيته دوراً أساسياً في تحديد نوع القلق أم إيجابي أو سلبي، حيث يختلف ذلك وفقاً لنظرة الفرد لطبيعة المشكلة التي يواجهها والمهمة الموكلة إليه وطبيعة قدراته وشخصيته ومستواه التعليمي، كما أن الفكرة والعاطفة والشعور تجاه أمر ما تنتج هذا السلوك. فالفكرة قد تسيطر على الفرد وتؤثر على سلوكه وأدائه بشكل سلبي وهنا يكون القلق سلبياً. لذا يجب النظر إلى الأمور بطبيعتها دون تضخيم، وتحديد المهام الموكلة إلينا ومعرفة قدراتنا التي يمكن أن ننميها، فمع التدريب والهدوء يمكن أن ننظر إلى الأمور بشكل أفضل.

وإذا كان لا يمكننا دائماً منع اضطرابات القلق، فإن تعليم الناس أن يتبينوا الخطر الحقيقي من المخاوف أساس في الوقاية والعلاج. إلى ذلك، أثبتت الدراسات أن النوم المنتظم، والتنفيس عن المشاعر السلبية، وممارسة الرياضة المنتظمة، واستخدام أسلوب الاسترخاء مثل التأمل، والابتعاد عن المشروبات التي تحتوي على منبهات والتدخين، وتجنب استخدام العقاقير دون إشراف طبي، والتي يمكنها كلها أن تجعل نوبات القلق أكثر سوءاً. هذا وينصح بتناول وجبات الطعام بانتظام، حيث يساعد هذا على ثبات مستويات السكر في الدم، وبالتالي يمنع تقلّبات المزاج، إلى جانب الإكثار من تناول مشتقات الألبان القليلة الدسم، إذ تحتوي على كميات من الكالسيوم والمغنسيوم، مما يساعد على تهدئة الأعصاب. ويعتبر اللوز وبذور السمسم من الأغذية الغنية بالمغنسيوم. وعلى الصعيد الاجتماعي يساعد نظام الدعم الاجتماعي من خلال اختيار أصدقاء أو أفراد من الأسرة يمكنهم الاستماع للشخص والعكس صحيح. ويمكن أن يكون التفاعل مع أشخاص يتمتعون بروح الدعابة قراراً صائباً.

وهكذا نجد أن الإنسان يتكون من عنصرين أساسيين، الأول: العنصر المادي، المتمثل في جسم الإنسان وأعضائه، والثاني: العنصر الروحي، وهما عنصران مهمان، لا تستقيم حياة المرء إلا بصلاحهما، ولكل من هذين العنصرين غذاؤه ودواؤه الذي يصلحه ويحفظ له توازنه، فإذا فقد هذا الغذاء والدواء حدث خلل في تكوين الإنسان، فيشقى في هذه الحياة، إما شقاءً مادياً، يتمثل في الأمراض والعاهات والآفات التي تصيب جسمه، أو شقاءً معنوياً، يتمثل في القلق والضيق وفقدان السعادة الحقيقية. إن سعادة الإنسان لا تكمن في حصوله على الدنيا وملذاتها، وإنما تكمن في إيمانه بالله تعالى، وحينئذ ينشرح صدره، ويقول الله تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (الأنعام: 125). كما أن من أهم أسباب الرضا والسعادة: الإيمان بقضاء الله وقدره، بحيث يعلم المرء أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وليس منه بد، وما أخطأه لم يكن ليصيبه مهما حاول أن يجلبه إليه، فكل شيء بقدر الله سبحانه وتعالى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر: 49). كما أن المعاصي تورث الوحشة، فإن التقوى والعمل الصالح يورثان السكينة والطمأنينة، فمن اتقى الله عز وجل فإنه لا يخذله أبداً، كما أن التقوى تبعد وساوس الشيطان عن الإنسان، وتبصره بالحق، وفي هذا الصدد يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف: 201). فالسير على منهج الله تعالى سبب من أهم أسباب السعادة، وقد تكفل سبحانه وتعالى بعدم الخوف والحزن للمتبعين لهدى الله سبحانه، قال تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 38).

 

- المراجع المعتمدة:

  1. بيير داكو: الانتصارات المدهشة لعلم النفس الحديث، ترجمة: وجيه أسعد، دار الرسالة العالمية، دمشق، ط4، 2009
  2. فاروق السید عثمان: القلق وإدارة الضغوط النفسیة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 2008
  3. یوسف الأقصري: كیف تتخلصین من الخوف والقلق من المستقبل؟ دار الطائف للنشر والتوزیع، القاهرة، ط1، 2002
  4. وليد سرحان وآخرون: القلق، سلوكيات (4)، دار مجدلاوي، عمان، ط3، 2014
  5. عبد الستار إبراهيم: القلق قيود من الوهم، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، ط1، 2002
  6. دافيد شيهان: مرض القلق، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد: 124، أبريل/ نيسان 1988
  7. ديفيد جي. أ. دوزيس، كيث إس. دوبسن: الوقاية من القلق والاكتئاب- النظرية والبحث والممارسة، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2198، ط1، 2015
  8. جان بول سارتر: الوجودية مذهب إنساني، ترجمة: عبد المنعم الحنفي، مطبعة الدار المصرية، القاهرة، ط1، 1964
  9. علاء الدین كفافي: الصحة النفسیة، دار هجر للطباعة والنشر والتوزیع والإعلان، القاهرة، ط4، 1990
  10. إيريك فروم: الإنسان المستلب وآفاق تحرره، تقديم: راينر فونك، ترجمة وتعليق: حميد لشهب، شركة نداكوم للطباعة والنشر، الرباط، ط1، 2003
  11. إيريش فروم: الحب أصل الحياة، ترجمة: ناصر ناصر، دار الحوار، اللاذقية، ط1، 2013
  12. إيريش فروم، كينونة الإنسان، ترجمة محمد حبيب، دار الحوار، اللاذقية، ط1، 2013