الكتابة باعتبارها تواصلا مضادا


فئة :  قراءات في كتب

الكتابة باعتبارها تواصلا مضادا

الكتابة باعتبارها تواصلا مضادا([1])


ثمة كتبٌ تُعطيك نوعا من الانطباع بحدوث تحوُّلات مسترسلة عند كُتَّابها تماما، كما لو كانوا متواطئين منذ البداية مع عصابات وتيارات جارفة لكل رغبة في الاستكانة والراحة البليدة وكُتبٌ أخرى مشمولة بالرتابة وتكاد لا تُحرِّك فيك أدنى ساكن، إن لم نقل أنها أكثر من ذلك تقتل فيك كل رغبة في الحياة. الكتب من الصنف الأول تخترقها سلسلة من الأفكار المنسوجة بأسلوب فلسفي يحمسك على الحياة ويحفزك على المزيد من الفرح خلافا للكتب من الصنف الثاني المكتوبة بأسلوب قاتم متهافت، ينقاد وفق منطق تجاري رخيص، فاقد لكل متعة. وسعيا منا إلى فهم السر في هذا التباين الصارخ ما بين الشكلين من الكتابة، لا بأس أن نستعين بذلك المجهود الجبار الذي بذله رولان بارت، في كتابه "درجة الصفر للكتابة" حيث إنه بعد تصنيفه للكتابات الفرنسية خلال قرن من الزمن (من 1850 إلى 1950) وتوظيفه لثلاثة مصطلحات هي اللغة، الأسلوب والكتابة، خلص إلى أن اللغة عنصر سلبي بالنسبة إلى كل كاتب مادام أنها تقيده إلى درجة أنه لا يستطيع أن يغير فيها شيئا، بينما اعتبر أن الأسلوب سجنه وعزلته، إن لم نقل أكثر من ذلك أنه العنصر الخارج عن كل تعقل والمنفلت من كل إرادة؛ أما الكتابة فهي قيمة شكلية تقع ما بين اللغة والأسلوب، وفيها تكمن إمكانية الاختيار بالنسبة إلى الكاتب. الكتابة إذن بحسب بارت، وظيفة محكومة أساسا بعلاقة المبدع بالمجتمع؛ أي أنها الفضاء حيث يُمَوضِع الكاتب ذاته ويعلن عن مواقفه. على هذا النحو يفلح بارت في تنبيهنا إلى أمر في غاية الأهمية بمكان مؤداه أن "مأزق الكتابة هو مأزق المجتمع نفسه"[2]؛ فالكتابة إذن ليست فعلا فرديا مستقلا بذاته كما قد يخال البعض، بل هي ما به نُقحم الآخرين في اختياراتنا مادام أن الإنسان في كل ما يأتيه من أفعال "ليس مسؤولا عن نفسه فحسب، بل عن الإنسانية جمعاء"[3].انسجاما مع هذا التصور، واستئناسا به، يتبدى لنا من خلال قراءتنا لكتاب سعيد منتسب بعنوان "ضد الجميع" أنه أكثر تأييدا للكتابة من حيث هي التزام ومسؤولية بمعناها السارتري. إنه بقدر ما لا يمارس الكتابة من أجل الكتابة، بقدر ما يدافع عن تلك الأشكال الإبداعية التي لا تستبعد التاريخ من أفقها؛ وإذا كان "الالتزام بنظره، ينبغي أن ينكب على اختيار لغة للمقاومة" (ص. 130)[4] قبل المرور إلى "تحديد العدو" (ص. 130) فآماله تبقى معلقة من ناحية أخرى على مدى قدرة الكُتَّاب المغاربة على "استعادة هذه الروح التي ساهم سارتر في صنعها إلى جانب كامو؟" (ص. 129) بهذا الشكل إذن يستشعر "منتسب" بمضض فقدان حقلنا الثقافي للمبادئ الأخلاقية وعجز أدبنا عن تغيير الحياة؛ ذلك أن المهم بالنسبة إليه ليس هو بناء صروح نظرية والتبجح بكتابات فضفاضة، بل أن "يتحول الكاتب إلى مواقف" (ص. 129)، وهو إذ يؤكد على هذا الأمر فذلك ليس إلا لأنه يرفض رفضا باتا، أن ينخُر العبث جسم الكتابة وأن يظل الكُتَّاب مجرد سكارى تنبعث من أفواههم رائحة الكتب على حد التعبير الشعبي الشهير. ضد اللامبالاة إذن يبلور "سعيد" مفهوم الكاتب الموقف، لأنه بحسبه ما يُمَكِّن الثقافة المغربية من الخروج من تخلفها والتخلص من الدمار الشامل الذي ما فتئ يهددها. لنقل بصريح العبارة أن الرجل يدعونا إلى الحسم في اختياراتنا حتى لا ننتهي إلى ما انتهى إليه حمار "بوريدان" الذي مات جوعا وعطشا لا لشيء إلا لأنه أمام إنائين عامرين بالماء والشعير، لم يعرف ما إذا كان عليه أن يبدأ بالشرب أم بالأكل. وأمام هذا الوضع لا يتبقى لنا على ما يبدو إلا أن نلتحق على نحو بارمنيدسي بدائرة الثبات ونخضع للقواعد السائدة أو أن ننخرط خلافا لذلك، في صيرورة هيراقليطسية دائمة الجريان. في الحالة الأولى لا تعود الكتابة كتابة بل مرض الكتابة بتعبير سعيد أو لوديزم مادام أنها غالبا ما تكون مشحونة بالإيديولوجيا ومهووسة بالنقد بدل أن تكون مبدعة لأنماط جديدة من العيش. هذا بينما في الحالة الثانية نلاحظ أن الكتابة رَسمٌ لآفاق منفلتة باستمرار، تحريرا للحياة من أسر الطغاة وحقد الأجلاف. وبما أن الكتابة عند صاحب "ضد الجميع" عصيان وتمرد واع، فالكاتب الحقيقي عامة ما "يقع خارج اهتمام وزارة الحريات، وخارج قرارات الأمم المتحدة ...إنه مطارد من الجميع، من الفقهاء والحكام ورعاة البقر." (ص. 21). يكفينا توضيحا لهذا الأمر أن نتذكر مثلا كيف عاش نتشه طيلة حياته وفيا لعزلته، منغمسا في أفكاره، وكيف عانى سبينوزا الأمرين من أبناء جلدته اليهود الذين ساوموه عله يتخلى عن تصوراته الفلسفية ويشاركهم طقوسهم الدينية كما لو أن شيئا لم يقع، لكنه رفض فاضطرت الطائفة اليهودية إلى أن تفصله عن الجماعة، وهو في سن الثالثة والعشرين من عمره. كل هؤلاء وغيرهم كثر دفعوا ثمن أفكارهم على هذا النحو أو ذاك، لكنهم عاشوا بالمقابل حياة سليمة وبسيطة، وعانقوا الفرح بأقل تكلفة متخلصين من كل الأهواء الحزينة وتراهات الامتلاك، ومتشبثين أيما تشبث بالفضائل الحقيقية التي هي: التفكير المنطقي، التأمل، الحكمة، المرح والسعادة. ضد الأمجاد والثروة والشهوات المبتذلة كان هؤلاء يفضلون الحرية داركين على حد تعبير سعيد أنها "كانت دائما، وستظل حنجرة لا تصمت عندما تتحول الحياة على يد الطغاة والملائكة، إلى نسق غفير من الإذلال المتعاقب أو التحطيم السعيد" (ص. 21). لعل الكتابة والحالة هاته بدل أن تكون مجرد نزاعات شخصية تقوم على المجاملات والمحاباة أحيانا والحقد والضغينة أحيانا أخرى؛ فهي قضية وجود تنأى بنا عن كل ما هو نرجسي، ومسألة مصيرية لابد أن تشغل الإنسانية جمعاء. لذلك وجب علينا إيلاء هذا الكتاب الذي بين أيدينا اليوم، ما يستحقه من عناية، والتعامل مع صاحبه بنوع من الاحترام الخاص المشمول بانتباه فريد لكل ما ينطوي عليه مؤلفه من تفاصيل صغرى وما يزخر به من تصورات فلسفية جعلتني شخصيا أستعيذ مرغما ذكرياتي مع كتابين اثنين يتقاطعان بشكل غريب مع هذا الكتاب ألا وهما رسالة للاأحد لـ"روجي لابورت" و"هكذا تكلم زرادشت" لنتشه. أورد هذا الكلام لا لشيء إلا لأن الكتب الجيدة بنظري هي تلك الكتب التي توحي للقارئ الحصيف منذ الوهلة الأولى على أن أصحابها كانوا أثناء انشغالهم في عزلة مطبقة، يكدون ويجتهدون للخروج من مأزق ما والتخلص من ورطة وجودية عبر ما تدونه أقلامهم من كلمات وما تتلفظ به ألسنتهم من أقوال. إن الكتابة بالنسبة إلى هؤلاء ليست كما أسلفنا قضية موت أو حياة فحسب، بل هي أيضا آلية من الآليات الناجعة لتخليص الذات من الرداءة وتحقيق نوع من الانتصار الشامل. انتصار سيفيد الجميع لامحالة، حالما يفلح الكاتب في تحويل تجاربه الخاصة والحقيقية إلى ذهب ومشاريع ذات أولوية، حيث إن "الرهان الأساسي كما يصر منتسب أن يقول، إنما هو أن يمشي الكتاب وحده (...) خارج الأنساق" (ص. 13) لكن ما القصد من وراء هذا الكلام؟ وما الشروط الكفيلة لتحقيق هذا المبتغى؟ وهل من السهل للمرء أن يكتب خارج النسق؟ وأن يغرد خارج السرب؟ أبدا، سيما وأن التاريخ يشهد بأن مفكرين عظام وكتاب أجلاء عانوا الأمرين لا لشيء إلا لأنهم اختاروا في يوم من الأيام أن يسبحوا ضد التيار. فعلاوة عن معاناة سبينوزا التي سبق لنا أن تطرقنا لها بشيء من التفصيل موضحين كيف حاصرته طائفته اليهودية حد تأجيله لنشر مجموعة من كتبه مكتفيا بتوقيعها بأحرف مختصرة، أحيانا، قبل عزمه الإقدام على نشرها باسم مجهول أحيانا أخرى بل والعدول كليا عن نشرها كما الشأن بالنسبة لعلم الأخلاق؛ علاوة عن ذلك، لا بد أن نستحضر أيضا أحد الأسماء المُهمَّشة في تاريخ الفكر ألا وهو القس الملحد جان مليي، الذي سيبقى كتابه الوصية تاريخيا، بمثابة قنبلة فلسفية، انفجرت في وجه الظلامية لتعلن قيام عصر التنوير الأوربي. ويبقى "ميليي" الذي استغرق عمره كله في الاشتغال على هذا المؤلف وظل مستميتا في صياغة أفكاره طيلة عقد من الزمن، على الرغم من أنه على دراية تامة بأنها لن تر النور إلا بعد مماته، أكبر دليل نستأنس به هنا للتوكيد مرة أخرى على أن فعل الكتابة، ليس بالأمر اليسير كما قد يظن البعض، أكثر مما هو ضرورة والتزام، يستدعيان التحلي بأخلاق عالية والاضطلاع بمسؤولية تاريخية سواء أمام الذات أو أمام الغير حتى لا تتحول الكتابة إلى "لوديزم" أو مرض، فتغدو "بتعبير سعيد مجرد مكان اصطناعي دافئ يلوذ به كتاب يشربون النبيذ، وهم يكتبون نصوصهم بكلمات ودودة ومدربة على ابتكار المتاهات للقراء الجرذان" (ص. 59). تخلصا من نظير هذا المنظور العليل إذن لا بد للكاتب الذي يحترم نفسه أن يربط بين ثلاثة أمور هي القراءة والكتابة والحياة؛ ذلك أنك على حد تعبير "فيليب صولرز" لكي تكتب على نحو جَيِّد لابد لك أن تقرأ على نحو جَيِّد، لكنك لن تقرأ على نحو جَيِّد إلا إذا كنت تحيا حياة جميلة. على هذا الأساس، يلزمنا أن نقر بوجود فرق شاسع بين أولئك الكتاب الذين يَحْيَوْن أفكارهم ويعيشون حياة فلسفية، إن لم نقل يعيشون الفلسفة وأولئك الذين على شاكلة الأساتذة والممتهنين لحرفة الكتابة يعيشون مِنَ الفلسفة، مكتفين بتدوين ما تَجُود به قرائحهم وتحليل أفكار غيرهم بدم بارد، جالسين على شاكلة "فلوبير" فوق مقاعدهم في أريحية تامة. الأوائل مزعجون بكل ما تحْمله الكلمة من معنى خلافا لأندادهم النقاد الدين يغتنمون مما يكتبونه في كل مرة ويسترزقون جراء تواطؤهم المكشوف مع الأنظمة القائمة والسلط العفينة. تلافيا لهذا التعتيم يجيء صاحب "ضد الجميع" مستفزا للأقلام المُسخَّرة لاعنا كل السلوكيات المشينة والمواقف الرجعية التي بموجبها افتُقِدتْ كل صلة كانت تربط عالَم الكتب بعالَم الناس، إلى حد أصبح فيه النص يُقرأ خارج كل سياق un texte sans contexte ويُقدَّم فيه العمل الإبداعي، باعتباره موضوعا منغلقا على ذاته، يستفرد بقداسة مطلقة. آيتنا في ذلك هي أن البشرية لم تعان فحسب من اليقين المطلق الذي تزعم الكتب المقدسة أنها تمتلك وحدها مفاتيحه، بل عانت أيضا مما انضاف إلى هذه الكتب من مؤلفات أفسدت علاقة الناس بالحياة ولوثت أذواقهم من كثر ما ادعت بدورها حيازتها للحقيقة حتى ولو جوبهت بواقع يفندها. لذلك يبقى الرهان الأساسي كما يؤكد منتسب، إنما هو "أن يمشي الكتاب خارج الأنساق متأبطا غير قليل من الزلات والأخطاء والمروق الأخلاقي والديني والسياسي" (ص. 13) مادام بحسبانه أنه "ليس بوسع كتاب يحاول بكل قوة أن يصير أبا أن يتحقق، لأنه سيكون خارج مبدأ الانسلاخ عن السابق واللاحق" (ص. 13) لعل هذا المنظور الذي يضفي على الكتابة بعدا تاريخيا منغرسا في الحياة، وقائما على التجارب الخاصة، هو ما ينضوي تحت لواء الفكر الحر أو ما قد نسميه بالدعارة المشرقة le libertinage solaire. أقصد ذلك النهج الفكري الذي لا أثر فيه للسلبية، خلافا للدعارة المُظلمة التي اتسمت بها كتابات جورج باطاي على سبيل الذكر لا الحصر. وتجدر الإشارة هنا إلى التوكيد على أن لفظة الداعر le libertin لفظة تعرضت للتحريف على مسار التاريخ، حيث جرى اختزالها أتوماتيكيا في البعد الجنسي، بالرغم من أنها أرفع من ذلك بكثير، لأن الداعر في الأصل هو عكس العبد. إنه من لا يؤمن بالطابوهات الدينية والأحكام المسبقة، ويعيش في منأى عن كل خوف مادام أنه ليس مدينا لأي كان بأي دين. بهذه الروح التحررية يسعى سعيد إلى الانخراط في الكتابة بعيدا عن وصايا الآباء وتعاليمهم، داركا أن كل كاتب حر "كاتب ملعون" (ص. 22) بطبعه، لأنه بلغة أوضح "الكاتب الذي يكسر زجاج جميع النوافذ لينتشر الهواء" (ص. 22) لكن من يجرؤ على اقتراف مثل هذا الفعل الإجرامي يا ترى، سيما في زمن انطفأ فيه وهج القوى التحررية وتراجعت فيه بشكل مذهل كل ضروب الثقافة التنويرية حد أن المثقف بوسعه أن يتكلم عن كل شيء ماعدا الكرامة الإنسانية؟ لقد سمَّمَت الإيماغولوجيا (سيادة الصورة المؤدلجة) بتعبير "ميلان كونديرا" علاقتنا مع الحياة، بشكل لا يطاق وبدل أن ننتبه للقضايا الحقيقية من حيث هي قضايانا الصغرى بالأساس صرنا مهووسين بالقضايا الكبرى التي يمقتها سعيد، لأنها على حد تعبيره "بنج العقل الفردي" (ص. 106) بل أكثر من ذلك فهي "تجعله مشدودا كحبل غسيل يعزف عليه الهواء لحن "الهولوكوست "العربي الإسلامي" (ص. 106). إن الرجل والحالة هاته، لا يستجدي الفلاسفة أن يشرحوا له معنى الحياة قبل أن يحياها، لأنه من طبعه أن يعيش الحياة أولا ثم يفكر بالتالي في تجاربه؛ "لقد حاولت يقول أن أكون كاتبا بلا قيود، بلا اعتداد تنظيري، بلا إرهاب معرفي، بلا برامج سابقة عن فعل الكتابة ذاته. لم أكن أهتم بما يتحرك داخل النظريات والإسنادات العلمية، بل بما ظل يعصف داخلي لأنني أشعر دائما بأنني رأس بألف مزاج وقلب بألف ثقب" (ص. 53) بهذه النبرة القوية الدلالة ذات النفحة الفلسفية التراجيدية، يتبدى أن هذا الرجل تثويه نفس أبية، لا هم لها سوى شحن الذات بفكرة الجمال على نحو بودليري، وتلبية رغباتها بجرعات أبيقورية. تبعا لذلك، لا يسعني إلا أن أشاطركم متعة قراءتي لهذا العمل الذي أعتبره شخصيا إضافة نوعية للحقل الفلسفي المغربي، لأن سعيد عبَّر فيه بما لا يدع مجالا للشك عن تصورات فلسفية دون أن يدعي أنه فيلسوف. لكن لا غرابة في هذا الأمر، مادام أن الفلسفة عندما يتعاطاها غير الفلاسفة غالبا ما تكون أقوى وأمتع من فلسفة الفلاسفة أنفسهم. لكن إذا كان الفلاسفة الحقيقيون بتعبير دولوز هم أولئك الذين "ما فتئوا يشكلون جزءا من تاريخ الفلسفة، بالرغم من أنهم ينفلتون منه سواء بشكل جزئي أو كلي"، فهل بوسعهم أن ينفلتوا من تاريخ الفلسفة دون أن يكونوا ضده؟ أبدا مادام أننا دائما بحاجة إلى تاريخ مضاد، وكتابة مضادة. وهذا ما سبق لنتشه أن بينه في ما وراء الخير والشر، حيث أكد أن "الفيلسوف باعتباره الرجل الذي سنحتاجه في الغد وما بعد الغد، هو في كل لحظة في تعارض مع راهنه وهو مضطر لأن يتعارض معه من حيث هو كذلك: طالما أن عدوه الوحيد في كل مرة، إنما هو المثال الأعلى المُمجَّد في عصره"[5].على هذا النحو فحسب، تَمكنَت الفلسفة من استعادة طابعها التمردي مع نتشه، حيث إنه من خلال زارادشت الفيلسوف عارض كل أولئك الذين سماهم بكبار النقاد les grands critiques في كتابه ما وراء الخير والشر، رافضا أن ينعتهم بالفلاسفة. كان هَمُّ نتشه بالمناسبة إنما هو تمزيق قناع الموضوعية والادعاء النقدي الذي ألصقه كانط بالفلسفة موضحا على أن الفيلسوف الحقيقي هو من يُشرِّع ويُقرِّر، مادام أن المعرفة بالنسبة إليه إبداع، والإبداع تخفيف. فالفيلسوف عند نتشه هو من يخلق القيم الجديدة جراء ما يحدوه من إرادة القوة لا إرادة الحقيقة. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لنتشه، فأن تكتب ضد الجميع بنظر منتسب هو ما يعني أن "تكتب ضد الأحلام الشائعة، وأن تستدعي الأكفان والنعوش لتدفن البشرية كلها دفعة واحدة وأن تتحول إلى بكتيريا قذرة تكتسح كل الخلايا الحية التي تعترض طريقها وأن تكون سكينا حادة عوض أن تطمئن للحم الغفير القابل للتعفن" (ص. 3) إن الكتابة والحالة هاته ليست أسلوبا متميزا لمقاومة الرداءة فحسب بل هي أيضا نهج خاص لتحرير الحياة من أسر الطغاة والظلاميين والغوغاء والناطحة والمتردية. لكن خلف الكتابة، ثمة شروطا وسياقات لا محيد لنا من استحضارها مادام أن حقيقة فكرما لا تكمن في الفكر بحد ذاته بل فيما يجعلها ممكنة الحدوث كحقيقة خارج الفكر ويضفي عليها دلالتها الخاصة. فالفكرة لا تنزل علينا بغثة من السماء كجواب عن إشكال مثالي بل هي حل ملموس لقضية وجودية واقعية. وكل تصور كيفما كان فهو في آخر المطاف حصيلة فوران ذات ونتاج حياة جسد. لذلك ربما ظل روجي لابورت رافضا أن تبقى الكتابة مجرد فعل تابع للحياة، معتبرا إياها ضرورة ولزوما لأنها بالضبط كتابة حياة أو "بيوغرافيا" بالأحرى؛ لكن لماذا قرر يوم 24 فبراير من عام 1982 التوقف فجأة عن الكتابة ووضع حد نهائي لمشروعه الإبداعي؟ أليس يرجع ذلك إلى كونه كما قال عنه فيليب لاكو-لابارت مُستلْهِما وَصْف مالارمي لرامبو "قد أجرى عملية جراحية خلَّصْته من الأدب وهو حي"[6]؟ الحق أن هذا التوقف الذي جاء نتيجة استنفاذه لكل زاده الروحي وما نال منه من عياء، تَوقُّفٌ كان يستشعره قبل أن ينتهي من كتابه بعنوان "مورياندو" (لفظة تعني أنّ الشخص قيد الاحتضار ولم يمُت بَعد)، فصار يكتب ضد ما قد يقَع وما قد يحصُل احتمالا، بَعْدَ هذا الكتاب باعتباره كتابه الوحيد والأخير. أمام هذا التناقض الذي ينخُر ذات الكاتب ويجعله فاقدا للقدرة على الكتابة دون فقدانه للرغبة في الكتابة، نجد أنفسنا بين تصورين اثنين. الأول لموريس بلانشو، يُقِرُّ فيه مُعلِّقا على موقف "لابورت"، بأن الكتابة بطبعها منذورة للموت حتى ولئن بقي الكاتب حيا لا يَكْتُب؛ "إن الكتابة على حد قوله، تَنْكتِب وهي تَمُوت بينما يظل الكاتب الذي لمْ يَعُد يَكتُب قَطّ، حيا"[7]؛ أما الثاني فيعود فيه الفضل إلى سعيد منتسب الذي يشرط انطفاء الرغبة في الكتابة بتفوق اليأس أحيانا على الاحتجاج مؤكدا خلافا لـ"بلانشو" على أن الرغبة في الكتابة "لا تموت إذا كان الكاتب يسرق منها وجوده" (ص. 50). فهي بنظره رهينة إرادة لا تأفل إلا بأفول عزم صاحبها المضاد باستمرار ليس للجميع فحسب بل أيضا وأساسا لارتكاسات الذات.


[1] قراءة في كتاب: ضد الجميع، طرائد نصية، لسعيد منتسب، منشورات سيليكي أخوين طنجة، الطبعة الأولى- يوليوز 2016

[2] Roland Barthes, le degré zéro de l’écriture, suivi de nouveaux essais critiques ,P.35,éd. électronique, voire le lien suivant: https://www.sendspace.com/file/w87rrt

[3] Jean-Paul Sartre, L’existentialisme est un humanisme, éd. Gallimard,1996 ,P.31

[4] كل الإحالات الواردة في النص على هذا النحو، هي من كتاب، ضد الجميع، السالف الذكر.

[5] Nietzsche,le gai savoir ;Par- Delà Bien et Mal,Trad.Patrick Wotling,Flammarion,Paris,2008,P.637

[6] Roger Laporte,Lettre à personne,Librairie Plon,1989,P.11

[7] Idem,P.95