الكلام في التّوحيد: جذور المسألة وروافدها وتطوّر الجدل فيها بين أهمّ الفرق الإسلاميّة إلى القرن الخامس الهجري


فئة :  قراءات في كتب

الكلام في التّوحيد: جذور المسألة وروافدها وتطوّر الجدل فيها بين أهمّ الفرق الإسلاميّة إلى القرن الخامس الهجري

الكلام في التّوحيد: جذور المسألة وروافدها وتطوّر الجدل فيها بين أهمّ الفرق الإسلاميّة إلى القرن الخامس الهجري([1])

قراءة تاريخيّة لمفهوم التوحيد الإسلاميّ 


"كيف نفهم الظّاهرة الدّينيّة، وليست لنا معرفة بمعتقداتنا؟ ثمّ إنَّنا لسنا كذلك في العلم؛ لا في العلم الواقع الرّاهن، ولا في العلم التّاريخي وتشعّباته. فنحن نعرف على الصّعيد التّاريخي أهمّ الفرق، ومعرفتنا تلك معرفة عامَّة. فالظّاهرة الفِرَقيّة ظاهرة متشعّبة جدّاً. فالواحد منَّا يحتاج أنْ يكون ملمَّاً بها، والمطلوب من الباحثين اليوم بذل الجهد في هذا الاتّجاه."[2] الحبيب عيّاد

اضطلع علم الكلام بأدوار مهمَّة في المستوى الاجتماعي والسياسي، ويعود ذلك إلى طبيعة المباحث الكلاميَّة وآليات اشتغال الأنساق الكلاميَّة. فبعد "أنْ عُومل الكلام من قبل الدولة العباسيَّة [معاملة الزندقة سرعان ما تبيّن] الفرق بين الكلام والزندقة [...] لا سَّيما بعد أنْ تأكّدت السلطة من فائدة الكلام في مواجهة الانحرافات والتهديدات الفكريَّة" (محمَّد بوهلال، إسلام المتكلمين، دار الطليعة بيروت، ط1، 2006، ص92).

وبالرغم من أنَّه لم يقع اتفاق بين علماء الدّين على اعتبار علم الكلام من العلوم الشرعيَّة، (L. Gardet, ˁIlm al-Kalam, EI2 , III, PP1170-1179) فإنَّ علم الكلام بما هو تفكير عقليّ في المعتقدات الدينيَّة جعل السلطة السياسيَّة تعمل على استعمال مقالات المتكلّمين لكسب المؤيّدين والأنصار، ولعلّ الاهتمام بـ"قضايا التوحيد" أهمّ مجالات تداخل الحقل السياسي والحقل الكلامي.

وقد خصَّص الباحث التونسي "الحبيب عيّاد" لتناول مسألة التوحيد في الأنساق الكلاميَّة الإسلاميَّة القديمة كتاباً وسمه بـ"الكلام في التّوحيد: جذور المسألة وروافدها وتطوُّر الجدل فيها بين أهمّ الفرق الإسلاميَّة إلى القرن الخامس الهجري".

وقد صدر الكتاب عن دار المدار الإسلامي ببيروت، لبنان في طبعة أولى سنة تسع وألفين، والكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه أعدَّها الباحث بإشراف الأستاذ الدكتور عبد المجيد الشرفي، وقد ناقش البحث في حرم الجامعة التونسيَّة سنة 1999.

تألّف الكتاب من ستمئة وأربعين صفحة توزّعت على النحو الآتي:

المقدّمة

المدخل: في المفهوم والأعلام والمدوّنة

القسم الأوّل: مقاربات تاريخيّة ومقارنيّة لمسألة التوحيد

الباب الأول: التوحيد في التاريخ

الباب الثاني: الآفاق الذهنيّة والروافد الثقافيّة

الباب الثالث: رؤية مقارنية لمسائل التوحيد الأساسيَّة

الباب الرابع: الصفات العقليّة

الباب الخامس: قضيّتان سمعيتان: رؤية الله/ الفوقيَّة

القسم الثاني: قضايا التوحيد

الباب الأوّل: مقدّمات التوحيد

الباب الثّاني: الأدلّة على وجود الله

الباب الثالث: مسألة الذات والصفات

الخاتمة العامة

قائمة المصادر والمراجع

الفهارس (فهرس الآيات القرآنيَّة، الأحاديث، الفرق، الأعلام، المصطلحات)

فهرس المحتويات

انطلق الباحث في تناوله لقضايا التوحيد من تصوُّر واضح مؤدّاه أنَّ التوحيد قضيَّة جدليَّة بين أتباع الأديان الموسومة بالتوحيديَّة من ناحية، وبين أتباع الدّين أو المذهب الواحد من ناحية أخرى. وفي ثنايا البحث أكّد الحبيب عيّاد أنَّ التباعد والاختلاف لم يقتصر على الأديان أو أتباع الدّين الواحد، وإنَّما شمل أيضاً أتباع الفرقة الواحدة، منزّلاً المسألة في سياق الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي المؤثّر في الأنساق الكلاميَّة.

وقد حرص المؤلّف على التمهيد للمسألة بالتعريج على أهمّ النظريَّات والدراسات والاتجاهات المعاصرة التي تناولت بالبحث مسألة التوحيد، وقد أولى الباحث اهتمامه بالاتجاه التطوُّري والاتجاه الإيديولوجي والاتجاه الفينمولوجي والاتجاه النفسي التحليلي والاتجاه البنيوي. وقدَّم في شأن تلك الاتجاهات ملاحظات مهمَّة أكّد من خلالها أنَّ دراسة الظواهر الدينيَّة قليلة النفع إذا لم نستوعب أنَّها شديدة الاتصال بالعوامل النفسيَّة والاجتماعيَّة والموضوعيَّة.

وقد ثمَّن المؤلّف في مواضع عديدة من البحث نظريَّة مارسيل ڤوشيه (1946م- ...) Marcel Gauchet التي تجلّت بالأساس في كتابه "انفكاك القداسة عن العالم، التّاريخ السّياسي للدّين" Le désenchantement du monde, une histoire politique de la religion الذي سعى من خلاله إلى تنزيل الدّين في صلب التاريخ، وذلك باعتبار التوحيد ظاهرة تعمل على تحرير الإنسان من النظام الديني البدائيّ، وقد تزامن ذلك مع نشأة الدولة، أي انتصار منطق الهيمنة Domination.

وهو ما عُدَّ تجاوزاً للقراءات الكلاسيكيَّة التي تسعى إلى الربط آليَّاً بين تطوُّر الظاهرة الدينيَّة وتطوُّر البنى الاجتماعيَّة، مؤكّداً أنَّ "الدّين في صيغته الأكثر تناسقاً وتكاملاً هو الدّين الذي ساد المجتمعات البدائيَّة قبل ظهور الدولة" (الحبيب عيّاد، الكلام في التوحيد، ص 61).

وعمد عيّاد إلى اختبار تلك القراءة في ظلّ الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة، وذلك بالبحث في آثار التوحيد في الجاهليَّة. فالنصّ القرآني لم ينطق باسم إله جديد، وإنَّما باسم إله معروف عند العرب قبل نزول الوحي على محمَّد، على أنَّ القرآن جاء بتصوُّر جديد للألوهيَّة هدف من خلاله إلى تحويل البنية السياسيَّة والاجتماعيَّة والذهنيَّة السائدة، وهو أمر من شأنه أنْ يثبت أنَّ علاقة الدّين بالسياسة والمجتمع علاقة وطيدة من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ كلّ دين من الأديان التوحيديَّة/ الكتابيَّة أو غيرها من الأديان يسعى إلى الانغلاق، ذلك أنَّ اعتقاد الأديان -أتباعها في أغلب الأحيان- بوَحدة الحقيقة جعلها ترفض كلَّ من يقدّم تصوُّراً مغايراً للحقيقة الدينيَّة. وذلك ما أدَّى إلى وضع ثوابت وقواعد واضحة هي بمنزلة الأصول التي لا مناص من الامتثال لها. فكلُّ من يخرج عنها، فإنَّما خرج من التوحيد والطريق القويم.

لقد سُنّت قوانين الإيمان وأسسه في اليهوديّة (ابن ميمون)، والمسيحيَّة (مجمع نيقيّة الأوّل Nicée325 م)، وذلك بجعل التوحيد يتّخذ دلالات عديدة في ما بين الأديان وداخل الدّين الواحد وداخل الفرقة الواحدة أيضاً.

وانطلاقاً من تلك القراءة استمدَّ الحبيب عيّاد مشروعيَّة معالجة قضايا التوحيد إبستمولوجيَّاً وتاريخيَّاً محاولاً بناء قراءة نقديَّة تأليفيَّة. وبقدر ما نظر في جذور المسألة وامتداداتها ونتائجها اهتمَّ الباحث بالتطوُّرات التي عرفتها المسألة في الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة، وذلك بالوقوف على روافد المسألة ومواقف أهمّ الفرق الإسلاميَّة أوَّلاً، وبالنّظر في أهمّ التحوُّلات التي عرفها النظر الكلامي في قضايا التوحيد ثانياً، واصلاً تلك الإشكاليَّات بالأبعاد الاجتماعيَّة والسياسيَّة للمسألة. وبهذا المعنى فإنَّ الكلام في التوحيد لم يكن أصل الظاهرة الدينيَّة بقدر ما كان نتيجة تفاعل عوامل اجتماعيَّة وسياسيَّة. ولإثبات ذلك لم يكتفِ الباحث بالعودة إلى النصوص الكلاميَّة الكلاسيكيَّة[3]، وإنَّما وسَّع دائرة البحث، فنظر في نصوص المتكلّمين الأوائل ساعياً بذلك رسم صورة دقيقة للأنساق الكلاميَّة وما عرفته من تطوُّر في مستوى الرؤية والروافد وآليَّات التفكير، وذلك ما جعل البحث يمتدّ زمنيَّاً على خمسة قرون (القرون الخمسة الأولى من نشأة الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة)، وقد أتاح له هذا الاختيار رصد الظروف الحافَّة بميلاد قضايا التوحيد من ناحية، وتبيّن ما شهده البحث في التوحيد من تطوُّرات داخل المذهب أو الفرقة الواحدة من ناحية أخرى، ذلك أنَّ القرن الخامس قد عرف "استقرار أنساق التوحيد الأساسيَّة في هذه الفترة، نظراً إلى اختلاط مسائل الكلام بمسائل الفلسفة في ما بعد هذا التاريخ" (الحبيب عيّاد، الكلام في التوحيد، ص 13).

وفي القسم الأوَّل من الكتاب والموسوم بـ"مقاربات تاريخيَّة ومقارنيَّة لمسألة التوحيد"، أدرج الباحث التوحيد في التاريخ ووضع الآفاق الذهنيَّة للمتكلمين والروافد الثقافيَّة التي كيَّفت علم الكلام، وذلك من خلال دراسة الله وصفاته، وما لفّ بهذه المسألة من مقدّمات وأدلّة على وجود الله والذات الإلهيَّة وصفاتها، وقد قطع الحبيب عيّاد أشواطاً مهمَّة في تبيُّن الأثر العميق للعوامل التاريخيَّة، وما يتطلبه ذلك الوعي من ضرورة مراجعة المسلّمات التي أنتجها الخطاب الكلامي الكلاسيكي. وقد اختار الباحث للنظر في قضايا التوحيد النظر في مواقف أهمّ الفرق التي أسهمت في دفع علم الكلام في التوحيد (الأشعريَّة، المعتزلة، الإسماعيليَّة، ...)، وارتأى الوقوف على أبرز المدوّنات في كلّ فرقة من تلك الفرق[4].

ويكتسي علم الكلام أهميَّة في العلوم الإسلاميَّة الكلاسيكيَّة بالنظر إلى طبيعة التفكير العقلي الكلامي في قضايا الإيمان ومستويات الدين وطرق دراسة الظاهرة الدينيَّة بصورة عامَّة. وقد تفطّن الحبيب عيّاد إلى الدور الذي لعبته ظاهرة التثاقف في نحت مبادئ التوحيد عند الفرق الإسلاميَّة والأنساق التي شكّلتها. وخصّ الباحث روافد المتكلمين بالفصل الثاني الموسوم بـ"الروافد الثقافيَّة"، وفيه بيَّن انفتاح المسلمين على الحضارات والثقافات المجاورة منذ فترة مبكّرة، لا سيَّما في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري أي قبل العصر العباسي الأوَّل. فالحضور الواضح للخطاب الفلسفي والخطاب الديني العرفاني الثنوي في متون النصوص الكلاميَّة جليّ لا تنكره عين الناظر. وفي ما يخصُّ هذه المسألة لاحظ الباحث أنَّ معرفة المتكلّمين المسلمين بتلك المصادر لم تكن دقيقة في أغلب الأحيان، ومن أهمّ الروافد الفلسفيَّة التي استند إليها المتكلّمون المسلمون في صياغة رؤاهم ومواقفهم الأفلاطونيَّة المحدثة (الإسماعيليَّة/ حميد الكرماني، ...)، وآثار ذلك واضحة في تناول المسلمين لمسألة الفيض Emanation ودور هذه النظريَّة في إقرار مبدأ التنزيه. وهذا بالإضافة إلى التصوُّر الذّرّي اليوناني والتصوُّر الأرسطي (لا سيَّما مع المعتزلة والأشعريَّة)، وذلك أثناء تناول جملة من القضايا أهمُّها انقسام الموجودات إلى جواهر وعوارض ...، وبيَّن عيّاد أنَّ المتكلمين عمدوا إلى استخدام تلك النظريَّات بطرق مختلفة، وذلك بما يخدم أغراضهم المذهبيَّة والسياسيَّة.

وما يلفت الانتباه -حسب رأي الحبيب عيّاد- أنَّ معرفة المسلمين بتلك المرجعيَّات شابها في بعض الأحيان الخلط وغياب الدقة، لا سيَّما الأثر الثنوي المانوي من جهة، ومن جهة أخرى لاحظ أنَّ تلك الروافد لم تحضر في متون الكلاميين بالمستوى نفسه، من ذلك أنَّ المعتزلة رفضوا المانويَّة، في حين وجدت المانويَّة صدى واضحاً في التفكير الشيعي، لا سيَّما عند الغلاة منهم (البيانيَّة، المغيريَّة، ...) الذين أقرُّوا بحلول الذات الإلهيَّة في أشخاص الأئمة (تأليه الأئمة ...)، وهو ما أدَّى إلى ظهور البُعد الباطني في المدوّنات الكلاميَّة الشيعيَّة، والكرماني خير دليل على ذلك.

إنَّ تقليب الباحث النظر في الرّوافد انتهى به إلى القول إنَّ ثمَّة روافد أخرى موَّلت التنظيرات الإسلاميَّة للتوحيد (اللّاهوت المسيحي، الإسرائيليَّات، الرّواقيَّة، ...)، وهو بذلك يشير إلى أنَّ الإلمام بمختلف الرّوافد مسألة في غاية التعقيد من ناحية، ومن ناحية أخرى تنطوي هذه القراءة على إقرار بأنَّ الفكر الكلامي الإسلاميّ كان في مجمله خطاباً منفتحاً على الثقافات المجاورة ساعياً إلى استثمار نظريّاتها، وذلك بعد إعطائها بُعداً إسلاميَّاً. وذلك ما جعل الفرق الإسلاميَّة تستدعي حسب طبيعتها مرجعيَّات دون أخرى. أمَّا في الباب الثالث، فقد دار البحث على مسائل التوحيد والأدلّة التي اعتمدها المتكلّمون في إثبات وجود الله وطبيعة الوجود الإلهي.

لاحظ المؤلّف أنَّ الأنساق الكلاميَّة قد سلكت في تصوُّرها للذات الإلهيَّة اتّجاهين متباعدين، وهما: "اتجاه ينحو إلى التنزيه والتقديس، وآخر ينحو إلى التصوير والتمثيل" (الحبيب عيّاد، الكلام في التوحيد، ص 179).

وبهذا المعنى فإنَّ القراءة المقارنة تكشف عن وجود وجوه اشتراك عديدة بين مجموعة من الفرق والأنساق الإسلاميَّة، لا سيَّما فيما يتعلّق بمسألتي وجود الله وصفات الله، وذلك بالنظر إلى انطلاق أغلب الأنساق الإسلاميَّة من رؤية إسلاميَّة واحدة ترتكز على القرآن في أغلب الأحيان.

وخصَّص المؤلّف الباب الرابع من الكتاب للوقوف على دلالات المفاهيم والمصطلحات التي دار عليها البحث الكلامي، ومن أهمّ المصطلحات التي عرَّج عليها الباحث: الشيء، والقديم، والمحدث، والجوهر ...، وهي مفاهيم خضعت في تقدير الباحث "في أغلب الأحيان إلى أحكام معياريَّة لا تعكس إلّا تمثّل أصحابها للكون، دون أن تكون معبّرة عن حقائق علميَّة قادرة على فهم الواقع وتفسيره تفسيراً ملائماً ناجعاً" (الحبيب عيّاد، الكلام في التوحيد، ص 227). وهي أيضاً مفاهيم تكشف عن ضرورة إحاطة الباحث في مقالات المتكلمين بالمرجعيَّات المؤسّسة لتلك المفاهيم ونظريَّات المعرفة التي انبنت عليها المقالات الكلاميَّة. وهو ما يتجلّى في قضايا عديدة اتصل بعضها بوجود الله. وقد انقسمت الأدلة على وجود الله عند المتكلمين إلى قسمين، وذلك بالنظر إلى توزُّع المسالك المعتمدة في الاستدلال: بين مسلك عقلي، وآخر قائم على الخبر والسماع؛ وذلك ما أدَّى إلى خروج تصوُّرات المتكلمين لوجود الله عن التصوُّر الذي أسَّسه الوحي الإسلامي. فالأدلّة المعتمدة في إثبات وجود الله لا سيَّما دليل الطبيعة، ودليل الحدوث، ودليل التضاد بين الأشياء، ودليل العلّيَّة...، أدلّة متنوّعة تكشف عن التطوُّر الذي عرفه الفكر الإسلامي في معالجة قضايا التوحيد من ناحية، ومن ناحية أخرى تبيّن أنَّ ثمَّة مسافة فاصلة بين الرؤية القرآنيَّة والتنظيرات الكلاميَّة. وقد عمَّق الباحث هذا الطرح عند تناوله لقضايا الذّات والصفات.

إنَّ أطروحات المتكلمين في ما يخصُّ الذات الإلهيَّة وصفاتها قامت على مبدأين متداخلين: دحض آراء الخصوم، وذلك باعتماد قياس الغائب على الشاهد، وقد استخلص من ذلك المؤلّف "عدم وضوح رؤية المتكلمين في ما يتَّصل بالإنسان ومنزلته في المعرفة" (الحبيب عيّاد، الكلام في التوحيد، ص 347).

إنَّ صفات الله لها خصائص عديدة، وهي تتوزَّع على صنفين وهما: صفات الذات وصفات الأفعال، وما يميز الأولى (صفات الذات) أنَّها لا تحيل على الصفة ونقيضها (العلم/ الجهل، ...). أمَّا الثانية (صفات الأفعال)، فيمكن أنْ يُوصف الله بها وبضدّها (الحبّ/ البغض، الأمر/ النهي، ..).

وقد وزَّع عبد القاهر البغدادي (ت 429 هـ) المشبّهة على صنفين: صنف اقتصر التشبيه عند أصحابه على الذات، وصنف آخر اقتصر التشبيه عنده على الصفات، فمشبّهة "الذات" كالكراميَّة وأتباع هشام بن الحكم جعلوا من الذات الإلهيَّة ذاتاً لا تختلف عن الذات البشريَّة سوى في المقاييس والأحجام، أمَّا مشبّهة "الصفات"، فقد جعلوا من إرادة الله وكلامه حادثين، وفي مقدّمة القائلين بذلك الروافض (المعتزلة) الذين قالوا: "إنَّ الله تعالى لا يعلم الشيء حتى يكون، فأوجبوا حدوث علمه." (البغدادي، الفرقُ بين الفرق، دار الكتب العلميَّة، بيروت لبنان، ط 2، 2005، ص 173).

ومن هنا تتأتى صعوبة دراسة الصفات الإلهيَّة، باعتبار الصفة هي الذات عينها، وبأنَّ العجز عن الإلمام بماهيَّة تلك الصفات يؤدّي بالضرورة إلى الوقوع في التشبيه والتجسيم أو التعطيل، فإذا بالتعريف السائد لله بما "هو هو" ملجأ كلّ من يروم البحث في الذات الإلهيَّة انطلاقاً من صفاته وأفعاله.

لقد اختلفت مسالك المتكلّمين في الاستدلال على صفات الله وأفعاله. وقد نبَّه الحبيب عياد إلى ضرورة الوعي بأنَّ جميع الصفات كانت تدور في فلك "خلق العالم من عدم"، لا سيَّما ما اتصل بالعلم الإلهي. وقد انتهى في هذا المجال إلى أنَّ محاولات تنزيه الله في الجهة المقابلة للتجسيم قد أوقعت المعتزلة وأغلب الفرق الكلاميَّة في مطبَّات ومآزق عديدة؛ منها أنَّ إثبات أنَّ الله حيّ وجعل الإدراك شرطاً من شروط الحياة قد أدَّى إلى التشبيه والتجسيد وإثبات صفات الإنسان لله، على أنَّ أهمّ المآزق التي وجد الخطاب النسقي نفسه قد وقع فيها تتمثّل في عجز المتكلّمين عن الإجابة عن سؤال مهمّ، وهو: هل الله مدرك للّذة والألم؟

فأنْ نثبت لله صفات الإنسان بطريقة من الطرق (طريقة مجازيَّة، ...) من شأنه أنْ يوحي بأنَّ الله يعتريه ما يعتري الإنسان من مشاعر وأحاسيس، ذلك أنَّ تلك الأحاسيس هي أهمُّ مميّزات الحياة. وبهذا المعنى أيضا نقول: إنَّ البحث في إرادة الله لم يخلُ من إشكاليَّات قادرة على نسف مبدأ التوحيد، ومنها نسبة الشرّ إلى الله.

وفي هذا السياق لاحظ الباحث أنَّ محاولات بناء الأنساق الكلاميَّة لم تقدّم إجابات واضحة حول تلك القضايا والإشكاليَّات بقدر ما أدَّت إلى توسعة رقعة الاختلافات بين الفرق الكلاميَّة، ذلك أنَّ الحلول التي قدَّمها المتكلمون زادتهم ارتباكاً وحيرة. ولعلَّ "رؤية الله" (الباب الخامس: رؤية الله) من أكثر القضايا تعبيراً عن ذلك الارتباك، فالقول برؤية الله أو عدمها استند عند أغلب المتكلّمين إلى أحاديث ومعتقدات راسخة ومسلّمات تعتبر الآخرة موقفاً (يوماً) لا يختلف عمَّا يُعاينه الناس في عالم الدنيا.

إنَّ الإقرار برؤية الله كان الدافع إلى القول بهذه القراءة، وذلك موافقة للواقع الاجتماعي ومجاراة لمعتقدات العامَّة، ولإثبات رؤية الله في الآخرة انتقى المتكلّم نصوصاً مخصوصة من القرآن وغضَّ النظر عن آيات أخرى عديدة ينفي ظاهرها رؤية الله. وقد طوَّع المتكلّم النصَّ لمعتقداته ومنطلقاته المذهبيَّة ولسلطة الواقع الثقافي والاجتماعي. وللمسألة أبعاد أخرى منها ما اتصل بسعي الرؤية الإسلاميَّة إلى تكريس مفاهيم قرآنيَّة هي في حدّ ذاتها امتداد لما ساد بين العرب والأمم والثقافات التي احتكوا بها، وخير مثال على ذلك القول إنَّ الله في السماء. وأمَّا نفاة الفوقيّة، وعلى وجه الخصوص المعتزلة، فإنَّهم استندوا إلى أسس عقليَّة في بناء تصوُّر مغاير للذّات الإلهيَّة.

فالمعتزلة نفوا رؤية الله ـ عزَّ وجلَّ ـ على أساس أنَّ الرؤية لا تجوز إلّا على الأجسام المُتحيّزة في المكان والقائمة من جهة، ومن جهة أخرى وعى المعتزلة أنَّ القول بحدوث العلم الإلهي من شأنه أنْ يجعل الإنسان المسؤول الوحيد عن أفعاله. على أنَّ ذلك جعل الذّات الإلهيَّة عندهم ذات علم طارئ متغيّر بتغيّر الظروف، مخالفين بذلك أغلب المسلمين القائلين بتنزيه الذّات الإلهيَّة.

*****

إنَّ ما ميّز مقاربة الحبيب عيّاد لقضايا "الكلام في التوحيد" حرصه على التعريف بأعلام الفرق الكلاميَّة ومدوّناتهم بغاية وضع قراءة وصفيَّة شاملة وموضوعيَّة ودقيقة ومبسّطة، تأخذ بأهمّ أبعاد المسألة باعتماد المقارنة، وذلك بحثاً عن مختلف وجوه الائتلاف والاختلاف فهماً للموروث الكلامي الإسلامي، وذلك بالنظر في الجذور والروافد وأهمّ الأطروحات.

إنَّ فكرة التّوحيد، وإنْ كانت واحدة في الأنساق الكلاميَّة وذلك بالاعتقاد في وجود إله واحد، فإنَّ هذا الاعتقاد ما انفكَّ يتطوَّر داخل الدين الواحد أو الفرقة الواحدة، ذلك أنَّه وقع تمثّل تلك الفكرة بطرق مختلفة نهضت على تأويلات مخصوصة ساهمت عوامل اجتماعيَّة وثقافيَّة وفكريَّة ومذهبيَّة في صياغتها وتجديدها.

وفي ما يخصُّ هذه المسألة يبدو أنَّ رهان الباحث كان رهاناً معرفيَّاً بالأساس، حاول من خلاله فهم الأشياء كما هي. وقد عبَّر الباحث عن ذلك في مواضع عديدة، لعلَّ أهمَّها اتّخاذه المسافة نفسها من مختلف الأنساق والفرق، إذ لم يكن المؤلّف معنيَّاً بالانتصار إلى نسق دون آخر. يضاف إلى ذلك ما في الكتاب من دعوة واضحة إلى ضرورة قراءة التراث الفكري والدّيني قراءة نقديَّة تاريخيَّة موضوعيَّة. فالفكر الإسلامي المعاصر لا سيَّما المتشدّد دائم الالتفات إلى الوراء قصد استعادة الأصل الصافي، بينما لا أصل صافياً في المنتج الثقافي، بما في ذلك في المنتج المتكوّن حول النصّ الدينيّ.

إنَّ الانفتاح على الموروث الثقافي للآخرين والاستفادة منه في معالجة القضايا الغيبيَّة، سرعان ما انقلب انغلاقاً يوم بات الالتزام بمبادئ الفرقة مطلباً من مطالب الاعتراف بالإيمان الصحيح. فإذا بعلم الكلام لم يعد معرفة عقليَّة في قضايا الدّين بقدر ما أصبح معرفة تلقينيَّة من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ الأنساق الكلاميَّة بمعالجتها لقضايا التوحيد رامت مأسسة الدّين وإلغاء البُعد الذّاتي الذي يجعل من الإيمان بالإله الواحد ونسبة جملة من الصفات والأفعال إليه مسألة موصولة بالمؤمن ووجدانه قبل كلّ شيء.

ولعلَّ من أهمّ ما توصَّل إليه الحبيب عيّاد في هذا المجال أنَّ معالجات الأنساق الكلاميَّة لقضايا التوحيد تأثّرت بملابسات الواقع الفكري والثقافي المعيش، وهو ما يجعل منها قراءات شديدة التعقيد مقارنة بما نادى به النّصّ القرآني، وتعقيدها تابع للتعقيد الذي في الإنسان وفي كلّ ظواهره.


[1]- نشر في الملف البحثي "التوحيـد بين الأصل الإسلامي والتأويل الجهادي: الأعلام والنُّصوص" بتاريخ 22 فبراير 2018، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، إشراف بسام الجمل، تقديم أنس الطريقي.

[2]ـ ورد هذا القول في حوار ينشر قريباً في العدد الحادي والسبعين من مجلة الدراسات الجامعيَّة، شيكاغو، الولايات المتحدة الأمريكيَّة.

[3]ـ بدأ الجدل في الكلام في تقدير الباحث إثر الفتنة الكبرى (مرتكب الكبيرة، القدر، ...)، أي النصف الأوَّل من القرن الأوَّل.

[4]- مقالات الإسلاميين للأشعري، شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبَّار، التمهيد لأبي بكر الباقلاني، راحة العقل لحميد الدين الكرماني، الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد للشيخ الطوسي.