اللامنتمي والإشْكَال الوجودي


فئة :  قراءات في كتب

اللامنتمي والإشْكَال الوجودي

بداية الشهر الربيعي الأول (شهر نيسان)، وضمن أجواءٍ حميمة مُفعمة بدفقةٍ عقلية، التأمَ ملتقى شرفات الثقافي (مقره في مدينة إربد الأردنية) في جلسته الثقافية النقدية الأسبوعية، وناقشَ (في مبنى اتحاد المرأة الأردنية/ فرع إربد) بحضور عدد من المحاورين والمهتمين-، كتاب (اللامنتمي: دراسة تحليلية لأمراض البشر النفسية في القرن العشرين) للمفكر الانجليزي "كولن ولسون".

وفي الندوة التي أدارتها القاصة "عُلا العمري" فُتح باب النقاش والتداول برؤيةٍ لمجمل الكتاب الذي أثار عاصفة من النقاشات والتساؤلات –حول مآل هذا المسمَّى الغريب- منذ لحظة صدوره في القرن الماضي، وتأكيد المُؤلِّف لأطروحته (اللامنتمي) في كتب لاحقة، كـَ (ما بعد اللامنتمي) و(سقوط الحضارة). هل اللامنتمي إنسان سوي عقلياً، أم إنه بحاجةٍ إلى الأريكة الفرويدية؛ أريكة التحليل النفسي؟ هل اللامنتمي مُصاب بجنون العظمة، لذا يرى في مجتمعه محض تفاهة صغيرة لا تُلائم طموحاته؟ أم إنه يُعبِّر عن سياقٍ إجمالي لمشكلة الإنسان الحديث، المفصول عن روحانياته نظراً لاندماجه الكبير في الماديات التي وفرتها الحضارة الغربية الحديثة؟. جزء من النقاش دار حول هذه المسائل، وبالتقادم فتحت ملفات (في جلسة ملتقى شرفات حول كتاب اللامنتمي) غامضة وَجَبَ فكّ شفرتها!.

مما جاء في الورقة التقديمية للقاصة "عُلا العمري":

"قدّم كولن ولسون دراسة لعينات من الإنسان الذي يشعر بطريقة تختلف عن كل من حوله، إنها شخصية "اللامنتمي". هذه الشخصية التي أفرزتها أمراض القرن العشرين، التي استدل ودلّ المؤلف على وجودها من خلال آثار كبار الكُتاب. إن اللامنتمي إنسان يقيّم ذاته بأنه متميّزٌ جداً أو وضيعٌ جداً إلى حد البلادة، وإن أسوأ ما يضايقه هو أنه لا يستطيع أن يجد عذراً لبلادته، ويرى أنه يصبح لا منتمياً حينما يبدأ بالتذمر.

اللامنتمي هو إنسان سَلبت منه قوة البشر أو قوة الطبيعة قدرته على الشعور بشيءٍ ما، وبالمقابل منحته قيمة الشعور بعدم قبول الواقع كما هو، مع ظهور شعور بالحاجة إلى تعويض، بهدف أن يجد طريقاً إلى نفسه. أما اللامنتمي باعتبار الآخرين، فهو إنسان عليلٌ ولكنه ليس بمجنون، هو إنسان أكثر حساسيةً من الأشخاص المتفائلين صحيحي العقول. إنه إنسانٌ يسعى في طلب الانتماء والانخراط في العالم المحيط بصورة طبيعية، ولكنه يتراجع حينما يرى أنه قد لا يُسمح له بأن يُثبت ذاته في موضعٍ يمكّنه من تأدية دورٍ خارج عن الرتابة، الدور الذي يرى أن لا أحد غيره يُجيدُه، إنه شخصية قوية وذكية وحيوية في بعدٍ ما، ومن الطبيعي أن تتحول حيويته، حين يعجز عن التعبير عن ذاته، إلى بحث عن مخارج بواسطة التطرّف والشذوذ السلوكي".

هذا وقد بُدئت الجلسة بورقة نقدية للباحث "معاذ بني عامر" حول الكتاب المذكور، أبرز فيها الإطار الفلسفي لـِ مشْكل "لا منتمي" كولن ولسون الوجودي، من حيث إنه إنسان يتجاوز – سيما بما يدور داخل جمجمته - ثقافة القطيع – أياً كانت - ويطمح إلى آفاق تنويرية بِكر يتحرّر فيها من تبعات وجوده الزمكاني. ومما جاء في الورقة التي وُسمت بـِ (شامان القبيلة والعلاج بالصدمة اللاهوتية: اللامنتمي ومشرط الجرّاح الروحي):

"وفي عالَم اللاانتماء – العالَم الذي يرتكن إليه لا منتمي كولن ولسون- تأريخ للفظاعة الوجودية للإنسان المُنْتهَك، المُباح أمام الآلة الشيطانية للحضارة الحديثة، فقد عجزت – في غمرة انغماسها في ملذة الانفصال عن الماوراء- عن إيقاف دفقية الرصاص القاتل، وآن الأوان لللامنتمي –كَحَلٍّ أخير- أن ينتحر، إنْ لم يكن واقعاً، فخيالاً، فالمقولات الوجودية الأساسية تتصادم بشكل عنيف داخل جمجمته.

في كتابه (سقوط الحضارة) وهو امتداد لكتابيه السابقين (اللامنتمي) و(ما بعد اللامنتمي) أفاض "كولن ولسون" (وعياً) بإشكال اللامنتمي بإزاء حضارته الحديثة، و(لا وعياً) بإزاء ممارسته لدور (شامان) القبيلة الجديدة. فسقوط الحضارة (والحضارة هي نتاج إنساني مشترك، وبما أنها فاعلة في سياق غربي فالإنسان الغربي هو المَعْنِي بدءاً) رهن بسقوط الضلع الثالث من أضلاع المثلث الوجودي: (الإنسان/ الغيب/ الطبيعة) وهذا ما وعاه "كولن ولسون" لاستكمال رؤيته الناقصة في كتابه (اللامنتمي)، فقد صرخ في واحدة من نبوءاته الواعية:

"إنَّ اللامنتمي هو الذي عرف يأسه، ودمّره بالإيمان". وفي استنهاض للمشروع اللاانتمائي لإنسان الحضارة الغربية ساق "كولن ولسون" كثيراً من الحجج والشواهد لإثبات أهمية الدين والإيمان الميتافيزيقي، لغاية الحفاظ على السياق الفاعل للحضارة، على اعتبار أن الماوراء جدار قوي جداً تسنده الواقعة الانفجارية للنفس الباطنية عبر اندفاعات وخلجات ورؤى لا يمكن القبض على جمرها آنياً، إنما هي شرارة حريق إلهي كبير داخل النفس الإنسانية".

من جانبه داخل الشاعر " أمين الربيع" بمداخلة، اعتبر فيها أن ثمة تشابهاً بين أطروحة "كولن ولسون" حول (اللامنتمي) وأطروحة (تدبير المتوحد) للفيلسوف الإسلامي "ابن باجة"، مع الاحتفاظ بالأسبقية الزمانية لأطروحة ابن باجة، إضافة إلى احتفاظ أطروحة (ابن باجة) بتقديم مشكلة المتوحد، ومن ثمّ تقديم حلول علاجية لها، متمثلة بالعودة إلى العقل المحض. في حين اكتفت أطروحة كولن ولسون بعرضٍ لإشكال اللامنتمي، بعيداً عن أية آفاق علاجية.

وعلى هامش هذه المداخلة نُوقشت فكرة السؤال الفلسفي بحدّ ذاته، وهل يجب على الفيلسوف أن يكتفي بطرح الأسئلة الإشكالية أم يعد إلى وضع حلول للإشكال المنهجي الذي يتناوله، فيمارسه في ذات الوقت دور الفيلسوف إضافة إلى دور الكاهن الذي يعمد إلى طرح الداء والدواء في الوقت ذاته؟

في حين قدّم الكاتب "نوح كرايمة" ورقة نقدية أبرز فيها طبيعة اللامنتمي في سبرٍ موضعي – اعتماداً على النماذج اللاانتمائية التي قدمها كولن ولسون وأبرزها على طول كتابه وعرضه- لمشكلة اللامنتمي. فـَ "كتاب اللامنتمي –بحسب الكاتب نوح الكرايمة- يُعرّي النفس الإنسانية من زوائدها وشوائبها لتكون كالمرآة نرانا فيها فهو كتاب علم نفس، يزوّد القارئ بأفكارٍ حولَ الوجود والمثالية فهو كتاب فلسفة، يستعرض قصصاً شيقة أبطالها شذوا عن مجتمعهم فهو كتاب أدب". و"اللامنتمي –يضيف نوح الكرايمة- شخص نشيط نفسياً وذهنياً خاملٌ اجتماعياً، فهو منصرف إلى نفسه أشدَّ الانصراف ضائقاً بحياة الناس أشد الضيق، إنه أكثر حساسية من غيره إذ يتحسس أدق النقاط والمناطق في حياة الناس وأحاديثهم ويتوجس منها. اللامنتمي له عالمه الخاص الذي يختلف عن عالم المجتمع، ومن هنا يحدث التصادم بينه وبين هذا المجتمع فهو منتمٍ إلى عالمه لا منتمٍ إلى عالم المجتمع... فهو متورطٌ بالوجود والوجود متورط به، تورط بإدراكه الشديد الذي يحرمه من هدأة الليل وسكون الليل ونشاط الصباح، تورط بتورطه الذي لا يقبل حلولاً وسطى، فإذا فكّر فهو متطرف، وإذا أبدع فهو متطرف، وإذا طلب الحرية طلبها بتطرف فهو لا يؤمن بسقفٍ يظللها إنما هي إباحية مطلقة".

أما القاص "هشام مقدادي" فقد داخل بورقةٍ نقدية (ووسمها بـِ اللامنتمي باحثاً: الجذر التكويني) حفر فيها عميقاً في جذر اللامنتمي، فكولن ولسون قدَّمَ "اللامنتمي كأس متغير الأوجه والمعطيات بتغير الأزمنة والأمكنة إلا أن ثمة سمات تجمعه بمماثليه، فاللامنتمي يعبّر عن كينونة وجوده الإنساني، من خلال سيّال عصبي لا يفتر في رفد جمجمته بتصورات وأسئلة وأفكار وجودية وماورائية تجعله على تماسّ مع ما يظنّ أنه أكثر رسوخاً وثبوتاً مما هو عليه العالم والمحيط والكون بمجمله، فانطلاقه من ناسوتية وجوده لا يردعه عن الشك والتفكر في لاهوتيته، وبطبائعية المكّون الوجودي... إنه يمتح من دلاء حيرته أسئلة وهواجس تجعله في حالة من عدم الاستقرار النفسي مما يشقيه ويجعل من عالمه حقل ألغام قد يُودي به... ومن ثم فهو ينظر إلى الحياة على أنها ابنة الفوضى وتقوم على ميوعة وتخبّط لا ينفكّ يخلق محيطاً أكثر تهتكاً ومجتمعاً أقل رونقاً. الأمر الذي يجعله رافضاً على الدوام لكل إفرازات الحياة".

هذا وقد داخل بعض الحضور حول فكرة اللامنتمي ضمن سياقات إسلامية، وقد أشر البعض على شخصيات مثل "أبي حيّان التوحيدي" و"ابن رشد"، من حيث أنهم جابهوا الوضع السائد لحظتذاك، لذا عُوملوا بما هو مُغاير، ومع هذا استمر حضورهم في العقل الجمعي لغاية الآن.

أما عن الوضع العربي الإسلامي الحالي، لا سيما العربي منه، فقد تم التركيز على الشخصيات – في عموميتها- التي جُوبهت فكرياً واجتماعياً نظراً لطروحاتها المغايرة، فأصبحوا بذلك أشخاصاً لا منتمين، منفصلين بذلك عن السياق الانتمائي لمجتمعاتهم.

وفي مقاربة أخيرة، ومفارقة عنيفة تمَّ التأشير على أن غالبية النماذج الأدبية والفكرية والفنية التي طبَّقَ عليها "كولن ولسون" أطروحته حول اللامنتمي، هي نماذج كُتب لها الخلود والبقاء رغم التقادم الزمني، وكأنّ أفكارهم كانت سابقة لعصرهم، لذا لم تستوعبها مجتمعاتهم. فالشعور الآني باللاانتماء هو شعور تأبيدي لاحق بطريقةٍ أو بأخرى.