المرأة والخطاب الفلسفي


فئة :  مقالات

المرأة والخطاب الفلسفي

المرأة والخطاب الفلسفي

يلخص فلوبير كل شيء في الأسلوب، إذ يقول: "كل شيء يوجد في الأسلوب"، ولا تتلخص المسألة في نص إبداعي أو في كتابة، لأن الأسلوب يؤطر وجود الأشياء في كليتها، إنه نفي لنفي آخر، وفيه تنحت الذات هويتها ومكوناتها المميزة.

ليس سؤال الأسلوب هو موضوع حديثنا هنا، بل نريد أن نقترب من مسألة العلاقة بين الرجل والمرأة في سياق الحديث عن الكتابة والمرأة والحقيقة من زاوية وجودية، يقول جاك ديريدا: "إن سؤال الأسلوب هو، دائمًا، سؤال موضوع ثاقب، يكون ريشة، أحيانًا، كما يكون قلمًا أو خنجرًا. بواسطته يمكن، بالفعل، القيام بهجوم عنيف على ما تنعته الفلسفة باسم المادة أو المأصل؛ لكي يزرع فيها علامة أو يترك أثرًا أو شكلاً، وفي نفس الوقت من أجل إقصاء قوة مهددة وإبعادها وكبتها والاحتراس منها."

ويمثل الأسلوب "مهمازًا" به يمكن الاحتماء من تهديد مُخيف أو إرادة قوة عنيدة، ويتجلى التهديد، بالضبط، في الحضور أو المضمون، وفي المعنى أو الحقيقة. ويبهر الأسلوب ذاته كمهماز في كل حديث عن المرأة في علاقتها بالحِجاب، أو بما يخفي الوجه، أو ما تتستر وراءه الحقيقة، حقيقة المرأة. ويرى ديريدا أن نيتشه لا يخاف الاعتراف باعتقاده أن أثمن ما يكون ذاته يوجد عند النساء، هنا تطرح مسألة الإغراء، ذلك الإغراء العنيف الذي تمارسه المرأة من بعيد، إذ كيف يمكن استساغة تاريخ الفلسفة من أفلاطون إلى هايدغر، باعتباره تاريخًا ذكوريًا بشكل تام، ونساير في الآن نفسه "نيتشه" قوله بأن أهم ما يشكل ذاته يوجد في عالم المرأة؟

تمتلك المرأة قدرة هائلة تتمثل في الإغراء والجذب من بعيد، ويتجلى ذلك في ممارسة هذه القدرة من خلال المسافة، والتعامل مع المسافة التي تنسجها المرأة بإغرائها يقتضي التموضع ضمن مسافة هذه المسافة ذاتها، ليس بهدف الاحتماء من الإغراء النسوي فقط، لأن المسافة تمثل حالات متعددة لخلق الابتعاد الضروري ولتجنب السقوط في إغراء المرأة المنبعث من المسافة. وإذا كان من الضروري الابتعاد عن العملية الأنثوية لا يعني ذلك أن الاقتراب منها أمر في منتهى السهولة، فالخطاب الفلسفي، والديني قبله، قد يفيد أن المرأة لا جوهر لها، لأنها تفترق وتبتعد عن ذاتها، تنغمر في ذاتها وترسل اللاهوية، وبعبارة أخرى أن "المرأة هي اسم للاحقيقة الحقيقة"، كما يقول ديريدا. هذه هي مفارقة الشاعر والفيلسوف نيتشه، فهو يؤمن بأن المرأة هي الحياة، ولكنه يقصيها من الحقيقة، فالحقيقة باعتبارها امرأة أو حركة الحِجاب والاختفاء ترهق الذات الباحثة عن الحقيقة، وتعذب الفيلسوف الذي لا يكف عن التساؤل عنها، ومن ثم فالفيلسوف الدوغمائي الغارق في ميتافيزيقاه لم يفهم شيئًا لا في الحقيقة ولا في المرأة، هكذا تتأسس المسافة حين تختلس الهوية الخصوصية للمرأة وحين يسقط الفيلسوف الراكد وراء الحقيقة في حيرة كبيرة.

ومما يستعصي على الفهم أو ما ينفلت من قبضة الفيلسوف هو الأنثوي؛ أي ما يشكل العملية الأنثوية، وليست الإحالة على مجرد الأنوثة، وذلك لأن العملة الأنثوية عملية كاتبة أو توحي بشكل أو بأسلوب كتابة، وإليها يرجع الأسلوب وفيها ترتسم الكتابة. ويستلزم الانتباه، هنا، إلى أن "نيتشه" عمل على صياغة نص لا مثيل له في العداء للمرأة؛ فهي عنده تمثل ما يوحي بالشك والاختفاء المتستر. وهذا ما ينبغي التفكير فيه والكشف عنه، لأن الحقيقة ليست سطحًا، ولن تغدو حقيقة تتميز بالعمق وتثير الرغبة إلا إذا استعملت الحِجاب لكي تظهر حياءً مغريًا يخفي حقيقة مغايرة. ثم إن المرأة لا يهمها البحث عن الحقيقة بالضرورة، وحين يحلّ الرجل محلّها للبحث عنها، تحترس من خطابه ولا تؤمن إلا قليلاً بما يقول، أو تتظاهر بقبولها لما يقول، فالرجل هو الذي يؤمن بحقيقة المرأة. وحيثما انخرطت المرأة في حركة نسوية أو حركة احتجاجية يعتبر نيتشه ذلك عملية مقنعة تسلكها المرأة من أجل محاكاة الرجل. ومع ذلك نمتدحها ونثني عليها، ولكن ندينها في الآن نفسه، فهي تتمتع بقوة خارقة على الإغراء يتيه فيه الرجال وينشط المفكرون من أجل القبض عليه، لكنها كائن يجد مصلحته في الحقيقة التي لا تهمه. إنها تمتلك قدرة كبيرة على تمديد الاختفاء وعلى لعبة التزيين، إنها فنان، تنخرط في التخفي معتبرة أو معلنة أنها تقول الحقيقة.

يجب ألّا يتم فصل الحديث عن موقف نيتشه من المرأة، عن ضرورة مساءلة تاريخ موقف الغرب برمته من هذه المسألة، فالمرأة مرتبطة بتاريخ الفكرة في المتخيل الغربي، وسيرورة البحث عن المرأة لا توازيها سوى حركة تكوين الفكرة أو تلقي الحقيقة. ويعبر تأكيد "الكنيسة" على قمع الرغبات وكبح جماح الأهواء، التي هي من وحي الشيطان، عن نوع من التبرم من الحياة، في حين أن الحياة خصب وتعدد واختلاف. وليست هناك المرأة أو المرأة في ذاتها، أو "حقيقة" المرأة، فلا مجال لادعاء القول بحقيقة واحدة، وإنما يتعلق الأمر بحقائق متعددة ومتناقضة، لأنها جمعية، كما ليس ثمة حقيقة في ذاتها للاختلاف الجنسي للرجل أو المرأة، لأن المسألة لها ارتباط وجودي بالأسلوب. والمرأة تقدم ذاتها عطاءً، يأخذها الرجل ويمتلكها تارة، وتعطي ذاتها من أجل هدف ما تارة أخرى. إنها تحفز وتستفز لكي تتأكد من سيطرتها وامتلاكها للرجل. هذا هو التبادل القائم بين المرأة والرجل، وفي كل مرة يغير أحدهما وجهه، وفي كل زمن يتبادلان أقنعة تتبدل بأشكال لا نهاية لها.