المَشْيَخات والنقاش الديني المتفلِّت في العالم الأزرق: حالة النقاش السُنّي-الشيعي


فئة :  مقالات

المَشْيَخات والنقاش الديني المتفلِّت في العالم الأزرق: حالة النقاش السُنّي-الشيعي

مقدمة:

لكلّ عصر سمته الخاصة التي تميّزه عن غيره من العصور في سجلّات التاريخ، وإن كان لهذا العصر سمة يتميّز بها عن غيره؛ فهي الثورة المعلوماتيّة[1] التي حوّلت العالم إلى قرية صغيرة[2] متاحة أمام الولوج تحت الصيغة المعروفة بـ: "اللّازمان، اللّامكان" التي تنعدم معها الحواجز الزمانية والمكانية. وقد أفرز التقدّم التكنولوجي تدفقا هائلا للمعلومات يصعب التحكّم في إيقاعه، أو فرض قيود على محتوياته[3]، فتبلور ما أصبح يعرف بمجتمع المعرفة[4] الذي يرتبط بقواعد بيانات ضخمة يستطيع من خلالها تلبية معظم حاجياته التي كانت تحتاج في الأمس القريب لكثير من التنقّل والوقت لتلبيتها.

وتتعدّد تمظهرات التقدّم التكنولوجي في كثير من مناحي الحياة العامة الخاصة، لعل أبرزها هي تلك المرتبطة بما يسمّى مواقع التواصل الاجتماعي التي استحوذت على اهتمام أغلب المتعاملين مع الشبكة العنكبوتية، وينخرط الناس في تلك المنصّات الاجتماعية كل حسب اهتماماته. ويعتبر الاهتمام الغالب على مرتادي العالم الأزرق[5] من المنطقة العربية منصبّاً على المواضيع ذات الطبيعة الدينية التي يحاولون من خلالها توسيع معارفهم عنها نظرا لسقف الحرية المرتفع الذي يتيحه العالم الرقمي، بخلاف ذلك الذي تتيحه قنوات المعرفة التقليدية كالمدرسة والمسجد والإعلام الكلاسيكي.

وإذا تتبّعنا المواضيع الدينية المتداولة في مواقع التواصل الاجتماعي العربية، لن نجد موضوعا أكثر تداولا من النقاش السني-الشيعي، وترجع تلك الأهمية التي يحظى بها هذا النقاش إلى عمقه التاريخي ودوره في تشكّل أكبر طائفتين من المسلمين، واستمرار آثاره على المستويات العقدية والسياسية والاجتماعية لأغلب الدول المسلمة.

ويعرف النقاش السني- الشيعي ديناميكية كبيرة في المنصات الاجتماعية أثّرت في آراء وأفكار وتصوّرات المنخرطين المرتبطة بمعارفهم عن الخلاف السني- الشيعي ومرتكزاته النصِّية/الدينية، ومعطياته التاريخية التي أصبحت متاحة في العالم الأزرق.

وتشكّل تلك الديناميكية التي يعرفها النقاش السني- الشيعي المثار في العالم الافتراضي حسب رأي بعض الأنظمة السياسية والهيئات الدينية خطرا على "الأمن الروحي" و"الثوابت الدينية" للمجتمعات خصوصا شريحة الشباب التي تعتبر المكوِّن الأكبر للمجتمعات العربية/الإسلامية، فأصبح من الضروري حسب تلك الأنظمة والهيئات إيجاد سبل تُمكِّن من التصدّي للتداول المتعاظِم للنقاش السني-الشيعي نظراً لما يمكن أن يحدثه من زعزعة للمُسَلَّمات الدينية السائدة، والتي يمكن أن تصل خطورتها إلى أبعاد استراتيجية للبلدان المرتبطة بمشروعية دينية أُحادية، أو تلك التي تعرف تنوّعا طائفيا لا يحتمل تحريك مياهه الراكدة بإثارة النقاش بشكل مفتوح وغير منضبط في وسائل التواصل الاجتماعي.

ويرتبط تتبع وتقييم النقاش الديني المتداول في المنصات الاجتماعية بشكل محوري بعلماء الدين، سواء كانوا مرتبطين بهيئات رسمية، أو يعملون بصفة شخصية، حيث أنيطت بهم مهمة ضبط النقاشات الدينية عامة والسني-الشيعي خاصة، من خلال توجيهها على أسس تتناسب مع الخطاب الديني التقليدي. وترجع الأهمية الموكلة إلى العلماء لعدة أسباب من بينها: الإرث النصي/التاريخي الإسلامي الذي يعطي مكانة مميزة للعالم باعتباره وارثا للنبي، ومسؤولا عن تبيين أحكام الدين للناس، والإجابة عن النوازل التي يفرزها كل عصر، ولا نجد في هذا العصر نازلة أكثر إلحاحا على تقديم إجابات دينية من نازلة مواقع التواصل الاجتماعي وما استحدثته من أنماط التواصل وآليات تداول المعلومات التي أثّرت في الأفكار والآراء الدينية للمنخرطين العرب في تلك المواقع، خصوصا تلك الآراء المرتبطة بالنقاش السنِّي-الشيعي. هذا ما يجعلنا نتساءل عن كيفية تعامل علماء الدين مع النقاش السني-الشيعي في المنصات الاجتماعية؟ وعن الإواليات التي يعملون من خلالها على المستويات الجماعية والفردية؟ وعن المقاربات التي يؤسّسون عليها خطاباتهم؟ وعن تأثير تلك المقاربات في صياغة آراء وأحكام كل طرف على الآخر من السنَّة والشيعة؟

المحور الأول: زخم المسألة السنِّية الشيعية في مواقع التواصل الاجتماعي

أولا - المسألة السنِّية الشيعية: ثقل التاريخ وحساسية السياسة

تمتدّ جذور الخلاف السنِّي-الشيعي في التاريخ الإسلامي إلى درجة يصعب معها الإحاطة بجميع تفاصيله؛ إلّا أنه يمكن الإشارة إلى اللحظة الحاسمة في بروز خلاف حقيقي بين السنَّة والشيعة، وهي لحظة مقتل عثمان بن عفان، ثالث الخلفاء الراشدين، الذي شكّل مقتله محطّة مفصلية في التاريخ الإسلامي، فقد نشب الخلاف بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان حول أسبقية البيعة للإمام أو القصاص لعثمان، فقدّم علي البيعة على القصاص، ورأى معاوية أولوية القصاص لعثمان، لتنشأ على إثر هذا الخلاف صراعات تجاوزت الاختلاف في الرأي إلى اقتتال أراق الكثير من الدماء.

وقد زادت الفُرقة والفجوة بين السنَّة والشيعة بعد مقتل علي وحيازة معاوية للخلافة، وازداد الوضع تأزّما بعدما خلف يزيد أباه معاوية في الحكم، فقرّر الحسين بن علي الثورة عليه طلبا للإصلاح في أمة جده (حسب رواية الشيعة)، ليتم قتله في كربلاء على يد جند يزيد بن معاوية، لينفتح بذلك جرح في التاريخ العربي/الإسلامي لم يندمل إلى اليوم.

وتشكّلت مع مرور الزمن أفكار وسلوكيات أصبحت مُميِّزة لكلٍّ من السنَّة والشيعة بسبب التوجُّه الغالب لعلماء الدين من كلا الجانبين الذين يدعون إلى الحذر من الطرف الآخر، ومن عقائده الفاسدة وممارساته الضالّة. وتصل مناهج علماء الدين إلى درجة الإخراج من دائرة الإسلام، وتسمية المذهب المقابل بأبشع الألفاظ، كنعت علماء السنّة الطائفة الشيعية بربيبة اليهود[6] وتضمين بعض علماء الشيعة كتبهم بروايات من قبيل: "يدخل الشيعي والسنِّي إلى النار، فيحترق السنِّي ويخرج الشيعي سالما"[7]، وعلى ذلك المنوال من المرويات التي يؤسِّس عليها علماء الدين أحكامهم على كل طائفة.

وعلى الرغم من وجود بعض المحاولات التاريخية لتجاوز الخلاف، كما وقع من اجتماع عوام أهل السنَّة وعوام الشيعة على مواجهة اليهود في بغداد سنة 437هـ، ونبذ كل الخصومات التي بينهم، إلّا أن ذلك الاجتماع لم يدم أكثر من عامين حتّى وقعت فتنة بينهم أشدّ من ذي قبل، قُتِل فيها خلق كثير[8].

كما أصبح للخلاف السنِّي الشيعي أبعاد استراتيجية وسياسية في العصر الحديث، حيث يتم استعمال الخلاف من قبل كثير من الأنظمة الحاكمة للدول المسلمة، وقد بلغ هذا الاستعمال ذروته مع قيام الثورة الإسلامية في إيران وتأسيس نظام قائم على نظرية ولاية الفقيه التي تعطي للفقيه الجامع لشرائط الفتوى[9] النيابة العامّة عن الإمام المعصوم في زمان الغيبة لقيادة الأمة الإسلامية وتدبير شؤونها في جميع ما كان للمعصوم عليه ولاية، فظهر نوع من الاصطفاف الطائفي في أهم البلدان الإسلامية، والذي ازدادت وتيرته، ونقصت حسب السياق والمرحلة الإقليمية.

ثانيا - النقاش السنِّي-الشيعي على الأنترنيت: بين فورة العاطفة وهدوء العقل

توسعت دائرة النقاش السنِّي-الشيعي، بعدما كانت حكراً على الدوائر الفقهية والأكاديمية لتشمل جميع من يبحث في الإنترنيت عن محتوى ذي طبيعة دينية، حيث تشير دراسة أمريكية صادرة عن مؤسسة "كارنيجي للسلام الدولي" تتعلق بالنقاش السنِّي-الشيعي على مواقع التواصل الاجتماعي إلى أنّ النسبة المئوية لمستخدمي الإعلام الاجتماعي في العالم العربي ممّن يناقشون قضايا السياسة أو المجتمع أو الدين على الإنترنيت تتراوح بين 60 - 80 في المائة في المنطقة العربية.[10]

ويزداد الوضع تعقيدا في العالم الافتراضي مع الحملات التحريضية المبنية على نشر الرسائل العدائية والصور العنيفة، لضحايا في بلدان كالعراق وسوريا التي تشهد أحداثا دامية ترجع في الكثير من الأحيان إلى أسس دينية طائفية. وقد يصل ذلك الترويج لأفكار التيارات المتطرفة إلى النجاح في استدراج بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي وتجنيدهم وتشجيعهم على القيام ببعض الأنشطة الإرهابية.[11]

ويقدِّم النقاش السنِّي-الشيعي على مواقع التواصل الاجتماعي مؤشّرات خطيرة على الزيادة في معدّل الكراهية والاصطفاف الطائفي، فعند تتبُّعِنا لبعض التعليقات الصادرة عن المتابعين من بلدان خليجية على خبر حدوث زلزال في إيران في السنوات الأخيرة، وجدنا أنَّها تحمل معاني التشفِّي والسخرية، كما وجدنا بعض التعليقات تُفسِّر وقوع ذلك الزلزال بسبب اتّباع المذهب الشيعي الباطل[12]، معتبرين أن ذلك الزلزال انتقام إلهي من زيغهم وضلالهم.

وعند البحث في منصات التواصل الاجتماعي عن محتوى مرتبط بالنقاش السنِّي-الشيعي، نجد أنَّ هناك منصّات تصدح بأصوات تحريضية[13]، حيث تعجُّ تلك المنصات بالتعليقات التي تسعى إلى استفزاز مشاعر المخالفين والاستهزاء من معتقداتهم.

وبالمقابل، فقد فتح العالم الأزرق الأبواب في وجه كثير من المتعاطين للنقاش السنِّي-الشيعي، الذين يسعون إلى التخفيف من حدّة الصراع، من خلال البحث عن مشتركات تساعد على خلق بيئة أساسُها قِيَم التسامح والعيش المشترك.[14]

كما أنَّ هناك صفحات مرتبطة بالنقاش السنِّي-الشيعي، وإن كانت أقلّ استخداما لمنهج التحريض والكراهية، إلّا أنّها تبقى معبِّرة عن آراء مذهبية ترجع إلى الخطاب الفقهي التقليدي[15] والترويج له وفق الأدوات التي يتيحها الإنترنيت.

من جهة أخرى، تجد مجموعة من الصفحات والحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي التي تعبّر عن توجّه مخالف للتوجهات الرسمية لبعض البلدان المسلمة، فهناك صفحة على فيسبوك تحت عنوان: "السنَّة في سجون إيران" التي تعتبر منبراً لتعبير السنيِّين المتواجدين في إيران عن آرائهم، حيث يقوم أعضاء هذه الصفحة حسب زعمهم بفضح الحيف الذي تمارسه عليهم السلطات الإيرانية من خلال الزجّ في السجون.

كما تجد صفحات عديدة للشيعة في معظم البلدان العربية السنِّية، كالمغرب الذي يدخل اسمه في كثير من الصفحات الشيعية على فيسبوك، ويجد المغاربة الشيعة فسحة في مواقع التواصل الاجتماعي للإفصاح عن معتقداتهم وممارساتهم التي يستمدّونها من المدرسة الشيعية، كما يتحدّثون عن المعاناة التي يعيشون تحتها بسبب انتمائهم المذهبي الذي يعتبر مرفوضا على المستويين الرسمي والشعبي.

وقد أنتجت هذه الظاهرة الخاصّة بإنشاء صفحات تعبّر عن مذهب مخالف لما هو سائد في تلك البلدان، مفهوما جديدا يعرف "بالترحال الطائفي"، والذي يعني تغيير مجموعة من الأفراد لمعتقد مجتمعهم السائد، واتّباع مذهب قد يعتبر دخيلا أو مرفوضا. على سبيل المثال، تتحدّث الأرقام عن تصاعد في صفوف الشيعة المغاربة إلى عشرات الآلاف، بعدما كانوا في الأمس القريب لا يتعدّون بعض المئات المتركّزة في شمال المغرب[16].

المحور الثاني: علماء الدين والنقاش السنٍّي-الشيعي في المنصات الاجتماعية

أولا - علماء الدين وإواليات الضبط والتوجيه

بعدما احتلّت وسائط التواصل الاجتماعي نطاقا واسعا في حياة الناس من ناحية استقبال المعلومات وتداولها والنقاشات التي تثار من خلالها والآراء المتباينة التي تتيحها مهما كان قبولها أو رفضها من قبل المحّددات التقليدية للمعتقدات الدينية. أصبح لزاما على المؤسّسات الرسمية وغير الرسمية المتمثّلة في الهيئات والمجالس الدينية والعلماء البارزين إيجاد إواليات تتيح إعادة ضبط وتوجيه النقاشات الدينية، بعدما انفرط عقدها داخل العالم الأزرق.

وترى تلك المؤسسات التقليدية أن منصات التواصل الاجتماعي تشكّل خطرا على "الأمن الروحي" للمجتمعات المسلمة، لأنّ الكمّ الهائل الذي يوفره العالم الأزرق من الآراء الدينية الشاذّة (حسب تعبير تلك المؤسسات)، يمكن أن تستهوي عوامّ المسلمين وتفتنهم عن المعتقد السليم والمنهج القويم. وقد بدأت بعض الهيئات الدينية في بلدان إسلامية وضع الخطط والاستراتيجيات من أجل ضبط وتوجيه النقاشات الدينية التي يتمّ تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي؛ ففي المملكة العربية السعودية، حذّرت هيئة كبار العلماء في دورتها (81) من مخالفة وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي للكتاب والسنّة: "فقد عرضت الهيئة في محافظة الطائف بتاريخ 2014 كثيرا من المخالفات الشرعية التي لا تقرّ ولا تقبل من المسلمين لما فيها من المحادّة لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلم وردّ للشرع المطهّر، الذي فيه الخير والصلاح والفلاح للثقلين".[17]

كما أقامت جائزة "نايف بن عبد العزيز آل سعود العالمية" للسنّة النبوية والدراسات الإسلامية بالاشتراك مع الجامعة الإسلامية خلال الفترة 22-23/11/2016 مؤتمرا تحت عنوان: "ضوابط استخدام شبكات التواصل الاجتماعي في الإسلام"[18]، وقد سعى القائمون على هذا المؤتمر إلى بيان الرؤية الشرعية في استخدام شبكات التواصل الاجتماعي وضوابطه.

وعلى نفس المنوال، أصبح المغرب يعمل على ضبط التداول المعلوماتي للمسائل الدينية في مواقع التواصل الاجتماعي، فقد قامت مندوبيات الأوقاف والمجالس العلمية المنتشرة على تراب المغرب، امتثالا لأوامر من الوزارة بإعداد إحصاء شامل للأئمّة، والمرشدين والمرشدات المتوفّرين على صفحة أو حساب على مواقع وتطبيقات "فيسبوك" و"تويتر" و"أنستغرام" و"غوغل+"[19]، وقد أثار هذا الإحصاء ردود أفعال واسعة، خصوصا في منصّات التواصل الاجتماعي، وكان الغالب على تلك الردود هو الاستغراب من هذه الخطوة والتساؤل عن الهدف منها، ممّا أدى بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى إصدار بيان[20] توضّح من خلاله القصد من إجراء مثل هذا الإحصاء، مبرزة في متنه أنّ مهمّة الوعّاظ كانت وستبقى هي التواصل مع الناس، وتعدّ تكنولوجيا التواصل الاجتماعي نعمة كبرى إذا استُعمِلت في التبليغ النافع. كما أشار البيان إلى أنّ منشورات القيّمين الدينية ستخضع للرقابة، وأنّ أي منشور لا يتوافق مع ما أسماه البيان بالثوابت والالتزامات "يعرّض صاحبه إلى ما أسماه البيان أيضا بالتنبيه من جهة المؤسسة العلمية التي لها الصلاحية وحدها للحكم على المضمون[21]".

ثانيا - العلماء والعالم الأزرق: بين خطابي التفريق والتقريب

يُفضي البحث والاستقصاء عن انخراط علماء الدين في النقاش السنِّي-الشيعي في العالم الأزرق إلى تصنيف خطابات أولئك العلماء إلى اتجاهين اثنين؛ الأول اتّجاه تفريقي مبني على مقولات التحريض والكراهية بهدف تأجيج الصراع الطائفي، والثاني اتّجاه تقريبي مؤسَّس على مفاهيم العقلانية والتنوير من أجل تجاوز الخلاف والالتفاف حول المشتركات الدينية والإنسانية.

أ- الخطاب التفريقي:

1- من جهة الشيعة: ياسر الحبيب أنموذجا

هو رجل دين شيعي كويتي، ذاع صيته في السنوات الأخيرة، بعد خرجاته الإعلامية التي يبثّ فيها خطابه الصدامي ضدّ المذهب السنِّي، حيث يركّز أغلب كلامه على السبّ واللّعن، كسبِّ أبي بكر وعمر وابنتيهما عائشة وحفصة، وقد تمّ إسقاط الجنسية الكويتية عنه[22] بسبب توجّهه الخطابي القائم على تأليب جمهور الشيعة على جمهور السنَّة وأعلامهم. ويعتبر ياسر الحبيب من أكثر الشخصيات إثارة للجدل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال حساباته الشخصية[23] أو من خلال قناة فدك[24] التابعة له، حيث يتضّح من خلال منشوراته، مقدار الكراهية التي تحويها، معتمدا على إحياء جروح التاريخ بطرائق مستفزة لا تزيد الفجوة بين السنة والشيعة إلّا اتّساعا. كما أنّ الجدل الذي يحيط بياسر الحبيب ليس مقتصرا على الأوساط السنِّية التي تستقبل أفكاره وتوجّهاته، بل يتعدّاها إلى الأوساط الشيعية التي ينتقد كثير من علمائها آراء ياسر الحبيب التي يرونها خارجة عن أدبياتهم، حيث إنّ له صراعات عديدة داخل الوسط الشيعي بانتقاده لنظام ولاية الفقيه معتبرا أنّ من يروّج لتلك الولاية هو من المفتونين ومن الخارجين عن مدرسة أهل البيت.

ولا يتوانى ياسر حبيب عن فتح جبهات للصراع مع الجميع متبنّيا أساليب ازدراء رموز الآخر والاستهزاء بأصوله، ممّا جعله بحق، من أكثر أصوات التفريق والتحريض انتشارا وتأثيرا في النقاش السنِّي-الشيعي عبر وسائط التواصل الاجتماعي.

2- من جهة السنَّة: عدنان العرعور نموذجا

هو عالم سنِّي اشتهر من خلال مناظراته التي تنتقد الشيعة. ويعتبر عدنان العرعور أكثر شخصية سورية متابعة على وسائط التواصل الاجتماعي[25] متجاوزا جميع مشاهير الميادين السياسية والفنّية والرياضية، هذا ما جعل العرعور على رأس الشخصيات المؤثرة في وسائط التواصل الاجتماعي، خصوصا فيما يتعلّق بالنقاش السنِّي-الشيعي، وقد ازدادت شهرة عدنان العرعور مع اندلاع الأحداث السورية سنة 2011، حيث يعتبر من أكثر الأصوات تبنّيا للثورة التي لا تعدو عنده كونها حرباً مقدّسة لأهل السنة ضدّ ظلم الدولة العلوية الكافرة حسب تعبيره، كما يُعتبر من الشخصيات الملهمة لكثير من الفصائل المقاتلة في الأرض السورية، ويظهر العرعور في مجموعة من البرامج التلفزيونية لرفع همم الفصائل السنِّية المقاتلة وشدّ أزرها عبر خطابات تحريضية تعتمد على نبرة طائفية أساسها الصراع السنِّي-الشيعي، ورغم انشغال عدنان العرعور بالأحداث السورية، إلّا أنّ نجمه لم ينطفئ في سماء النقاش السنِّي-الشيعي الذي بقي من أهمّ أعلامه، وتلحق عدنان العرعور بسبب أسلوبه تعليقات خارجة عن حدود الاحترام[26] من قبل المتابعين الشيعة لحساباته في مواقع التواصل الاجتماعي، وقد جعله أسلوبه القائم على السخرية من مقولات الشيعة بحجّة الانتصار للسنة، من الممثلّين البارزين لخطاب التحريض والتفريق من جهة السنَّة.

أ- الخطاب التقريبي

1- من جهة الشيعة: ياسر العودة أنموذجا

عالم شيعي لبناني، عُرِف بخطابه ضد الخرافة في الدين الإسلامي، سواء كان من الجانب الشيعي أو من الجانب السني[27] يمثِّل امتدادا للروح المعتدلة التي اتّسم بها شيخه السيد محمد حسين فضل الله الذي يُمثّل صوت الوسطية في الجانب الشيعي من خلال مؤلّفاته ومحاضراته التي يترضّى فيها على الصحابة وعلى أمّهات المؤمنين، ما جعله يتعرّض للنقد اللّاذع من قبل كثير من المعمّمين الشيعة، وقد لحق ذلك النقد بياسر العودة الذي تبنّى خطابا تقريبيا، وعقلانيا، يسعى إلى فتح مساحة أكبر للحوار القائم على الإنصات لصوت العقل ونبذ كلّ خرافة يمكن أن تخالف صريح العقل وصحيح النقل.

ويعتبر ياسر العودة أحد أبرز العلماء الذين يتمّ تداول اسمهم في وسائط التواصل الاجتماعي[28]، باعتباره صوتا يمثّل الوسطية والاعتدال، وملاذا لكلّ من يبحث عن خطاب يسعى إلى تقريب وجهات النظر، ونبذ الخلاف الحادّ الذي يسوِّق له خطباء الفُرقة والتحريض، ويتّضح الاتجاه الخطابي لياسر العودة من خلال مقاطع الفيديو المنتشرة له، والتي تأتي أغلبها تحت عناوين تعبِّر عن الانتصار لصوت العقل والوقوف ضد التوجّهات التفريقية والتحريضية. ويتفاعل المتابعون لياسر العودة بتعليقات على وسائط التواصل الاجتماعي تتراوح بين التأييد المبني على الرغبة في رأٍب الصدع، وبين الرفض لخطابه التقريبي الذي يعتبره البعض من الجانب الشيعي تخلِّيا عن المبادئ والأصول، وقد وصل ذلك الرفض إلى حدّ التهديد بالقتل.

على الرغم من هذا التباين في الآراء حول ياسر العودة، إلّا أنّه يُعتبر أحد أهمّ الأصوات التي تمثّل خطابا توفيقيا يسعى إلى لمّ الشمل وتدعيم أواصر الأخوة بين السنَّة والشيعة الذين يجمعهم رب واحد، ونبي واحد، وكتاب واحد.

2- من جهة السنَّة: عدنان إبراهيم أنموذجا

مفكّر إسلامي فلسطيني من أبرز الخطباء المسلمين في أوروبا[29]، كما أنَّه من أكثر دعاة العقلانية والتنوير من داخل السياق الإسلامي عامّة، والسنِّي خاصّة، حيث يشير دائما في محاضراته وخطبه إلى ضرورة تأسيس خطاب ديني قائم على الحجج العقلية والتطور المعرفي والعلمي، معتمدا في تلك الضرورة على عدم التعارض المبدئي بين الدين الإسلامي، وبين العقل ومنطلقاته السليمة.

وقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي[30] في انتشار اسم عدنان إبراهيم كمفكّر إسلامي أصبح ملهما لكثير من الشباب المسلمين الذين يرون أن الخطاب الديني التقليدي لم يعد يستوعب تطلّعاتهم وأسئلتهم، فوجدوا في خطاب عدنان إبراهيم احتراما لعقولهم واستفساراتهم.

ويشمل اختلاف عدنان إبراهيم مع الخطاب الديني السائد مسألة النقاش السنِّي-الشيعي، حيث يرى أنَّ الحوار والنقاش بين السنَّة والشيعة هو الحلّ الأمثل لتقويم الأمّة الإسلامية، مُعبّرا في أغلب خطبه عن نبذه للتعصّب الديني الذي يسوِّق له شيوخ وتيارات متحجّرة تتناقض مع مبادئ الدين الإسلامي حسب تعبيره. وقد عرّضه خطابه التقريبي بين السنَّة والشيعة إلى كثير من النقد اللّاذع من طرف شيوخ كبار من أهل السنَّة، إلى درجة اتّهامه بالزندقة والتشيُّع[31] إلّا أنّ ذلك النقد لم يؤثّر في توسّع انتشار عدنان إبراهيم بخطبه ومحاضراته التي وجدت كثيرا من الآذان الصاغية بين أوساط المسلمين، ومؤشّرات ذلك الانتشار واضحة المعالم نظرا للتفاعل الكبير مع منشوراته ومقاطعه على منصّات التواصل الاجتماعي، وإن كانت لا تخلو من التعليقات الرافضة لمحتوى خطابات عدنان إبراهيم والمنادية بإيقافها. لكن يبقى عدنان إبراهيم صوتا قويّا يصدح بخطاب التقارب بين السنَّة والشيعة، من أجل إعادة اللّحمة والوحدة للأمّة الإسلامية.

خاتمة:

في الأخير، وبعدما حاولنا دراسة مسألة النقاش السنِّي-الشيعي على مواقع التواصل الاجتماعي، وما يرافقها من حيثيات ومآلات، ودون تعلّق بالأسماء التي لم تكن سوى نماذج تمثيليّة، نضمّ صوتنا إلى ذلك الصوت التوفيقي الذي يسعى إلى لمّ شمل الأمّة الإسلامية، وإعطاء مساحة أكبر للتنوير والعقلانية من أجل مناقشة الخلافات والخروج بخلاصات لا تقصي الآخر وتعطيه حقّه في الخصوصية والاختلاف، كما أنّنا نتبنّى ذلك الصوت التوفيقي/التقريبي وفق مقاربة ذات بعدين؛ الأوّل اندماجي والثاني تدريجي. أمّا الاندماجي، فنقصد به ضرورة اعتماد مقاربة مندمجة تحوي مجموعة من المتدخّلين، حيث يحتاج هذا البعد إلى توفّر إرادة سياسية من قبل أنظمة البلدان الشيعية والسنِّية، إرادة تسعى إلى تجاوز الخلافات، وتتمسّك بالأصول المتّفق عليها كالإله الواحد، والنبي الخاتم، والكتاب المنزّل، كما تبرز الحاجة إلى تجسيد تلك الإرادة السياسية في مجموعة من المجالات كالتعليم مثلا، من خلال بناء مناهجه على بيداغوجيا توفيقية تتعامل بنوع من القبول والاستيعاب للطرف الآخر، إضافة إلى المجالات الخطابية كالإعلام الرسمي، والمساجد، والخطب، والدروس الدينية التي يجب أن تبتعد عن النبرة الإقصائية التقليدية التي تنبذ الطرف الآخر وتُشَيطِنُه، زد على ذلك ضرورة دعم الأصوات التوفيقية التي تحتاج لكثير من المساندة في جوٍّ يسود فيه صوت التحريض والكراهية.

ونظرا لصعوبة تحقُّق هذا البعد الاندماجي في ظل التوتر السياسي الذي تشهده المنطقة العربية، والذي ينبني كثير منه على أسس مذهبية وطائفية، ندعو إلى الاشتغال وفق المستوى التدريجي من المقاربة التي نتبنّاها، والذي يعتمد على العمل في حدود المتاح مهما كان ضئيلا أو متواضعا، فيكفي أن يخرج قارئ أو مستمع من هذه الورقة البحثية مقتنعا بتبنّي صوت العقلانية والتنوير، وهدوء الفكر الذي يسعى إلى إيجاد المشترك والتمسّك به، وقد يبدأ التدرّج من خلال إضافة حساب أو صفحة مهما قلّ متابعوها على مواقع التواصل الاجتماعي تدعو إلى الوحدة وقبول الآخر والاعتراف له بحقّه في الاختلاف، وقد ينطلق التدرّج من توجيه متابع على تلك المنصات الرقمية، أو فتح نقاش معه وفق اتفاق مبدئي أساسه الإنصات لصوت العقل، وعدم الخوف من طرح الأسئلة، وعدم التعنّت أمام المعطيات والإجابات، وقد يركِّز التدرّج على فتح الحوار مع يافع يتعامل مع النقاش السنِّي-الشيعي على مواقع التواصل الاجتماعي، وإقناعه بضرورة التحلّي بقيم العيش المشترك والتسلّح بمناعة فكرية أساسها العقل ضدّ حملات التحريض التي تقودها الجماعات الإرهابية التي تعمل على قدم وساق على تجنيد الشباب بناءً على إثارة المشاعر الطائفية المتعصّبة.

العقل، والقيم الكونية، أصلب أرض يمكن أن يقف عليها الإنسان المعاصر في سياق متوتّر، مضطرب، مربك، مرتبك...إلى آخر تلك التعبيرات التي توضّح خصائص هذا العصر الذي يصعب الوقوف على تحولاته المتسارعة، أو التنبؤ بمسارها ومصيرها. 

  


[1] Christian Von Haldenwang ,Electronic government (E-government) and development. The European journal of development jesearch. Bonn-Germany. 2004. P 417

[2] عثمان سليوم، الحكومة الإلكترونية: التصور-التنزيل المغرب نموذجا، رسالة ماستر، كلية جامعة محمد الاول وجدة 2015 - 2016، ص 7

[3] هانس غراسيغير، مسكائيل كروغيرس، الإعلام الرقمي ودروه في التحكم بالرأي العام، ترجمة يوسف أشلحي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود الرباط، فبراير 2017 ص 9

[4] يعني مجتمع المعرفة سيادة درجة معينة من الثقافة المعلوماتية في المجتمع، وزيادة مستوى الوعي بتكنولوجيا المعلومات، وأهمية المعلومة ودورها في الحياة اليومية للإنسان. والمجتمع هنا مطالب بإيجاد الوسائط والمعلومات الضرورية من حيث الكم والكيف ومعدل التجدد وسرعة التطوير للفرد.

[5] اسم متداول إعلاميا يقصد به مواقع التواصل الاجتماعي.

[6] إحسان إلهي ظهير، الشيعة والسنة، إدارة ترجمان السنة باكستان الطبعة الثالثة، 1974، ص 2

[7] نعمة الله الجزائري، الأنوار النعمانية، الجزء الثاني، دار الكوفة، بيروت الطبعة الأولى، 2008، ص 206

[8] أبو الفداء ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء 12، مكتبة المعارف، بيروت، 1991، ص 54

[9] محسن الحيدري، ولاية الفقيه تاريخها-مبانيها، دار الولاء بيروت، الطبعة الأولى، 2003، ص 178

[10] دراسة أمريكية ترصد الحرب الطائفية بين السنة والشيعة على تويتر /2504265/22/12/2015/story/www.youm7.com

[11] استخدام الأنترنيت في أغراض إرهابية، منشور لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، فيينا، حزيران / يونيو 2013، ص 3

[12] أوردت صفحة خبر عاجل السعودية في تويتر خبر عن وقوع زلزال في إيران بتاريخ 2017 ديسمبر 24، فأثار الخبر موجة من الشماتة والسخرية والدعاء بزيادة الأضرار من أغلب المعلقين السعوديين على الحساب الذي يضم أكثر من سبعة ملايين متابع.

[13] صفحة فصائح الوهابية والنواصب على الفيسبوك أكثر من 13.000 متابع.

[14] على سبيل المثال صفحة سنة وشيعة محبة وسلام: ما يقارب 30.000 متابع.

[15] حساب سنة أو شيعة على تويتر: أكثر من 126.000 متابع، هو حساب يروج للمقولات التقليدية للفقهاء السنة على حساب مقولات فقهاء الشيعية، وإن بطريقة لا تخرج عن إطار الاحترام، إلا أنها تعبر في الأخير عن نسق فقهي إقصائي مغلق.

[16] Morocco 2017 International religion Freedom Report, united states department of state, Bureau of Democracy, Human Rights, and Labor P2

[17] www.assakina.com/fatwa/72602.HTMLتم الولوج 2018/10/24

[18] WWW.IU.EDU.SA/NEWS/DETOILS/294 تم الولوج 2018/10/24

[19] تم الولوج 2018/10/24/التوفيق-يحصي-الأئمة-و العلماء-المتوفر/Ar.telquel.mu

[20] بيان وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية بخصوص فتح القيمين الدينيين والعلماء منابر على شبكة التواصل الاجتماعي، منشور على: www.habous.gov.ma تم الولوج 24/10/2018

[21] تم الولوج 24/10/2018 www.kafapresse.com/index.php?ida=74369

[22] انظر: ياسر الحبيب/ur.wiki.pedia.org/wiki، تم الولوج 2018/10/27

[23] يمتلك ياسر الحبيب مجموعة من الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي: ما يقرب 15.000 متابع على تويتر، ما يقارب 26.000 متابع على فيسبوك.

[24] قناة فدك هي فضائية شيعية تابعة لهيئة خدام المهدي التي أـسسها ياسر الحبيب، تبث القناة من لندن، ويتم تمويلها من قبل حملات التبرع التي أطلقها ياسر الحبيب والتي وصلت الى 70.000 دولار شهريا.

[25] يمتلك عدنان العرعور حسابا على تويتر بعدد متابعين يصل إلى 3.400.00 كما يصل عدد متابعيه على الفيسبوك إلى 260.000 متابع.

[26] تحتوي تعليقات كثير من المتابعين الشيعة لحسابات عدنان العرعور على سب وقذف تشنيع واتهام بالارتزاق وسرقة الأموال وتضليل الناس بحججه الواهية حسب تعبيرهم.

[27] ياسر عودة/ar.M.wikipedia.org/wiki تم الولوج 2018/10/27

[28] يمتلك ياسر العودة حسابا على الفيسبوك يصل إلى 23.000 متابعا

[29] عدنان ابراهيم (مفكر)///ar.M.wikipedia.org/wiki تم الولوج 2018/10/28

[30] لعدنان ابراهيم حضور كبير على وسائط التواصل الاجتماعي حيث يتابعه 473.000 على تويتر، 193.336 على فيسبوك، ويشترك في قناته على اليوتيوب أكثر من 402.00

[31] اتهمه بعض الشيوخ كعثمان الخميس ومحمد الداهوم بأنه على علاقة بالمرجعية الشيعية الشيرازية ورجل الدين الشيعي مجتبى الحسيني الشيرازي. ووصفه الداعية محمد العريفي بأنه متوافق إلى حد كبير مع الشيعة.