الموقف القرآني من البعد السياسي لمفهوم "الحاكمية"


فئة :  مقالات

الموقف القرآني من البعد السياسي لمفهوم "الحاكمية"

الموقف القرآني من البعد السياسي لمفهوم "الحاكمية"

عثمان سيلوم

ملخّص

تحاول هذه الورقة أن تضع مفهوم "الحاكمية" بدلالاته ومضامينه وانزياحاته التي عرفها السياق التداولي الإسلامي/الحركي الذي طبع الساحة الإسلامية لقرابة مئة سنة الأخيرة في ميزان التداول القرآني لجذر "حكم"، من أجل الكشف عن مدى أصالة التداول الإسلامي/الحركي لمفهوم "الحاكمية" وتطابقه مع التعاطي القرآني للكلمة في سياقات متعدّدة داخل متن القرآن؛ وذلك وفق مقاربة نصّية مغلقة بعيدا عن أي انفتاح على العوامل التاريخية والاجتماعية الذي ساهمت في صياغة مفهوم الحاكمية وحمّلته أبعادا ومعاني قد تكون بعيدة كل البعد عن مقصود المتن القرآني من كلمة "حكم".

مقدّمة

لا يحتاج المسلمون لكلِّ ذلك التعصّب والانغلاق الذي عليه كثير من أهل المعرفة في التعامل مع الدين على مستوييْه النظري/النص، والواقعي/التنزيل، ما يحتاجه هؤلاء قبل حفظ المتون وشروحها، مختصرها ومبسوطها، أقوال الأوّلين والآخرين، هو شيء من الهدوء وصفاء الذهن، وقبل هذا كلّه أن يتعلّم المسلم/العارف – كلمة العارف هنا على سجيّتها اللغوية بعيدًا عن أي معنى أُقحِمَ عليها– خوض تجربة التأمّل الذي ضاع أو ضُيّع عنّا دون الخوف ممّا ستؤول إليه التجربة. أو ليس القرآن هو من بدأ بالدعوة إلى القراءة، ثمّ استمرّ في الحث على التفكّر والتعقّل والتذكّر والنظر؟ لن نزيد على ذلك.

دأب المشتغلون بالعلم على أن يبدؤوا التعاطي مع أيّة ظاهرة مدروسة من خلال تتبّع مسارها التاريخي من بدايته، ثمّ تقصّي مراحل تطوّرها، إلّا أنّنا سنخالف هذا الأسلوب من خلال عكسه، إذ إنّنا سننطلق من مآل الظاهرة المدروسة، ثمّ نحاكمها إلى أصلها المنشئ الذي تدّعي ظاهرتنا المدروسة الانتهال من معينه.

ظاهرتنا المدروسة تتجسّد في مفهوم "الحاكمية" الذي صاغه رواد ومنظّرو الحركة الإسلامية التي طفت على السطح قبل ما يقرب المائة سنة، ومع توالي السنين، وتعدّد السياقات السياسية والاجتماعية والفكرية التي عرفتها بلدان العالم الإسلامي، والتي لن نخوض في تفاصيلها، عرف مفهوم الحاكمية انزياحات ومضامين حاولت تكثيف حضور الديني في السياسي نظراً لفعالية ذلك التكثيف في استجلاب أكبر عدد من المتعاطفين والأتباع من الجماهير الإسلامية الواسعة.

لن نوسع دائرة النقاش مع التداول الحركي/الإسلامي لمفهوم الحاكمية، ولن نتّجه إلى تناول كلّ أبعاده ومضامينه، بل سنقتصر على وضع التداول الحركي/الإسلامي في طيّات المتن القرآني، لنرى مدى تماهيه معه من عدمه، لذلك سنتعامل مع مسألة الحكم في القرآن بنوع من الاحتراز من كلِّ دلالة أطرقت سمعنا عن مصطلح الحكم، خصوصا وأنّه مصطلح ذو حمولات دلالية وتداولية متعددة. سنحاول أن نضع المصطلح حيث وضعه القرآن، نستشف معانيه، ثم نسائل به ما راج حوله من معاني سوّقها عنه من لهم مآرب أخرى بعيدة عن ابتغاء الحقيقة غاية في ذاتها.

سيكون مدار دراستنا حول فرضيتين اثنتين، نراهما الأنسب لاختبار الأصالة القرآنية لمفهوم الحاكمية لدى الحركات الإسلامية:

- الفرضية الأولى: يوجد تطابق بين مفهوم "الحاكمية" الذي صاغه منظرو الحركة الإسلامية مع التناول القرآني لكلمة "حكم".

- الفرضية الثانية: مفهوم "الحاكمية" مفهوم مُقحَم على القرآن، صاغه منظرو الحركة الإسلامية بكثير من التكلّف لشرعنة وجودها ومبادئها وأهدافها.

أولا: التداول الحركي/الإسلامي لمفهوم "الحاكمية"

الحاكمية مصدر صناعي يؤدّي المعنى نفسه الذي يؤدّيه المصدر القياسي "الحكم"، وهناك من يفرّق بين الحاكمية والحكم من جهة أن الحكم اسم للحدث من حيث هو، والحاكمية اسم له مع ملاحظة ذات تتصف به، ففي قولنا: "قضاء القاضي عدل أو جور؛ أي حكمه، يراد الأول "الحكم"، وإذا قال السلطان: إذا جاء الشهر الفلاني فقد ولّيتك القضاء، يراد الثاني الحاكمية؛ أي جعلتك حكما"[1].

ودخل مفهوم الحاكمية في الاستخدام السياسي والفكري عند أحزاب وحركات إسلامية مختلفة، وأصبح يشكّل أحد المنطلقات التأسيسية في هذا الخطاب. ويمكن القول إنّ رواج هذا المفهوم يعود إلى أنّه يعتبر من الصياغات السهلة والخطرة في الوقت ذاته؛ فهو سهل لأنّه بسيط، يخاطب الفطرة في المؤمن ويلخّصه له بعبارة «لا حكم إلا لله»، وهو خطير لأنّه بتعميمه الشديد، ومعياريته المطلقة، يفتح الباب لاستخدام اسم الله وسلطانه بشكل تعسّفي واعتباطي[2].

تنبني نظرية الحاكمية على وجود علاقة تلازم بين حكم الله لشؤون الكون وحكم الله لشؤون الإنسان؛ فالحاكم الحقيقي للإنسان هو نفسه حاكم الكون، وحقّ الحاكمية في الأمور البشرية له وحده، وليس لأيّة قوّة سواه – بشرية أم غير بشرية- أن تحكم بذاتها أو تقضي بنفسها[3]. لذلك، فالشريعة التي سنّها الله لتنظيم حياة البشر هي – من ثمّ- شريعة كونية، بمعنى أنّها متّصلة بناموس الكون ومتناسقة معه ... ومن ثّم، فإنّ الالتزام بها ناشئ من ضرورة تحقيق التناسق بين حياة الإنسان وحركة الكون الذي يعيش فيه ... بل من ضرورة تحقيق التناسق بين القوانين التي تحكم فطرة البشر المضمرة والقوانين التي تحكم حياتهم الظاهرة، وضرورة الالتئام بين الشخصية المضمرة والشخصية الظاهرة للإنسان[4]؛ فالسلطة العليا المطلقة ليست إلّا لله سبحانه وتعالى، فالأرض أرض الله، وكلّ ما نعيش عليه من ماء وهواء وضوء وما إلى ذلك هو ملك الله سبحانه وتعالى، هذا [...] ولا يحقّ لنا ابتداءً أن ندّعي لأنفسنا السلطة المطلقة، أو نعترف بها لأحد يدّعيها من دون الله، سواء أكان ذلك المدّعي شخصا أو حزبا أو فئة أو مؤسّسة، فأوّل شيء عمّقه النبي ﷺ في أذهان البشر ودعا الناس إلى الإيمان به هو: أنّ الملك لله تعالى، والحكم له أيضا، ولا يجوز لأحد أن يشرّع للناس قانونهم.[5]

وقد تبوّأت الحاكمية مكانة الصدارة في الفكر الموجّه للإسلام الحركي، فصارت الحاكمية هي أساس الدين، وهي المبدأ الإسلامي الأول الذي حرص القرآن على تقريره في كل مناسبة ممكنة[6]، بل صار في النظيمة الفكرية للحركات الإسلامية غرض الدين الحقيقي وهدفه هو إقامة نظام الحق والإمامة الراشدة وتوطيد دعاته في الأرض[7]، الأمر الذي استلزم تبعية الحاكم الزمني للحاكم السرمدي؛ لأن سلطة الحاكم الزمنية وقوته تكون بمدى احترامه لحاكمية الله القانونية، وإلا استحق العزل والطرد؛ لأنه أمين على تطبيق شرع الله[8].

وقد عملت الحركات الإسلامية على مناصبة العداء لما هو قادم من الغرب، أو أتى على مركب الحداثة التي نُعِتَت من قبل أحد منظري الحركة الإسلامية بالجاهلية الصائلة[9] بأبعادها المتعدّدة، خصوصا البعد السياسي الذي نحن بصدد دراسته، حيث تقابل الحاكمية الإلهية - في أدبيات الحركة الإسلامية - بالحاكمية الوضعية التي ينتجها الذكاء البشري دون التزام بالشرع الإلهي، في ما يشار إليه في عصرنا بالأنظمة الوضعية، وفي ما يشار إليه ماضيا بالجاهلية.[10]

ثانيا: التداول القرآني للجذر "حكم"

بعدما حاولنا إيراد شواهد مكثّفة على التنظير الحركي/الإسلامي في مسألة "الحاكمية"، وتبيين دلالاتها ومضامينها التي تُنافح عنها الحركات الإسلامية، وتعادي كل من لا يتبنّاها، أو يحاول أن يفكّر من خارج إطارها، نأتي الآن إلى عرض مفهوم الحاكمية على محكمة القرآن.

عند قراءة الآيات القرآنية المتعلقة بالحكم، وجدنا أن هناك ثلاثة مستويات نصنّفها على الشكل التالي:

1- المستوى الأول: الحكم الأخروي

"إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ" ﴿٥٧ الأنعام﴾

"أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ" ﴿٦٢ الأنعام﴾

"إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ" ﴿٤٠ يوسف﴾

"إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ" ﴿٦٧ يوسف﴾

هذا المستوى خاص بالله وحده، أتت الآيات في هذا السياق للإخبار بقاعدة ثابتة، سواء اتفقنا على مضمونها أو لا، ومثال ذلك كثير في القرآن مثل: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ" [آل عمران: 185]

هنا إخبار بحتمية موت الأنفس بالعموم دون ترك احتمال للإرادة البشرية في الاختيار كما هو الحال مع آيات الأوامر والنواهي. ولكنّ السؤال المطروح هنا، هو كيف يمكن للحكم أن يكون مقتصرا على الله وهناك آيات كثيرة تثبت الحكم لغيره؟ وتتّضح حصافة سؤالنا هذا من خلال إيراد الآية التالية:

"وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ" ﴿136 الأنعام﴾

في هذه الآية يثبت القرآن حكما لغير الله، وهذا مخالف للمعنى الذي ساقته الآيات أعلاه. لكن إذا نظرنا للحكمين من زاوية نطاق التطبيق لاستقام المعنى، إذ إن الحكم المقتصر على الله متعلّق بالآخرة: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿١١٣ البقرة﴾.

إذن الحكم الخاص بالله هو بتّ النزاعات العديدة التي ستقوم يوم القيامة، سواء على الحقوق أو حتى على الأفكار: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [البقرة: 113].

2- المستوى الثاني: الأقضية

"يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿41﴾ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿42﴾ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿43﴾ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴿44﴾ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿45﴾ وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴿46﴾ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿47﴾ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿48﴾ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴿49﴾ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" ﴿50﴾ [المائدة].

قَصْدُنا من كتابة هذه الآيات كاملة غير مجزوءة هو قراءتها داخل سياقها، حيث إنّ هذه الآيات هي قطب رحى الحركات الإسلامية التي بثّت في وعي ووجدان الأمّة أفكارها المبنية على تكفير من لم يحكم بما أنزل الله، هذا ما يستوجب في نظر الحركات المذكورة الخروج والمحاربة إلى أن ينفذ حكم الله. قبل أن نسائل مصداق ذلك في القرآن من عدمه، يجب أن نشير أولّا إلى الالتباس الحاصل تاريخيا في تناول مصطلح الحكم، حيث حمّله هؤلاء ما لا يتحمّل، فجعلوه يصبّ في المعاني المعاصرة له من قبيل تدبير الشؤون العامة، وتسيير مؤسسات الدولة وتحقيق المصالح العامة، والحفاظ على استمرار الدولة والاستقرار الاجتماعي... وكل تلك المعاني التي يحيل عليها الحكم في الدولة الحديثة، إلّا أنّ الحكم في سياقه القرآني لا يتحدّث إلّا عن الأقضية والفصل في الخصومات، إذ إنّ حكم الدولة وتولّي السلطة عبّر عنه القرآن بمصطلح الملك: "وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" [البقرة: 247]؛ ذلك ما يحملنا على مناقشة الحاكمية من جانب الأقضية فقط بعيدا عن أي معنى معاصر للمصطلح.

وعند قراءة الحكم في هذه الآيات، سيتضح أنّها تعالج مسألة أولئك الذين جاؤوا إلى الرسول من الذين هادوا ليحكم بينهم، فخيّر الله الرسول بين الإعراض عنهم أو الحكم بينهم، لكنّ الله اشترط عليه إن اختار الحكم أن يحكم بالقسط، ليستطرد القرآن في تبيين الأحكام الواردة في التوراة والإنجيل مبيّنا عقوبة من خالف تلك الأحكام بمصطلحات على التوالي: الكافرون، الظالمون، الفاسقون. لكن مصطلح الكافرين هو الأكثر تداولا، وقد اختِيرَ بعناية من المنافحين عن الحاكمية لقوّة وقعه في النفس وقدرته على إثارة الرعب في نفوس الأمّة عندما يفكّرون في احتمال دخولهم في مقولة "كفر من لم يحكم بما أنزل الله". نلاحظ في الأوامر المتكرّرة من الله إلى الرسول في هذا الربع الثاني من الحزب الثاني عشر أنّها لم تفصل بين فعل "احكم"، وظرف المكان "بين"، والضمير "هم"، هذا التلازم في التعبير يوحي إلى أن الحكم المذكور مرتبط فقط بأولئك الذين جاؤوا الرسول ليحكم بينهم، ونجد على ذلك برهانا واضحا في تلك الآيات، إذ أكّد القرآن أن لكلّ أمّة شرعة ومنهاجا، وأنّ الله لو أراد لجعل الجميع أمة واحدة.

يتّضح من سياق هذه الآيات المرتبطة بفصل نزاع ناشئ بين بعض من الذين هادوا، أنّ هذا الحكم غير مرتبط بأمّة محمد، وأنّ كلّ ما جاء في تلك الآيات من تبيان أساس الأحكام وتشريعاتها خاص باليهود والنصارى، وأنّ الحثّ االقرآني للرّسول على الحكم بما أنزل الله هو خاصّ بالحكم فقط بين أولئك المتخاصمين، ولا دليل على استنباط أحكام لعموم المسلمين في عموم أمكنتهم وأزمنتهم.

3- المستوى الثالث: الحكم ب: "العدل"

"۞ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا" (589 النساء).

هذا المستوى هو التبيان الحقيقي لنوع الحكم الذي نحن مأمورون به في كلّ زمان ومكان، هكذا أتى الخطاب القرآني في صيغة العموم دون تخصيص للرسول أو قوم، الحكم بالعدل هو المراد من هذا التوجيه الإلهي. لكن ما المراد من مصطلح العدل؟ يمكن أن نقترح إجابة فحواها أنّ العدل مفهوم خاضع للشرط التاريخي؛ أي إنّه ما كان عادلا قبل قرون قد يفقد عدالته الآن، وما هو عادل الآن قد يكون جائرا في المستقبل. ولنطرح مثالا للتوضيح من المدينة الفاضلة لأفلاطون التي كانت فعلا فاضلة في سياقها التاريخي نظرا لما أتت به من قيم مدنية ومبادئ سياسية بقيت محتفظة براهنيتها إلى عصرنا الحاضر، لكنّ تلك المدينة التي صاغها أفلاطون لا تعطي للجنود أيّ حق في تأسيس أسرة خاصّة بهم، بل يجب أن يعيشوا في: "مجتمع المشاع" الذي لا يعرف الجندي فيه زوجا له ولا ولدا، وقد قدّم أفلاطون تبريرات تبدو جائرة في عصرنا الحاضر من قبيل أنّ الجنود لا يجب أن ينشغلوا بأيّ شيء عن مهمّة الحراسة، وشبّههم بالضبط بكلاب الحراسة، وشبّه النساء بزوجات كلاب الحراسة[11]. أين تبرز مشكلة العدل من هذا المنطلق؟ ببساطة: "إذا تعاملنا مع العدل بإطلاقية بعيدة عن الشرط التاريخي، سنحكم على أنّ مدينة أفلاطون ليست عادلة بالمطلق". لكن إذا وضعنا مفهوم العدل تحت شرطه التاريخي سنقول: "أنّ مدينة أفلاطون عادلة في زمنها، إلّا أنّ مفهوم العدل الحالي مخالف لذلك المعنى الذي كان ينشده أفلاطون". وفي سياق آخر، نستعمل الردّ نفسه إزاء مقولة "الحداثة الغربية أعظم حضارة في التاريخ"؛ لأن هذه الإطلاقية غير مقبولة تاريخيا ولا إيبستمولوجيا؛ لأن الأزمنة والأمكنة مختلفة السياقات الذاتية والموضوعية، الأمر الذي يجعل لكل عصر ذهنيته ومعايير الحكم والمفاضلة الخاصّة به.

ربما يُظنّ أننا انقطعنا عن موضوعنا الخاص بالحكم في القرآن، ولكن ما ذكرته سالفا كان إيضاحات تساعدنا على صياغة معنى للعدل يحاكي الخطاب القرآني الذي أُمِرنا أن نحكم به، فالمحصلة هنا أنّ العدل المقصود قرآنيا خاضع للشرط التاريخي وليس عدلا مقيّدا بمكان أو زمان. ويمكن في هذا الصدد النظر إلى النصوص من حيث العموم والخصوص ليس فقط من جهة المكلَّفِين، ولكن حتى من جهة الشرط التاريخي، إذ إنّ النص وإن كان يفيد بحكم عام إلّا أنّ الاحتمال قائم للخصوص من جهة الزمن، ومثال ذلك في الآيات نفسها التي ذكرناها سالفا، فآيات الحكم الإلهي لها حكم الخصوص من جهة الحاكم وهو الله ومن جهة الزمن وهو يوم القيامة، وآيات سورة المائدة لها حكم الخصوص من جهة المكلّفين، لكن لها حكم العموم من جهة الزمن، إذ إنّ المسلمين مطالبون بتحكيم شرائع الأقوام الأخرى إذا طلبوا تحكيم المسلمين بينهم. أمّا آية الحكم بالعدل، فلها حكم العموم من جهة المكلفين ومن جهة الزمن، فكل حاكم يجب أن يكون عادلا. وقس على ذلك ما يمكن أن يكون له حكم العموم والخصوص من جهة المكلفين ومن جهة الزمن.

خاتمة

في الأخير، نودّ أن نفترض سؤالا يمكن أن يطرحه القارئ وهو: إن كان الوهن إلى هذه الدرجة في البناء النظري للحاكمية التي تتبناها التيارات الإسلامية التي ترى كفر الدول حكومات وشعوبا لدخولهم في حكم آيات سورة المائدة، فمن أين أتت الحاكمية بكل هذا الزخم والجاذبية؟

أولا وبشكل عام، إنّ الأفكار لا تحتاج إلى متانة علمية لتشيع في المجتمع، ما تحتاجه الأفكار موارد مالية ضخمة، ونفوذ يتيح لها الشيوع عبر مجموعة من القنوات، كالإعلام، ذلك ما يتيح لتلك الأفكار التغلغل في وعي الناس والانتشار بينهم.

ثانيا وبشكل خاص، فالسياق الذي جاءت فيه الأفكار المبنية على الاجتزاء الأشهر في الفكر الإسلامي الحركي منه خصوصا "من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" هو سياق ينطوي على قابلية كبيرة لمثل هذه الأفكار: "الخنوع الذي تعيشه الأقطار الإسلامية، الاستعمار، الدولة العربية المستبدة، تبعية الأنظمة السياسية للقوى الغربية، المحاربة الواضحة للقيم الدينية حتّى المتعلّقة بالجانب الحضاري والهوياتي"، انظر مثلا إلى القوانين المنظمة للأحزاب في أغلب الدول العربية، ستجد أنّها تتفق على منع تأسيس حزب على أساس ديني، بخلاف الدول الأوروبية المتصالحة مع هويتها المسيحية، إذ تسمح بتأسيس أحزاب على أساس ديني باعتبار المسيحية تشترك في أصولها مع قيم المواطنة والديمقراطية، هذا ما جعل رد فعل تلك التيارات يبدو عنيفا نظرا للعنف الذي بدأت به الأنظمة العربية القومية: "جمال عبد الناصر في مصر وحزب البعث في سوريا والعراق" في محاولتها للتأسيس لدولة عربية مناوئة للدين والنظرية السياسية التي يمكن صياغتها على مرجعية تاريخه السياسي.

ما نريد أن نؤكد عليه في هذا المضمار الذي لم نحط بجميع جوانبه نظرا لاتّساعها وتشعّبها، هو أنّ البيئة كانت مواتية لتترعرع فكرة الحاكمية، رغم هشاشة بنائها النظري الذي بينّا أن الخطاب القرآني لا يمتّ له بصلة، تلك الأفكار التي زادت قرنا آخر على قرون تخلف العرب والمسلمين.

 

المراجع:

  • أحمد المنياوي، المدينة الفاضلة كما تصورها فيلسوف الفلاسفة – جمهورية أفلاطوم، دار الكتاب العربي دمشق، 2010
  • هشام أحمد عوض جعفر، الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية رؤية معرفية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا، 1995
  • عبد الغني عماد. الثقافة العربية في القرن العشرين: حصيلة أولية. مركز دراسات الوحدة العربية،؛ 31-مارس -2013
  • أبو الأعلى المودودي، الخلافة والملك، ترجة أحمد إدريس، دار القلم – الكويت، 1978
  • سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق – بيروت - القاهرة، 1979
  • أبو الأعلى المودودي، حول تطبيق الشريعة الإسلامية في العصر الحاضر، ترجمة خليل أحمد الحامدي، مكتبة دار الرشد – الرياض، 1983
  • إبراهيم البنا ونور داود، "تحليل مفهوم الحاكمية في فكر سيد قطب"، مجلة العلوم الإسلامية والدراسات المقارنة، ع 2، الجامعة الإسلامية الدولية، ماليزيا، 2018، ص 149
  • أبو الأعلى المودودي، الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1980
  • وهبة الزحيلي، "لمن الحاكمية أو السيادة في التشريع"، دورية البصيرة للبحوث والدراسات الإنسانية، ع 6، الجزائر، 31 ديسمبر 2001
  • عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، دون د.ن، 2000
  • محمد أبو القاسم حاج حمد، الحاكمية، دار السافي، بيروت، 2010

[1]- تعليق فتحي أحمد الدريني على بحث فهمي هويدي: الحاكمية بين أهل الدعوة وأهل القانون، ندوة التيارات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي، مالطا: المركز الإسلامي 19 يونيو 1986، منشورات الجهاد، يوليو 1987، ص 155. هشام أحمد عوض جعفر، الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية رؤية معرفية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا، 1995، ص 55

[2]- عبد الغني عماد. الثقافة العربية في القرن العشرين: حصيلة أولية. مركز دراسات الوحدة العربية،؛ 31-مارس -2013

[3]- أبو الأعلى المودودي، الخلافة والملك، ترجمة أحمد إدريس، دار القلم – الكويت، 1978، ص 13

[4]- سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق – بيروت - القاهرة، 1979، ص ص. 99- 100

[5]- أبو الأعلى المودودي، حول تطبيق الشريعة الإسلامية في العصر الحاضر، ترجمة خليل أحمد الحامدي، مكتبة دار الرشد – الرياض، 1983، ص ص 2-3

[6]- إبراهيم البنا ونور داود، "تحليل مفهوم الحاكمية في فكر سيد قطب"، مجلة العلوم الإسلامية والدراسات المقارنة، ع 2، الجامعة الإسلامية الدولية، ماليزيا، 2018، ص 149

[7]- أبو الأعلى المودودي، الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1980، ص 13

[8]- وهبة الزحيلي، "لمن الحاكمية أو السيادة في التشريع"، دورية البصيرة للبحوث والدراسات الإنسانية، ع 6، الجزائر، 31 ديسمبر 2001.

[9]- عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، دون د.ن، 2000، ص 8

[10]- محمد أبو القاسم حاج حمد، الحاكمية، دار السافي، بيروت، 2010، ص 39

[11]- أحمد المنياوي، المدينة الفاضلة كما تصورها فيلسوف الفلاسفة – جمهورية أفلاطوم، دار الكتاب العربي دمشق، 2010، ص: 141