الكون الرقمي: الثورة العالمية في الاتصالات
فئة : قراءات في كتب
الكون الرقمي: الثورة العالمية في الاتصالات
بيتر بي سيل
ترجمة ضياء ورَّاد، مراجعة: نيڤين حلمي عبد الرؤوف
شكّلت ثورة عالم الاتصالات والمواصلات أكبر ثورة في الحضارة الحديثة؛ إذ ساهمت في تغيير مختلف التصوّرات التي كانت لدى عموم الناس عن العالم، فبفضل مختلف وسائل الاتصال سارت الأخبار تنتقل من نقطة إلى أخرى بشكل أسرع، وقد أحدثت الثورة المعلوماتية في عالم الاتصال والمواصلات [الإنترنت] تحوّلًا في مفهوم المسافة والزمن والمكان؛ إذ أصبح البعيد قريبًا، وأصبح المكان مكشوفًا ويمكن الوصول إليه بشكل أسهل، ومعرفة مختلف خصائصه الجغرافية وغيرها قبل الوصول إليه. فالثورة المعلوماتية حوّلت العالم إلى عالم دون مسافات، وعالم مضغوط في نقطة واحدة.
السؤال هنا: متى بدأ هذا الحس الذي يسعى دائمًا إلى تسريع التواصل لدى الإنسان منذ القديم؟ فمع تطوّر حياة الإنسان الأول وتكوين المجتمعات البشرية، وجد الإنسان نفسه غير قادر على التفاهم مع الآخرين، فاهتدى إلى اللغة وعايش المجتمعات الأخرى، فاخترع الكتابة لحفظ إنتاجه الفكري وميراثه الثقافي والعلمي من الاندثار ولتتوارثه الأجيال اللاحقة. ظهرت الكتابة على الألواح الطينية باللغة المسمارية عام 3600 ق.م، وكان يُنقش على الطين وهو طريّ بقلم ذي سنّ رفيع، ثم يُجفّف الطين في النار أو الشمس. ابتكر المصريون القدماء الكتابة الهيروغليفية عام 3400 قبل الميلاد، ثم اخترعوا الورق فانتشرت الكتابة. لا شك بأن الكتابة كانت أول نقطة في تسريع عملية التواصل، فالتاريخ يحفظ لنا مختلف الوثائق والمراسلات بين الدول والممالك... وبين الأسر التي تفصل بينها مسافات بعيدة، إذ كان رُسُل البريد في القِدم قادرين على إيصال الرسائل في جميع أنحاء العالم بكفاءة كبيرة وعالية، مع سرعات سفر مُعلن عنها تصل إلى ما يقرب من مائة ميل في اليوم.
ولم يكن البريد قديمًا خدمة عادية وفي متناول الجميع، ولم يكن يحمل رسائل خاصة يرسلها الأفراد، بل كان ينقل في العادة المراسلات والمراسيم الرسمية، بين موظفي حكومة الدولة الواحدة أو بين مختلف الدول. وقد تطوّر البريد حتى أصبح في متناول الجميع، وسارت الرسائل تصل إلى أيدي كل الناس من مختلف بقاع العالم. مختلف تلك الرسائل التي تعوّد الناس التوصل بها عبر البريد، قادمة من جهات حكومية أو من أصدقاء أو مؤسسات... طيلة القرن العشرين، ساروا اليوم يتوصلون بها من خلال هواتفهم وحواسيبهم، وهم يقرؤونها بفتح بريدهم الإلكتروني، وهي تصل في أقل جزء من الثانية ليردوا عليها في أسرع وقت... وهي مسألة جعلت من التواصل بين الناس مسألة لا يعيقها الزمن كما كان من قبل. وهي مسألة تضعنا في سياق عنوان هذا الكتاب: "الكون الرقمي: الثورة العالمية في الاتصالات"، والذي يجعل من التواصل اليوم أكثر اتساعًا هو دور الترجمة التي يوفّرها الإنترنت من لغة ومن ثقافة إلى أخرى.
يتناول هذا الكتاب "تكنولوجيات المعلومات والاتصالات القائمة على الكمبيوتر وآثارَها الضخمة على الحياة المعاصرة. في الدول الأكثر تقدُّمًا، تجد الشاشاتِ الرقميةَ في كل مكان، من الشاشات الصغيرة بالهواتف المحمولة حتى شاشات العرض العملاقة بدور السينما. إن الموظف التقليدي في عصر المعلومات يقضي يومَه مستغرقًا في التكنولوجيا الرقمية، ثم يرجع إلى منزله لمجموعة أخرى من الأجهزة الرقمية من أجل التواصل ومعالجة المعلومات والترفيه. وفرت التكنولوجيات للمجتمعات نطاقًا لا نظيرَ له من أدوات التواصُلِ بين الناس والربطِ بين الأجهزة. فبإمكانك الوصول إلى أي شخص في العالم يملك هاتفًا محمولًا - وهم حاليًّا خمس مليارات من بين سكان كوكب الأرض البالغ عددهم سبع مليارات نسمة - ببضع نقرات على لوحة المفاتيح. كما سيُتاح لنِسَب متزايدة من هؤلاء المشتركين الحصولُ على خدمة إنترنت كاملة بترقيتهم إلى خدمات شبكة الجيل الثالث والجيل الرابع، وربما ستكون هواتفُهم المحمولة الضئيلةُ الحجم حلًّا جذريًّا لرأْبِ الصدع الرقمي بين مَن يملكون المعلومات والمحرومين منها على ظهر هذا الكوكب"[1]
أهم موضوعات الكتاب
يدور الكتاب حولَ الاستخدام العالمي لتكنولوجيات وآثارها على المجتمع. بعضُ هذه الآثار يعود بالنفع في تحسين التواصل والتفاهم بين البشر، والبعضُ الآخر أقل نفعًا؛ لأنه يحضُّ بوتيرة متزايدة على تبنِّي أنماط الحياة الكسولة والاتكال على التكنولوجيا. والقصص التي تعرض كيف تطوَّرت تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، لتصبح بالشكل الذي هي عليه اليوم.
يأخذنا الكتاب إلى مجال التأمُّل في مستقبل التكنولوجيات، وهي تعزِّز من ذكائنا الشخصي والجمعي، بغاية بسط مستوى من الوعي النقدي في تحسين حياة البشر في المستقبل[2] وقد جاءت مختلف هذه القضايا منتظمة وفق خطاطة أهم المواضيع التالية: الكون الرقمي: مقدمة سريعة/ نظرة تأمُّلية لقانون مور/ نشأة الإنترنت/ تطوُّر شبكة الإنترنت/ الاتصالات عن بُعْد في العالم «المسطح»/ تقارُب الوسائط الرقمية/ الرقابة والثقافة السيبرانية العالمية/ الجانب المظلم/ التكنولوجيات السلكية واللاسلكية/ العالَمان الافتراضي والمعزَّز/ مستقبل الكون الرقمي.
مشكلة الخصوصية والحرب السيبرانية
من أبرز المشكلات التي وضع الإنترنت العالم فيها، هي مشكلة الخصوصية، والخصوصية هنا لا تتوقف عند خصوصية الفرد، بل تمتد إلى مختلف خصوصيات المؤسسات الاقتصادية والصناعية والحكومية والدول. لماذا؟ لأن مختلف البيانات والمعلومات سارت اليوم مخزنة على مختلف الحواسيب الذكية، ويمكن التسلل إليها من وربما توظيفها في أغراض لا تعود بالفائدة لدى أصحابها.
بالنظر إلى واقع الحال "فنحن نتفاوض على الخصوصية على الإنترنت كلَّ يوم تقريبًا، وبعضُ القرارات التي نتَّخِذها سهلةٌ. عندما يُطلَب منَّا اسمنا وعنوان بريدينا الإلكتروني للاشتراك في نسخة إلكترونية من جريدة من الجرائد، نوافِق على ذلك؛ يبدو ذلك لنا مقايَضةً عادلة للنفاذ إلى الأخبار المجانية على الإنترنت. لكن يشيع بيع هذه البيانات من قِبَل هذه الشركات إلى شركات أخرى دون عِلْمنا، وينهمر عليك سَيْلٌ من البريد العشوائي من جرَّاء تبادُل هذه المعلومات البسيطة، التي ينتهي بها الحال على قوائم تضم آلافَ أو ملايينَ عناوين البريد الإلكتروني".[3] إن مشكلة الخصوصية وتحدي الحفاظ عليها وضع العالم اليوم أما واقع غير مسبوق، وهو واقع الحرب السيبرانية وهي حرب، لا تتوقف عند التسلل إلى مختلف الحبات الشخصية لدى مستعملي الأنترنت، بل تمتد إلى مختلف معطيات وبنك معلومات الدول والحكومات.
إلى كلِّ مَن يظن أن فكرة الحرب السيبرانية مأخوذة من إحدى حبكات أدب الخيال العلمي المستقبلي، فكِّروا مرةً أخرى. "الفضاء السيبراني ميدان ناشئ للصراع الدولي، حقل جديد مقارَنةً بحروب الماضي التي خبرها المحاربون على البر وفي البحر وفي الجو. وقع أول هجوم سيبراني دولي واسع النطاق في إستونيا عام 2007، بعد رفع تمثالٍ بالعاصمة تالين كان يخلِّد ذكرى بطل سوفيتي بالحرب العالمية الثانية. وقع هجوم ساحق من هجمات الحرمان من الخدمة عن طريق إثخان شبكة أجهزة الكمبيوتر بكميات ضخمة من البيانات في آنٍ واحدٍ، عطَّلت مواقعَ أجهزة الحكومة الإستونية والبنوك والصحف والمؤسسات الكُبرى. دشَّنَتْ إستونيا، التي كانت في السابق جزءًا من اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، شبكةً من أكثر الشبكات الرقمية تطوُّرًا في أوروبا الشرقية، وكانت رائدةً في نشر استخدام خدمات الحكومة الإلكترونية. وجَّهَ خبراء مكافحة الإرهاب السيبراني بحلف الناتو أصابع الاتهام إلى روسيا، واعتبروا الأعمالَ العدائية اقتصاصًا من إزالة التمثال الروسي".[4]
واقع الإنترنت وتحول العالم اليوم إلى عالم رقمي، أمر يفرض ضرورة التفكير في سياسات جديدة، للأمن السيبراني، لقد حان "الوقت كي تضع بلدان العالم بروتوكولات لفرض ضوابطَ على استخدام الأسلحة السيبرانية للإنترنت، شبيهةٍ بتلك التي استُحدِثت للتعامُل مع صنع وانتشار الأسلحة النووية. أصبح الإنترنت في غاية الأهمية للاتصالات العالمية والتجارة الإلكترونية، لدرجة أن تعطيلَه ستكون له تداعياتٌ كارثيةٌ على كل دول العالم. وسيتحقَّق أفضلُ ما في صالح مواطني الكوكب إنْ تمكَّنَتْ حكوماتهم من الاتفاق على بروتوكولات تمنع استخدام الأسلحة السيبرانية. لقد أصاب أجهزةَ الكمبيوتر والشبكات العالمية في العقدَيْن المنصرِمَيْن ما يكفي من الضرر بسبب الفيروسات والديدان وأحصنة طروادة الرقمية التي صمَّمَها متسلِّلون ومجرمون سيبرانيون، وهذا دون احتساب التهديد الجديد المتمثِّل في الإرهاب السيبراني برعاية الدول"[5]
أمام هذا الوضع المتمثل في تحول العالم إلى عالم رقمي، يبقى السؤال ما هو مستقبل العالم الرقمي؟ فكثيرًا ما يُصوَّر أصحابُ الرؤى المستقبلية كأشخاصٍ يسيرون «وعقولهم في عالم آخر». سيكون هذا حقيقة واقعة في المستقبل، حيث يُجري الشخص السائر بالشارع (وآمل ألا يكون الشخص الجالس إلى جوارك بصالة السينما) طلباتِ بحثٍ مشافَهةً على الإنترنت عبر سماعة البلوتوث التي يرتديها (أو ساعة اليد أو النظارات). ومع ذيوع انتشار أجهزة النفاذ إلى المعلومات القابلة للارتداء والمزوَّدة بالاتصال بالإنترنت، سيغير استخدامُها كلَّ جانب من جوانب الحياة البشرية بكل الدول، وليس في الدول المتقدمة فحسب. هل سيكون تعايُشنا المستقبلي مع هذه الكمبيوترات الشخصية المحمولة على تلك الدرجة من الرومانسية التي وصفها بروتيجان في قصيدته؟ أعتقد أن هذا من أهم الأسئلة الوجودية في القرن الحادي والعشرين.[6]
[1] بيتر بي سيل، الكون الرقمي: الثورة العالمية في الاتصالات، ترجمة ضياء ورَّاد، مراجعة: نيڤين حلمي عبد الرؤوف، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط.1، 2017م، ص.11
[2] نفسه، ص.12
[3] نفسه، ص.256
[4] نفسه، ص.269
[5] نفسه، ص.270
[6] نفسه، ص. 338