المقدس والدنيوي: اتساقية حداثية مرِنة


فئة :  أبحاث محكمة

المقدس والدنيوي: اتساقية حداثية مرِنة

المقدس والدنيوي: اتساقية حداثية مرِنة

نزهة بوعزة

ملخص:

إن سؤال ماهية وتجليات المقدس الديني تناولته مجموعة من المجالات المعرفية: سوسيولوجيا، سيكولوجيا، الفلسفة، تاريخ الأفكار، التحليل السياسي، علم الاجتماع الديني.... وباختلاف ماهية الفروع المعرفية يكتسب مدلول المقدس تعبيرات مختلفة، لكن ضمن هذه الورقة يحيل على صفة الإله أو المتعالي بوصفه تعبيرا عن الجانب الثيولوجي بشكل عام، هذا الجانب الذي تم توظيفه في ثنايا الخطاب الحداثي بشكل حميمي أو في إطار علاقة ائتلافية مع مفهوم المدنس أو الدنيوي، حميمية نزعت القداسة عن اللامتناهي ووازت إطلاقيته بإطلاقيه المتناهي، إذ صار المقدس وتطلعاته الخلاصية يسكن الكائن الحداثي، فما كان مأمولا في المتعالي صار مرتبطا بالمتناهي، علاقة تغلب الجانب الإنساني وتهمش المقدس، ـ أو تفرغ مسكن المقدس لتستوطنه هي؛ فالأشياء المقدسة كانت مادية أو رمزية ليست مقدسة؛ لأن القداسة طبيعتها، بل لأنها ترمز لقدسية مستها، وماهي سوى انعكاس لهذه القدسية، حتى وإن كانت طبيعتها مدنسة، فمثلا الحجر الأسود مقدس ليس لأنه من طبيعة مختلفة عن الهنا، بل لأنه يمثل واقعة دينية تحمل قداسة الفعل النبوي، هذه الاتساقية لا تعني التداخل التام؛ فالحدود بين المقدس والدنيوي تحضر وتغيب في إطار علاقة مرنة.

لقد عملت مجموعة من الفلسفات على إدخال تمثلاتنا عن المقدس ضمن البنية المعرفية، وهو أمر خص بشكل ملموس فلسفات التاريخ، بما هو سيد التاريخ يقوده نحو نهاية خيرة تراعي مطلب العناية الإلهية الراعية لسير الأمور الدنيوية بشكل يضمن غاية تحقق الجنة الأرضية للإنسان، وهنا الحضور لا يمثل الجانب الأنثروبولوجي، بل الجانب المتعلق بالتمثلات من قبيل الغاية وراء أفعالنا تحقيق: السعادة/ المساواة/ الخير/العدل/الحرية...، وهي تمثلات خلاصية جوهرها مستمد من ثنائية الخير والشر وضرورة غلبة الخير أو بلوغ النهاية العادلة. إنها تصورات تعكس الجانب الثيولوجي الموظف بمساعدة الفلسفة في بناء التصورات الدنيوية، خلاصنا خلاص أرضي بمنظور ثيولوجي، وقد تكون الصفات الإطلاقية هي التي عجلت بانحصار وتراجع البراديغم الحداثي.

إذن، كيف تم التفكير في المفهومين: المقدس والدنيوي خلال الأزمنة الحديثة؟ ثم أليس تنزيل المتعالي من عليائه نزع لقداسته، وفي رفع قداسته تغييب له؟ أم إن نزع القداسة خص الإرادة الإلهية وليس العناية الإلهية؟

التقديم:

يفهم المقدس في الغالب بوصفه الصيغة المعبرة عن المقدس الديني، ما دام أن الدين هو أحد العوامل المؤسسة للشروط الأنطولوجية للإنسان؛ ففي كل ثقافة وكل عصر كان الإنسان دينيا بشكل ما، تصرفا وفكرا وتمثلا، يشيد مقدساته الخاصة به التي تتخذ أشكالا متعددة منطلقة من الرمزي إلى المادي/ من المرئي إلى اللامرئي من المقروء إلى اللامقروء، فهذه المقاربة الإشكالية للمقدس من الناحية الأنثروبولوجية تستوجب الاستعانة بمسلك تاريخ الأفكار الذي يمنحنا واجهتين معرفيتين: الأولى تعمل على توضيح تيمة مفهوم المتعالي وعلاقته بمفهوم الخلاص، ويحضر هنا معطى الغاية والنهاية المتعلقة بالتاريخ البشري في صبغته المتعلقة بالخلاص الذي يقدمه التصور الديني لمختلف الأديان، إذ سؤال الخلاص هو سؤال مركزي عند العديد من الديانات لكن، طبيعته المعرفية تتعلق بالأساس بالجانب الأنثروبولوجي الذي يؤطره؛ فمفردة الخلاص تحمل بعدين: أحدهما بعد سلبي يتعلق بمفهوم التحرر من ثقل شيء ما سواء كانت خطيئة أو ذنبا أو عقابا أو نمطا وجوديا، والآخر معنى إيجابي يحيل على حالة اكتمال بمعنى نهاية أو حد لشيء ما، هذه النهاية التي تولدت جراء تحقق المطلب الأول ألا وهو التحرر، فالتحرر يستوجب الحصول على عكس ما كان عليه سابقا، الفناء/الخلود، الشقاء/السعادة، العقاب/الجزاء.....

إذن، حسب البعد الأول، فإن الأمر يتعلق بحصول حالة تحرر من الشر، سواء كان من طبيعة مادية أو روحية. أما المعنى الثاني، فيرتبط بالحصول على شيء خَيّر؛ أي حالة اكتمال، وفي الغالب تعطى باعتبارها حالة نهائية اكتمل فيها الأمر وانتهى؛ أي الوصول لرتبة بلوغ الغاية، وبالتالي إمكانية المرور نحو الحياة الأبدية بماهي حالة خيرة. أما الواجهة الثانية، فتسمح بالتعرف على مختلف الدلالات التي اكتسبها مدلول المقدس، وهو مدلول ارتبط بألفاظ عدة منها: المقدس، المتعالي، اللامتناهي، الإلهي، المطلق، والمتسامي، في مقابل مفهوم الدنيوي، المدنس، الفاني، المتناهي، الأرضي، الإنساني... تقابل يوضح تمييزا بين عالمين؛ الأول يتصف بالسمو والآخر بالتبخس والتدنيس، فماهي دلالة كل من المقدس والمدنس؟ وهل أخرجت الحداثة فعلا المقدس وتمثلاته من بنيتها المعرفية، أم إنها سلبته آلياته ووظفتها لصالحها؟ ألا يجعل هذا الأمر من نزع القدسية مجرد استبدال ظرفي لخلق قدسية أخرى، لكائن ديني لاينفك أن يخلق مقدساته؟

1) مدخل مفاهيمي: المقدس* والمدنس

كلمة المقدس "تعني عند الرومان القدماء، الشخص أو الشيء الذي يستحيل لمسه دون أن يرجس أو يرجس؛ فالكلمة تتوزع بين استحالة إمكانية اللمس، وبين إمكانية الانتهاك في حالة تحقق ذلك اللمس، ولن يكون التفكير إلا شكلا من أشكال ملامسة المقدس؛ أي نرجيسه"[1]، المقدس هو ما خص الآلهة دون غيرها من المخلوقات، وهو تعالي عن حيثيات التدنيس المتعلق بالمجال الدنيوي، الذي لا تسري عليه أدبيات التقديس، إذ قال الإله لموسى: "لا تقترب من هنا، وانزع حذاءك، لأن المكان حيث تتواجد هو أرض مقدسة"[2]. هذا التمييز المجالي الذي يفرق بين عالمين، ويعمل على رسم قطيعة مكانية مختلفة، رغم أن القطيعة تقوم على تماس بين العالمين، ما يستدعي التساؤل: إذن ما السبيل للتعرف على المقدس؟

المقدس قد يتجلى بشكل واضح عبر وساطة رمزية أو إشارات تبني بالنهاية صيرورته الاختلافية، فلا يمكن أن يمزج أو يختلط مع اليومي؛ لأنه حسب تعبير أوطو رودولف ganz andre[3]، شيء مختلف بشكل جذري، مادام أن الإنسان يتعرف على المقدس بما هو شيء مختلف عن الدنيوي، إذ لا وجه للمقارنة، بل لا تجوز المقارنة بالأساس، وإلا فقد قدسيته، فقدسيته ترتبط بشكل أساسي بالإقرار بإيمان جاهل أو إيمان لا يقر بإمكانية معرفة المقدس، فاللامعرفته هي جزء من تعريفه، مادام أن المقدس يتجلى كواقع مختلف بشكل كلي عن باقي الوقائع الطبيعية[4]، لكن مع ذلك الكوسموس هو في الآن نفسه نظام واقعي حيّ ومقدس، فهما معا يشكلان نمطين من الوجود موكولان للإنسان من خلال المسار الطويل لتاريخه. إنه يكشف في نفس الآن عن أنماط الوجود والقدسية[5]، مثلا المقدس قد يأخذ حيزا محايثا للمجال الدنيوي ويحصل بدوره على تعيين مكاني مثل أمكنة العبادة: الكنيسة، المعبد، المسجد، الدير، وهنا المقدس يفرض مكانة تخصه وحده، مكانة رمزية لكنها مع ذلك ليست مجردة، الأمر الذي يجعله مرئيا، مقروءا، وملموسا[6]، هذه الأمكنة هي أمكنة مقدسة لا تنتمي للمجال المكاني التي شيدت عليها، هي من مكان آخر غير البقعة الترابية أو المدينة المتواجدة عليها، وحدها البوابة أو العتبة هي التي تمثل الحدود المنفتحة على المجال المقدس. إنه منزل الإله، بيت الله، العتبة التي تفصل بين العالمين، وهي المكان الذي يسمح بالتواصل أو هو الممر بين العالم الدنيوي والعالم المقدس[7]، بما هو المكان المقدس المنتمي للمجال المدنس، داخله ملك للعالم السماوي أما محيطه فهو واقع على أرض دنيوية مدنسة، إنه يمثل بوابة تواصل المقدس والمدنس، فما معنى الدنيوي؟

"إن الدنيوي أو المدنس (profane) مشتق من اللفظة اليونانية profaum التي تعني المكان أمام المعبد، خارج المعبد؛ فالدنيوي أو المدنس هو كل ما يقع خارج المعبد، إنه المطرود من عالم المعابد"[8]، فهو كل ما ابتعد عن المكان المخصص للعبادة، ولم يصنف في إطارها لعدم اكتسابه مؤهلات تمنحه رتبة الانتماء لبقعة التقديس، واعتبر من تم مدنسا لتجاوزه الإطار الحدودي الشامل للتقديس االمكاني، المجال الذي يكتسب حرمة تقديسية، مما يطرح صفات تقابلية لعالمين ينتميان إلى أفقين مختلفين بشكل يفرض التقابل لا التوافق، أفق متعال وأفق دنيوي؛ فالإنسان يتعرف على المقدس؛ لأن هذا الأخير يتجلى كشيء مختلف تماما عن كل ما هو دنيوي. لذلك اكتسب قيمة مطلقة جعلته يشكل صبغة خلاصية، ونجد هذا التصور بالأخص مع قراءة أوغستين، Saint-Augustin، الذي اعتبر أن مسيرة الإنسان التاريخية في العالم الدنيوي لا قيمة لها، لذا يبحث الإنسان عن المدينة الفضلى خارج العالم المدنس، إذ المقدس هو ما شمل الرعاية الإلهية الراعية لكل تفاصيل مخلوقاته التي طالها التدنيس، فكل ما يوجد وكل ما يحدث يسير وسيسير، وفق مخطط إلهي منظم محكم وخير، مادام أن "الإيمان بالعناية الإلهية في التاريخ يقتضي إيمانا بالله ومن تم ليست مجرد نظرية، ولكنها ترقى إلى مستوى الاعتقاد، إذ لا بد من تدخل من الإله الحكيم ليخطط للإنسان العاجز عن فعل الخير لنفسه"[9]، والتدخل الإلهي في ثنايا الحياة الدنيوية البشرية له دوما صبغة إيجابية، فإرادته وعنايته لا تعمل سوى على إرشاد وحماية خلفائه على الأرض، فهو بمثابة إنقاذ للكائن الإنساني، "اذ لولا هذا التدخل الإلهي لأصبح التاريخ كومة مضطربة من عصور متراكمة في عبث أو مأساة رهيبة دون بداية معقولة أو نهاية معقولة "[10]، وهنا تحيل الفاعلية الإلهية على التخطيط البناء للمسار الوجودي البشري، هذه العناية التي يشمل بها العالم تمنح انطباعا بانفصالية بين عالمه بما هو جزاء بعدي وعالم بما هو تجربة وجودية فانية تمثل ممرا للعالم الآخر، فما الدلالة والموقع التي اكتسبه مفهوم المقدس داخل البناء المعرفي الحداثي؟ أليس استلهام المقدس داخل البنية المعرفية الحداثية نزع لقدسيته المتعالية désacralisation؟ أم إن عملية السلب قد طالت الإرادة الإلهية ولم تطل العناية الإلهية؟.

2) المقدس: الدلالة والاستشكال*

لقد وقع تحول في نمط التعاطي مع المفاهيم الدينية، وذلك منذ بدايات القرن الثامن عشر، حيث رأوا في الحركة التنويرية مناسبة لتقليل من استعمال الطقوس والعبارات الدينية المتمثلة في الوصايا مثلا، وكذا انخفاض وقف الممتلكات على الأغراض الدينية والكنسية، كل هذا كان من أجل إفراز حدود تسييجية لعصر جديد من خلال الدين الطبيعي العقلي البشري، ولا تعني مفردة أو صيغة العصر الجديد التخلص الكامل مما سبقه بل يعني الإقلال من حضور الشأن الديني في عمليات التشييد الحداثي، أو استحضار الآليات المفهومية الدينية بمنظور حداثي، ما يعني استبدال الطريقة التي نرى بها العالم بأخرى تخدم المسار التاريخي الخاضع للصيرورة التدنيسية وليس السرمدية، صيرورة تحمل الإنسان مسؤولية تسيير العالم وفق إرادته وآماله هنا وفي إطار تحقق مآلاته البعدية ضمن المسار التاريخي، هذه الصيرورة التي ستعرف تحولا في مسالة التعاطي معها، وهو أمر لاح خلال 1950/1960 حيث ستتراجع الأطروحة الحداثية ويطال الشكوك هذ البراديغم الذي سيطر لمدة طويلة[11]، فماهي مقومات الأطروحة الحداثية التي ساهمت في نزع الأسطرة عنها؟

لقد انتقل التقديس من تقديس العالم العلوي إلى العالم البشري، ومن الانبهار بالتناغم الطبيعي إلى الانبهار بقدرات العقل، الأمر الذي عززه المجال العلمي بإمكانية معرفة قوانين الطبيعة، يقول ماكس فيبر في كتابه الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية: "إن الاعتبار التجريبي للعالم وبشكله النهائي الموجه رياضيا يطور مبدئيا رفض كل نمط من الاعتبارات التي تبحث عامة عن المعنى لمستقبل العلاقات ما بين البشر"[12]. فهناك محاولة لتخلي عن النمط التفسيري الوسيطي للعالم، تصور يتبنى استبعاد كل أشكال: السحر، الطقوس، الاحتفالات المعبرة عن العبادات والطقوس التعبدية، بوصفها تقنية خلاصية مرتبطة بالتصورات الثيولوجية المسيحية واليهودية، وهي رؤية لا تعمل إلا على السعي وراء الخلاص السماوي وإهمال العالم الدنيوي، رؤية حداثية ترسم أبعادها التأصيلية من خلال تقزيم الحضور الديني في مجالات أكثر محدودية، وبذلك لم يعد يتمع بإطلاقتيه التفسيرية لرؤية العالم كما كان سابقا، إذ يكفي أن نلمس بأن نزع القدسية هي صفة تتعلق بتجربة الإنسان اللاديني للمجتمعات الحديثة، لنقول بشكل فوري إن عملية نزع القدسية هي اكتشاف جديد لروح الإنسان[13]. إنه نوع من العقلنة لعالم تسيطر عليه القناعة بأن كل ما هو موجود في هذا العالم محكوم بقوانين قابلة لمعرفتها علميا، بل وحتى إمكانية التكهن والتحكم بها بناء على أسس علمية، ومن تم "بدأت حدة البحث عن مملكة الله بالانحلال تدريجيا في الفضيلة المهنية الباهتة، وأخذ الجذر الديني يذوي مخليا الساحة للعلمنة الدنيوية النفعية"[14].

لم يعد هناك شيء خارج عن نطاق التفسير العلمي، عالم ساهمت الحركة الإصلاحية الدينية في نسجه عبر التحجيم الذي دعت إليه في ممارسة الطقوس الدينية التي كانت تختص بها الكنيسة الكاثوليكية، وقللت بالتالي من تأثيرها على مصير الإنسان ومشروعه الوجودي، بهذا الشكل حولت البروتستانتية بما هي مذهب منبثق عن الحركة الإصلاحية بدعوتها التخلي عن الورع الرهباني الكنسي من اهتمام المؤمن البروتستانتي بالعالم المتعالي إلى إنجاز واجباته تجاه العالم الأرضي لتحقيق تقدمات تضفي على وجوده معنى، هي صيغة تعبر عنها عبارة "إزالة السحر عن العالم" التي تعود لماكس فيبر، وقد تناولها مارسيل غوشيه بالشرح، إذ يقول في كتابه "le désenchantement du monde": "العبارة عند ماكس فيبر محددة بشكل دقيق إنها إزالة السحر بما هو تقنية للخلاص"[15]. فالمعنى السحري الذي كانت تتخذه التفسيرات اللاهوتية فقد معناه وكذا ظروفه المواتية "كان الكاهن ساحرا يصنع معجزة استحالة القربان ويمسك بمفاتيح الجنة بين يديه"[16]، إن إزالة وهم العالم ليس نفيا للتداخل ما بين الما فوق طبيعي والعالم التحتي، بل إنه فرصة لبناء المعنى من جديد وفق آليات بشرية محايثة لوجوده الأرضي، فالأزمنة الحديثة لم تنتج نهاية للدين، بل أفرزت نظاما وشروطا جديدة للاعتقاد في مؤهلاتها البشرية، رفعت من الفاعلية البشرية وسحبت بالمقابل الفاعلية الإلهية، فالفاعلية يقودها العقل البشري.

كانت المهمة الكبرى لمفكري القرن الثامن عشر أن يسلطوا الانتباه إلى هنا والآن؛ أي تمجيد لحظة الحاضر كما هي كائنة بدل التركيز على عملية الاستغراق في ما هو متعال ومفارق، الانتقال من الاعتبارات الإلهية إلى الشروط البشرية، فعبر عدة قرون كان من المعتاد أن يشار إلى الطبيعة وإلى الكون باعتبارها براهين على قوة الإله وعنايته الإلهية الراعية لموجوداتها الكونية، لم يعد للمقدس ذاك الوضع المريح، المتعلق برؤية الرب كقوة تتحرك خلف وفوق العالم المخلوق، بل صارت الرؤية المحايثة المتعلقة بالعمل البشري المستعين بقواه العقلية من خلال معرفة القوانين المتحكمة في الطبيعة بالتناسق مع المشروع العلمي القائم على الفهم وعلى السيطرة على العالم في إطار خلق أفضل الممكنات المستقبلية. لقد دخل الإنسان في علاقة تحولية عكسية من الاهتمام الفوقي إلى الانكباب على المجال الأرضي، مادام أن القدسية تأتي بشكل ضروري لاستبدال أخرى سابقة[17].

فحين حاول الإنسان إعطاء معنى لهذا الكون، لجأ للأديان لتقديم قراءات تصبغ الوجود الإنساني بالمعنى، لكن الأمر تغير، فما كان مطروحا كقيم اجتماعية تضفي المعنى على العالم -بما هي نماذج مقبولة وتستجيب لتطلعات المؤمن المسيحي- تم التخلي عنها، ليتسلم الأفراد أولوية تقرير معنى لكينونتهم؛ لأن المعنى موجود من خلال النشاط الفعال والدال للفرد البشري، فـ "لن يكون هناك تقديس لأية عقيدة أو أية مؤسسة، وقد أدى هذا الاختيار إلى نتيجة غير مباشرة تمثلت في نوع من القيد المفروض على السلطة، حيث صار لزاما عليها أن تكون متناغمة مع البشر؛ بمعنى أن تكون سلطة طبيعية لا سلطة فوق طبيعية surnaturelle))"[18].

هذه العملية التي تشكلت وفق صيرورة تاريخية طويلة لاستقلال مجالات النشاط البشري عن رقابة السلطة الدينية، عبر عنها بمفهوم "العلمنة" sécularisation، باعتباره مفهوما حداثيا، يمثل صيغة وصفية للانتقال من حقل المفاهيم الدينية إلى المجال الدنيوي، انتقال من مستوى المفاهيم الثيولوجية المؤسسة للإطار العالم الوسيطي إلى مستوى المفاهيم اللصيقة بالقدرات البشرية، لذلك صار المسيحي يتجنب أي مظاهر قد تربطه بما كان يمارس من قبل من ممارسات عقائدية، حتى لا يصاب بأي مس يربطه بالعصر الوسيط، فقد كانت شبهة التبعية تحيل على التخلف والرجعية، كما استخدم أيضا لتعبير عن القداسة التي اكتساها العمل الدنيوي وقد تصفت العلمنة أيضا بوصفها سيرورة تضاؤل حضور الحركة الدينية داخل المجال العمومي، لكن هذا لا يعني تراجع الدين بشكل كلي عن التأثير في الحياة العامة أو تغييبه تماما إذ، "ما يجب التنبيه إليه، هو أن فصل الدين عن الدولة لا يعني كما يفهم الكثير في الدوائر الثقافية غير الغربية محاربة الدين، بل فقط تحجيمه إلى حدوده الطبيعية كحق فردي شخصي".[19]

و تجدر الإشارة إلى أن العملية اتخذت مسارا تفاوتيا من ناحية الصيرورة التاريخية، فقد ثم نزع السحر عن العالم Entzauberung قبل حصول عملية العلمنة؛ فالمفهوم هو نتيجة بعدية لنزع السحر عن العالم، وهو مفهوم طوره ماكس فيبر في إطار تحليله للقيم البروتستانتية وعلاقتها بالروح الرأسمالية، إذ تقدم العلم التقني صار ممكنا بفضل رفع الأسطرة عن العالم، وهو في نفس الوقت عامل ناتج عن هذا المفهوم؛ لأن "كل خطوة تقدمية تحققها المعارف التجريبية والسيطرة على الطبيعة تمثل بالمقابل تراجعا للعالم الميتاديني"[20]، فالفلسفية الأنوارية صاحبتها عملية كفاح مستمر ضد التواجد الثيولوجي في شكله الظاهر، أو في شكله المعرقل للفاعلية البشرية؛ لأنه كان يمثل لهم انسدادا للفكر المستقل القادر على البناء، وهي الأنماط الفكرية التي كانت خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لقد تقاسم ماركس مع فيورباخ الفكرة التي مفادها أن الدين هو عرض بسيط يفقد أسس الواقع. إنه العطر الروحي للوجود البشري[21]، إذ يظل مع ذلك عدو الحقيقة العلمية الحداثية، فهناك العلوم المادية الماركسية التي تمكن من ولوج الواقع عبر اكتشاف قوانين الحركية الاقتصادية ومن جهة أخرى هناك الدين، حيث يقحم العوامل الاجتماعية في إطار وعي مغلوط يعرقل الحركية التاريخية، لذلك وجب تصفيته من المجال الدنيوي، وهو عمل لم يقم به لا هيجل ولا فيورباخ، لكن مع ذلك ظل ماركس -حسب كارل لوفيث- لصيقا بالدين المسيحي، رغم ماديته المعلنة، يقول: "لقد رأى ماركس في" الطبقة البروليتارية الآلية التي ستسمح لتاريخ العالم بتحقيق هدفه الإسكاتولوجي، لكل التاريخ بفضل ثورة عالمية[22]، إذ بالرغم من النقد العنيف للدين، ولكل أشكال الفكر الديني (خاصة المسيحية)، إن النزعة الغائية ذات الأساس الديني، تظل ثاوية داخل التصور المادي للتاريخ، فرغم ماديتها المعلنة، يظل الضغط الإسكاتولوجي هو المحرك لخطاطة التاريخ، إذ تعكس هذه الخطاطة جوهرين لجوهر واحد؛ جوهر الكائن الحداثي بوصفه جوهرا لا إلهيا أو جوهرا إنسانيا وإلهيا معا، فماهيته تتصف بالانغلاق على ذاتها في إطارها المحدود وفق إمكاناتها المتناهية، لكن صفاتها بالمقابل إطلاقية، انغلاق تواجه به لانهائية المطلق، حيث تصير متضمنة لإمكانياته، هناك نوع من إضفاء الألوهية على الصفات الإنسانية ودمجها ضمن الممكنات البشرية، صار الإنسان يملك إطلاقيته الخاصة به، الحصول على الإطلاقية الذاتية المستلهم من حقل الإطلاقية الإلهية، وهو أمر أثاره بلومنبرغ H.Blumeneberg استعارة الحقل المفاهيمي مدرجا مثال جيورادانو برونو Bruno الذي أدخل في العالم صفة اللانهائي المؤسس على منطق مفهومه في الخلق المبني على افتراض ضرورة مساواة ما بين الخالق والمخلوق[23]؛ ففعل الخلق في ذاته فعل كامل، تحقق الرب بنفسه من خلال عملية خلقه ذاته، الاكتفاء بالذات في خلق ذاتها، على غرار هذا الخلق استلهم الكائن الحداثي صورته، إذ لم يعد يربط تحقق أفعاله بوعود خلاصية، بل سيحقق خلاصه بالاكتفاء بقدراته، ومن تم صار هو وتمثلات المقدس وجهان لوجود واحد، فعلى غرار المعابد الدينية أنتج التصور الحديث معابده أيضا، معابد تشكلت عبر أنساق فلسفية، فهناك معبد روسو، معبد كانط، وإذا قرأ الإله ما يوجد في هذا المعبد الفلسفي، فلن يسكنه بشكل شخصي أبدا[24]، صار الإنسان معبد نفسه. ومن تم، فإن العقل يمثل الإطلاقية الواجب تقديسها، وبهذا تمر الحداثة عبر وبفضل الإله الذي ظل حاضرا لكنه حضور عاجز، فالإله الحداثي صار صوريا فقط دون أن يمتلك وظيفة تأثيرية فاعلة في الحياة الواقعية، فقد إطلاقيته تحت إلحاح شرطية العتبة التاريخية التي استوجبها سياق الحاضر، الكائن الحداثي استوطن معبد المقدس ليصير مسكنا له، كما هو الأمر عند كانط، ما دام أن القانون الأخلاقي المتخذ صبغة أمرية ذاتية يحمل غايته في ذاته، وهو أمر ممكن استحضاره كأنه أوامر إلهية، وليس العكس[25]، لقد تم نزع صفة الإطلاقية الإلهية وأسندها للإنسان الحديث.

يمكننا القول إن واقعية العالم الحديث لا تتعلق بلانهائيات المكان والزمان في صيغتها الإطلاقية، فلانهائي الحداثي هو نتيجة لصفة محولة من الحقل الديني لإعلاء مكانة الإنسان، الإله كان غائب حاضر، ظل التمثل حاضرا والفعالية غائبة، الفعالية أسندت للإنسان (العقل العلمي) والتمثل أسند لصيرورة التاريخية (الغاية/النهاية)، طمح الإنسان لتشييد فضائه الوجودي الخاص به، واضعا بذلك المطلق خارج حدوده بعد أن سلبه كل آلياته ومهامه، فضاء يملك حدوده التأطيرية والنظرية والتجريبية وكذا التنبؤية لهذا المسار، حيث العصر الحديث أشبه بقصر يملك حميميته الداخلية، إذ هناك بوابة دخول تمثل بداية الفصل والقطع مع ما هو سابق (العصر الوسيط)، وأخرى تشير للمسار الإنساني التقدمي الذي بني وفق الآمال التوقعية لما هو قادم. إنه المستقبل البشري الواعد، لكنه يبني فسحته المكانية والزمانية الخاصة به -وفي نفس الوقت يرتبها - وفق الرحمة والعناية الإلهية، في هذا القصر لا ترى شيئا سوى الأنوار، في إطار ترجمتها لصيغة المحاربة ما بين الإله وملائكة الظلام.[26]

فالإنسان بإعادة تشييد بيته الداخلي، ونقصد هنا الانطلاق من الذات والغوص في مكوناتها، وكذا التعرف على آليات بنائها المعرفي قبل التوجه نحو العالم، قرر إحداث بداية تترجم جهوده تجاه هذا العالم ووضع رهان يستجيب لتحقق هذا المطلب، رهان إنساني صرف لا يستنجد فيه بالقوى السحرية أو الإلهية التي قد تخرج عن نطاق فاعليته الإنتاجية الأرضية، فعندما نطرح البداية وكذا الأسس البنائية نعلن، بشكل مباشر، أن الأمر والغاية من هذا الإعلان يتعلق أساسا بما هو جديد؛ أي إحداث قطيعة مع ما سبق ورسم حدوده الخاصة به، فما يجعل للحداثة تميزها ألا وهو الانفتاح على مفهوم المطلق واللامتناهي وجعله موضوعا قابلا للمحايثة يسري عليه ما ينطبق على تأسيس الذات، بنفس المبدأ والآليات المعرفية البشرية، هي عملية ترتبط بعلمنة المفهوم، ليصير أمرا يخص هذا العالم بالتحديد دون غيره، فأخذ هذه الصفة الإلهية، يعني أن مفهوم اللاتناهي قد تمت علمنته[27]، علمنة تمت وفق البيت الداخلي الحداثي، وهنا مفهوم العلمنة قد يحيل على ائتلافية بين الدنيوي والمقدس وفق معطيات هذا العالم، لقد نقل المفهوم من سياقه المتعالي إلى السياق الذي يخص هذا العالم، وبالتالي كان مفهوم اللانهائي عنصرا ميتافيزيقيا معلمنا بغاية إنسانية، علما أن المفهوم قد تبلور بداية داخل نسق النظام الكنسي السكولائي، لكنه صار بعد ذلك يعبر عن واقع لاكنسي، هو مسيحي ولامسيحي، وهو أمر قد قامت به أيضا الميتافيزيقا القديمة للكوسموس التي وجدت بالضبط اكتمالها، عندما استطاع أفلاطون وعلى الأخص أرسطو إقصاء مشكل اللانهائي وأنماطه العديدة واللامتناهية[28]، فهل العلمنة تحيل على نوع من الاتساقية أو لنقل نمطا من الائتلافية الحميمية بين المقدس والذنيوي؟.

3) الحداثة: اتساقية المقدس والدنيوي

كيف فكر الحداثيون في الإله فهما ومعرفة؟ بل بأية صورة وأي تمثل؟ وهل استطاعوا التخلص من المقدس الديني أم تم استغلاله لغايات بشرية؟

من هرقليط إلى الفلاسفة المعاصرين، تم تناول هذا السؤال الذي ولد شبكة واسعة من الإشكالات المفهومية، وهي إشكالات تحصر في الغالب في إطار مفهومين: المطلق والرب، فـ "التفكير في الرب يقول هيرقليط معناه التفكير في اللامتناهي، هذا الشيء الحكيم والمنفصل عن الكل"[29]، بما هو القائم بنفسه والمنفصل عن خلقه، قوامته تعود لذاته دون غيره، وقوامة خلقه تعود لإرادته الإلهية دون أن تعود لخلقه، فهو اللاوضوح "المميز عبر لا وضوحه ذاته" بما أن الغموض الذي يكتنف هالته القدسية هي من أهم مكوناته التعريفية[30]، إذ نعرف عندما نجهل أو لا نعرف؛ فالرب لا يطرح كمسألة قابلة للترجمة من خلال معرفة وضعية تجريبية وإلا ما كان ليكون مطلقا، في جهله وغموضه تكمن إطلاقيته، كما أن صفته لا تسمح بأن يدرك إلا بوصفه لامتناهيا، ذاك الكل اللامحدود المحيط بكل شيء، دون أن يحيط به بالمقابل أي شيء، فلا سبيل للإحاطة بمن يحيط بكل مخلوقاته بشكل لامتناهي. إن الإله غني عن العالم أو مكتف بنفسه عن العالم على خلاف الكائن البشري، فإذا كان الإله مكتفيا بذاته أصبح العالم من ثمة مكتفيا بنفسه، ولذلك، فإن العالم ليس نتيجة فعل إرادي، بل "واقع الأمر أن العالم يتأسس على جوهر العناية الإلهية وليس على الإرادة الإلهية."[31] ويمكن فهمه انطلاقا من مبدأ موجود خلقه في العالم؛ فالموجود المادي (العالم) انعكاس لوجوده، هذا الوجود "متطابق مع الوجود الغير المشخصن أو الغير الذاتي، وبالتالي، فالعالم تجليا وليس وحيا"[32]، مما يسمح بالانتقال إلى الخطوة الثانية التي تمثل الآخر المدنس أو الدنيوي، فهو اللاآخر غير القادر أن يصير هو بدون إرادة المطلق، فوجود المتناهي رهين بإرادة اللامتناهي، لذلك الإله فوق كل التمثلات فـ "الرب هو هدف كل الإمكانات، وراهنية كل الممكنات، إذ رؤية المطلق هي من تسمح لي بالقول أنا أكون لأنك تراني"[33]، لأن الوحي يفترض بشكل مسبق تفادي الظهور مادام يفضل التواصل عبر وحي، باعتباره آلية توسطية بين الإله والإنسان، "العالم إذن ليس شيئا آخر غير انعكاس للعناية الإلهية"[34]، ومن هنا نحصل على نوع من تأنيس الألوهية التي هي بالأساس إحداث قطيعة مع الإرادة الإلهية، قطيعة مع الإله بوصفه شخصا فاعلا مؤثرا، والاحتفاظ به بالمقابل تمثلا صوريا، تغليب كفة الإنسان على حساب كفة الإله دون أن ينفي أحدهما الآخر.

فكل الموجودات تستمد ضمانتها الفردية انطلاقا من الوحدة المطلقة اللامتناهية، لقد وقع إذن مزج بين مفاهيم المملكتين؛ مملكة المتناهي واللامتناهي، وصارت إمكانية الفهم ترتبط باتساقهما معا، اتساق بروح اللامتناهي وإرادة المتناهي، حيث نجد المتعالي كأنه مسكن يلتقي فيه الإله والموضوع (المخلوق) الباحث بهلع عن المطلق[35].

الذات الإنسانية الإلهية إذن تحمل وجهين يعمل أحدهما بآليات الآخر، في إطار قيادة العالم وفق العقلية العلمية الموجهة لهذا العالم دون غيره ودون استنجاد خارجي قد يمدها بمعنى خارج عن نشاطها الدنيوي، إعادة ترتيب الأولويات من الانتظار الاسكاتولوجي إلى تشييد الخلاص في صيغته الدنيوية، إذ المقدس قد ساهم في تهيء الأرضية الحداثية بإرادة بشرية عبر مطلب المعرفة العلمية، كمقياس لفهم العالم، فالكوجيطو صار مبدأ لعلاقة عقل واع بذاته في راهنيته، وهو ما فسره هوسرل بمعرفة خالصة بالأنا، هو مجال مغلق بشكل مطلق بالذات، والذي لا ينتسب لأي إله[36]، الأمر شبيه بمفهوم التجلي* فتجربة التجلي هي تجربة الخلق والخلاص معا، هي صيرورة حياة أكثر منها رسالة لفعل ما[37]، فتجلي الإله بنفسه يمر عبر تجلي الإنسان، إن فكرة الإله التي وضعت في الأنا عبر بعض الجواهر التي هي في حقيقة الأمر لانهائية، وكانت تخص اللامتناهي، لقد أصبح هذا السبب الفعال والكلي (الإله) هو أفضل الضمانات العقلية للإنسان الحداثي، وهو يمثل الإمكان الوحيد لتأسيس اليقين المعرفي، الضامن الثابت لبناء المعمار المعرفي، ففي التأمل الثالث، اعتبر ديكارت الإله مسبب ذاته بذاته المستغني عن شيء آخر ليوجد[38]، ولم يكن ديكارت الوحيد الذي عمل على استعارة الأساس الإلهي بما هو ضامن اليقين الذي لا يحتاج لإثبات يقينية وجوده، إذ نجد أيضا كانط الذي عمل على استلهام التعليل الديكارتي causa sui فصار الإله هو القالب الثابت (غير المتحرك) للإطلاقية الضرورية التي لا تترك أي مكان لكلمة "لماذا"[39]، إذ فكرة الإله هي الضرورة الوحيدة المتواجدة بشكل حتمي وبلا شروط ولا أي تعليل، إطلاقيتها هي يقينيتها، ويقينية معارفنا هي انعكاس ليقينية إطلاقيتها؛ فالعقل الخالص هو المفهوم الذي يسمح للإنسان بأن يفكر في صيغة هذه الضرورة اللامشروطة والمنزهة عن التجربة، الإله هو الفكرة الثابتة التي لا مفر منها للعقل، لقد تم توحيد الصفة الإلهية والصفة المتناهية، إذ المسألة تتعلق بعملية الرجوع لمفهوم اللامتناهي الوسيطي، وهو مفهوم استطاع الحصول على صفة التميز المرتبطة بجوهر طرح الأسس البنائية لنسق معرفي، الأمر الذي جعل الرجوع إليه رجوعا إيجابيا خلال الأزمنة الحديثة، وصار في نفس الوقت هذا الرجوع مدمرا بالنسبة للنسق السكولائي في العصر الوسيط؛ لأن هذا النسق كان مرتبطا بالتصورات السابقة للميتافيزيقا القديمة في شكلها الأرسطي.

يمكن القول إن القرن التاسع عشر هو القرن الذهبي لفلاسفة المقدس، حيث العقل يوازي المطلق في صفاته الإطلاقية، فاللامتناهي قد فهم بوصفه موضوعا قابلا للتنزيل داخل الذات المتناهية وعبرها، الأنا بوصفها مطلقا، فلا مجال للبحث خارج الذات لا عن الإله ولا عن الخلود ولا عن الخلاص، فالتاريخ يصنع هنا والآن وفق إرادة بشرية فاعلة، فاعليتها من فاعلية اللامتناهي. إنه فقط داخل هذه الذات وبشروطها العلمية ينكشف المطلق، حيث بالإمكان ترجمته لتجربة حية بشكل وجودي يخرجها من انعزالها في عالم التعالي إلى وجودها المحايث، المطلق الحداثي إذن محايث لذات أكثر من محايثتها لذاتها، هذا التوجه اتسمت به بشكل كبير الرومانسية الألمانية، مادام أن الإنسان الدنيوي هو إنسان منشق عن الانسان الديني Homo religiosus وبالتالي لا يمكن أن ينفي أو يبطل تاريخه[40]، فالمطلق لا يفهم انطلاقا من ذاته، وإنما في ارتباطه بالتاريخ، المطلق هو سيد صيرورة الأشياء، لكن جعل المقدس سيد التاريخ، ألا يجعل هذا من الإنسان الحداثي قسا ورعا؟

4) المقدس والتاريخ

كانت فكرة المقدس حاضرة في كل الأزمان، وارتبطت بمختلف الثقافات؛ فكل عصر نحت مفهوم المقدس حسب بنياته وتوجهاته كما لو أن البنية الروحية للإنسان تخشى هي أيضا الفراغ[41]، لكن حضوره تميز بصيغ متغيرة على مر التاريخ، هذا التاريخ الذي لا يرتبط فقط بالتحديد بسياق الحاضر بما هو الأرضية لكل ما يقع آنيا، وهو أمر يتطلب بالضرورة الاستناد لقاعدة ماورائية تؤسس استمرارية سند صيرورته الراهنة، إن التاريخ ذاته يحمل تاريخا، فدلالته الأنطولوجية لا تتعلق فقط بمعرفة ما حدث في الماضي، ولكن هذا الماضي نفسه قد مضى عبر العديد من مراحل التشكل التاريخي المكونة لهويته الماضية التي تلخصها لحظة الحاضر، بما هو امتداد لأبعاد التاريخ، لكن إن كان العالم قد نزعت قدسيته فالإنسان إذن، صار موضوع ومفتاح التاريخ[42]، ولنطوق دلالة حضور مفهوم المقدس خلال الأزمنة الحديثة، وجب تسطير ملامح عتبتها الزمنية، فالحداثة لخصها لويس دوبري Louis Dupré من خلال ثلاثة أشواط، ابتدأت خلال نهاية القرن الرابع عشر تحت تأثير النهضة الإيطالية والثيولوجيا الاسمية، وأيضا جراء الاكتشافات العلمية التي واكبت المرحلة. أما المرحلة الثانية، فتغطي ما بين سلام ويسفالي الذي كان سنة 1648 والثورة الفرنسية 1789. إنه عصر الأنوار، ثم المرحلة الأخيرة خلال القرن التاسع عشر مع النزعة الرومانسية[43]، تقسيم مرحلي لا يحمل منطقه التفسيري، إن كان تتابعيا تطوريا أو استمراريا لما سبق، بقدر ما يسمح بإمكانية منح الأزمنة الحديثة سياجها الزمني ويطوقها باعتبارها أزمنة لها هويتها المغايرة بمعزل عما سبقها، وهو أمر برعت فيه الحداثة بشكل ملفت، إذ أنتجت تسييجا ذاتيا انعزاليا شكل ماهيتها إزاء ماضيها ذاته، يتعلق الأمر إذن بانعزال سببه الإنسان الحداثي بنفسه، ليمنح لنفسه شرعيته التاريخية، انعزال صعب حذفه أو حتى التغاضي عنه، فالاختلاف الكبير ما بين الإنسان الحديث والإنسان الوسطوي والقديم يتمثل في أن هذين الأخيرين يريان في العالم حيث الكائن الإنساني والطبيعة والإله، حالة تداخل لا مجال للفصل فيها.[44] في حين أن أنماط الفهم الحداثية أكسبته موقعا مختلفا، وأخرجته بذلك من هذه الفرضية الوسطوية، فالإنسان صار المانح الوحيد للمعنى بعد أن كان يتلقاه من المطلق، ولم يعد يسعى لمخاطبة السماء، بل أصبح يكلم نفسه أو كما اعتقد هو أنه صار "سيد الكون" سيد قادر على إحداث التغيير وفق إرادته البشرية المنعزلة عن الذات المطلقة. فهل انسحب المقدس فعلا من الساحة الحداثية؟ وهل كان الإنسان الحداثي لا ديني حقا؟ أم إن حتمية تدينه تتمظهر من خلال أنساقه الحداثية بشكل أكثر مهارة وإتقانا عما كان سابقا؟

اقتحمت الحداثة عصرا جديدا فتح المجال الفكري والفلسفي على نوع من نزع السحر عن العالم، والفكر العلمي، وعلى علمنة وسائل حداثتها، لكنه لم يكن نوعا من رفع القداسة عن هذا العالم، بل إن أمر ظهور المقدس يتحقق عبر نمط مغاير بشكل تام عما كان سابقا عن هذه الأزمنة، لكنه لم يكن أبدا نزعا للقدسية عن العالم[45]، بالمعنى الذي يفيد غيابا تاما لحضور المقدس؛ فالمقدس ظل حاضرا في التفكير الحداثي لكن بصور استيعابية مغايرة ونمط وجودي مختلف، فإذا سلمنا أن مفهوم اللاتناهي الحديث للكون كان علمنة لهذه الصفة، فإن الأمر سيكون هو ذاته آلية لتفكك النسق الوسيطي المحرر من أجل هذا التحول[46]، وتكون بالتالي عملية العلمنة الحداثية مسألة مشروعة، وتستجيب لآليات سياقية تاريخية، وهو أمر اعتبره كارل لوفيث K.Lowith لا مشروع، إذ إن التصور الثيولوجي ظل ثاويا خلف فلسفات التقدم على الخصوص، التي أحلت داخلها المدنس والدنيوي محل المقدس، والاعتقاد في العقل والتقدم، محل العناية والإرادة الإلهية، فـ "الأزمنة الحديثة هي علمنة للنمط الإسكاتولوجي للإيمان، تم تعويض الأمل بانتظار اكتمال مملكة الرب عبر فكرة التقدم"[47]. إن هذا التحول نحو دنيوة التاريخ سيقود إلى التساؤل عن شكل استمرارية التاريخ، وبالتالي محاولة بلوغ نهاية مساره، وهو أمر اعتبره لوفيث حجة على بطلان شرعية الأزمنة الحداثية؛ لأن الأمر يتعلق بالوعي الحاد بالمستقبل بهوس المستقبل، باعتباره زمن الحقيقة وزمن تحقق مملكة الإنسان، توصل لوفيث إلى أن الوعي الحداثي في صورته التاريخية قد يكون تخلص من الإيمان المسيحي في صورته الأولى، لكنه بالمقابل ارتبط بمسلماته ونتائجه التي حاول استدماجها بشكل أمين في فلسفة التاريخ، وهو ما يؤكد فشل الفكر الأنواري في القطع معها، بالمقابل برع في صياغة مفاهيمها وفق إلحاحية أسئلة الحاضر، وهو منظور تلقاه الحقل الثيولوجي المعاصر بإيجابية؛ لأنه يستجيب لطموح الثيولوجي المسيحي، فتاريخ الخلاص خط مستمر منذ ميلاد المسيح إلى تحقق الخلاص، فالرب يتبع خطته والتصور الإنجيلي يساعدنا على فهم حاضرنا، يؤكد كولمان O.Cullmann "الإنجيل يعلمنا استيعاب وفهم إشارات زمننا إشارات تشير إلى نهاية... وهذا يخص بالأخص التاريخ الدنيوي"[48].

لذلك، فإن واجب حاضرنا في خضم هذا المسار الخطي هو الحفاظ على تقاليدنا الغربية وتثقيفها بروح الاستمرارية، التي عززتها الأطروحة اللوفيثية، وإن كان مقصد هذا الأخير ليس إثبات الرسالة الثيولوجية بقدر ما هدف لنزع الأصالة عن الأزمنة الحديثة في علاقتها بالأزمة السياسية المعاصرة، لكن الحقل الثيولوجي اتخذها لصالحه، وقد تناولها بولتمان R.Bultmann بالتعمق في اتجاه نقد الأنساق الحداثية؛ لأنها لم تقدم علمنة حقيقية، وإنما مجرد علمنة مزيفة، تصور عمل على تثمين الحاضر على خلاف ما كان سابقا داخل أسوار الكنيسة المسيحية، فالحاضر حجرة أساس لبناء المستقبل، فلا وجود لقطيعة مع التصورات الثيولوجية، وإنما فقط تواصلية نحو النهاية/ الخلاصية التي تمثل الحاضر والمستقبل لعالمنا[49]؛ لأنه زمن ممتد بشكل كلي، حيث الحضور الثيولوجي يعبر عن نفسه بشكل أنثروبولوجي متعدد.

إن حضور الثقل الثيولوجي في المسار التاريخي لا يعني سلبية الوجود البشري بشكل كامل، لقد اكتفى الرب بخلق العالم، لكنه بالمقابل أهل الإنسان ليخلفه على الأرض، إذ هناك مسؤولية ملقاة على عاتق الإنسان إزاء العالم، لذلك فإن تجليات المقدس ظلت حاضرة من خلال ابنه الإنسان، مادام أن الإيمان المسيحي في جوهره يعلل علاقة الإنسان أمام الرب، فالأب يمنحه إمكانية علمنة العالم، مما يبرهن على أن الجانب الإيماني المسيحي هو فضاء محدد من الرب، وأن مفهوم العلمنة هو مجال يبرهن فيه الإنسان على إتمام مهامه التي يقوم بها باستقلالية ومسؤولية إزاء العالم وإزاء نفسه، علمنة تعكس نوعا من الاسكاتولوجيا الوجودية المبرهنة من خلال العتبة الزمنية التي تخص الحاضر، يمكن القول إن الاسكاتولوجيا الوجودية التي نادى بها الحقل الثيولوجي تأخذ على عاتقها تبرير استلهام التصور الثيولوجي، وهو أمر قامت عليه أيضا فلسفة التاريخ، فهيجل مثلا أخذ الإيديولوجيا اليهودية المسيحية وأدمجها في التاريخ العالمي في كليته من خلال الروح العالمية التي تتجلى باستمرار في الأحداث التاريخية.[50]

خاتمة:

المقدس إذن، لم يغب عن الساحة الفكرية، سواء كان مضمرا أم ظاهرا، ممارسة أو فكرا، تمثلا أو اعتقادا، فحتى الغالبية العظمى للادينيين لم يتحرروا بالمعنى الخالص من التصرفات أو السلوكيات الدينية[51]، وإنما تعلق الأمر خلال الأزمنة الحديثة- باعتبارها أبرز محاولة لاستبعاد المقدس وتجلياته- بمحاولة الانفلات من القبضة الإلهية في صورتها المأثرة على المجال البشري، نسق حداثي لم يستبعد المقدس بقدر ما أعاد تقييم المقدس والتصورات والمفاهيم المرتبطة به بصورة مغايرة تستجيب لمنظوره المختلف عن العالم عما كان سالفا، لكنه حضور حمل قيما انسانية عملت على تفعيل قيم التعايش الإنساني، فاختلاف الديانات لا يساهم في التفرقة أو العنف، وإنما هو اختلاف يرتبط باختلاف الثقافات البشرية، وهو فضل حملته الأزمنة الحديثة، إذ اتساقية المقدس والمدنس جعل الاعتقاد الديني أمرا يخص الفرد، فالإيمان هو إيمان فردي باطني لا يرتبط بالضرورة بممارسة الطقوس الدينية التي تعلن عن طبيعة هذا الإيمان، إذ علاقة المقدس بالمتناهي هي علاقة حميمية تسكن الإنسان، هو كائن فينا، وفق منظور إيماني يراعي اختيارات الأفراد والجماعات، لكن رغم هذا الوجه الإيجابي الذي حملته الأزمنة الحديثة، إلا أن المسألة أثيرت من جديد، وهو أمر عززته الأزمات ومظاهر العنف الناتج عن التصورات الدينية الضيقة، أمر لم يخص مجتمعا بعينه، بل طال حتى المجتمعات التي اعتقدت أنها حملت امتيازا في الفصل بين المقدس والدنيوي، فهل يمكن اعتبار استبعاد المقدس مطلبا أساسيا في الحياة الإنسانية، وشرطا ضروريا لتحقيق المسار التاريخي البشري؟ أم إن المطلب الحداثي المستلهم من المقدس ساهم في نهاية البراديغم الحداثي؟

في الحقيقة هو مطلب تجذر في ثقافتنا العربية على غرار العالم الغربي نتيجة الأفكار المتوارثة التي حملها الجيل الأول القادم من البعثات الخارجية التي أبهرت بالحداثة في صيغتها الأكاديمية أو لنقل المكتبية، حتى إن طلاب البعثات هذه، لم يهضموا بما فيه الكفاية ما كانوا يتلقونه من أساتذتهم، بل لم يعوا حتى إن ما يوصلونه لهم قد عرف تاريخا طويلا لبلورته فكريا[52]؛ أي عقلنة نظرية رفع لواءها فلاسفة الحداثة أنفسهم، كأنها وصفة سحرية تسير بالأمم نحو مآل تقدمي، ومن تم ارتبطت تصوراتنا بتأويلاتنا الطموحة لا بالجذور الأصلية لهذه الأزمنة، بآفاقها الغائية لا بواقع صيرورتها السياقية، بتنظيرات فلاسفتها لا بزمنيتها التاريخية، مما خلق نتائج معاكسة عما عرفه الغرب، إذ استحضر مفهوم المقدس بما هو الأحق بالبقاء على حساب الإنسان، العمل على النقص من قيمة الدنيوي لأجل إعلاء قيمة اللامتناهي، تبخيس الحياة الدنيا على حساب الحياة الموعودة، فصار الموت احتفالا، والحياة امتحانا عسيرا ينتظر فرصة تحقق الخلاص النهائي (الجهاد نموذجا)، لقد فقدنا الدافع للعمل الدنيوي ألا وهو اشتهاء الكفاح الحياتي لذاته، أن نحب الحياة في صفتها الدنيوية ونسعى إليها، وهو واقع يعكسه ارتفاع الأصوليات والتطرفات الدينية بماهي أشكال تحمل صبغة قدسية انغلاقية على تصوراتها، لذلك فالوعي النوستالجي بتاريخ الأفكار المرتبط بمختلف تلوينات حضور المقدس في الفكر الأنواري الغربي يؤكد ضرورة إدراك العلاقة الصراعية أو التوافقية على حد سواء ما بين العقل والمقدس، بما هما المصدران اللذان منحا معنى لهذا العالم، حتى وإن افترض أن هذا العالم لا يحمل معنى، وعلى ضوء هذا الاستيعاب يمكن تنوير مظاهر التطرف الانغلاقي المُكتف بتنزيه المقدس على حساب الكائن البشري دون القدرة على استيعاب تصور آخر؛ لأنه قد يشكل عنصر تهديد أو نفي للمقدس، فصرنا نمثل المقدس حتى في غياب المقدس.

لذا، فإن الحداثة الدينية لا تعني إخراج المقدس أو وضعه على الهامش الدنيوي، بل ظل حاضرا عبر تمثلاته وآلياته، إذ نظل دوما نتحرك داخل بنيته التي نحملها بوصفنا كائنات دينية، لكن الأمر لا ينفي أن هذه العلاقة الحميمية الاتساقية التي جمعت بين المقدس والدنيوي منحت بدورها معمارا فكريا مختلفا، "ما تحقق بالتأكيد وأصبح بديهية واضحة عند الإنسان الغربي العادي هو القضاء النهائي على الإكراه الديني. كل إنسان، بغض النظر عن مستوى تكوينه وانتمائه الطبقي، يسلك طبقا لاختياراته الشخصية وقناعاته، حتى وإن كان تربى في وسط عائلي متدين أو علماني. فكم من إنسان تلقى تربية دينية وأخذ موقفا من دينه عندما أصبح راشدا، وكم من آخر تربى تربية "علمانية" وأصبح متدينا فيما بعد"[53]، لذلك فالتحولات التي خضع لها مفهوم المقدس فكريا هو أمر يمر عبر تحويل يمس الفكر ذاته[54]، كما أن الحداثة التقنية والعلمية لا تعني تحقق التقدم البشري القادر على ايصال البشرية لأفضل مراحلها، فواقع الحال أوضح أن الأمر قد يأتي بعكس ما تم تسطيره من خلال الأزمنة الحديثة، إن المناداة بحداثة دينية وتقنية عربية موازية للحداثة الغربية لعدة عقود ظلت في أجزاء منها حبيسة التصور المرتبط بما حاولت الحداثة تحقيقه. أما واقع التحققات وما بنيت عليه في واقع الأمر، فهو أمر مختلف، يمكن القول بالنهاية "أن الدين لم يفارق العلمانية، ولم تفارق العلمانية الدين في الغرب، بل يمشيان يدا في يد في المجال العمومي الغربي كشقيق وشقيقة، يتبادلان المساعدات والخدمات ويقفان معا أمام كل المخاطر التي تعترضهما"[55].

إذن، لم تبن الحداثة الغربية على قطيعة مع المقدس أو تجلياته، وإلا تطلب الأمر مجالا آخر غير المجال الذي تحركت فيه الأنساق الفكرية الغربية، مجال لم يختبر مفهوم الدين أصلا، إطارا فارغا يتم ملؤه بتصورات لم تلتق بالتصورات الدينية، فالروح الدينية الثاوية والهجينة نجدها أيضا في الحركات التي تعلن بشكل صريح أنها لائكية[56]، مادام أن التجارب التاريخية البشرية تقر بعدم إمكانية غلق النقاش الدائر حول طبيعة تعاطينا للمقدس بشكل نهائي وحتمي؛ لأنها تجارب أكدت أننا لا نعرف ما معنى الخروج من تجليات المقدس في صورته الدينية لنسائل وضعنا إزاءه، إذ يظل المقدس حاضرا، وإن استبدل في أشكال ورموز أخرى، فقد نغير المنظور والزاوية لكن يظل الدين يسكننا، وهو أمر قد لا يعيب الحداثة بقدر ما "فرض تبني براديغم جديد، اصطلح على تسميته بعودة السحر للعالم of the wold reenchantement؛ بمعنى إعادة دور الدين في المجتمعات المعاصرة، والتخلص من مقولة "أفول الدين" التي كانت طاغية في السابق."[57].

هذا الأمر لا يعني أن الحداثة قامت بتوليفة المقدس كما عهدناه سابقا، بل إن عملية التوليفة أو الائتلاف بينهما هي عملية رسمت براديغما حداثيا، وهي توليفة لا تغيب فيها الحدود ولا تحضر، بل توليفة مرنة ورخوة قد يغلب طرف على الآخر وقد يحدث العكس، إذ حتى إن تم نزع العلمنة أو عودة السحر أو المقدس، فإن الأمر لا يعني عودة تكرارية تبطل المفعول الفكري الحداثي، مادام أن ميزة البراديغم الحداثي هو عملية مزجه بين المقدس والدنيوي، وهو أمر لم نعهده سابقا....

 

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

_______________________________________________________________

المصادر والمراجع

*- باللغة العربية

  • تزفيتان تودورف، روح الأنوار، ترجمة حافظ قويعة، دار محمد علي، الطبعة الأولى، تونس 2007
  • حميد لشهب، ما قبل ما بعد العلمانية، مجلة الاستغراب، صيف 2017
  • حميد لشهب، نهاية العلمانية، نهاية الدين، محور العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني، الحوار المتمدن، العدد11/10/2014، مشاهدة يوم 12/05/2021
  • دوريندا أورترام، التنوير-دار الفارابي، مؤسسة محمد بن راشد ال مكتوم، الطبعة الاولى، بيروت 2008
  • رشيد الجرموني، »الأديان في العالم المعاصر في قراءة المشهد الديني بمنطقة العالم العربي الإسلامي«، مركز نهوض للدراسات والبحوث، أبريل 2020، www.nohoudh-center.com، مشاهدة يوم 21/5/2021
  • كاترين كوليو تيلين، ماكس فيبر والتاريخ، ترجمة جورج كتورة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 1994
  • لونيس بن علي، »النقد والمقدس: في انزلاقات النقد من نقد الدين إلى النقد الديني، المقدس والتاريخ«، سلسلة ملفات بحثية، مؤمنون بلا حدود، اشراف وتنسيق: البشير ربوح والحاج دواق، 30 ديسمبر 2016
  • ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ترجمة د. محمد علي مقلد، مراجعة جورج أبي صالح، مركز الانماء القومي، لبنان.
  • يورغن هابرماس، جوزيف راتسنغر، جدلية العلمنة: العقل والدين، تعريب وتقديم: حميد لشهب، جداول، الطبعة الاولى، 2013، لبنان.

*- باللغة الفرنسية

  • Daniel Vidal, « Aviad Kleinberg, Le Dieu sensible », Archives de sciences sociales des religions, 184 | 2018, 318-320
  • Daniel Vidal, « Jean Greisch, Du « non-autre » au « tout autre ». Dieu et l’absolu dans les théologies philosophiques de la modernité », Archives de sciences sociales des religions, 168 | 2014
  • Daniel Vidal, « Jean-Louis Chrétien, L’espace intérieur », Archives de sciences sociales des religions, 172 | 2015
  • Gervais Deschenes, « pour la spiritualité du loisir », loisir et société, volume 25, printemps 2002, presses de l’université du Québec.
  • H.Blumenberg, la légitimité des temps modernes, traduit de l’allemand par Marc Sagnol, Jean Luois et Denis Trieweiler avec la collaboration de Marianne Dautrey, édition Gallimard, nerf.
  • Joris Geldhof, « Sacré Salut et Liturgie. A la rencontre de la théologie et de l’anthropologie », Transversalités, 2009/4(n0112).
  • Karl lowith, histoire et salut, tard: par Marie-Christine Challiol, Gillet, Sylvie Hurstel et Jean François kervégan, paris, Gallimard, 2002.
  • Lionel Obadia, Religion et modernité: Anciens débat, enjeux présents, nouvelles perspectives, Socio anthropologique 2006, www.journals. openedition.org, vu le 23/juin/2021
  • Marcel Gauchet, le désenchantement du monde ; une histoire politique de la religion, Gallimard, 1985
  • Michel Carrier, « penser le sacré, les sciences humaines et l’invention du sacré », Archives de sciences sociales des religions 136, décembre 2006.
  • Mircea Eliade, Lé sacré et le profane, Gallimard 1965
  • Oscar Cullmann، Salut dans l’histoire, tard: de l’allemand par marc Köhler, éditions délachaux et niestlé, paris.
  • R.Bultmann, foi et compréhension ; eschatologie et démythologisation, trad: sous la direction d’André Malet, par A.et S.Pfrimmer, S.Bovetet , A. Malet, éditions du Seuil, paris.
  • Rudolf Bultmann, jésus, mythologie et démythologisation, préface de Paul Ricoeur ; aux éditions du seuil, paris.
  • Sergio Paulo Rouanet, « Religion et connaissance », Diogène, 2002(n0 197).
  • Stéphane Dufour et Jean- Jacques Boutaud, « Extension du domaine de sacré », questions de communication, 31 aout 2013

* يرجع التمييز بين المفهومين المقدس والمدنس إلى دوركهايم من خلال عمله les formes élémentaires de la vie religieuse المنشور خلال 1915، حيث يحيل المعطى الديني على مفهوم المقدس، هذا المقدس هو الضامن لتحقيق التوازن الاجتماعي، يتم استحضاره وظيفيا بما هو نظام موحد من المعتقدات والمقدسات المرتبطة بالأشياء المقدسة، ويحظى مفهوم المقدس بحجاب التحريم، وما عداه يدخل بخانة التدنيس....

[1] لونيس بن علي، » النقد والمقدس: في انزلاقات النقد من نقد الدين إلى النقد الديني، المقدس والتاريخ «، سلسلة ملفات بحثية، مومنون بلا حدود، اشراف وتنسيق: البشير ربوح والحاج دواق، 30 ديسمبر 2016، ص5

[2] Mircea Eliade, Lé sacré et le profane, Gallimard 1965, P.25

[3] Stéphane Dufour et Jean- Jacques Boutaud, « Extension du domaine de sacré », questions de communication, 31 aout 2013, p.19

[4] Mircea Eliade, Lé sacré et le profane, op.cit., p.25

[5] Ibid., p.102

[6] Stéphane Dufour et Jean- Jacques Boutaud, « Extension du domaine du sacré », op.cit., p.9

[7] Ibid, p. 28

[8] لونيس بن علي، » النقد والمقدس: في انزلاقات النقد من نقد الدين إلى النقد الديني، المقدس والتاريخ «، مرجع سابق، ص6

[9] أحمد محمد صبحي، فلسفة التاريخ، دار النهضة العربية، بيروت، 1994، ص166

[10] نفس المرجع، ص167

* تفرض الضرورة المنهجية والمعرفية محاصرة الشحنة الدلالية لمفهوم المقدس وسياقات تداوله، باعتباره مفهوم له تاريخه الخاص الذي نشأ في محيط ثقافي وفلسفي، ما يجعل الباحث أمام وضع يدعوه إلى استشكال هذا المفهوم في شبكته العلائقية من الأفكار التي واكبت تداوله وتمثلاته، فتجد صيغة الاستشكال هنا مبررها، مادامت تتطلع إلى توضيح الصورة في زمانية تطورها ورسم الحدود بين تقاطعات المقدس والمدنس، وتموضعات الحداثة ازاء قراءتها واستعمالاتها للمقدس وتمثلاتها أيضا له.

[11] Lionel Obadia, Religion et modernité: Anciens débat, enjeux présents, nouvelles perspectives, Socio anthropologique 2006, www.journals. openedition.org, vu le 20/juin/2021

[12] كاترين كوليو تيلين، ماكس فيبر والتاريخ، ترجمة جورج كتورة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الاولى 1994، ص80.81

[13] Mircea Eliade, Lé sacré et le profane, op.cit., p.19

[14] ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ترجمة: د. محمد علي مقلد، مراجعة جورج أبي صالح، مركز الانماء القومي، لبنان، ص145

[15] Marcel Gauche, le désenchantement du monde; une histoire politique de la religion, Gallimard, 1985p. 10

[16] ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، مرجع سابق، ص 77

[17] Stéphane Dufour et Jean- Jacques Boutaud, « Extension du domaine du sacré », op.cit., p.10

[18] تزفيتان تودورف، روح الانوار، ترجمة: حافظ قويعة، دار محمد علي، الطبعة الاولى، تونس 2007، ص.11

[19] يورغن هابرماس، جوزيف راتسنغر، جدلية العلمنة: العقل والدين، تعريب وتقديم: حميد لشهب، جداول، الطبعة الاولى 2013، لبنان، ص23

[19] Sergio Paulo Rouanet, « Religion et connaissance », Diogène, 2002(n0 197), p.41

[20] Ibidem

[21] Ibidem

[22] Karl Lowith, salut et histoire, tard: par Marie-Christine Challiol, Gillet, Sylvie Hurstel et Jean François Kervégan, paris, Gallimard 2002, p.61

[23] H.Blumenberg, la légitimité des temps modernes, tard: marc Sagnel, J.Schlegel, D.Trierweiller, éditions Gallimard, 1999, p. 88.89

[24] Daniel Vidal, « Jean-Louis Chrétien, L’espace intérieur », Archives de sciences sociales des religions, 172 | 2015. p.3

[25] Ibid., p.3.4

[26] Ibid., p5

[27] H.Blumenberg, la légitimité des temps modernes, tard: Marc Sagnel, J.Schlegel, D.Trierweiller, éditions Gallimard, 1999, p88.89

[28] Ibid., p.90

[29] Daniel Vidal, « Jean Greisch, Du « non-autre » au « tout autre ». Dieu et l’absolu dans les théologies philosophiques de la modernité », Archives de sciences sociales des religions, 168 | 2014, p.2

[30] Ibidem.

[31] H.Blumenberg, la légitimité des temps modernes, trad. Marc Sagnel, J.Schlegel, D.Trierweiller, éditions Gallimard, 1999, p. 649.

[32] Ibidem.

[33] Daniel Vidal, « Jean Greisch, Du « non-autre » au « tout autre ». Dieu et l’absolu dans les théologies philosophiques de la modernité », op.cit., p.2

[34] H.Blumenberg, la légitimité des temps modernes, op.cit., p.651

[35] Daniel Vidal, « Aviad Kleinberg, Le Dieu sensible », Archives de sciences sociales des religions, 184 | 2018, p.5

[36] Daniel Vidal, « Jean Greisch, Du « non-autre » au « tout autre ». Dieu et l’absolu dans les théologies philosophiques de la modernité », op, cit, p, 3

* تجربة التجلي ترتبط بشكل أساسي بالتأويل الثيولوجي، فالله عندما يتحدث فإنه يتحدث عبر الإنسان، ومن خلال الإنسان، إذ يتجلى في كل أنماط الوجود البشري وتاريخه، التجلي يفهم بما هو وعي متعال والتزام إنساني إزاء الفعل الإلهي المتجلي من خلال التاريخي البشري ذاته.

[37] Gervais Deschenes, « pour la spiritualité du loisir », loisir et société, volume 25, printemps 2002, presses de l’université du Québec, p. 192

[38] Ibidim.

[39] Ibidim.

[40] Mircea Eliade, Lé sacré et le profane, op.cit., p.176

[41] Jacques Boutaud-Stéphane Dufour et Jean, Extension du domaine du sacré, op.cit., p.10

[42] Michel Carrier, « penser le sacré, les sciences humaines et l’invention du sacré », Archives de sciences sociales des religions 136, décembre 2006, p.2

[43] Joris Geldhof, « Sacré Salut et Liturgie. A la rencontre de la théologie et de l’anthropologie », Transversalités, 2009/4(n0112, p.26

[44] Ibid, p.28

[45] Ibid., p.29

[46] H.Blumenberg, la légitimité des temps modernes, op, cit., p. 90

[47] Karl lowith, histoire et salut, ibid, p.21

[48] Oscar Cullmann, le salut dans l’histoire, trad.: de l’allemand par Marc Köhler, éditions délachaux et Niestlé, paris, p. 300

[49] R.Bultmann, foi et compréhension; eschatologie et démythologisation, trad: sous la direction d’André Malet, par A.etS.Pfrimmer, S.Bovetet A.Malet, éditions du seuil, paris, p.319

[50] Mircea Eliade, Lé sacré et le profane, op.cit.39

[51] Ibid., p.176

[52] حميد لشهب، نهاية العلمانية، نهاية الدين، محور العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني، الحوار المتمدن، العدد11/10/2014، مشاهدة يوم 12/05/2021

[53] المرجع نفسه.

[54] Michel carrier, penser le sacré, op, cit., p.4

[55] حميد لشهب، » ما قبل ما بعد العلمانية «، مجلة الاستغراب، صيف 2017، ص149

[56] Mircea Eliade, Lé sacré et le profane, op.cit., p. 176

[57] رشيد الجرموني، » الأديان في العالم المعاصر في قراءة المشهد الديني بمنطقة العالم العربي الإسلامي«، مركز نهوض للدراسات والبحوث، ابريل 2020، www.nohoudh-center.com، مشاهدة يوم 21/5/2021