المهاجر في مواجهة الامتناعات النظريَّة


فئة :  مقالات

المهاجر في مواجهة الامتناعات النظريَّة

المهاجر في مواجهة الامتناعات النظريَّة[1]

محمد هاشمي

توطئة

ليس من مهمات الفلسفة السياسيَّة، على الأقل في نسخها الليبراليَّة، أن تملي على الناس ما ينبغي أن يفعلوا، ولا أن تحترم بشكل مبدئي ما يعتمل في وجدانهم من مشاعر «رقيقة» وسطحيَّة، في الأغلب هم لا يحتملون توابعها وتكلفتها الفعليَّة على أرض الواقع؛ بل إنَّ الغالب على هذه الفلسفة السعي إلى كشف الممكن الاستدلالي في تبرير الاختيارات التي تهمُّ الشيء العمومي، الذي يأخذ في الحياة المدنيَّة للناس شكل «خيرات عموميَّة» لها تكلفتها وقيمتها، ويسهم الجميع بنصيب في أدائها، ومن ثمَّة إنَّ الجميع أيضاً يطالب بوجوب إقناعه استدلالياً لا بمنطق التحكُّم، بمدى معقوليَّة استفادة الغريب المهاجر الدخيل الذي لم يقدّم أيَّة مساهمة، فيما لم ينبت داخل الطبيعة، ولم يتنزّل كمَنٍّ وسلوى من السماء[2]؛ بل استغلّ لأجله كائنات ذوات إرادة ومشاعر لم تبلغ غاية من الغيريَّة تجعلها لا تسأل ولا تهتمّ بأسئلة من هذا القبيل.

1. وضعيَّة المهاجر ومعضلاته النظريَّة

لا أحد يذكر (إلا من خلال افتراضات عقليَّة بالغة التجريد) متى عاش الإنسان في «العالم» باعتباره كائناً طبيعياً يُنسب بكيفيَّة متجانسة إلى المفهوم العام المجرَّد لكلمة إنسان. فحيثما وجد هذا الأخير، كان مؤطَّراً داخل مؤسَّسات، متحيزاً ومتميزاً على أساس علامات فارقة وعازلة وفاصلة، تضبط بشكل صارم الفرق بين القريب وبين الغريب، على أساس فكرة المواطنة، لا انطلاقاً من المفهوم العام لكلمة إنسان. يمكن القول، إذن، إنَّ المهاجر على المستوى المفاهيمي يعيش تيهاً حقيقياً، وضغطاً وتوتراً من جهة هويّته المتأرجحة بين وضعيَّة الإنسان، وبين وضعيَّة المواطن.

إنَّ الخطر المحدق بالمهاجر هو بالضبط هذا الانزلاق على مستوى الهويَّة، من انتماء واضح وبيِّن وقابل للاستيعاب من طرف الأغيار، إلى وضعيَّة معلّقة لا تُفهم إلا على أساس سلبي؛ أي ما ليس هو حينما ننظر إليه من زاوية المواطن المقيم في بلده، حيث يبدو زائدة على الهويَّة المركزيَّة، أو ما لم يَعده حينما نستحضر هويَّته الأصليَّة، التي لم تعد قادرة على أن توفر له مستقراً آمناً، أو إنَّها تبدَّدت بفعل عوامل تاريخيَّة وسياسيَّة.

هذا الانزلاق يضع المهاجر في «خانة عامَّة» تفتقد الملامح التميّزيَّة، حيث يتحوَّل من مواطن محدَّد المعالم والملامح إلى كائن إنساني غارق في العموميَّة. وهذا مكمن الصعوبة في رأينا. على اعتبار أنَّه، من حيث انفلاته من هويَّة المواطن، يعيد الوضعيَّة الإنسانيَّة إلى مرحلة الصفر، على أساس أنَّ كلَّ الجهد المدني للإنسانيَّة هو بالضبط الخروج من الانتماء الأوَّلي والطبيعي لمفهوم الإنسان، في سبيل نحت تلك الهويَّة الخاصَّة للمواطنة، القائمة بشكل مركزي على علاقة الحقوق والواجبات. الحال أنَّ المهاجر يعيش بشكل أحادي تجاه المواطنين، إنَّه كائن «حق» قبل كلّ شيء، أو على الأقل إنَّه استعجاليَّاً كائن يطالب بدعم حقوقي في انتظار أن يأخذ نصيبه من الواجبات لاحقاً، على أساس انتماء مصطنعٍ وممنوحٍ، ومفتقدٍ أيَّ عمق تاريخي.

وفي الأغلب إنَّ وضع الهجرة يتَّصف بالانتقاليَّة، فليس من المفروض أبداً أن يترسَّخ الكائن البشري في وضعيَّة الخروج (Exode)؛ لأنَّ الهجرة تتَّسم بقصديَّة أساسيَّة، و«وعد» يتمثل في بلوغ مجال انتمائي بديل، يقدّم حلاً نهائياً، لما مثل سبباً في كسر الاطمئنان الهوياتي الأوَّل، وما خلق عدم التوازن المربك سواء للمهاجر أم لمستقبله. ولذلك، فإنَّ تأطير المهاجر أيضاً داخل هويَّة قائمة الذات يمثل خطراً عليه؛ لأنَّ ذلك سيحوّل العابر والحادث والانتقالي إلى هويَّة راسخة.

إنَّ المهاجر من حيث المبدأ يطالب بألَّا يعود كذلك، فهو يريد وطناً بديلاً وهويَّة لا توصم بالغرابة داخل أوطان الآخرين، لكنه (وهذه مفارقة) يريد في الأغلب أوطان الآخرين دون أن يكلّف نفسه بذل جهد للتخلي عن هويته، عوضاً عن ذلك يدعو هويَّات المقيمين إلى أن تفسح له مكاناً داخلها، بإحداث زحزحة فيها تستند إلى الإنسانيَّة التي يطالب بالمساعدة باسمها، ليعوّض المجال الانتمائي أو الخلفيَّة الثقافيَّة والتاريخيَّة. ويتجلّى هذا في ما يُدعى بالجنسيَّة المزدوجة، التي تمثل نوعاً من الاحتيال الحقيقي على فكرة الانتماء والمواطنة. وهو ما مثَّل مدعاة للتذمُّر منذ الرومان، حيث نجد شيشرون يدين هذا الوضع المزدوج والمخلّ بروح المسؤوليَّة، حيث نحسب مواطناً من ننزع عنه حقّ التصويت، وبلوغ المناصب الرسميَّة (Civitas Sin Suffragio)، «وهكذا نرى أنَّ الأشخاص أنفسهم هم مواطنو دول متعدّدة، وأنا نفسي رأيت أنَّ بعض الرجال الجهلة من مواطنينا، قد باتوا مضللين بهذا...، بما أنَّهم لم يدركوا أنَّهم إذا اكتسبوا المواطنيَّة هناك، فقد خسروها هنا»[3].

المقابل الحادّ لهذه الازدواجيَّة لدى المهاجرين هو مطلب الاندماج الكامل، إذا ما كان هناك مجال لذلك، من خلال توطين وتطبيع يتعاملان مع المهاجر على أساس أنَّه مادَّة خام، تعمل فيها الآليات الإدماجيَّة للثقافة المستقبلة، حيث يصبح من الممكن تجاوز التوتر بين مفهوم الإنسان العام، ومفهوم المواطن الجزئي والمحيّز داخل مجال بعينه. لكنَّ هذا الأمر يبدو في الأغلب نوعاً من التصفية الثقافيَّة للمهاجرين، كما أنَّه منوال يتعامل بسطحيَّة واضحة مع القوام الثقافي للهويَّة؛ لأنَّ الأمر لا يتعلق بمجرَّد زيٍّ تقليدي يمكن التخلص منه على الحدود؛ بل إنَّه أعمق من ذلك بكثير، فالخروج من الأوطان الجغرافيَّة لا يفيد بالضرورة الخروج من الأوطان الثقافيَّة.

هي معضلة حقيقيَّة تلك التي يضعنا فيها وجه المهاجر، ولا يبدو أنَّ خطاب الوفادة والكرم يكفينا لاستيعاب وجوده الصعب والمربك، أولاً لأنَّ مفهوم الإنسان يظلُّ مفتقداً أيّ مرتكز فعلي على المستوى الحقوقي نفسه. ومن المعلوم أنَّ المقاربة الحقوقيَّة في هذا المجال تظلُّ منغرسة في خلفيتها المؤسَّساتيَّة، ومستندة قبل كلّ شيء إلى مواثيق وعهود تحيل إلى مواطنة منتمية ومجنّسة. كما أنَّ الدول في دلالتها الحديثة والقديمة لم تكن أبداً مضايف مفتوحة في وجه كلّ وافد عليها؛ بل هي مجالات تعاونيَّة تراكم امتيازات وواجبات تخصُّ المساهمين في هذا المشروع التعاوني. ومن هنا أهميَّة فكرة الحدود ومصيريتها في علاقة الإنسان بالإنسان على جميع المستويات. وأخيراً إنَّ المهاجر كائن معضل على مستوى المواطنة؛ لطبيعته الطارئة التي تجعله مفتقداً، من حيث المبدأ، العمقَ التاريخيَّ، حين يتلبَّس هويَّات الآخرين، وممتنعاً حينما يخضع لمطلب الاندماج لتخليه عن حمولته التاريخيَّة باسم ما يُدعى في الأدبيات الجمعاتيَّة بالحقوق الثقافيَّة.

ما سأراهن عليه، في الورقات المجملة الآتية، أن أظهر بصورة بانوراميَّة هذه الوضعيَّة القلقة للمهاجر في المفاصل الأساسيَّة للفكر السياسي الغربي، دون أن يعني ذلك أنَّ لدينا نوازع عنصريَّة إقصائيَّة تجاه المهاجرين، بقدر ما نصبو إلى التنبيه إلى وجوب بذل جهد أكبر، لأجل نحت مفاهيم سياسيَّة قادرة على استيعاب هذا الوجود الصعب، عوض التمادي في الخطابات البكائيَّة التي تعتقد أنَّ لفكرة الكرم من معنى داخل العالم، كما هو لا كما نحلم به.

2. المدينة اليونانيَّة: المواطنة الغالية والأبواب المغلقة

ـ ما قبل السقراطيَّة والمدينة المهرب: الهجرة خيانة

ما يسعى إليه المهاجر في الأصل هو التعامل مع العالم، باعتباره لا محدوداً. إنَّ كلَّ فعل هجرة هو إلغاء ونفي للحد، الحال أنَّ المبدأ المركزي للفكر اليوناني هو وضع المبدأ والحد، فالمفكرون اليونان، حتى عندما ينطلقون في حالات معيَّنة من إرجاع كلّ الوجود إلى اللامحدود (Apeiron)، مثلاً في حالة أنكسمندر، يَرَون مع ذلك أنَّ كلَّ وجود في العالم هو انفصال عن اللامحدود، ودخول في الحدود. وهكذا، إنَّ التحيُّز ووضع الحوافي، ورسم البدايات والنهايات بشكل دقيق، هو ما يمثّل قوام التناغم الذي يفيد استقامة تركيب عناصر أساسيَّة بحسب نظام محدَّد الملامح.

يمكن القول، إذن، إنَّ الكون يمكنه أن يمثل حاضنة كبرى للبشريَّة، ولكنَّه غير قابل أن يؤدي دور المدينة اللامَّة التي يصحُّ الانتماء إليها، فكلمة ([4]Cosmopolis) هي استعارة فاسدة بالمنطق اليوناني العام، هي انغراس داخل تربة مجال محدَّد وواضح الملامح، لذلك تشكو عبارة المواطن الكوني منذ المنطلق من تناقض في الحدود؛ لأنَّ وضعيَّة المواطنة تتنافى مع وضعيَّة الكونيَّة، والكونيَّة هي إلغاء للمواطنة، من حيث هذه الأخيرة هي تحيُّز محلّي بالضرورة.

ولأنَّ العالم هو في صراع كوني ضروري بين العناصر، وبين التركيبات المتناغمة بفعل ما يدعوه أمبادوقليس بالمحبَّة أو الصداقة، التي تسمح مثلاً بإقامة مدن مرصوصة البنيان يغلب فيها هذا المبدأ على عوامل تفكيك هذا التناغم التي يختصرها مبدأ العداء والنفور(Neckos)، فإنَّ كلَّ شخص يتجاوز هذا الانتماء الضيّق بادعاء دخوله في مواطنة كونيَّة إنَّما يمارس نوعاً من الخيانة للمعركة الحقيقيَّة، ويسعى إلى الانفلات نحو هويَّة فضفاضة تجعله فيما هو يستفيد من الصحبة التي تخلق التحام مواطني المدينة، يتحلل من الالتزامات الواضحة والدقيقة التي تمثل مساهمته داخل هذا المشروع التعاوني الذي يُدعى مدينة.

إنَّ المدينة لا تتشكَّل من ذرَّات حرَّة، تشتغل على منوال تلقائي؛ بل لا بدَّ لها من شكل (Skhema)، ومن موقع (Thesis)، ومن نظام(Taxis). ومن هنا يمثّل المهاجر الغريب تلك الذّرَّة القلقة التي تدخل في علاقة متوترة مع هذه الشروط الثلاثة، فهو من جهة نشاز على مستوى الشكل المعهود والاعتيادي، كما أنَّه بالضرورة وارد من موقع آخر، وأخيراً هو من جهة أخرى عنصر لم يتولَّد عن نظام المدينة السائد؛ بل ورد عليه لاحقاً ومن الخارج بكلّ ضغوطاته الجديدة.

إنَّ هذه الخلفيَّة النظريَّة العميقة للتصوُّر اليوناني هي ما سيجعل بناء المدينة الدولة يتميَّز معماريَّاً بقدرتها على إنشاء مهرب لمواطنيها يحميهم من حيث المبدأ دون غيرهم، ويتجمَّع فيه المواطنون الضعفاء في حماية آلهتهم، في انتظار دفع الخطر من طرف حرَّاس المدينة الذين أنشئوا على روح التضحيَّة بأرواحهم من أجل مجالهم الحيوي، إنَّه مفهوم القربان (Kryptia) الإسبارطي الشهير، الذي يجعل كلَّ آليات التربية الجماعيَّة للمواطنين تقوم على ترسيخ هذه القيمة العليا، التي من المستحيل أن نطلبها من الغرباء. لذلك يمكن القول إنَّ كلَّ مدينة (Polis) هي إكروبوليس يفترض أنَّ الحرب هي حالة مستمرّة، ومن ثَمَّ من الصعب أن نفتح صفوف المواطنين، من حيث هم جيش إمكاني مستمر، لكلّ وارد غريب، فصعوبة إدماج المهاجر داخل مدينة كهذه يعود إلى هذه الرُّوح الحربيَّة التي تخترق كلَّ تمفصلاتها، بداية من المعمار ونهاية بالقوانين.

ـ أفلاطون المدينة جسماً حيَّاً: امتناع الهجرة

وهي حرب في الواقع لا تتعلق فحسب بالخطر الخارجي، وإنَّما أيضاً؛ بل ربَّما بشكل أكبر، ضدَّ عوامل تفكُّك النظام الداخلي، حينما تفتقد الكثرة الوحدةَ المنظّمة لها. ولعلَّ هذا ما يختصر الحدس العام للتصوُّر الأفلاطوني لفنّ السياسة، الذي يعود في جوهره إلى منح الجماعة دستوراً أو نظاماً (Politeca) هدفه منع خروج أيّ عنصر عن مجاله المحدَّد. لنقلْ إنَّ السياسة الأفلاطونيَّة تمنع الهجرة الداخليَّة أيضاً، من خلال إرغام كلّ طرف على أن يظلَّ في مكانه الطبيعي الخاص. ومن ثَمَّ إنَّ تراتبيَّة المدينة الأفلاطونيَّة اعترافٌ ضمني بخطورة فكرة التجانس والمساواة المطلقة بين المواطنين؛ لأنَّ المدن تحتاج في بناء تناغمها إلى تفصيل الحدود، وتدقيق الأماكن، واحترام اختلاف الطبائع.

من هنا تصبح السياسة كلُّها هي القدرة على منع فوضى بلوغ المهمات داخل المدينة، الأمر الذي تنتجه في العادة الأنظمة الديمقراطيَّة المفتوحة؛ إذ من المهم تخصيص الوظائف داخل المدينة القويَّة، فلكلٍّ عمله الذي يلائمه[5]، لكن بالإضافة إلى هذا العزل يتوجَّب بالضرورة جعل هذه الوظائف المخصوصة تتكامل بعضها مع بعض[6]، وهنا مكمن دقة فنّ السياسة وبناء المدن، الذي يتجسَّد في أعلى درجاته من خلال عمليَّة التشريع، والقدرة على خلق رأي عام مشترك بين المواطنين. من هنا ضرورة التحيُّز الترابي للبرنامج الفلسفي لأفلاطون. فليس صحيحاً أنَّ صاحب (الجمهوريَّة)، وهو يُنظّر للمدن كما ينبغي لها أن تكون، مثالية، أو كما تنتظم داخل سياق ملموس، مثل ما تداوله محاورو كتاب الشرائع، قد جعل المدينة كياناً مفتوحاً أمام الجميع. على العكس، إنَّ المدينة الفاضلة تمثل أوج الأنظمة المغلقة، من حيث هي مشروع ابتداعي وخالق للمواطنين منذ مولدهم، يقوم على التحكُّم العرقي في توليد المواطنين بشكل جذري.

إنَّ المدينة الفاضلة لا تفسح أيَّ مجال للواردين والغرباء، فهي نظام يراهن على خلق اكتفاء ذاتي على جميع الصُعُدِ؛ حيث يتمُّ اختزال فرص اللقاء مع الأغراب إلى أقصى حد؛ بل حتى الأنشطة الصناعيَّة والتجاريَّة، إنَّما تمتح من خيرات المدينة ومواردها بمنطق الاكتفاء الذاتي (autarcie)، لأجل إشباع الحاجيات الحقيقيَّة لمواطنين تمَّت تربيتهم منذ نعومة أظفارهم على ضرورة الاعتدال بأقصى ما تسمح به طبائعهم.

وهذا ما يجعل المدينة الأفلاطونيَّة ذات سقف محدَّد من الأسر لا ينبغي أن يتجاوز (5040 أسرة من المواطنين)، وذلك لوجوب تحقيق شروط سهولة الحركة والتعارف بين أعضاء المدينة؛ فلا يمكن بلوغ الوحدة إلا من خلال كيان يتداخل أعضاؤه فيما بينهم على منوال عمليَّة نسج الثياب التي تقوم على تراصٍّ دقيق بين خطوط تبدو في الظاهر متناقضة، ولا تسمح بأن ترقع من خلال أجسام غريبة، وهو أيضاً ما يمتنع حينما نتعامل مع المدينة ككائن حي، حيث إنَّ المماثلة بين المدينة وبين الفرد الإنساني لا تسمح بأن نتصوَّر إضافة أعضاء جُدد إلى ما هو مكتمل. فبقدر ما تتناغم المدن داخل وحدة عضويَّة، بقدر ما يصعب أن تقبل أجساماً جديدة تُضاف إلى هذه الوحدة. ولهذا لا يبدو أفلاطون في طرحه السياسي بِدْعاً داخل التقليد اليوناني الراسخ في نظرته إلى الغريب بعين الحذر والاستعلاء، كما أنَّ تركيزه على المجال الترابي هو تعبير عمَّا اشتهر في الثقافة اليونانيَّة القديمة (Sténochoria)؛ أي ضيق المجال وفقره، وعدم قابليته؛ لأن يستوعب عدداً لا محدوداً في المكان نفسه. لهذا تكمن الهجرة المقبولة، بحسب هذا المنطق، في التنقل لبناء مدن جديدة، من خلال التغلب على عرائها وفقرها وشحّها، عوض التسلل إلى مدن متناغمة من حيث نظامها وعدَّتها واكتمالها.

ومن ثًمَّ إنَّ الطابع غير المضياف للمدينة الأفلاطونيَّة لا يصدر عن رذيلة البخل والأنانيَّة، بل هو اعتراف واقعي بأنَّ صمود المدن أمام نواميس انحلالها وزوالها، وهو ما يُعدّ قدراً يؤجَّل، لا يدفع بشكل مطلق، لا بدَّ من أن ينتبه إلى ضرورة وضع الحدود، فالخطر والبشاعة والظلم أيضاً هي دائماً تجاوز للحدٍّ المعقول، ورهان على سعة لا وجود لها داخل الممكن الواقعي. ولعلَّ أشهر مثال داعم لخطر المدن المفتوحة ما نجم عن استقبال أثينا وفودَ البدو الهاربين من حرب البولينيز ضدَّ الإسبارطيين داخل أسوار أثينا، بقرار غير واقعي من طرف بركليس، الذي سينتهي بتفشي مرض الطاعون بفعل مهاجرين لم يعتادوا أن يأخذوا أنفسهم بنظام نظافة يُكتسب في العادة بفعل التربية داخل المدن. وقد كان ذلك كفيلاً بالقضاء على ثلاثة أرباع الساكنة، ففيما كان بركليس ينتظر العدوَّ في معركة بحريَّة يجيدها الأثينيون، قد أدخل بفعل الهجرة والإيواء أعداء غير منتظرين داخل مدينته المضياف، فكانت النهاية. لهذا يمكن أن نَعدّ التوجُّس الأفلاطوني من الغرباء والمهاجرين نوعاً من استيعاب درس تاريخي كان شاهداً عليه.

لا تنجح المدن، إذن، إلا بقدر ما تستطيع إقفال منافذها، فكلُّ مهاجر هو جرح داخل جسم المدينة، مادام أنَّ الجراح هي فتح ما ينبغي أن يظلَّ مقفلاً. إنَّ المدينة الدولة هي جسم حي ينبغي رعايته على هذه الشاكلة؛ أي الاشتغال بحسب أنظمة داخليَّة متناغمة ومتكاملة، ولكنَّها مغلقة بالضرورة. يتبيَّن هذا من خلال ممارسة قد تبدو صادمة في البرنامج التربوي الذي اقترحه أفلاطون، سواء في كتاب الجمهوريَّة أم في كتاب الشرائع، المتمثلة في الموائد المشتركة (Syssities).

إنَّ رمزيَّة هذه الممارسة، التي دعا أفلاطون إلى إجباريَّة إشراك الجميع فيها، بما في ذلك النساء، هو ما سيتراجع عنه قليلاً فيما يخصُّ مدينة ماكنيزي (Maganésie)، حيث سيصبح الذكور البالغون وحدهم المعنيّين بها، هي في الواقع التركيز على ترسيخ فكرة المدينة كياناً حياً، وإخضاع كلّ وظائف الحياة لإرادة المدينة، لا يأكل المواطن الأفلاطوني وحده، وليس من المفروض عليه أن يطعم غيره؛ بل إنَّ كلَّ ما يدخل في جوف مواطني هذا الكيان ينبغي أن يصبَّ في بناء مدينة سابقة ولامَّة لكلّ أعضائها، بحيث تشترط كلّ أفعالهم بها.

يعبّر فعل الأكل الجماعي عن علاقة خاصَّة بكلّ ما يمكن أن يرد على المدينة. إنَّها مائدة الهويَّة المتكافلة والمتكاملة، التي تستهلك ما يعرض لها من خيرات، لتستضمره داخل كيانها العميق، ومن خلال جسمها المدني المتراص. إنَّ عملية الأكل والشرب بالإضافة إلى الجنس هي، بحسب عبارات الأثيني، رغبات مرتبطة بإحساس بالفراغ، ومن ثمَّة الاندفاع نحو البحث عن الامتلاء[7]، وهذا ما يثير ضرورة وأهميَّة إخضاع هذه الرغبات الأوليَّة لطائلة التنظيم والتوجيه (Taxis) (تاكسيس)، ومنعها من الدخول في وضعيَّة الفوضى والتلقائيَّة والانفتاح الرخو (Ataxia) آتاكسيا.

من هنا، تكتسي هذه الرغبات البدائيَّة في الظاهر أهميَّة كبرى؛ لأنَّها التمرين الأوَّلي للمواطنين على التعامل مع الفراغ والحاجة إلى الانفتاح بمنطق الضبط الذي كثيراً ما أخذ صوراً سلطويَّة استمدَّها أفلاطون من النموذج الإسبارطي، الذي أخذه، على الرغم من ذلك، على عدم إخضاع المرأة، وهي الكائن الأكثر ميلاً إلى التلقائيَّة لإسار الضبط، ولهذا يُطلق صاحب (المدينة الفاضلة) يدَ المشرع في تنظيم الرغبة الجنسيَّة، التي كثيراً ما يعتمدها المهاجرون في المطالبة بانتماء مستحق بفعل مقتضيات بيولوجيَّة. ويجعل هذا الاحتياط المدينة اليونانيَّة في منأى عن الدخيل الجنسي؛ لأنَّ الموائد الجماعيَّة للمدينة، التي تضمَّنت أيضاً مبيناً مشتركاً، لا يمكنها أن تُشرَع من حيث هي احتياط للرغبة في الامتلاء لكلّ وارد غريب. إنَّ رمزيَّة هذه الموائد تحوّل المجال المدني إلى حرمة غرفة نوم عائليَّة، من الصعب أن نقبل ولوجها من الأغراب. ولعلَّ هذا ما يفسّر قانون بركليس الشهير، الذي ينمّ عن الكثير من الطهرانيَّة العرقيَّة، الذي يذهب إلى ضرورة التوالد من أبوين أثينيين كي يُقبل المرء على قائمة المواطنين الكاملي العضويَّة داخل المدينة.

إنَّ هذا الاحتياط، الذي يحاول الأثيني أن يبّرره في المحاورة الأفلاطونيَّة، ينطلق من عمق يوناني أصيل، مفاده أنَّ المدينة ليست مجرَّد المجال الجغرافي بمعزل عن أولويَّة مواطنيه؛ بل لا يمكن بأيّ حال الفصل بين المواطنين وبين المدينة، على أساس أنَّ المواطنة حق في الخيرات وفي التدبير والمشاركة السياسيَّة؛ بل على الخصوص الحقُّ في ملكيَّة الأرض، والحصول المجاني على مجموعة من العطايا الكريمة المخصَّصة من طرف المدينة الدولة لمواطنيها خاصَّة. هذا التداخل بين الجسم الطبيعي للمواطنين والجسم المدني يعبّر عنه المؤرّخ الروماني جوستانوس (Justin) قائلاً: «لقد عرض (Thémistocle) أنَّ الوطن ليس هو الأسوار وإنَّما الناس، إنَّهم المواطنون لا المنازع ما يشكّل المدينة»[8].

هكذا يبدو أفلاطون، على الرغم من عدائه الشهير للأثنيين، وميله أكثر إلى النموذج الإسبارطي، راسخاً في عدائه وخوفه من وجه الغريب الوارد، فلا يكفي أن يبتني هذا الأخير منزلاً لكي يصبح عضواً في المدينة؛ بل إنَّه لا يستحقُّ منزله إلا إذا كان مواطناً. من هنا الغرباء عليهم أن يمرُّوا بسلام حتى دون أن نعرف أسماءهم[9]؛ لأنَّ المدينة لمواطنيها فحسب. ولعلَّ هذا يفسّر في جانب معيَّن العداء الكبير الذي ناصبه أفلاطون للسفسطائيين، الذين كانوا في أغلبهم وافدين على المدينة، ولم يتولّدوا من دم مواطنيها.

وإذا ما استحضرنا في عجالة اللحظة الأرسطيَّة، فسنُفاجأ بكونه يتبنَّى تقريباً الموقف نفسه من المهاجرين، على الرغم من أنَّه هو أيضاً عاش داخل أثينا تحت هويَّة الوافدين (Métèques)، الذين لم يتمّ قبولهم إلا من حيث هم خيرات إضافيَّة وذات مردوديَّة داخل المدينة، ولعلَّ عبارة كزينوفون (Xénophon) واضحة وصادمة في الوقت نفسه، لا تبرّر وجود أغيار كأرسطو نفسه، إلا بقلة تكلفتهم: «يجدر بنا أن نولي اهتماماً للوافدين (Métèques)، فلدينا فيهم، بحسب اعتقادي، مصدر مهمّ للمردوديَّة، فهم يتكفلون بأنفسهم، ولا يطولهم أيّ أجر من المدينة، كما أنَّهم يؤدّون أتاوى الإقامة، وسيكون كافياً بالنسبة إليهم الإعفاء من مهامّ لا قيمة لها بالنسبة إلى المدينة، وعلى الخصوص إعفاؤهم من العمل في الجنديَّة مع المشاة (Hopilites)؛ لأنَّ ذلك من جهة يمثّل خطراً كبيراً، وخسارة بفعل مغادرتهم مهنهم الأصليَّة، كما أنَّه، من جهة أخرى، من صالح المدن ألَّا يحمل فيها السلاح غير مواطنيها».[10]

ـ المدينة الكماليَّة: المهاجر العائق

ولن يجد أرسطو غضاضة في قبول مثل هذا التمييز، وذلك استناداً إلى حسّه الواقعي، الذي يشرط عدالة القوانين بالدساتير المؤطرة لها. فليس هناك بحسب رأيه قانون عادل على الإطلاق، بل بقدر ما ييسّر تنزيل روح الدستور والنظام القائم في المدينة الدولة. ومن هنا لن تتحقّق عدالةُ قانونٍ داخل سياق ديمقراطي مثلاً داخل نظام أوليغارشي. إنَّ قبول وضعية الوافد من طرف أرسطو، والتسليم بضرورتها، يمثّلان نوعاً من الحسّ المدني الكبير لدى رجل فضَّل مغادرة أثينا لكي يموت بعيداً عنها، صوناً لها من إعادة ارتكاب جريمة إعدام سقراط نفسها، فقد فضَّل عدم الهروب بمنطق المواطنة نفسه؛ لأنَّ وضعيَّة المهاجر بالنسبة إلى الأثينيّ لا تليق إلا بمن يفتقد امتياز أن يُحسب على هذه المدينة.

يختلف حدُّ المواطن والغريب بمنطق أرسطو بحسب دستور المدينة، لكن هذه الأخيرة، مع ذلك، ليست مجرَّد مجال جغرافي، فالإقامة داخل المدينة لا تبرّر المواطنة، كما أنَّ الخضوع لطائلة قوانينها لا يميز المواطن من الغريب. فالمعاهدات والمواثيق يمكنها أن تلزم الأغيار بسلطة القانون الداخلي، بل إنَّ الدم نفسه، والتوالد الطبيعي لا يُعدُّ كافياً؛ لأنَّ الأطفال والشيوخ يفتقدون صفة المواطنة، فهم، بهذا الحساب، غرباء أيضاً على الجسم المدني، الأوائل؛ لأنَّهم لم يكتملوا بعد، والأواخر لكونهم قد فات أوانهم. تكمن المواطنة بحسب أرسطو جوهريَّاً في حقّ تدبير السياسة والقضاء، «ندعو مواطناً مَن له في تلك الدولة حقّ الإشراك في السلطة الاستشاريَّة وفي السلطة القضائيَّة».

بهذا يمكن القول إنَّ أرسطو يقبل في جانب محدود فتح أبواب الهجرة المتحكَّم فيها، لكن يشرط حماية جوهر المدينة السياسي من أن يقع في قبضة الأغراب. فخليَّة الحاكمين لا بدَّ من أن تتشكَّل، من حيث المبدأ، من طرف أبناء المدينة، الذين قد يتسامحون مع قبول محدود للوافدين عليها، إمَّا مهاجرين وإما عبيداً، وفي الحالتين، يظلُّ المسوغ نفعيَّاً بشكل أصيل. ولعلَّ الكتاب السابع من سياسات أرسطو يظهر هذا المنطق الاصطفائي العنصري، حيث يرى أنَّ المواطنين الكُمَّل لا مجال لتحققهم إلا في أرض اليونان، فأهل الشرق نظراً إلى المناخ الحار لهم نصيب من الحذاقة العقليَّة ولكنَّهم جبناء، والغربيون يتميزون بالشجاعة، لكنَّهم أغبياء. ولذلك، الأجدر بالتحكّم في العالم هو العرق اليوناني، لنسمع هذا النَّفَس الشوفيني الواضح، وهو يتخيَّر في أبناء البشريَّة بمنطق مستجيد السلعة وناقدها: «الأمم المقيمة في الأقاليم الباردة، والشعوب القاطنة في أرويا، كلها إقدام وشجاعة، ولكنَّها ناقصة حجماً، متأخرة في الصناعة، أمَّا الشعوب الآسيويَّة فهي ثاقبة الذهن تحذق الفنون والصنائع، ولكنَّها عارية من الثبات ورباطة الجأش، لذا لا تبرح خانعة مسترقَّة. وأمَّا الشعب الإغريقي فلما شغل موقعاً وسطاً من الأقاليم، اشترك أيضاً في صفات سكانها؛ إذ إنَّه شعب متوقّد الفؤاد، ولذا يظلُّ شعباَ مولعاً بالحريَّة، ذا سياسة فاضلة، وقادراً على أن يفرض سيادته على الجميع...».[11]

المدينة الأرسطيَّة إذن، على الرغم من ظاهرها المفتوح، تقيم سوراً أثينيَّاً حقيقياً، لا ينظر إلى الآخر إلَّا من خلال ثنائيَّة المتحضر والبربري، ومن ثَمَّ ذلك يجعل سهولة بلوغ المهاجر المدينة الدولة مشروطةً بفقدانه إنسانيَّتَه، كما هو العبد الحقيقي الذي خُلق بجسمه وعضلاته المكتنزة، لأن يخدم سادته في حمل أثقالهم ومشاقّهم، دون أن يقوى على خوض حروب تحتاج إلى مرونة عضليَّة وإقدام وتوقّد ذهن، وهو ما لا يتوافر لغير اليوناني.

بالإضافة إلى هذا المانع العرقي، في وجه المهاجر، يدافع أرسطو عن التحكّم في حجم المدن، فهو أيضاً لا يقبل بأن تتكاثر ساكنتها بشكل حرّ وتلقائي، «عشرة أشخاص لا يكونون مدينة كما أنَّ مئة ألفٍ يتجاوز حجمها الطبيعي»[12]. من هنا إنَّ خطر الإخلال بالتوازن الديمغرافي، الذي يظلُّ، إلى حدود الساعة، مستنداً تبريرياً للتحفظ أمام التنقل الحرّ للمهاجرين، يُعدّ لدى أرسطو مدعاة حقيقيَّة للحذر منه، وهذا ما يجعله يضع المهاجرين ضمن عوامل فناء المدن. وهذا ما يبدو بوضوح في هذا النصّ، الذي يُعدُّ في ظننا مركزيَّاً في بناء الحساسيَّة المتوجّسة خوفاً من المهاجرين، الذين يميلون أكثر إلى خلق الاضطراب والثورات، ومن ثمَّة القضاء على مدن استوعبتهم أوَّل مرَّة، وهو ما تقوم عليه شواهد تاريخيَّة كثيرة. يقول أرسطو: «إنَّ تباين عناصر الدولة في الجنس يحمل هو أيضاً على الثورة، إلى أن تتآلف القلوب والنفوس. كما أنَّ الدولة لا تتألف من أيَّة جماعة، فهي كذلك لا تنشأ في أيّ حين، ولذا فإنَّ كلَّ الذين يقبلون في ديارهم أجانب يساكنونهم أو طرَّاداً ونزلاء، يعيشون بين ظهرانيهم، قد ألفوا أكثر أولئك المشاكسين ثواراً ومتمردين».[13]

المانع الأخير، الذي يبرّر استبعاد هؤلاء الطرّد اللاجئين، والنزلاء المقيمين، هو الغاية النهائيَّة للمدينة، التي لا يكمن دورها في مجرَّد كفالة العيش؛ بل العيش على أكمل وجه، وتحقيق السعادة التي تليق بالإنسان. إنَّ التخلف العرقي للمهاجرين سيُعدّ مثبّطاً قويَّاً لإخراج الكمال من حيز القوَّة إلى الفعل.

من هنا ضرورة حماية المدينة، من تضخّم الكتل البشريَّة، التي تؤدي دوراً أساسيَّاً في الارتكاس المدني، خصوصاً داخل المدينة أو تلك الواردة عليها. ولهذا من الضروري إفساح المجال لصفوة المواطنين، لكي يدبّروا المدينة، كفرد في إطار النظام الملكي، أو أرستقراطيَّة، أوبوليتيا (Politeia)، ما يمكن أن يقابل حكومة دستوريَّة في نظام ديمقراطي، حيث يتقابل الأوَّل مع المستبّد الشرقي، والثاني مع الجماعة المغلقة الأليق بالبرابرة، الأوليغارشيَّة الطبيعيَّة، والحالة الثالثة بغلبة فساد الدهماء الذين لا يليقون بالإقامة في المدن، فعسى أن يحكموها. وهكذا يمكن القول إنَّ النظام السياسي لليونان قام، على الأقلّ انطلاقاً من منظّريه الأساسيين، على الحذر من المهاجر، واستبعاده باسم كماليَّة حضاريَّة، تعدّ المرمى الأول والأخير لمن يليق بهم أن يكونوا سادة العالم.

3. العقد الاجتماعي والوعد المحلي: مدينة من يملك أكثر

ليس لنا في مقام هذا المقال، متّسع كي نفصّل القول في التفكير الروماني والقروسطوي، لكن هذه المرحلة، على الرغم من أهميَّتها في تاريخ الفكر السياسي، لا تتجاوز مع ذلك أن تكون تنويعة على المدينة، لارتباطها بالعمق الطبيعي الذي يؤصّل الحياة المدنيَّة في فطرة سياسيَّة أصيلة ترى الإنسان، ثمَّ تجعل كلّ الحياة السياسيَّة معلقة ومشروطة بقيم كماليَّة تتجاوز حاجيَّة الفرد المباشرة.

ـ الرومان: المواطن مهاجراً سيداً

أمَّا الرومان، فقد أضفوا على المركزيَّة اليونانيَّة ملمحاً إمبراطوريَّاً توسعيَّاً، فهم، على الرغم من إبقائهم على الانغلاق الهوياتي المقوم بإعلاء مبالغ من قيمة المواطن الروماني، سمحوا لهذه الهويَّة بأن تتكاثر في مجال جغرافي أوسع، وهذا ما جعل منهم بشكل مفارق مهاجرين يبدو أصحاب البلدان أمامهم غرباء، على اعتبار أنَّ الكمال الروماني يمكنه أن يعيد إنتاج نفسه خارج روما، ويفرض على الثقافات الأخرى أن تعيش على هامشه، وبحسب وتيرته، بينما لا يصحُّ أن تفعل في روما إلا ما يفعل الرومان بحسب العبارة الشهيرة، وحتى حينما اضطرَّت هذه الحضارة إلى تقديم تسهيلات للحصول على الهويَّة الرومانيَّة؛ وذلك تحت احتجاج أكبر مفكّريها، فإنَّما لكي تمنح الآخرين نصف مواطنة، على غرار نموذج الميتيك (Méteque) اليوناني. ويبدو أنَّ هذا الانفتاح الصغير كان كافياً، ليجعل روما تحت سطوة البرابرة، ما سينتهي بانهيارها. لكن في كلّ الأحوال لم يكن أبداً في متناول الأغراب أن يقولوا بالدلالة الكاملة للعبارة: «أنا مواطن روماني» (Civis Romanus sum) التي عبَّر بها شيشرون عن تميُّز الروماني الحقوقي حيثما حلَّ وارتحل.

ـ المسيحيَّة: كلنا مهاجرون لكن لنلزَم مدننا

في مقابل ذلك، سيتولَّد عن الفكر المسيحي تضخّم للبعد الدّيني للمدينة، ولغاياتها الروحيَّة، وهذا ما سيخلق اغتراباً آخر يرتبط بالمجال الثيولوجي، وليس السياسي فحسب، إنَّ الجميع سيبدو غريباً بحسب هذا الفكر. ومن ثمَّة يمكن القول، إنَّ جميع الناس هم في هجرة مفتوحة لن تنتهي إلى استقرار، إلا حين تتمحّض مدينة الله، ويستدمج المسيح رعاياه تحت كفله. لكن هذه الثنائيَّة النظريَّة بين مدينة الله ومدينة الإنسان، وبين المخلصين الذين يلتحمون بجسم المسيح من خلال النظام الكنائسي، والكفرة الضالين المفتقدين لهذا الانتماء، لم ترقَ إلى مستوى الخلاص الكامل من الشرط المدني؛ لأنَّ قدر المدينتين المرتبطتين بمنزعين أصليين في الذاتيَّة الإنسانيَّة بحسب القدّيس أوغسطين: «حبُّ الذات قد يصل إلى تحقير الإله، يخلق المدينة الأرضيَّة: وحبُّ الإله قد يبلغ حدّ تحقير الذات، يولد مدينة السماء»[14]، هو الاستمرار على هذه الشاكلة المتداخلة والمختلطة. وفي انتظار الخلاص الأخير، يظلُّ المبدأ الأساس في الحياة المدنيَّة هو الخضوع المستسلم لمقتضيات الانتماءات الخاصَّة، وذلك بمنطق: «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله».

مرَّة أخرى لم تكن أبواب الكاتدرائيَّات مفتوحة أمام الجميع، بل إنَّ النظام الكنائسي قام على شبكة من العلاقات تُيسّر «هجرة» الأصل نحو الفروع، لأجل جعل هؤلاء يشعرون بالغربة في بيوتهم وداخل ثقافاتهم، لقد كانت مهمَّة المبشّر دائماً مَعنية باستعادة الأرواح الضالة، دون العناية بالأجسام المدنيَّة، التي ما وَجَدَ آباء الكنيسة أبداً من مانع على استمرارها تحت طائلة قوانينها، فما بعث المسيح، بحسب عبارة إنجيل متى، «إلا إلى خراف بني إسرائيل الضَّالّة» [إنجيل متى 15: 24]. كما أنَّ سطوة الملك وشوكته هي عقاب دنيوي تطهيري للمسيحي الصالح، ومن ثمَّة هو مطالب بالصبر عليه عوض مواجهته أو الهرب منه. إنَّ الهجرة لأجل العيش هي جشع لا يجد ما يبرّره داخل النظام الفضائلي للكنيسة.

ـ هوبز: الليفايتن لا يعد أحداً غير أعضائه

لن يحدث في الواقع ما يقطع مع هذه التصوُّرات الكماليَّة المغلقة للمدن، وانغلاقها أمام الهجرة، إلا في لحظة ظهور فلاسفة العقد الاجتماعي، حينما سيحاولون بناء الكيانات السياسيَّة بمنطق علماني، يتفاوض على مجرَّد الحياة، دون اشتراط كمالات أخلاقيَّة لا يمكن تبريرها للجميع. ولعلَّ هذا ما يتبدَّى واضحاً من النقد الشهير الذي وجَّهه توماس هوبز في كتاب (المواطن) للتصوُّر الأرسطي.

تتشكَّل التصوُّرات التعاقديَّة على الأقل، مع توماس هوبز، من لحظتين: إحداهما تفتقد سيادة مشتركة، وتسود فيها حريَّة طبيعيَّة تسمح للجميع بأن يتحرَّكوا بحسب ما تسمح به قوتهم ومكنتهم، وهي ما يدعوها حالة الطبيعة، ولحظة أخرى تنبثق كتجاوز لامتناعات اللحظة الأولى التي ستمثل جحيماً حقيقيَّاً للجميع، ندعوها حالة التمدُّن، التي تتميَّز بتشكّل ذلك الإله الفاني، الذي يتجسَّد من خلال الجسم المدني، الليفايتن.

إنَّ اللحظة الأولى هي المعطى الإنساني الأوَّلي، المجال الحرّ والمفتوح وغير المقنَّن، في هذه الحالة لم يعطِ الإنسان العهد لأحد، فهو متحلل من كلّ وصاية وإلزام. وهذا ما يسمح بأن نتصوَّر نظريَّاً أنَّ كلَّ العالم يصبح تحت تصرُّفه. لكنَّ المشكل في هذا الوضع أنَّ غياب الحدود والقوانين والسيادة يحكم بانتفاء مقوّمات المواطنة، وتبعاً لذلك يجعل وجه المهاجر، من حيث هو الغريب على مواطنة أصليَّة ممتنع الحدوث، لنقلْ إنَّ الكلَّ في حالة الطبيعة غريب وتائه؛ بل إنَّ المنقلب المأساوي للحريَّة الطبيعيَّة، الذي يدعوه هوبز حرب الجميع ضدَّ الجميع، سيجعل الجميع في حاجة إلى مساعدة.

غير أنَّ العقد، الذي سيمثل علّة وجود الدولة الوطن، ومن ثمَّة الحياة المدنيَّة، هو بالضرورة «ميثاق محلي»؛ لأنَّ العقد الاجتماعي ليس طبعاً مشتركاً، ولا نزعاً فطرياً، بل هو فعل محدود ومرصود بشكل دقيق لحماية المصالح الحيويَّة للفرد، عبر آليَّة التخويل المتبادل للحقوق، الذي سيخلق السلطة الشرعيَّة، من حيث هي روح الجسم المدني. «إنَّ التخويل التبادلي للحقوق بين الناس هو ما يدعوه عقداً». الحال أنَّ هذا الفعل لا يمكن أن يتحقَّق بين بني البشر أجمعين. وهذا ما يستبعد فكرة مملكة البشريَّة التي تضم بين جوانبها كلَّ كائن إنساني. إنَّ الليفايتن جسم مفصول عن الطبيعة، وهو كيان اصطناعي يملك حياته الداخليَّة التي تمتح قوتها وحركيتها ومبرراتها من العناصر الداخليَّة.

هذا البعد المنجمع للجسم المدني يجعل السيادة الشرعيَّة محدودة في مجال بعينه، على أساس ذلك يصبح النفاذ إليها ممتنعاً. إنَّها، مرَّة أخرى، استعارة الكائن الحي الذي تُعدّ الزوائد بالنسبة إليه تشوُّهات. ولا واجب ولا حقَّ للأغراب داخل نسق عضوي يتأطر داخل العهود الخاصَّة بمكوناته؛ لأنَّ العهد بطبيعته لا يمكن أن يكون مرسلاً، فنحن لا نعاهد البشريَّة أو السماء، بل هذا وذاك عيناً وحضوراً، ننوب عن نسلنا المقرَّب، ولكن لا مجال للحديث باسم البشريَّة. إنَّها سيادة المُعَيّن على المُعَيّن. يقول هوبز بوضوح واقعي: «أسمح لهذا الرجل ولهذه الجماعة من الناس، وأتخلّى لهم عن حقي في حكم ذاتي، على شرط أن تقوم بالتخلي نفسه عن هذا الحق، والسماح بالأفعال نفسها». هذا التكاين الأوَّلي بين المواطنين لحظة العقد، يُعدّ إجراء استبعاديَّاً أصيلاً للأغراب، داخل منطق السياسة المدنيَّة.

أمر آخر ينجم عن الطبيعة المحليَّة للسيادة المدنيَّة داخل الليفايتن، هو استمرار العلاقة بين الدول نفسها على منطق حرب الجميع ضدَّ الجميع، نظراً لامتناع إمكان إقامة تخويل الحقوق بين الأجسام المدنيَّة لصعوبة تحقق التعيُّن في هذا المضمار. ومن هنا، فإنَّ العالم، على الرغم من كلّ الشعارات والعناوين المدنيَّة، غارق بالضرورة في حالة الطبيعة الأولى، ولذلك تظلّ الحرب، على المستوى الدولي، الخلفيَّة السوداء التي تحُفُّ كلَّ العلاقات بين الدول. ولذلك، حين ينفلت فرد من الجسم المدني، هو يخرج من الجماعة ومن ضمانة الميثاق التعاقدي، وفي الوقت ذاته يجد نفسه مفتقداً أيّ مستند سياديّ يمكنه أن يحميه من مخاطر الحرب التائهة لحالة الطبيعة. ما عدا بعض الضمانات الدنيا، التي تختصرها عبارة الحقّ الدولي الخاص، حيث يمكن أن يستفيد الغريب التائه بين الدول؛ إمَّا على شاكلة أسير حرب، أو لقيط مدني، من الحدّ الأدنى ممَّا يحتاج إليه وجوده الحيواني، الذي يناسب وضعيَّة حالة الطبيعة المستمرَّة في هذا المجال.

ـ جون لوك: المهاجر من لا يملك شيئاً

سوف يحدث تحوُّل طفيف مع نظريَّة جون لوك حول أهميَّة الشغل في بناء الهويَّة المدنيَّة للمواطن، حيث تصبح الملكيَّة الخاصَّة وضماناتها مَعْقِدَ الميثاق المدني، والآليات القانونيَّة والسياسيَّة المختلفة. إنَّ الغرابة في هذا المستوى سوف تتعلق أكثر بالفشل في توسيع هويَّة الذات من خلال تحويل ما هو سائب إلى الحيازة الخاصَّة، عبر الشغل الذي يأخذ في جانب مهمّ منه شكل صناعة. هذا التصوُّر سيحرّر مفهوم المواطنة من الحسّ الحربي، معوّضاً إيَّاه بحسّ التبادل التجاري، وتنمية الثروة كشكل من أشكال شكر النعمة الإلهيَّة، إلا أنَّ هذه النظريَّة هي شبه لاغية، ولا أثر لها في القارَّة العجوز، حيث استقرَّت الملكيَّات في أغلبها، ولم يعد هناك سوى هامش بسيط لتنقلها بين الأفراد.

في مقابل ذلك ينفتح كلّ العالم الآخر لهجرة مستحقَّة من طرف الرجل الغربي، خصوصاً في القارَّة الأمريكيَّة البكر، التي لم تخضع لأيَّة حيازة ملكيَّة، مادام أنَّ أنشطة الصيد لا تصل إلى مستوى التحويل الذي يسوّغ الملكيَّة الخاصَّة. لا يُعدّ الرجل الغربي، بحسب منطق جون لوك، غريباً، بل هو بالأحرى فرصة حضاريَّة في أرض سائبة، هي نفسها ما يتَّسم بالغرابة، وحينما كان جون لوك يضع دستور مستعمرة كارولينا، فهو لم يَسْعَ بذلك إلى غصب أرض الآخرين، وإنَّما كان مبتغاه الرقيّ بالأرض الطبيعيَّة إلى مستوى الأرض الصناعيَّة المتحضرة.

إنَّ الجسم المدني البالغ العلمانيَّة، الذي أرسى قواعده جون لوك، سوف يفتح أبواباً أمام تبادلات أكبر، وسيسمح بظهور حسّ مقاولاتي خصوصاً لدى الملَّاك الكبار. الذي سيأخذ طابعاً استعمارياً واضحاً. فهو من جهة سيلغي الوجود الكامل لشعب بأكمله، تحت ذريعة أنَّ الهنود لا يشتغلون، وأنَّ ملوكهم أفقر من أصغر عامل في لندن، ثم سيبرّر من جهة أخرى العبوديَّة من حيث هي ملكيَّة حياة المنهزم من طرف من كان يحقُّ له قتله في حرب عادلة. وبهذا سيتضخَّم هذا الكيان السياسي العلماني على شاكلة استحواذيَّة، وتملكيَّة، قد يقبل بالأغيار داخله، لكن في إطار مركزيَّة لا تسمح كثيراً بتنوُّع الملَّاك. ولعلَّ هذا ما سيجعل لوك يشرط المشاركة السياسيَّة في تدبير مستعمرته بملكيَّة خاصَّة. إنَّها الحريَّة لمن يملك أكثر. ومن هنا، إنَّ المهاجر لن يجد مبتغاه داخل مستعمرة تخضع لتدبير يضعه فيلسوف التسامح الشهير.

ـ الماركسيَّة: المهاجر والوعد الأممي المنشود

هذا الشكل الليبرالي التوسُّعي هو ما سيجعل العالم ينقسم في إطار مواجهة بين من يملك ومن لا يملك، وليس بين المقيم والمهاجر. فإذا كان مفتاح الملكيَّة الخاصَّة هو الشغل المنتج لهذه الملكيَّة، فإنَّ الدّين والعِرق ينسحبان لكي يتركا المجال للبُعد الاقتصادي للوجود البشري. وهذا ما سيجعل الليبراليَّة لفترة طويلة في مواجهة المطالب الاشتراكيَّة، التي ترى أنَّ حريَّة الملكيَّة الخاصَّة لا تعدو أن تكون خديعة، غايتها تبرير الاستغلال والاستعباد. إنَّ الجميع، بحسب ماركس، سيغدو غريباً ومهاجراً ومستلَباً أمام رأس المال. لذلك سيسعى الاشتراكيون إلى نقد فكرة الحدود، ومنطق الدولة الوطن، داعين إلى أمميَّة اشتراكيَّة تختصرها عبارة ماركس الشهيرة: يا عُمَّال العالم اتَّحدوا.

إنَّ الصراع في هذه الحالة لن يصبح محليَّاً ولا عرقيَّاً؛ بل مواجهة مفتوحة بين البروليتاريا الدوليَّة، عبيد الأزمنة المعاصرة، وبين الرأسماليين ورثة الملَّاك الكبار. لكن على الرغم من الوعود النظريَّة لمثل هذه الفلسفات، يذكّرنا، على الأقل، حائط برلين بأنَّ أكثر الدول عداء للهجرة إنَّما هي تلك التي تأسَّست على مقدّمات اشتراكيَّة، ضحَّت بالحريَّات من أجل بلوغ المساواة، فأضاعتهما معاً. ومن الواضح أنَّ هذا الطرح راهنَ بشكل واضح على استعادة براءة طبيعيَّة مفقودة. فقد انتظر الجميع فردوس الشيوعيَّة، التي تخرج الناس من استلابهم، فما وجدوا سوى معاقل كبرى تحكمها بيروقراطيَّة قاتلة؛ لأنَّ التركيز على المساواة وإغفال الحريَّات الفرديَّة، التي عُدَّت في هذا الإطار مجرَّد أوهام مشوَّهة ناجمة عن الإيديولوجيا البورجوازيَّة، هو إلغاء ضمني للمهاجر الذي يراهن على الحريَّة من حيث الحركة ومن حيث المستقر.

ـ المهاجر: ضحيَّة افتقاد مؤسَّسات العدالة

ولعلَّ لحظة جون رولز، التي نكتفي بأن نقدّم بعضاً من عناصرها المتعلقة بالعدالة الدوليَّة، حاولت تجاوز هذه المفارقة بين المساواة وبين الحريَّة، في إطار منطق أكثر معقوليَّة، وأبعد ما يكون عن المواجهة الثوريَّة. ما ينبهنا إليه جون رولز أنَّ المشاعر وحدها لا تكفي لخلق وضعيات عادلة؛ بل نحتاج، في سبيل ذلك، إلى بناء تعاقد منصف حول مبادئ يمكنها أن تسند خلق بنية أساسيَّة تسمح للجميع بأن يستفيد في حدود معقولة من الخيرات الاجتماعيَّة الأوليَّة. من هنا، إنَّ أهمَّ مكسب للإنسان هو وجوده في سياق مؤسَّسات للعدالة التي تمنحه استقراراً عادلاً، يتيح له تحقيق ذاته على أحسن وجه. وهذا ما سعى إلى بناء عدَّته الاستدلاليَّة داخل مشروعه النظري، سواء في نظريَّة العدالة أم الليبراليَّة السياسيَّة.

وداخل هذا السياق المحلّي للعدالة، يدافع رولز عن الطابع التعدُّدي للمجتمعات الليبراليَّة الديمقراطيَّة، ولكن من حيث هو واقعة تاريخيَّة، وليس مطلباً جوهريَّاً لنظريَّته. إنَّ بلدان ما وراء الأطلنتيك تشكَّلت بفعل الهجرات المتعدّدة، وهذا ما يجعلها تعدُّدية بشكل جوهري على المستوى الثقافي. لكنَّ هذا لا يبرّر أيَّ شيء آخر. فليس يعني ذلك أنَّ العقد الاجتماعي الذي يؤسّس له رولز ينظر إلى الدولة ككيان مفتوح على الخارج. على العكس، لقد دافع صاحب النظريَّة عن ضرورة التعامل مع المجتمع العادل على المستوى المحلي (Domestic)، وهي الكلمة التي تحمل بعض الدلالات المتعلّقة بالمنزل الخاص والعائلي؛ بل لقد جعل أعضاء العقد يتشكَّلون من أشخاص يمثلون أسرهم وذرياتهم، وذلك ضماناً لأن يتمَّ التداول بعيداً عن روح المغامرة والمقامرة بمصالح من يُعدُّون استمراراً للمتعاقدين على مستوى الزمن.

ويُعدُّ حجاب الجهل، الذي يُعتمد لتحييد الثقافات والخصوصيات، وسيلةً لبلوغ الإنصاف في اختيار المبادئ. لكنّ هذا الحياد، مع ذلك، لا يفيد بالضرورة القبول بأيَّة ثقافة مهما كانت، وإنَّما فقط تلك القناعات التي ترسَّخت داخل حساسيَّات أفراد متشبعين بقيم الليبراليَّة والديمقراطيَّة. لهذا، من الخطأ التعامل مع حجاب الجهل كعماء لا يميز بين الغريب والمقيم، بل إنَّ الأمر لا يخرج عن تداول من يملكون الكثير من المشترك، سواء على المستوى الثقافي أم المصيري.

سينتهي ذلك، كما نعرف، باختيار مبدأين يصالحان بين الحريَّة وبين المساواة، يعتمدان لإقامة مؤسسات العدالة، تكمن مهمتها في إعادة توزيع الخيرات على نحو لا يسمح بأيَّة اعتباطيَّة. في هذا الإطار نجد رولز يحتاط كثيراً لتحوُّل آليات المساعدة إلى بديل للشغل والمساهمة الكاملة في المشروع التعاوني للمجتمع العادل. فمن المهم ألا نعطي المحرومين إلّا ما يسمح لهم بإشباع الضروري، لكن مع إفساح كلّ مناصب الدولة أمام الجميع في إطار تكافؤ منصف للفرص. ومن هنا، لا نجد استعداداً داخل نظريَّة العدالة، لكي تبرّر كرماً زائداً مع الغرباء عن الحياة المدنيَّة، من حيث هي عمل ومشاركة. إنَّه لا يرى مبرّراً لاقتطاع جزء من سلة الخيرات العامَّة، إلا وهو يحيط ذلك بأقصى درجات الحذر من جعل ذلك عطاء غير مبرَّر. وهذا ما نجده أيضاً في مستوى قانون الشعوب الذي يجسّد نظريته في العدالة الدوليَّة. فمن جهة، لن يركّز الأمر في هذا المقام على الأفراد من حيث هم كذلك، وإنَّما على الشعوب التي تؤطرهم وتنتظمهم، على المستوى السياسي، «أقصد بالشعب -يقول رولز- الأشخاص ومن يتعلق بهم، منظوراً إليهم كجسم متشكل ومنظم من خلال مؤسساتهم السياسية التي تبني سلطات الدولة»[15].

بهذا، لا نجد ما يبرّر قبول فرد منفصل عن شعبه؛ لأنَّ الأصل في الأفراد أن يكونوا مواطنين أو أعضاء داخل شعوبهم. وحينئذٍ فقط يُدخل هذه الشعوب في خانة من يطولها ما يدعوه رولز حق المساعدة (Duty of Assistance)، الذي ينجم بشكل ما عن حسّ العدالة لدى مواطني المجتمعات الديمقراطيَّة الدستوريَّة، التي ترى أنَّ شيوع العدالة ومؤسَّساتها يُعدُّ مطلباً حضاريَّاً ملزماً لهم، تجاه الشعوب المعسرة لكونها تفتقد مثل هذه المؤسَّسات. من هنا تكون المساعدة وداعيها هو مساعدة هذه الشعوب على بناء مؤسَّساتها، وليس التشجيع على انهيارها، لأجل استقبال أعضائها كمهاجرين مفتقدين لأوطانهم الأصليَّة.

باختصار، إنَّ ما يحتاج إليه منَّا المهاجر، بحسب منطق رولز، هو أن نساعده على تأهيل ثقافته؛ لكي يعيش في استقرار عادل، ولكي يتمتَّع داخل وطنه بحقوق الإنسان الأساسيَّة، ويصبح عضواً في شبكة (Nexus) من الشعوب المتعاونة في سبيل سيادة التعايش. ومن هنا إنَّ العطاء الذي ينتظره مثل هؤلاء ليس دائماً خيرات عينيَّة، ففي ذلك تحويل جزء من البشريَّة إلى عالة على العالم؛ بل هم في حاجة إلى خيرات ثقافيَّة، تتمثّل في إشاعة وترسيخ قيم الحريَّة والمساواة والعدالة. فهذه وحدها إذا ما استتبَّت داخل حساسيَّات أعضاء هذه المجتمعات فسوف تجعلها قادرة وحدها وباستقلاليَّة على أن تدبّر أمر الخيرات الماديَّة. لهذا لا ينبغي للمساعدة في هذا الصدد أن تتحوَّل إلى وصاية؛ بل من المفروض أن تتوقف مباشرة بعد إقامة مؤسَّسات العدالة داخل الدول. وحينئذٍ سيكون على المهاجر أن يرعى هذه المؤسَّسات بين شعبه، عوض اختيار الطريق السهلة.

قد يبدو الأمر صادماً، ومع ذلك يذكّرنا رولز بأنَّ الكثير من الشعوب تعاني الفقر والحروب، ليس لعوزها المادي، فكثيرة هي الشعوب الغنيَّة التي تشرَّد أعضاؤها، وإنَّما لعَنتها الناجم عن افتقاد ثقافة التعايش والعدالة. فما يحتاج إليه العالم هو إشاعة العدالة، عوض احتكارها داخل دول بعينها، وتحوُّلها إلى مراكز استقطاب يهرب إليها من أصبح من دون دولة ومن دون شعب.

خاتمة

لم يكن غرضنا من هذه البانوراما المختصرة أن نشكّك في مدى إنسانيَّة المهاجِر، ولا في واجباتنا الإنسانيَّة حياله، وإنَّما كان الغرض إظهار افتقاد وضعيته للمستندات التبريريَّة داخل الثقافة الغربيَّة، على وجه الخصوص، وإظهار أنَّ عدم استيعابه في هويَّة مقيمة للمهاجر، (وهذه مفارقة واضحة) يمثّل أمراً مهمَّاً؛ لأنَّه يسمح بأن يجد حلاً جذريَّاً، يمكن التعبير عنه اختصاراً: لا يساعد المهاجِر بصدق وعمق إلَّا من يجنّبه أن يكون مهاجراً من الأساس.

[1]- يتفكرون العدد11

[2] ـ إحدى استعارات روبرت نوزيك.

[3] . R. Gardner, cicero, the speeches, Loeb library, 1958, p. 60

[4] ـ هذه العبارة التي سادت في الأدبيات الرواقيَّة لم تفد دائماً الانتماء المفتوح واللامشروط إلى العالم، وإنَّما عبَّرت عن وضعيَّة انتمائيَّة خاضعة لشروط فضائليَّة، تجعل الحكيم مناسباً لأيَّة مدينة، وهذا لم يمنع الرواقيين، سواء في المرحلة اليونانيَّة أم الرومانيَّة، من أن يحسنوا الانتماء إلى أوطانهم، وأن يعطوا ما لقيصر لقيصر، وما للغوس للغوس.

[5] . PLATON, Republique, P. Pacher, Gllimard, 1993, II 370A-c.

[6] . Ibid., iv. 419a-423b

[7]- ليس الإشباع، بحسب أفلاطون، مجرد حشو فراغ تلقائي؛ بل هو ملء حسب تدبير متعقل خاص لما ينقص، وليس لما يغيب دون أن يعيب؛ لنتذكر التمييز المدرسي الشهير بين النقص (la privation) وبين السلب أو الانتفاء (la négation). في محاورة غورجياس، أيضاً، يدين أفلاطون الشهوات الزائفة المستثارة عبر الطبخ والشهوات الحقيقية المستثارة عبر الطب.

[8] . Site web REMACLE, Justin Histoire univrselle, II, 12

[9] ـ في محاورة الجمهوريَّة، هناك بعض الشخصيَّات في المحاورات الأفلاطونيَّة لا تحمل اسماً.

[10] . RECALLE, XENOPHON, livre du revenu II, 1- 2

[11] ـ أرسطو، السياسات، نقله من الأصل اليوناني الأب أوغسطينس بربارة البولسي، بيروت، 1957، ص371-372

[12] ـ المرجع نفسه، ص 255

[13] ـ المرجع نفسه، ص 253.

 

[14] . SAINT AUGUSTIN, la cité de dieu Seuil (18 mai 2004) tom. III, P. 86

[15] . RAWLS, john, The Law of Peoples, 2001, p. 54