قراءة في كتاب علي مبروك: "النبوة.. من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ: محاولة في إعادة بناء العقائد"


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب علي مبروك: "النبوة.. من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ: محاولة في إعادة بناء العقائد"

مدخل:

مما استقر في مدارك الناس أنّ الإنسان لا يعرف قيمة النعم التي تحيط به إلا حينما يفقدها، وهذا الشعور - في الحقيقة - ينتابني كلما فقدنا مفكرًا تنويريًّا، فكأنّنا كنّا في غفلة عنه حتى يوقظنا رحيله، فيلفت قلوبنا ثم نظرنا إليه، وفي هذه الأيام نفقد مفكرًا كبيرًا وكاتبًا من الطراز الدقيق - إن صح التعبير - أقول هذا لأنّ كثيرًا من الكُتَّاب يكتبون فقط من أجل الكتابة، ولا يتحرون المنهج العلمي الدقيق فيما يكتبون، فتجيء كتاباتهم هشة فضفاضة خالية من الصرامة العلمية والدقة المنهجية. فقد رحل عنا المفكر الكبير "علي مبروك"، الذي كلما قرأت له أحسست بمدى المسؤولية التي يتحملها في الكتابة، فهو لا يكتب إلا عن منهجية علمية كثيرًا ما يصرح بها على عكس كثير من الكتاب، فضلاً عن أنّه يتحرى تطبيق المناهج بكل صرامة وموضوعية، لذلك أحببت أن أسهم بقراءة في بعض كتاباته عرفانًا مني بالجميل واعترافًا بالفضل لهذا المفكر القدير، فجاءت هذه القراءة في كتاب "النبوة من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ، محاولة في إعادة بناء العقائد" للدكتور علي مبروك، والكتاب صدر عن دار التنوير، بيروت، لبنان، في طبعته الأولى سنة 1993، وهو يحتوي على 302 صفحة من الحجم المتوسط.

وعلي مبروك مفكر مصري ولد في 20 أكتوبر 1958م بمصر، حصل على شهادة الماجستير سنة 1988 في الفلسفة الإسلامية، وحصل سنة 1995 على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة التي اشتغل بها مدرسًا للفلسفة، وعمل أستاذًا مساعدًا في قسم الدراسات الدينية بكلية الإنسانيات بجامعة كيب تاون، بجنوب إفريقيا. ويعتبر علي مبروك تلميذًا نجيبًا لحسن حنفي، وقد تأثر به إلى حد كبير، وقد لمست ذلك جليًّا من كتبه وخاصة هذا الكتاب. رحل عنا علي مبروك صباح يوم الأحد الموافق 20 مارس من سنة 2016، تاركًا وراءه إرثًا ثقافيًّا متميزًا جدًّا من كتب ومقالات، ومن كتبه: "عن الإمامة والساسة والخطاب التاريخي في علم العقائد"، "ما وراء تأسيس الأصول.. مساهمة في نزع أقنعة التقديس"، "الخطاب السياسي الأشعري نحو قراءة مغايرة"، "السلطة والمقدس.. جدل الثقافي والسياسي في الإسلام"، "ثورات العرب... خطاب التأسيس"، "لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا"، "الأزهر وسؤال التجديد"، "في لاهوت الاستبداد والعنف... والفريضة الغائبة في تجديد الخطاب الإسلامي"، "أفكار مؤثمة"، "مدخل إلى مقاربة التراث وقراءاته، عن القرآن وفعل القراءة وإنتاج الدلالة، القرآن بين المبدأ التأسيسي والحد الإجرائي، محاولة في قول جديد حول القرآن"، "الدين والدولة في مصر"، "الخطاب السياسي الأشعري"، "القرآن والشريعة"، ومقالات وكتب أخرى...

عن الكتاب:

أما عن الكتاب الذي بين أيدينا فيهدف علي مبروك من خلاله إلى تجلية الدور الذي قامت به السياسة في الوصول إلى مآربها من خلال توجيه الدين والثقافة، وجندت لذلك العلماء والمفكرين لتبرير تلك المواقف، وهو ما انعكس على الأبنية والأنساق الثقافية لمختلف الفرق والطوائف الإسلامية، ليخلص في الأخير إلى تاريخية الفكر الإنساني مهما ادعى من إطلاقية وتجريد وموضوعية، ومن خلال هذه الدراسة يخلص إلى وجوب تجاوز الفكر الإنساني في كل مراحله، والعمل على بناء فكر جديد يتوافق وتحديات المرحلة الراهنة –طبعًا – دون إهمال أو إقصاء للقديم.

فقد استخدم علي مبروك الأنثروبولوجيا (إنسانيًّا وتاريخيًّا) ليجلي طبيعة النبوة، فكان أن وصل إلى نتائج - في نظري على الأقل - عكسية وهي أنّ النبوة - ومتعلقاتها من مختلف المسائل - ستجلي جوانب كثيرة في التاريخ الإنساني لم تكن معلومة أو واضحة المعالم، والثاني هو الجانب العقائدي في النبوة بوصفها واسطة بين المطلق والنسبي، وهذا بدوره سيجلي جوانب من الجدلية الثلاثية (الله، الإنسان، العالم).

مستفيدًا من مقولتي اللغة والتاريخ، يقول علي مبروك: "ذلك لأنّ اللغة بوصفها فعلاً ارتبط أبدًا بنشاط الإنسان - تحيل - ككل فعل - إلى ما يتجاوزها ويتعداها، فإنّها تظهر - شأن كل فعل إنساني - من خلال نظامها والعلاقات القائمة بين عناصرها - والتي تخضع للتطور المتلاحق - نسقًا وبناءً شاملاً للوجود الإنساني، ولذا فإنّها ليست أبدًا نظامًا إشاريًّا مغلقًا لا يحيل إلا إلى ذاته كما يراها الفيلسوف التحليلي، بل نظامًا مفتوحًا يظهر نسقًا كليًّا قارًّا خلفه"[1] ومن هذا المنطلق وفي تحليله للفظة النبي والرسول ركز علي مبروك على المعنى المحايث أو الباطن في البناء اللغوي؛ ذلك المعنى الذي لا تقوله الكلمات على نحو مباشر ولكن لا يمكن الوصول إليه بعيدًا عنها، حيث لم يعد يجدي المعنى المعجمي الفقير، هذا الأخير الذي لا يبدي لنا شيئًا غير أن يقول إنّ لفظة النبي مأخوذة إما من النبأ وهو الخبر، فالنبي على هذا الأساس هو المخبر بالغيب، أو من النباوة وهي الارتفاع وعليه فمعنى النبي أي الرفيع. أما الرسول فمأخوذ من فعل رسل أي بعث فهو المبعوث. أما علي مبروك فيذهب بنا إلى المجال الدلالي للفظة النبي؛ حيث ينطوي الجذر اللغوي للفظة النبي وهو (نبأ- نبا) عن عنصر حركي يصعب إنكاره، ولما كانت أي الحركة تكشف عن انتقال من حالة إلى أخرى فإنّ النبوة بوصفها حركة تكون بمثابة كشف عن انتقال الوجود الإنساني من حالة استنفد فيها قدرته على الحياة الحقة إلى حالة أخرى تنبثق عن أشكال أكثر تطورًا[2].

نوع الزمان المشكل لطبيعة النبوة:

باعتبار النبوة نقلة من حالة إلى أخرى فإنّها لا تتم إلا في الزمان، ولكن أي زمان - يتساءل علي مبروك - والزمان في الحقيقة نوعان[3]:

أ- الزمان المطلق: وهذا يتفق والطبيعة الإلهية التي تجود بالنبوة، وهذا يضعنا في إشكال وهو التأدي إلى القول بالنبوة المطلقة وبالتالي تكون النبوة ظاهرة لا نهائية وهو يتعارض مع حقيقة تناهي النبوة، فبطل بذلك كون زمان النبوة هو الزمان المطلق.

ب- الزمان النسبي: وهذا يتفق مع الطبيعة الإنسانية التي تحمل النبوة، ومن هنا تكون النبوة ظاهرة جزئية نسبية تفتقر إلى الكلي الذي يعقلنها مما يؤدي إلى التشكيك في مصدرها، فبطل بذلك كون زمان النبوة هو الزمان النسبي.

ولما كان إنكار الطابع الزماني أمرًا متعذرًا لأنّه إنكار لظاهرة النبوة نفسها، وجب البحث عن طابع آخر للزمان يتجاوز كلاًّ من النسبي والمطلق، ولن يتيسر ذلك إلا بصهرهما معًا في هوية واحدة ومن هنا تنشطر النبوة إلى شطرين وتصبح مزدوجة فيكون لها داخل وخارج أو قوة وتَبدِّيها. وهذا ما يسميه علي مبروك جدلية المطلق والنسبي في النبوة.

ومن هنا استقرأنا ست نقاط مهمة في نظرية النبوة عند علي مبروك، وهي كما يلي:

أولاً: المطلق في النبوة ويسميه أيضًا ميتافيزيقا النبوة: "نوع من العلم الأبدي المطلق يرثه العلماء عن الأنبياء دون انقطاع... وذلك ما يشبه الإنسان الكامل عند الصوفية"[4]

ثانيًا: النسبي في النبوة ويسميه أنتروبولوجيا النبوة: "وهي التجليات الدورية التي تظهر حينًا بعد حين من حيث أنّها ترتبط ببناء تاريخي واجتماعي معين، بشكل يكون معه الوجود الإنساني المتعين في مظهره الاجتماعي والتاريخي موضوعًا لها، وهذا البعد النسبي هو الذي يفسر النسخ في الشرائع والنبوات، وهو الميدان الذي اهتم بدراسته علماء الكلام خاصة المعتزلة إذ إنّ الله يتعبد بحسب المصالح"[5].

ثالثًا: جدلية المطلق والنسبي في النبوة: "تظهر النبوة انحلال التناقض بين الكلي والجزئي أي بين المطلق والنسبي، فهي تظهر توحدًا بين مقاصد الله ومقاصد الإنسان"[6].

رابعًا: دور النبوة: من خلال جدلية المطلق والنسبي يتجلى دور النبوة في "الكشف عن النزوع الإنساني لتجاوز ذاته في لحظة تاريخية معينة، بوصفه أيضًا نزوعًا إلهيًّا يهدف إلى نفس الغاية"[7].

خامسًا: حركية النبوة: "تتضمن النبوة عنصرًا حركيًّا يكاد يكون جوهرًا لها، وبالتالي فالثبات نقيض لها، وكل من أراد تحويلها إلى عقائد وأبنية نظرية فارغة المحتوى يعد قاصرًا عن فهم روح النبوة وجوهرها الحركي، ويمثل النسخ في الشرائع أحد مظاهره"[8].

سادسًا: ميراث النبوة: هنا يأخذ ختم النبوة منحًى آخر حيث يعني "انقطاع الوحي مع دوام العلم حيث إنّ العلماء هم ورثة الأنبياء، بمعنى أنّ انتهاء النبوة يعني بدء العلم؛ وهذا ما يكرس أيضًا الطابع الحركي للنبوة. وهذا الدور الذي يقوم به العلماء بعد محمد كان يقوم به الأنبياء قبله"[9].

من خلال هذا الطرح، يفارق علي مبروك المعتقد السائد في الأوساط الدينية عمومًا، من أنّ النبوة هي اختيار من الله لأحد من خلقه لهداية الناس بحيث يكون قدوة ثابتة لهم.

النبي والرسول:

المجال الدلالي يؤكد قدرًا من التمايز بين النبي والرسول؛ فلفظ الرسول يرتد إلى الجذر اللغوي "رَسَل" ويعني البطء والتؤدة بما يقترب من السكون. أما لفظ النبي فينطوي على معنى الحركة الدائمة، ومن هنا يتجلى الفرق بين النبي والرسول، إذ لعل التفاوت بين حركية البنوة وبطء الرسالة يتفق والدور المنوط بكل من النبي والرسول، ففي حين يبعث النبي لتقرير شرع سابق وإصلاحه، فإنّ الرسول يأتي بشرع جديد يدعو الناس إليه. وبهذا فسر علي مبروك قلة عدد الرسل في مقابل عدد الأنبياء؛ فدور الرسل يتمثل في إحداث التغييرات الشاملة في التاريخ وذلك من خلال شرع جديد ينتقل بالبشر من طور ديني إلى طور آخر يناسب وضعًا بشريًّا جديدًا، وهذا لا يتحقق إلا خلال فترات زمنية طويلة ولهذا تتسم الرسالة بضرب من التؤدة والانبثاق البطيء، أما دور الأنبياء فيتمثل في إصلاح الدين القائم وتطهيره مما لحقه عبر التاريخ من الشوائب، هذا الدور الذي قام به أنبياء بني إسرائيل ورأى النبي محمد صلى الله عليه وسلم علماء أمته أهلاً للقيام به. ولا يعني هذا التمايز نوعًا من الفصل المطلق بين النبوة والرسالة فالرسالة تتجاوز النبوة إلا أنّها تستبقيها في جوفها في الآن نفسه، فالرسالة لحظة عليا في النبوة ذاتها[10].

نلاحظ أنّ ما وصل إليه علي مبروك يتقاطع مع قول الأشاعرة في التفريق بين النبي والرسول، ولكنه لا يوافقه في مضمون التمايز؛ حيث إنّ تفريق الأشاعرة بين النبي والرسول - في نظر علي مبروك - قد انتظمه الموقف الخاص من النبوة لغةً حيث تبنوا المعنى الذي يذهب إلى أنّها مأخوذة من النبأ وهو الخبر؛ فكان النبي هو المُخبَر بالغيب، وعلى هذا فالنبوة مجرد قول من الله دون فعل من الإنسان، والرسول كذلك هو المبعوث، ففي التفريق يجعلون النبي كل من أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ بينما الرسول كل من أوحي إليه وأمر بالتبليغ، وعليه فهناك عموم وخصوص بينهما كما يقولون كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، في حين يذهب علي مبروك إلى أنّ العلاقة بين النبوة والرسالة تتسم بضرب من التوتر أحد ضلعيه هو كون النبوة جزءًا من الرسالة وضلعه الآخر يجعل الرسالة ذاتها مجرد لحظة عليا في النبوة أو جزءًا من النبوة، وهذا ما لم يدركه الأشاعرة حيث اقتصروا على فكرة الخصوص والعموم فضيعوا الضلع الثاني من التوتر وهو كون الرسالة لحظة عليا في النبوة.

أما المعتزلة فلم يفرقوا بين النبي والرسول وجعلوهما وصفين لشخص واحد، وجعلوا لفظ الرسول من الألفاظ المتعدية المتضايفة أي لابد من أن يكون هناك مرسِل ومرسَل إليه وكأنّ اللفظ بذاته يحيل إلى الآخر، فأضافوا إلى إرسال المرسِل قبول المرسَل ليصبح الرسول كذلك؛ لأنّ الرسالة لا تكون كذلك إلا إذا حُمِّلها الرسول، ولا يكون مُحَمَّلاً للرسالة إلا بأن يعلمها الرسول ويميزها من غيره فيصير بحيث يمكن أن يؤديها إلى غيره... فالإرسال وهو فعل إلهي مع القبول وهو فعل إنساني يشكلان معًا مفهوم الرسالة فأثبتوا بذلك فاعلية ودورًا للإنسان في الرسالة. وإنّما جعل المعتزلة قبول الرسالة إنّما يفيد من وصف الرسول أنّه كذلك من جهة العرف وليس من جهة اللغة، فأظهروا بذلك أنّ اللغة ليست بناءً جامدًا مغلقًا بل هي نظام يقبل الإضافات والتحويرات التي نشأت من التجربة الإنسانية المشتركة، بخلاف الأشاعرة الذين جمدوا اللفظ بمعناه اللغوي فألغوا فعل الإنسان فيها لصالح الله وحده.

النبي... اللفظة الأجنبية[11]:

في العبرية؛ انتهى الباحثون إلى أنّ لفظة النبي nabi)) ليست أصيلة فقد تكون دخيلة على العبرية، أو أنّها ترتبط بأصول غير عبرية (أكادية أو أشورية أو عربية...) وهذا طبعًا يقلل من صحة الادعاء بالخصوصية والنقاء في الحضارة اليهودية التي تنظر لنفسها على أنّها بنية حضارية مغلقة تند عن التفاعل مع أي أبنية حضارية أخرى، وهذا ما يؤكد التفاعل الحي بين الحضارات المختلفة. أما في اللغة الإغريقية: فلفظ النبي يطلق على شخص ينطق بالنبوة ويفسرها، وبذلك يكون تفسير النبوة وليس مجرد النطق هو الأهم في تقرير كون الشخص نبيًّا عند الإغريق. ولفظة النبي عند الإغريق خضعت لنوع من التطور اللغوي إلى مدلولات أوسع اقتضتها متغيرات حضارية معينة مع ما تحمله اللفظة من مرونة وطواعية تظل معها قابلة للاستعمالات الجديدة من غير أن تفقد معانيها القديمة، فتحول النبي من مفسر وشارح للنبوات وناطق بشيء وشيك الوقوع بمقتضى سياق الأحداث الجارية إلى مجذوب لا يدري شيئًا عن مصدر معرفته. أما في اللغة اللاتينية: فكانت تطلق على الشعراء وعلى المعلم والسيد الذي له اليد الطولى في أي فن أو مهنة، ولكن بعد تأثيرات المسيحية القوية في العصور الكلاسيكية نقل اللفظ الإغريقي إلى لفظة لاتينية "propheta" وكانت هي الشائعة في ترجمة الكتاب المقدس، ويبدو ذلك واضحًا في تبني الحضارة الأضعف لألفاظ الحضارة الأقوى وأفكارها. أما اللفظة الانجليزية: "prophet" فتشير إلى الشخص الذي يتكلم نيابة عن الله أو عن أي إله آخر، وذلك بوصفه موحًى إليه أو ملهمًا أو مفسرًا لإرادة الله...أو الشخص الذي يزعم أو يعتقد أنّه في منزلة معلم ملهم. ولكنها الآن تستخدم في كل المعاني القديمة وفي معان أخرى حديثة مشتقة منها، فتطلق على المصلحين والمجددين والقادة الاجتماعيين والسياسيين الدينيين... فكل اتجاه جديد يتعارض مع ما هو قديم يمكن أن يطلق عليه بهذا المعنى الواسع أنّه اتجاه نبوي "prophetic"، ويعكس ذلك قدرة كبيرة على نقل اللغة من مدارات المقدس إلى مستويات التاريخ.

نتائج البحث اللغوي:

انطلاقًا من تتبع لفظة النبي في مختلف اللغات تحليلاً وتطورًا نخرج مع علي مبروك إلى النتائج التالية:

1- الأنموذج اللغوي يكشف عن الأنساق الحضارية والفكرية الكامنة خلفه.

2- هذه الأنساق الحضارية والفكرية تتعدى الأنموذج اللغوي ذاته لكنها لا تظهر بعيدًا عنه أبدًا.

3- من خلال حالة اللفظة العبرية (nabi) يتبين أنّ اليهودية خضعت لمؤثرات حضارية أجنبية فيتبين بذلك زيف النقاء والصفاء والتميز الحضاري الذي يدعيه اليهود.

4- يكشف التداول والاقتراض عن نمط المواجهة السائدة بين الحضارات، فإنّ الحضارة الإغريقية تكشف عن وضع متميز في هذا المجال إذ حافظت على هويتها الحضارية الخاصة في مواجهة النسق الحضاري اليهودي، وذلك بترجمة اللفظة العبرية (nabi) إلى صيغة قومية تمامًا.... بينما اكتسحت من مركز الحضارة الأقوى الحضارة الرومانية اللاتينية حيث أجبرتها على نقل اللفظة الإغريقية بصيغتها الكاملة إلى اللفظة اللاتينية "propheta"

لا يكتفي علي مبروك بالبحث اللغوي إذ يرى أنّ الانحصار في هذه الأنساق التي يضعنا البحث اللغوي في مواجهتها قد يؤدي بنا إلى صورية شاملة يصبح معها اللجوء إلى البحث التاريخي مطلبًا ضروريًّا؛ فالبحث التاريخي هو الذي يتكفل بالكشف عن جدليات بناء هذه الأنساق في الواقع الإنساني.

مستفيدًا من برجسون فيما يسميه "الحركة الارتدادية للتاريخ" يذهب علي مبروك إلى أنّ ماضي الظاهرة يفسر اكتمالها في الحاضر، كما أنّ اكتمالها في الحاضر يكشف عن ماضيها في التاريخ، ومستفيدًا من مقولة المعتزلة في نظرية مصالح العباد يذهب إلى أنّ النبوة تكتسب دلالتها ومنطقها من كونها تعبر عن ضرورات ومطالب إنسانية كلية تستجيب لها الإرادة الإلهية في لحظات بعينها - وذلك خلافًا لما عليه الأشاعرة من كونها إرادة إلهية مطلقة تهيمن على حركتها وبنائها التاريخي بأسره - ومن هنا يصح الانتقال بالنبوة من كونها أحد مباحث علم العقائد إلى كونها فلسفة للتاريخ تتكشف عن ضرب من المقاصد الواعية التي تتحكم في التاريخ وتفسر حركته.

إنّ النبوة بوصفها ترتبط بجانب خاص في الإنسان ينزع به إلى تجاوز تحديدات الزمان وقهرها، هي ليست حكرًا على بعض الأمم والحضارات بل هي عمومية وشاملة، وشمولها لا يرجع إلى التبادل بين الحضارات وإنّما إلى نزوع الإنسان نفسه نحو المطلق، ومن هنا تبدو ظاهرة النبوة مدخلاً إلى الأنطولوجيا.

أنواع النبوة[12]:

يفرق علي مبروك بين نوعين من النبوات، تعتبر الثانية نتيجة للأولى عبر تطور في الوعي البشري، وهما النبوءات ذات النسق الميثولوجي والنبوءات ذات النسق الديني.

1- نبوات النسق الميثولوجي: النبوءات الميثولوجية تعد صورًا للوعي الإنساني في مرحلة من مراحل تطوره، ولذا فإنّ بناء الوعي وبناء الواقع الذي يعد صورة له قد تركا تأثيرًا حاسمًا في أنماط التنبؤ السائدة آنذاك، بحيث يمكن التمييز بين نمطين أساسين للنبوءة يعكس كل منهما بناءً معينًا للواقع أحدهما النمط الطبيعي والآخر النمط الذاتي.

أ- النمط الطبيعي: وفي هذا النمط التصقت النبوءات بالطبيعة التصاقًا تامًّا، بحيث كانت إرادة الآلهة تكشف عن نفسها من خلال موجودات الطبيعة كأحشاء الأضاحي، تحليق الطيور وحفيف الأوراق... ارتبط ذلك النزوع الطبيعي ببناء الوعي البشري آنذاك إذ لم يكن الإنسان يميز نفسه عن الطبيعة، بل لعله أحس نفسه في هوية معها، وكان ذلك في النبوءات القديمة.

ب- النمط الذاتي: وهنا انتقل الإنسان من التعرف على إرادة الإله من خلال الأشياء القائمة في الطبيعة إلى التعرف عليها في قلب الذات من خلال الحلم والرؤيا... والحق أنّ ذلك يتطابق مع مسيرة الوعي الإنساني الذي ينتقل من مرحلة الالتصاق والوحدة مع الطبيعة إلى الانفصال والانقسام حيث يميز نفسه عن الطبيعة ويدرك أنّه ذات، فانبثاق الذاتية في النبوة قد توازى مع انبثاق الذاتية في الوعي، ومن أمثلته، ظهور الإله على صورة إنسان كما في مصر القديمة وآلهة الإغريق.

ومنه فنبوات النسق الميثولوجي قد انبثقت من وعيٍ لحمتُه الطبيعة وحققت تقدمًا روحيًّا من الطبيعي إلى الذاتي، وهكذا اتخذ مسار هذه النبوات شكل الصعود من أسفل إلى أعلى أو من الإنسان إلى الله، حيث الإله هنا ليس سوى جزء من الطبيعة أو هو في أفضل صوره صورة من الإنسان، إذ إنّه إله نشأ على الأرض ولسبب ما صعد إلى السماء فكان أن لاحقه الإنسان بطلب الوحي.

2- نبوءات النسق الديني: وقد اشتمل هذا النسق على النبوات الثلاث الكبرى (اليهودية والمسيحية والإسلام) وفيها وصل وعي الإنسان - عبر مسيرة تقدمه الروحي - إلى الإله المجرد الذي ليس كمثله شيء. والفرق الجوهري بينها وبين نبوءات النسق الميثولوجي أنّ الإنسان في هذه الأخيرة هو الذي خلق الله على صورته وكان خلقه أرضيًّا ثم أصعده إلى السماء، بينما الإله في النسق الديني هو الذي خلق الإنسان على صورته وكان خلقه سماويًّا ثم أهبطه إلى الأرض ولهذا اتخذت النبوات في هذا النسق مسارًا هابطًا من أعلى إلى أسفل أو من الله إلى الإنسان، أي أنّ الله نفسه أصبح يبادر إلى كشف وحيه ونقل إرادته إلى البشر دون طلب منهم. وإذا كانت نبوات النسق الديني على هذا النحو فإنّ علي مبروك - كما ميز بين نمطين من النبوات في النسق الميثولوجي يعكس كل منهما بناء معينًا للواقع، والانتقال من الأول إلى الثاني يعكس تطورًا معيناً في الوعي - يميز بين ثلاث لحظات في نبوات النسق الديني يعكس الانتقال بينها من لحظة إلى أخرى تحولاً في أبنية الوعي، وذلك غير ممكن على المستوى الإلهي الخالص وبمعزل تام عن الوضع الإنساني.

أ- النبوة اليهودية: وتمثل أولى اللحظات في النسق الديني. هنا يريد علي مبروك أن يطبق التحليلات النفسية والفلسفية المعاصرة (خاصة التحليل النفسي والبنائية) التي تقول بأنّ الانقطاع على مستوى الوعي أمر مستحيل، فإنّ أرقى خبرات الوعي وأعلاها ترتبط بأدنى خبراته وأكثرها بدائية، فبالرغم من أنّ الكتاب المقدس أدان بقوة الممارسات الميثولوجية (أي المبادرة في الفعل النبوي بيد الإنسان) ومع ذلك اعتبر الأحلام والرؤى، وهي التي تندرج ضمن التنبؤ الذاتي، أداةً مشروعةً يكشف الله من خلالها عن إرادته بجانب النبوة مما يعني أنّ القول بالانقطاع بين النسقين قول زائف، ويعني أيضًا من جهة أخرى أنّ نبوات النسق الديني كأي ظاهرة ترتبط بالإنسان لم تبدأ مكتملة. والتصاق النبوة بالميثولوجيا في مرحلة ما كان عملاً فرضته المصلحة، لأن قصد النبوة دائمًا هو مصلحة الإنسان، وقد اتخذ الوعي البشري آنئذ شكلاً ميثولوجيًّا، فقد كان لزامًا أن تلتصق النبوة ولو جزئيًّا بهذا الشكل الميثولوجي للوعي، لأنّها إذا انقطعت عنه مطلقًا أصبحت شيئًا غريبًا عن وعي الإنسان وعالمه وبهذا تنعدم قدرتها على تحقيق المصلحة.

نبوة موسى وبروز ظاهرة النبي المرسل:

لا يمكن الحديث عن النبوة عند اليهود دون الحديث عن موسى بوصفه نبي اليهودية الأول. يذهب على مبروك إلى أنّ بروز ظاهرة النبي المرسل بوصفه الأداة الأكثر أهمية لتعيين إرادة الله قد ارتبط أيضًا بمؤثرات ميثولوجية يصعب إنكارها فقد اعتقد العبرانيون - وكانوا في ذلك كالبدائيين تمامًا - أنّه يمكن تلقي كلمة الله مباشرة (في لقاء شخصي) حين تجلى الله على الجبل تجليًا عامًّا، ويبدو أنّه لولا خوفهم من هذا اللقاء الشخصي الذي تصوروه ممكنًا لما قُدِّر للنبوة في شكلها الأرقى أن توجد أبدًا، فقد دفعهم الخوف إلى الطلب من موسى أن اذهب واسمع ما يقوله إلهنا لك ونحن سوف نفعله برضا تام، وقد أصبح موسى نبيًّا يتحدث باسم الله إلى البشر بدءًا من هذا التكليف - ولنلاحظ أنّه كان تكليفًا إنسانيًّا - بتلقي كلمة الله وهكذا نشأت النبوة في شكلها الديني الأرقى لصيقة بالميثولوجيا وذلك بالرغم من أنّها تطورت بالوعي الميثولوجي تطورًا جذريًّا. إلا أنّ الأثر الذي مارسته النبوءات الميثولوجية على النبوة اليهودية قد تلاشى إلى حد كبير بعد عصر داوود، حيث أصبح الشكل الوحيد المشروع للوحي هو ذلك الذي يأتي من الله بواسطة نبي اختاره واصطفاه.

الملاحظ أنّ علي مبروك يجعل لحظة النبوة الموسوية هي حادثة الجبل الشهيرة، في حين أنّه من المعروف أنّ ابتداء نبوة موسى كان بدءًا من بحثه عن النار وتكليم الله له في الشجرة، وذلك حتى ينسجم مع نسقه في كون النبوة مطلبًا إنسانيًّا وافقته الإرادة الإلهية.

خصائص عامة للفعل النبوي:

1- انبثقت النبوة من جدل الخوف والشجاعة؛ فالخوف ضياع للنبوة وإهدار، وهو كذلك بالنسبة إلى الوجود ذاته، في حين أنّ الشجاعة تأكيد لها وإظهار، وهو فعلها للوجود، كل هذا يكشف عن الطابع الأخلاقي للنبوة كما يكشف عن الطبيعة الأنطولوجية للنبوة.

2- إنّ كون النبوة تنبثق من شجاعة فرد في مواجهة خشية شعب تأكيد على أنّ الأنبياء يمثلون وعيًا فرديًّا متقدمًا متميزًا عن الوعي الجماعي في الوقت نفسه، فالنبوة لا تجد مطمحها في الوعي الخامل.

3- ليست النبوة في جوهرها تنبؤًا بل توسطًا يؤسس حوارًا بين الله والإنسان.

4- إذا كان كذلك فإنّه يحق للإنسان من حيث هو طرف في الحوار أن يسهم بدوره في اختيار الإرادة التي يتحقق حولها الحوار، فالاختيار الإلهي الصحيح لشخص النبي يقوم على إدراك الله لضرب من الاختيار الإنساني المضمر للشخص ذاته، والاختيار الإلهي يتقدم على الاختيار الإنساني على مستوى الميتافيزيقا، والاختيار الإنساني يتقدم على الاختيار الإلهي على مستوى التاريخ.

ومن هنا يخلص بنا علي مبروك إلى النتائج التالية:

1- النبوة بوصفها وحيًا عامًّا إقرار باجتماعية الوجود الإنساني، فالنبوة لا تكون أبدًا حيث لا يكون كيان اجتماعي تكون هي محور بنائه النظري والعقائدي في لحظة ما.

2- النبوة أيضًا إقرار بتاريخية الوجود الإنساني، ولهذا فإنّ النبوة ليست شيئًا قائمًا في الفراغ بل إنّها انبثاق محدد له أبعاده الاجتماعية والتاريخية.

3- تجربة الوحي تبرهن على أنّ الاهتمام الإلهي يتعلق أساسًا بالأمم والشعوب خاصة حين الشدائد والأزمات.

4- لما كان الجنس البشري مكونًا من شعوب مختلفة لم يكن باستطاعة الوحي تربية الشعوب كلها دفعة واحدة، ولكنه بدأ بشعب واحد من أجل تربية وجدانه وتحريره حتى يقوم هذا الشعب بدوره بتربية الشعوب الأخرى.

5- لكن الشعب اليهودي لم ير الوحي رسالة وأمانة، بل رأى فيه مصدرًا للتمييز والتفوق على سائر الشعوب والأمم، وبهذا تشوه الجوهر الأصيل للنبوة بسبب أنانية المجموعة الأولى وتمركزها على ذاتها الشيء الذي جعلها تدرك سعادتها في فخرها بأنّها وحدها التي تتمتع بالخير أو بنعمة الوحي مع استبعاد الآخرين.

6- مع أنّ علة ابتداء اليهود بالوحي هي افتقادهم لأي امتياز روحي.

ب- نبوة المسيح: تعتبر نبوة المسيح هي اللحظة الثانية في نبوات النسق الديني، وهي تمثل لحظة البدء في امتلاك المجرد بعد أن أظهر الوعي في اليهودية عجزه عن إدراك هذا النوع من الوعي، وإذا كان الوحي في المسيحية قد ارتبط بضرب من الوعي نجح في إدراك المضمون المجرد وراء الشكل المحسوس فإنّه أضاع هذا الإدراك حين صهرهما معًا في وحدة مباشرة، وذلك ما يفسره لنا علي مبروك بأنّ كل لحظة نبوية وإن كانت تمثل في حد ذاتها بناءً مكتملاً إلا أنّها تكشف على نحو كلي عن ضرب من النقص الباطن الذي يجد كماله في لحظة نبوية أعلى، وهكذا دواليك حتى يتحقق الكمال المطلق في النبوة، وهذا النقص يعبر عن نفسه في تلك الرغبة الدائمة في التجاوز، الباطنة في كل نبوة وهذا يعد جزءًا من النبوة نفسها، فهو نقص لا يحمل أي دلالة أخلاقية حيث أنّه ذو طابع أنطولوجي يتجلى في دفع النبوة دائمًا إلى الاكتمال والتمام؛ فإنّ القصد الغائي للوحي أو الوعي يدفع إلى لحظة أعلى يتحقق فيها إدراك المجرد والمحسوس أو (الله والإنسان) في وحدتهما الباطنية التي تتبدى خلف انفصالهما الباطن، وهذه اللحظة هي الإسلام.

ج- نبوة الإسلام: وهي اللحظة الثالثة في نبوات النسق الديني، حيث تمثل خاتم النبوات وأعلى مراتب اكتمال الوحي، إذ مثلت القصد الغائي للوحي الذي تمثل في إدراك الوحدة بين الله والإنسان بالرغم من انفصالهما المباشر، ولا يمثل الاكتمال هنا نهاية للتاريخ بل لعله يمثل بدايته الحقة؛ إذ يعني الاكتمال أنّ الروح البشري قد حقق بالوحي درجة من الوعي تؤهله لاكتمال مسيرة تطوره معتمدًا على قواه الخاصة[13] فكما يقول إقبال: النبوة تبلغ كمالها الأخير من إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها.

يخلص علي مبروك من كل هذا إلى أنّ النبوة تكشف في كل أطوارها عن جوهر إنساني أصيل لا يقلل منه أبدًا مصدرها المفارق، بما يؤكد طابعها الواقعي ومضمونها الإنساني.

بنية النسق النبوي:

يحصر علي مبروك القيم التي يتبلور حولها النسق النبوي في قيم الاختلاف وقيم التماثل؛ ذلك أنّ ما يجب إدراكه أولاً أنّ بنية النسق النبوي ليست صورية مغلقة إذ هي تنفتح على وعي الإنسان وواقعه إلى حد أنّها تتطور في إطارهما جدليًّا، لذلك كانت قيم الاختلاف هي الأهم في النسق النبوي لأنّها تؤكد حيويته وتاريخيته، وهو ما ينأى به عن أن يكون مجرد صورة خالصة لا علاقة لها بالواقع والتاريخ؛ يتجلى ذلك طبعًا في ارتباط النبوة بالوعي في صوره العديدة. وأيضًا هناك قيم تتماثل في جميع صور النسق وأشكاله وهي التي تظهر في أدنى أشكال النبوة وأكثرها بدائية وتحتفظ بوجودها في أرقى أشكالها وأكثرها تطورًا مؤكدة أنّ النسق النبوي في أرقى أشكاله لم يتجاهل ضروبه الأولية فجميع النبوات هي في صميمها محاولة لإعادة الوحدة بين الله والإنسان، ومن صور التماثل أيضًا مفهوم الأزمة...والحقيقة أنّ الاختلاف ينبثق من قلب التماثل مما يؤكد أسبقية النسق الكلي على أجزائه.

إنّ قيم التماثل والاختلاف تؤكد أنّ هناك نسقًا بنيانيًّا كليًّا ينتظم النبوات الجزئية جميعًا هو القابض عليها ويوجه علاقاتها ببعضها، ولهذا النسق حضور في كل عنصر أو لحظة جزئية إلى أن تكتمل حضرته الكلية في آخر لحظاته وهو الإسلام. ولا شك أنّ القول بحضرة النسق ومحايثته لأجزائه هو السبيل الوحيد لتأكيد غائية النبوة والوحي لأنّه حينئذ ينتقل بالباحث من الاكتفاء بتقديم تفسيرات وفروض ذاتية إلى موضوعية يتحكم فيها مفهوم النسق المنفصل عن ذات الباحث، فضلاً عن أنّ تفسيره تاريخيًّا يكشف عن واقعية هذا العلم (أو الفلسفة) وإنسانيته[14].

واضح مما سبق أنّ علي مبروك يريد القضاء على أشكال التشظي المعرفي الذي وقعت فيه العقليات الدغمائية، وذلك من خلال إيجاد البنية التي تجعل من التاريخ الإنساني نظامًا كليًّا متكاملاً.

النبوة ... البناء العقائدي الخاص[15]:

استكمالاً لما سبق، يهدف علي مبروك في هذا الباب إلى رصد كيفية تحول العياني إلى مجرد، تاريخيًّا، من خلال مبحث النبوة العقائدي، والذي يعزوه بدوره إلى مفهوم الأزمة الذي هو المفهوم ذاته الذي برَّرَ ظهور النبوة، وتتبدى هذه الأزمة في عدة نقاط أخذت وتيرة متطورة، تطور معها البحث العقائدي؛ ذلك أنّ النبوة، وقد كانت ذات طابع إنساني، وبفعل أحداث سياسية وتاريخية معينة أخذت تتطور إلى أن أصبحت في علم الكلام ذات طابع مجرد، وهو في نظر علي مبروك أزمة علم الكلام الذي نسي الإنسان وانكبَّ على التفكير في المجرد، وسوف نرى كيف أنّ علي مبروك يحاول إسقاط العقيدة من السماء إلى الأرض.

ويرى مؤلفنا أنّ أول ظهور للنبوة في حقل البحث العقائدي كان عند الشيعة، إذ لولاهم لما نشأ البحث في هذا الشأن، وذلك من خلال مسألة الإمامة والتي هي ركن الدين الأول عند الشيعة، وهذه الأخيرة كما هو معروف نشأت سياسية تاريخية وانتهت عقيدة راسخة؛ فلا بد عند البحث في مسألة الإمامة من التمييز بين لحظتين؛ أولاهما بعد وفاة النبي مباشرة والأخرى بعد وفاة علي بن أبي طالب. فبعد وفاة النبي حسمت قريش أمر الخلافة اعتمادًا على أولوية دينية تارة - وذلك مع آل البيت بعدم التمييز - وعلى أولوية قبلية تارةً أخرى - وذلك مع الأنصار على أساس أنّ الأئمة من قريش- ويلاحظ علي مبروك أنّ قريشًا التي اختارت لم تكن قريش بني هاشم أفقر بطونها قبل أن يكون فرع الرسول، بل قريش (تيم وعدي وأمية) أغنى بطونها وأكثرها امتيازًا طبقيًّا واجتماعيًّا، وهكذا تواطأت الأرستقراطية القرشية على إقصاء ابن أبي طالب من الخلافة. أما موت علي فقد تبدى عن إصرار وجوه قريش وسادتها بالخلافة دونه وهو أمل المستضعفين في خلاصٍ لم يتحقق إلا عبر استمرارية نهج الرسول الذي وعد به ابن أبي طالب... وبهذا انشغل أنصار علي بالبحث عن إرادة أعلى من إرادة البشر تستند إليها الإمامة مطلقًا، فجعلوا السلطة والإمامة شأنًا من شؤون السماء لا دخل للبشر فيه، وظهر ما يسمى بمذهب النص على الإمامة بعد أن كان مجرد الاعتقاد في أحقية علي بالإمامة، وهكذا تحولت الإمامة إلى قضية أصولية وهي ركن الدين لا يجوز للرسل إغفاله وإهماله. ومن هنا أخذ البحث العقائدي في الإمامة يتطور ويتطور معه تلقائيًّا البحث في النبوة، لأنّ الشيعة في كل مرة يتكلمون على الإمامة يقيسونها على النبوة، فاعتقدوا أنّ الإمامة كالنبوة لا تكون إلا بالنص من الله تعالى وحكمها في ذلك حكم النبوة ولهذا فإنّ دفع الإمامة كفر كما أنّ دفع النبوة كفر، بل وامتازت الإمامة على النبوة أنّها استمرت بأداء الرسالة بعد انتهاء دور النبوة فاقتضى استبداد الإمام بمهام النبي دوام النبوة ذاتها في الأئمة، وما ختم عند الشيعة ليس سوى النبوة التشريعية ومن هنا نشأت مع فكرة الإمامة المستمرة فكرة النبوة المستمرة، والإمامة المستمرة هي نبوة باطنية، والقرآن عندهم لا يكون حجة إلا بقيم، وذلك لتعدد أوجه التأويل فيه - فهو كما يقال حمال أوجه، وهذا القيم يتولى الـتأويل الصحيح ومراد الله - وهو علي بن أبي طالب، فاعتبار الإمامة قرين النبوة هو واحد من أهم موجهات النسق الشيعي على الإطلاق.

كل هذه الآراء كانت من اعتقاد الشيعة أنصار علي ولم يكن يأخذ بها أغلبية المسلمين فانبرت للرد عليها بقية الفرق والطوائف، فمبحث النبوة عند كل من الأشاعرة والمعتزلة قد نشأ بادئ ذي بدء مبحثًا دفاعيًّا خالصًا يهدف إلى الرد على أصحاب الآراء المخالفة في مسألة النبوة، ولذلك استغرق انتقال مبحث النبوة من مصنفات الفرق إلى مصنفات العقائد قرنًا كاملاً من الزمن، فإضافة إلى آراء الشيعة فإنّ حجج البراهمة في إبطال النبوات قد استنهضت كافة الجهود والهمم للردود الدفاعية عند المتكلمين ذلك أنّها تسربت إلى الوسط الحضاري الإسلامي، فوجد من يقول بآرائهم على غرار ابن الراوندي الذي يصفه المسلمون بالملحد، ومحمد بن زكريا الرازي الطبيب، فكلاهما كرس تناقض النبوة مع العقل مع فارق جوهري بينهما، فعند ابن الراوندي أنّ النبوة إما أن تقر ما يقره العقل فعندئذ تكون تابعةً له ولا حجة فيها، وإما أن تخالف ما يقره العقل فوجب رفضها، وهو في الحقيقة لم يفعل شيئًا سوى أنّه كرر حجج البراهمة بخلاف الرازي فقد طور إطارًا معرفيًّا بديلاً فإبطال النبوة عنده لا لتعارضها مع العقل بل للتوافق التام بينهما، فإذا كان كذلك ففي العقل كفاية عن كل ما سواه والنبوة لا تضيف شيئًا إلى ما يعرفه الإنسان بالعقل، فبالعقل لم يعرف الإنسان الحياة والأخلاق والصنائع فقط، وإنّما عرف الله، وبهذا بات أصل الدين والدنيا (أو مضمون النبوة) معروفًا بالعقل، كما بناها على نظريته في التساوي بين البشر. إلا أنّ علي مبروك يرى أنّ إبطال النبوة إنّما هو رد على الإسلام السلطة وليس الإسلام الدين، ذلك أنّ الإسلام السلطة مارس ضروبًا شتى من العنف والتشدد، ولهذا كان من المحتم على أي تيار يستهدف بناء النبوة في مواجهة مناهضيها أن يكشف عن البنية اللادينية واللاإنسانية للوضع التاريخي الذي ظهر فيه تيار مناهضة النبوة. هنا يفرق علي مبروك تفريقًا جذريًّا بين ما يذهب إليه الأشاعرة وما يذهب إليه المعتزلة في مسألة النبوة، إذ يرى أنّ الأشاعرة قد جنوا على الدين جناية عظمى لصالح السلطة - بوعي أو بغير وعي - وذلك من خلال تكريسهم لهذا الوضع التاريخي المتشدد، من خلال تنظير عقائدي تسيطر عليه المطلقات الإلهية والسياسية، فإنّ شيئًا لا يحدث غير تثبيت ذلك الاغتراب المادي والروحي - الذي مارسته السلطة باسم الدين - والذي نشأ عنه إبطال النبوة، والذي أدرك المعتزلة فقط أنّ قهره غير ممكن إلا بالكشف عن الجوهر الأصيل للدين أي جوهره الإنساني خاصة.

ولنا أن نلخص جملة البحث فيما يخص البناء العقائدي للأشاعرة في مسألة النبوة مقارنة بالمعتزلة في النقاط التالية:

1- الصياغة الأشعرية لمفهوم العلاقة بين الدوائر الثلاث (الله والطبيعة والإنسان) تتسم بطابع صوري مجرد بما ينفي مفهوم العلاقة أصلاً، أو أنّها علاقة أحادية الجانب أي علاقة التسيد والاستعباد، بينما يذهب المعتزلة إلى تفعيل هذه العلاقة في جدلية أو علاقة التفاعل والاستيعاب، ينتج عن ذلك عند الأشاعرة تغييب الطبيعة والإنسان، بينما يقع إثبات فاعليتهما عند المعتزلة.

2- إثبات الصفات الأزلية عند الأشاعرة والتمييز بين الصفة والوصف تكريس لمفهوم المطلق وتغييب للإنساني والطبيعي، بينما يرتبط نفي الصفات وعدم التمييز بينها وبين الوصف عند المعتزلة بالفاعلية النسبية لكل من الإنساني والطبيعي بإزاء الإلهي، بمعنى أنّه - عند المعتزلة - لا يقوم تصور الإلهي البتة بمعزل عن الإنساني والطبيعي، وكذلك يستحيل تصور الإنساني والطبيعي بمعزل عن الإلهي، وهكذا وصلوا من تصور الله عادلاً إلى تصور الإنسان فاعلاً أو العكس، ومن تصور الله حكيمًا إلى تصور الطبيعة إطارًا للضرورة والنظام أو العكس.

3- النبوة عند الأشاعرة مجرد قول من الله دون فعل من الإنسان، بينما يحق للإنسان، عند المعتزلة، من حيث هو طرف في الحوار أن يسهم بدوره في اختيار الإرادة التي يتحقق حولها الحوار، فالاختيار الإلهي الصحيح لشخص النبي يقوم على إدراك الله لضرب من الاختيار الإنساني المضمر للشخص ذاته، لذلك كانت النبوة عند المعتزلة عرضًا من الله على شخص النبي إن شاء قبلها وإن شاء ردها، فالنبوة عند الأشاعرة موهبة من الله تعالى، وعند المعتزلة رفعة مخصوصة يستحقها الرسول إذا قبل الرسالة وتكفل بأدائها وصبر على عوارضها.

4- المعتبر لدى الأشاعرة في النبوة بوصفها فعلاً جائزًا هو مطلق الإرادة لا مقتضى المصلحة، ومن هنا فإنّه يتعذر - أشعريًّا - تبرير النبوة على أنّها رد إلهي على وضع إنساني محدد في لحظة معينة من التاريخ، بخلاف المعتزلة الذين يعللون خطاب الله بالمصالح المختصة بالمبعوث إليهم وليس بمجرد مطلق الإرادة، تجنبًا للعبث.

5- تصور النبوة فعلاً يحصل بمطلق الإرادة يستلزم الله ذاتًا تبدو لها البداءات، مما يشوه صورة الذات الإلهية، لأنّه يستحيل تفسير الطابع التطوري للنبوة إلا بوصفه تطورًا في طبيعة الذات الإلهية، إلا أنّ الأشاعرة في هذه النقطة بالذات أظهروا تناقضًا واضحًا في قولهم بالمصلحة في نسخ الشرائع وهو خرق للنسق الأشعري، بينما تصورها المعتزلة مطلبًا إنسانيًّا في لحظة معينة من التاريخ استجابت لها الإرادة الإلهية مما يتكشف عن الحكمة والمصلحة، وهكذا صار المعتزلة إلى إثبات النسخ في الشرائع على قانون المصلحة.

6- الإمكان الأشعري يتكشف عن إطلاق الإرادة والقدرة الإلهيتين على الفعل، والامتناع البرهمي يتكشف عن إطلاق الثقة في العقل، فبدا وكأنّ النبوة حسب الأشاعرة تفهم في إطار ما هو إلهي فحسب وحسب البراهمة تفهم في إطار ما هو إنساني فقط، فانتهينا في النسقين إلى تكريس ما هو مطلق وحذف ما دونه، ويخلص علي مبروك إلى أنّ الأشعرية برهمية مقلوبة، أما عند المعتزلة والفلاسفة فإنّ الوجوب يتكشف عن حضور إنساني ما إلى جانب الحضور الإلهي.

7- يتصور الأشاعرة أنّ الطبيعة ليست عالمًا للأشياء تتضمن في ذاتها أصل حركتها، بل هي عالم لأشياء موات غير فاعلة... وتبعًا لذلك لا يكون أي خرق في الطبيعة خرقًا لقانون ضروري أو حتمي الوقوع بل حادثًا ممكنًا حيث لا ضرورة هناك، وبذلك تستوي مع قوانين الطبيعة في اندراجها تحت الإمكان والجواز لا الضرورة والوجوب، وهكذا يتخارج إمكان المعجزات مع تصور الأشاعرة للطبيعة، بينما عند المعتزلة، الطبيعة تنطوي على ما تتقوم به ذاتيًّا، فهي فاعلة بذاتها وتحكمها القوانين والضرورة ولا يمكن خرقها لكي لا تتعارض إرادة الله، فالمعجزة عند المعتزلة تأخذ شكلاً آخر غير خوارق العادات.

8- في المعتقد الأشعري لا دليل يفصل بين الصادق والكاذب في ادعاء الرسالة سوى الآيات المعجزة، وهذا يؤدي إلى تصور النبوة ناقصة فهي على هذا لا تنضبط بذاتها بل بفعل خارجي عنها هو المعجزة فهي في حاجة إلى ما تكتمل وتتقوم به، والنبوة عند المعتزلة تنطوي على دليل صدقها في ذاتها وليس في شيء خارج عنها، ولذلك أنكر المعتزلة هذا النوع من المعجزة - أعني خوارق العادات -، وصاروا إلى أنّ سلامة الشرع وخلوه من التناقض، وإثبات وجه المصلحة والحسن في نبوة ما يمثل إثباتًا لوقوعها، فإثبات النبوة يتأكد من العقل لا من الخرق.

9- المعجزة عند الأشاعرة شهادة خارجية على الدعوى منفصلة تمامًا عنها وليست جزءًا منها وعلى هذا فإنّ برهان الصدق منفصل تمامًا عن موضوعه، وهذا يعني أنّ إثبات الصدق هنا يبدو عملية صورية تمامًا، وبذلك صار الأشاعرة إلى امتناع الدلالة العقلية بين الدال والمدلول، في حين أثبت المعتزلة علاقة الدال بالمدلول حينما أرجعوا دليل النبوة إلى ذاتها.

10- لا يجوز طبقًا للأشاعرة أن يكون فعل المعجزة مما يدخل جنسه تحت قدر العباد، لئلا يتصور كون الإنسان فاعلاً في ميدان المعجزات، لكي لا تحصل الشكوك للمكلفين في أنّه مما يتم بحيلة من الحيل أو سبب من الأسباب، وهروباً أيضًا من إلزام المعتزلة لهم بأنّ من قدر على إيقاع فعل على وجه قدر على إيقاعه على غيره من الوجوه...كل هذا كي لا يتأدى بالأشاعرة إلى تقويض المعجزة تمامًا، مما يتفق تمامًا مع بنية النسق الأشعري الذي لا يرى في العالم إلا إلهًا فاعلاً في مواجهة إنسان عاجز.

11- تحول الأشاعرة من إثبات نبوة محمد واقعة فعلية - حسب التاريخ المتواتر - إلى إثباتها واقعةً نظريةً أي حسب النظر إليها، بينما أثبتها المعتزلة بالاضطرار والتواتر.

12- في تفضيل النبي على سائر الأنبياء تكريس لنسق أدرك أنّ النبوة في المطلق لا في التاريخي، في حين أنّها علاقات تكامل وليست علاقات تفاضل.

13- البنية الإطلاقية للنسق الأشعري إنّما تعد نتاج مرحلة تاريخية ووضع اجتماعي محدد، وليست نتاج ضرب من التأمل الخالص في المطلق، ومن جهة أخرى فإنّها تقصد وظيفيًّا إلى تدعيم الأساس الأيديولوجي لدولة لم تدرك وجودها - ناهيك عن قوتها - إلا في تغييب الإنسان تمامًا وإفراد القدرة للمطلق إلهًا أو حاكمًا فقط[16]، بينما بنية النسق الاعتزالي لا تعد كذلك صدورًا عن مطلق العقل، بل تعبيرًا عن رؤية للعالم مشروطة تاريخيًّا واجتماعيًّا، فقد نشأ بين فئات هم الموالي الذين كانوا يتطلعون إلى إحداث تغييرات هيكلية في بناء المجتمع تسع طموحاتهم.

والحقيقة أنّ الدكتور علي مبروك قد توصل إلى هذه النتائج من خلال اعتماد المنهج البنيوي الذي يقضي على كل أشكال التشظي العرفي، ولسنا نلومه في هذا المقام بقدر ما نلتمس العذر للسادة الأشاعرة في تغليبهم الجانب الإلهي على حساب الجانب الإنساني، أو بتعبير علي مبروك إلغاء الإنساني لصالح المطلق، إذ إنّ الأشاعرة قد تغلبت عليهم المواقف الإيمانية والتنزيه المطلق لله، فلم يروا في الوجود فاعلاً على الحقيقة إلا الله تعالى، فجاء نسقهم أحادي الجانب يستلب النسبي لصالح المطلق، ولا يعني هذا أنّ الأشاعرة أكثر إيمانًا من غيرهم أيضًا، بل يعني أنّ هناك نوعًا آخر - بل أنواعًا أخرى - من الإيمان، وكما تقول المتصوفة "الطرق بعدد الأنفس"، فلا يمكن لأحد أن يقول بأنّ الأشاعرة أكثر إيمانًا من المعتزلة، مع ذلك فقد اختلفت نظرتهم للعلاقة بين الله والإنسان والطبيعة.

خلاصات ونتائج: من خلال ما تقدم نصل مع علي مبروك إلى النتائج التالية:

- الجدة في الفلسفة ليست في طرح قضايا جديدة، وإنّما إعادة طرح القضايا القديمة طرحًا يستجيب لمقتضيات الوضع الراهن.

- يتكشف رصد الخطاب الإبستيمولوجي بمعزل عن الخطاب الأيديولوجي - في الواقع العربي - عن طابع سلبي محض يتمثل في ما يمكن أن يسمى (أطلقة الفكر)، أي التعامل مع الفكر منبت الصلة مع جذره التاريخي، وتتجلى هذه الممارسة في ظاهرتين: أولاهما تتجلى في تعامله مع (تراث الذات)، والأخرى تتجلى في تعامله مع (معاصرة الآخر)، فالنظرة إلى التراث لم تتجاوز كونه سلطة مطلقة غير قابلة للتجاوز بحال، ومن هنا فإنّه لا سبيل لشيء إلا الاجترار الدائم لهذا التراث، و(معاصرة الآخر) لم تتجاوز - بدورها - كون هذه المعاصرة تمثل سلطة مطلقة لا تقبل التجاوز أيضًا ومن هنا وجب احتذاؤها بوصفها - هي لا غير - الأنموذج الوحيد الممكن لأي تقدم، وهكذا تتكشف الظاهرتان على الرغم من تباينهما عن ذات الثابت البنيوي المتكرر للعقل العربي، ففي الأول تتكشف عن سلبية العقل وعجزة، وفي الثاني عن تبعيته ويأسه.

- لا يعد الفكر سلطة مطلقة حتى في أقصى درجات تجريده، فهو دائمًا انعكاس لعلاقة الإنسان بعالمه، وهو ذو طابع تاريخي وإنساني معًا، فقابليته للتجاوز ليست ممكنة فحسب بل واجبة.

- عند قراءة الأنساق الكلامية (شيعية، أشعرية، معتزلية ...) يتعذر فهمها على نحو حقيقي بمعزل عن إطار أيديولوجي... حتى تصور بلغ غاية التجريد وهو (الله) لم يفلت من هذا المصير، وهكذا بدا وكأنّ الله مرآة العصر تعكس ما يعانيه الإنسان أو حتى ما يريده على قول هيجل.

وإذا كنا نرى أنّ علي مبروك قد وفق إلى حد كبير جدًّا في إعادة قراءة مفهوم النبوة بطريقة جديدة وفق المناهج العلمية المعاصرة، بما أعطانا فهمًا جديدًا ورؤية جديدة تتماشى والسقف المعرفي للعصر الراهن، فإنّنا ندرك أنّه استخدم البنوية في رصد حركة التاريخ بما سهل له دراسة مسألة النبوة على اعتبار أنّها أحد محركات التاريخ، والفاعل الأساسي فيه تقريبًا، ولكن السؤال الذي نطرحه على علي مبروك، ماذا عن إعادة بناء العقائد الأخرى المتعالية على حركة الواقع، كالجنة والنار وحقيقة الملائكة واليوم الآخر والذات الإلهية... وهل يمكن إسقاط بقية العقائد من السماء إلى الأرض كما فعلت بالنبوة؟


[1] علي مبروك، النبوة.. من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ، دار التنوير، بيروت، لبنان، ط1، 1993، ص 11

[2] نفسه، ص ص 23، 24

[3] انظر المصدر السابق، ص 24

[4] نفسه، من ص 25

[5] نفسه، ص 26

[6] نفسه، ص 26

[7] نفسه، ص 26

[8] نفسه، ص 27

[9] نفسه، ص 28

[10] نفسه، ص 33

[11] نفسه، ص 43 وما بعدها.

[12] نفسه، من ص 59 إلى ص 81

[13] يبدو تأثر علي مبروك واضحًا بأستاذه حسن حنفي، أنظر مثلاً، حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، والدار البيضاء، المغرب، ط1، 1988، ص 19

[14] علي مبروك، مصدر سابق، ص ص 102، 103، 104

[15] نفسه، ص 115 وما بعدها

[16] وهذا رأي كثير من الباحثين على غرار نصر حامد أبو زيد. أنظر، الخطاب والـتأويل، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، والدار البيضاء، المغرب، ط1، 2000، ص 28