"معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية" للمفكر الجزائري محمد أركون


فئة :  قراءات في كتب

"معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية" للمفكر الجزائري محمد أركون

 قراءة في كتاب "معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية" للمفكر الجزائري محمد أركون


يعد المفكر الجزائري محمد أركون أكثر المفكرين إثارة للجدل في الساحة الفكرية الإسلامية، ولعل خروجه عن السياق الديني التقليدي، هو السبب في ذلك، رغم خروج كثير من المفكرين عن السياق التقليدي، مما يجعل السؤال التالي ملحًا: لماذا أركون هو أكثرهم إثارة للجدل؟ لعل الجواب على ذلك يكمن في كونه أوَّلَ مفكر إسلامي يستخدم أحدث المناهج الغربية في دراسة الظاهرة الدينية، وما أحدثته من آثار سنعرض لها بعد ذلك، ولعله كذلك أسلطهم لسانًا وأقلهم رحمة بخصومه، لهذا كثيرًا ما كانت أفكار أركون محل بحث واهتمام ودراسة، ولطالما عقدت له الملتقيات والندوات، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على تأثيره البالغ في كل من يقرأ له. وأنا بدوري سأحاول في هذه الأوراق أن أعرض بعض أفكار هذا المفكر الفيلسوف من خلال كتابه: "معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية"، ولكن قبل أن أخوض غمار ذلك أود أن أشير في بداية الأمر إلى بعض المصطلحات التي نحتها أركون أو طوَّرها، لكي تكون عاملاً مساعدًا على فهم أفكاره، ومنها:

-  الأنسنة: يفرق أركون بين الأنسنة والنزعة الإنسانية، فالأولى تركز النظر في الاجتهادات الفكرية لتعَقُّل الوضع البشري وفتح آفاق جديدة لمعنى المساعي البشرية لإنتاج التاريخ، وهي نوعان: الأنسنة الدينية، وهي التي تربط مصير الإنسان بالتعاليم الإلهية المنزلة، والأنسنة الإنسانية، وهي التي تتمركز حول مسؤولية الإنسان بما يقول ويقرر ويقتدِ باسم العقل المسؤول المستقل. وبتعبير أركون نفسه: فـ"الأنسنة هي نشاط شامل مبدع يعتني بإعادة النظر في جميع ما يتعلق بوجود الإنسان وطرق الفهم والتأويل والتجسيد التاريخي لهذا".[1]

-  السياقات الإسلامية: وهي الجماعات اللغوية والثقافية العديدة التي تتساكن في مجتمع واحد موصوف بـ"إسلامي" دون تمييز سوسيولوجي وتاريخي لكل جماعة، كالبربر في المغرب، والأكراد في عدة مجتمعات.

-  الأورثوذكسية: عدم القدرة على تغيير الجهاز الفكري أو العقلي عندما تتطلب الشروط الموضوعية ذلك، أو هي السكون داخل المنظومة التقليدية واتخاذها مركزيةً فكريةً واعتبار الخروج عليها كفرًا.

- الإبستيمية الإسلامية: أو الرؤية الفكرية الإسلامية: ويقصد بها نوعية نظام الفكر المشترك لدى كل الأدبيات التأريخية التي توجهها الرؤية الإسلامية وتسيطر عليها.

- الزحزحة: يقصد به إما توسيع الإشكالية القديمة وإخراجها من إطارها الضيق، أو تغييرها كليًا وطرح إشكالية أخرى عن طريق النظر للمشكلة من زاوية جديدة واستخدام منهجية جديدة.

- الجهل الرسمي المؤسَّساتي: هو دعم الدول والجماعات الفئوية للخطاب المليء بالحكايات المؤسسة للبطولات والمقاطع المنتخبة من الذاكرة الجماعية والرموز الرافعة للشأن وأطر تصور الذات لذاتها وللآخرين، كل ذلك يتضافر لترسيخ ثقافة الانغلاق على الذات والجهل، وبالتالي رفض الآخر.

- العقل الاستطلاعي المستقبلي: يقصد به ما يدعوه الآخرون بعقل ما بعد الحداثة، وهو عقل مضاد للعقل الدوغمائي المتحجر، يرى أركون أن أوروبا ستدخل مرحلة جديدة أو مغامرة جديدة سوف تؤدي إلى تشكيل عقلانية جديدة أوسع مما سبق، ولن تتشكل هذه العقلانية إلا بعد نقد الحداثة وفرز إيجابياتها وسلبياتها، والعقل الاستطلاعي المستقبلي الجديد هو القادر، في آن معًا، على الإسهام في النقد البنّاء للحداثة، وعلى تفكيك الخطاب الإسلامي المعاصر من الداخل.

- الفضاء الجغرافي التاريخي المتوسطي: ويقصد به منطقة الحوض المتوسط وما يحيط بها، إذ يرى أن لها نطاقًا حضاريًا له خصوصيته، بالقياس إلى نطاقات حضارية أخرى كالنطاق الهندي مثلاً، أو الصيني، أو الياباني...الخ، والعالم العربي الإسلامي ينتمي إلى النطاق المتوسطي الذي تنتمي إليه أوربا أيضًا، لأن الفكر الذي سيطر علينا وعلى الأوروبيين واحد؛ إذ يتمثل في تيارين اثنين هما: الديانات التوحيدية والفلسفة اليونانية.

- الكتاب المقدس الكتاب العادي: ويقصد بها المجتمع العربي الإسلامي والمجتمع الأوروبي المتدين.

- الأشكلة الأنتروبولوجية للدين: وهي دراسة الأديان دفعة واحدة وبشكل متساوٍ مقارن، لكي نعرف أوجه التشابه والاختلاف بغرض توسيع الآفاق وإدراك مدى نسبية ديننا، وهذا ما يؤدي إلى التسامح والاعتراف بالقيمة الموضوعية لأديان الآخرين وعقائدهم.

- التداخلية الثقافية والتفاعل الإبداعي: تعني التفاعل الحاصل بين عدة ثقافات مختلفة، إذ يكون الوليد الناتج تركيبة غنية مؤلفة من عناصر شتى.

سنحاول بعد توضيح المصطلحات هذا أن نضع القارئ في الصورة، أثناء قراءتنا لهذا الكتاب، كي نسهّل عليه عملية الاندماج، وحتى نجعل فكره مشدودًا لنقطة معينة حرصًا منّا على عدم تشتت فكره، وذلك وعيًا منّا بالصعوبة التي يجدها أي قارئ، ولا سيّما المبتدئ، لكتبٍ من هذه النوعية شديدة التعقّد، لذلك سأبذل جهدي لربط الأفكار كلها في نسق منهجي واحد؛ فأبدأ بشرح مبسط لعنوان الكتاب ثم الفكرة التي يدور حولها ثم الغاية التي ينشدها المؤلف:

1- عنوان الكتاب:

وهو "معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية"، ويوحي بوجود صراع ما؛ وهو هنا صراع الأفكار التي شهدها الفكر الإسلامي، وهو، عند أركون ومن خلال كتابه، صراع بين تيارين اثنين؛ الأول هو التيار الديني بمختلف تجلياته، حتى إن كانت تبدو مختلفة أو متناقضة فهي تقبع في منظومة واحدة أحادية المنهج والغاية، والثاني هو التيار العقلاني الذي جسد روعة العقل الإنساني وبرز بشكل لافت في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، وسيأتي لذلك مزيد بيان وتفصيل. والغاية فيهما مختلفة، فالأول ينشد تطبيق شرع الله كما نزل أول مرة، والثاني يحاول لفت الانتباه إلى قيمة العقل الإنساني المجرد من الأيديولوجيات والأحكام المسبقة، وأن له حقٌّ في صنع حياة مليئة بالإبداعات، وأن للإنسان مؤهلات تؤهله لذلك، ولا يتنافى هذا مع الدين أبدًا، حتى لو كانت هناك اختلافات واضحة سواء على المستوى اللغوي أم الثقافي أم العرقي، فالغاية منقسمة على نوعين من الأنسنة أشرنا إليهما آنفًا.

2- الفكرة التي يدور حولها الكتاب:

تدور فكرة الكتاب حول مسألة جد مهمة، وهي علاقة المسلمين بالإسلام، لأن الإسلام قد التصقت به كثير من الأفكار التي ظنها الناس لقرون طويلة الدين نفسه، وما هو دور المسلمين اليوم تجاه هذه الأشياء؟ وهل حدث أن انتبه المسلمون لذلك في فترة من فترات تاريخهم؟ وإن حدث فأين هي نتائجه الآن؟

3- الغاية التي ينشدها المؤلف:

يهدف أركون في مؤلفه هذا إلى الوصول بالعقل العربي والإسلامي إلى الأنسنة المتفتحة المؤمنة بفضائل الإنسان المحترمة لكرامته ومؤهلاته لممارسة حقوقه وواجباته، والتخلي عن ذهنية التحريم والتكفير، ولا يكون ذلك إلا بفصل الدين المحض عن الأيديولوجيات الملتصقة به، وبالتخلص من المركزية التي أنشأها الأسلاف، والتي تصدَّر الآن من قبل الأصوليين على أنها هي الدين نفسه.

ويحتوي الكتاب ستة فصول، يدعو المؤلف في الفصلين الأول والثاني إلى بلورة النزعة الإنسانية في مجتمعات مكتسحة الآن من قبل القوى المضادة للإنسان والإنسانية، ونلاحظ أن أركون هنا يقاتل، إن صح التعبير، على جبهتين متناقضتين في الظاهر ولكن نتائجهما واحدة في النهاية، وهي القضاء على الأنسنة والنزعة الإنسانية، وهاتان الجبهتان هما:

- الحداثة العلموية الاختزالية: وهي التي تختزل الإنسان في عالم المادة الضيق وتنكر كل القيم المتجاوزة، وتجعل من الإنسان شيئًا من الأشياء يخضع لقوانين المادة وينفعل بها، وليست له أية خصوصية أو تأثير عليها.

- التيارات الأصولية المتزمتة: أو ما يسميه أركون بالأرثوذكسية، وهي التي تجعل من اجتهادات الفقهاء والمفسرين القدامى مرجعية لا يخرجون عنها، وكل من يخرج عنها يعتبر في نظرهم مخالفًا، فبعدما كان التقديس خاصًا بالنصوص الدينية فقد أُصبغ على هذه الاجتهادات، أصول الفقه خاصة، وهو ما يسميه أركون بالقانون الديني.

وسأحاول أن أشرح بعض النقاط التي تنتهي بالفكرين السابقين إلى النتائج نفسها، رغم اختلاف المنطلقات والغايات:

- ينتقد أركون الجمود العقلي وتخلف برامج التعليم في الجهة الإسلامية، نتيجة الفكر السكوني المهيمن على العقلية الإسلامية. وينتقد سلبيات الحداثة الأوروبية أو تطرفها ونواقصها وذلك نقيض ما تعانيه الأمة الإسلامية، ففي مقابل الجمود والسكون الإسلامي هناك وتيرة متسارعة جدًا في الفكر في أوروبا، أو ما يسمى بالفكر الذي يُرمَى بعد أن يُستَهْلك، فهناك ديناميكية فكرية شديدة حرمت الإنسان من الطمأنينة الأنطولوجية بعد ما حُرِم لزمن طويل من الأمل الأخروي والحياة الأبدية بعد الموت.

- رغم المنجزات الكبيرة للحداثة إلا أن الفكر الحديث يظل مركزيًا أوروبيًا، إلى حد بعيد، بمعنى أنه موجه نحو توسعه المستمر باتجاه الهيمنة، ولا يهتم إطلاقًا بالشروط الإنسانية، فقد أعلن موت الإنسان بعد أن أعلن موت الإله، وذلك بعد موجة من التفكيكات عاشتها أوروبا في العصر الحديث؛ من تفكيك المسلمات إلى تفكيك الذات. ونجد في الفكر الإسلامي الشيء نفسه، مركزية تنشد توسعًا مستمرًا باتجاه الهيمنة، فالمسلمون يمارسون منطق الوصاية على البشرية ويعتبرون أنفسهم المخَلِّصين لها من الضلال، ويصفون غيرهم بالملل والنحل.

- الإنسان مجبور في الفكرين معًا الحداثي واللاهوتي: إذ لم يعد لإنسانِ ما بعد الحداثة أية خصوصية، فبعدما كان هو المركز والمرجعية والمبدأ التفسيري والجوهر التأسيسي الثابت أصبح، في نظر العلوم الإنسانية والاجتماعية، إحدى الظواهر أو المعطيات، مثله في ذلك مثل المعطيات الفيزيائية أو البيولوجية أو التاريخية، وبالتالي فهو مادة للمعرفة النقدية والموضوعية التي تنقح وتراجع باستمرار. وهكذا نصل إلى جبرية الإنسان في الفكر الأوروبي الحديث، وتقابلها، في نظر أركون، جبرية أخرى في الفكر الإسلامي، بل في الفكر الديني عمومًا؛ فالعقل الديني يحصر تساؤلاته وإنجازاته داخل الحدود المنصوص عليها من قبل ظاهرة الوحي، كما أن الإنسان في الفكر اللاهوتي محكوم بقوانين يزعم مؤلفوها أنها من تعاليم السماء ويسمونها الفقه، ويفرق أركون هنا بين الفقه والشريعة، ويعتبر الفقه قانونًا وضعيًا.

والخطاب الإسلامي المعاصر، في نظر أركون، لا يقل تبجحًا وغرورًا وحبًا للهيمنة والتسلط عن الخطاب الغربي الذي يزعم أنه يواجهه أو يضاده. ويريد أركون من خلال ذلك الوصول إلى العقل المنبثق الصاعد، أي الاستطلاعي المستقبلي الجديد؛ وهو العقل القادر على الإسهام في النقد البناء للحداثة وعلى تفكيك الخطاب الإسلامي المعاصر من الداخل، في آن معًا. ولعل هذا الوقت بالذات هو أوان انبثاق هذا العقل، إذ يرى أركون أننا نعيش مرحلة انتقالية بالفعل، أي الانتقال من الدولة القومية المدافعة عن الأنانيات القومية المقدسة مع انحرافاتها المعروفة إلى مرحلة العولمة الشاملة، أي انفتاح العالم كله على الفضاءات الواسعة والموسَّعة للمواطنية. ولكن ذلك يتطلب القيام بمراجعات صعبة وقاسية للقيم المحلية والتراث الديني العتيق، وكذلك للتراث الفئوي والقومي الذي يبدو مرتبطًا بتحولات وظروف تاريخية عابرة. فعملية التفكيك هنا ضرورة ملحة، حسب أركون، خاصة ما تعلق بالنصوص التأسيسية، أي تلك التي تؤسس القانون الديني، أي أصول الدين وأصول الفقه، وذلك من أجل إعادة التقييم النقدي لجميع المسلّمات المعرفية العميقة التي يتحصن بها العقل الإسلامي، فالقانون الديني، في الحقيقة، وليد ظروف وملابسات تخضع للسقف المعرفي ومستوى الوعي في تلك الحقبة، فالتأسيس النهائي للعقل شيء مستحيل لأن الحقيقة نسبية وليست مطلقة كما يتوهم الأصوليون.

ويلح علي سؤال مهم هنا هو: لماذا انتهت الحداثة الأوروبية بالإنسان إلى هذه الأزمات المتفاقمة في حين أن نهايتها المفترضة هي الأنسنة، كما يعرفها أركون؟

يجيب أركون بأنه عندما يفرض العنف نفسه حلاً وحيدًا وأخيرًا فإن الموقف الإنساني يصبح زهيدًا لا أهمية له، فالموقف الإنساني في نظر أركون يتأثر ثأثرًا مباشرًا بالعنف، فما هو هذا العنف الذي أثر على النزعة الإنسانية؟ يجيب أركو بأنه الحرب العالمية الثانية، فبعد سنة 1945 وبعد المجزرة المنظمة لليهود، وبعد الدخول في سياق الحرب الباردة، لم يعد الغرب الأوروبي وغير الأوروبي قادرًا على الحديث عن النزعة الإنسانية. وسأردف هنا بسؤال آخر: هل العنف وحده كافٍ للقضاء على النزعة الإنسانية؟ خاصة أن أركون نفسه يعترف بلسانه إذ يقول: "ولحسن الحظ فالتاريخ يثبت أن إعادة التأكيد بكل عناد على الرسالة الإنسانية للإنسان، وإعادة الاستملاك المستمرة لفتوحات هذه الرسالة وأولويتها أثناء الأزمات العصيبة الأكثر عنفًا وخطورة هي إحدى الثوابت التي يشهد عليها التاريخ."[2] ويجيب أركون بأن ذلك يعود إلى الفلسفة الأوروبية نفسها، ففي سنة 1989 حصل فشل جديد أثر على الفكر الأوروبي بمجمله، ليس فقط على العالم السوفياتي؛ وذلك لأن الانهيار السياسي والاقتصادي الذي خص العالم السوفياتي هو في الحقيقة فشل للفكر الأوروبي، فالماركسية ما هي إلا فكر أوروبي بحت سواء من حيث الأصول أو من حيث الآفاق الفلسفية، وبتعبير حاج حمد، فالماركسية هي النهاية الحتمية للفلسفة الأوروبية.

ثمة نقطتان مهمتان أثّرتا على النزعة الإنسانية في أوروبا، هما: الحرب العالمية الثانية وما تلاها من الحرب الباردة، وتركيبة الفلسفة الأوروبية نفسها. كل هذا حدا بأوروبا واضطرها أن تحدث القطيعة مع الميتافيزيقا الكلاسيكية التي تمجد الإنسان بوصفه جوهرًا خاضعًا للحكم الأخلاقي الذي يوجه الإرادة نحو فعل الخير، وهو الشيء الذي كانت تتفق فيه الأديان مع الميتافيزيقا الكلاسيكية، وهو ما هدمته فلسفة ما بعد الحداثة بانتقالها من الصلابة إلى السيولة ومن تفكيك المسلمات إلى تفكيك الذات. ولم يعد هناك حديث عن القيمة الأخلاقية أو السياسية أو القانونية، لأنهم يعتبرونها بمثابة المشروع المستحيل، فلا يمكن أن تكون علمية ومعيارية، في آن معًا، أي دوغمائية، وهم فقط يقبلون بالحديث عن نزعة إنسانية براغماتية أو عملية. ويعيب أركون على السياقات الإسلامية المعاصرة جهلها الشديد باسم الفلسفة الإنسانية، فإذا غاب مجرد العلم بها فكيف لنا أن نتحدث عن مقاومتها والوقوف في وجهها؟

كانت دعوة أركون المستمرة والمتزايدة، للأسباب السالفة، هي تفحص مسألة النزعة الإنسانية بالنسبة للتراثين معًا الإسلامي والأوروبي الغربي نفسه، ومما يزيد ذلك إلحاحًا وضرورةً ما يلاحظه أركون من أن الهوة تزداد بين الفكرين، في ظل الوتيرة المتصاعدة في الفكر الأوروبي والجمود والسكون الذي يخيم على الفكر الإسلامي، والذي يعزوه أركون إلى القطيعة الجذرية مع الاجتهاد بصفته الموقف الفكري المؤسس لما يدعوه بالقانون الإسلامي، ويضرب على ذلك مثالاً بوضع المرأة عندنا ووضعها في الغرب، فهي تتمتع بالمكتسبات الأكثر إيجابية للحداثة في الغرب، وذلك على جميع المستويات من مثل التصويت على قانون المساواة في البرلمان الفرنسي، والتي يراها أركون قفزة نوعية باتجاه التوصل إلى حقوق الإنسان الكوني، في حين أن وضعها يزداد تراجعًا وانتكاسًا مفهوميًا وتشريعيًا في السياقات الإسلامية المعاصرة. وضمن هذا المنظور النقدي المقارن راح أركون يبحث، بل يدلّل تاريخيًا على وجود نزعة إنسانية في التاريخ الإسلامي في العصر الكلاسيكي تم وأدها في مهدها، وذلك بمحاولة الإجابة على أسئلة طرحها هو نفسه، وهي:

1- ما معنى الصفتين: عربي وإسلامي؟ وعلى أي شيء تنطبقان؟

2- متى انبثق الموقف الإنساني في السياق الإسلامي؟ وفي أي الأوساط الاجتماعية انبثق؟

3- لماذا وكيف تراجعت هذه النزعة الإنسانية حتى انقرضت أخيرًا في المجتمعات الإسلامية المعاصرة المجبولة على الظاهرة الإسلامية التي هي في عز تحولها الآن؟

أما عن الجواب على السؤال الأول: فـ عربي: نلخصها في كونه الذي يكتب بلغة القرآن وهي لغة الحضارة آنذاك سواء كان إيرانيا أو بربريا أو يهوديا أو مسيحيا...أما عن إسلامي؛ فنعت إسلامي يشير إلى الإسلام كعقيدة ومجموعة من المعتقدات واللامعتقدات والتعاليم والقوانين المعيارية الأخلاقية-التشريعية التي تثبت آفاق فكر ما وتنظم سلوك المؤمنين، أما كلمة مسلم فتنطبق على المسلمين أنفسهم بصفتهم فاعلين اجتماعيين وسياسيين وثقافيين كما وتنطبق على الأعمال المنتجة من قبل هؤلاء الفاعلين.

يستنتج أركون من هذه المفاهيم مفهوم الأنسنة الإسلامية الذي يقرن الحديث عن العلم بالعمل دائمًا، والإنسان في المنظور اللاهوتي هو مخلوق تابع ومطيع شاكر للنعمة والجميل، وهكذا يحصل كل شيء على ضمانة أنطولوجية متعالية دائمة ومقدسة خارجية على كل إرادة أو سلطة بشرية، ويلاحظ أركون أن العقل الديني يحصر جميع تساؤلاته وتحرياته وإنجازاته داخل الحدود المنصوص عليها من قبل ما يدعوه بظاهرة الوحي المسجلة في الكتب المقدسة؛ توراة، وإنجيل، وقرآن كريم.

أما في الإجابة عن السؤال الثاني فيرى أركون أن القطيعة بين الخالق الجبار والمخلوق المطيع والتي هي نقطة بداية الحداثة قد امتدت لتشمل كل المعمورة، وعلى الرغم من أن ظهورها في أوروبا كان في القرن الثامن عشر، إلا أنها كانت قد ابتدأت في المجال العربي في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، ويرى أن شخصيات كبرى مثل الجاحظ ومسكويه والمعري وابن رشد والفلاسفة بشكل عام كانوا تنويريين بمقياس عصرهم، يظهر ذلك جليًا في الحواضر الإسلامية؛ بغداد وأصفهان وشيراز ودمشق والقيروان والمهدية وفاس وقرطبة...الخ، والتي كانت تستخدم اللغة نفسها، أي اللغة العربية، في نشر الفكر والمعارف، وتحديدًا ما يسمى بالعلوم الدينية، وكانوا يدعونها هكذا معارضةً لها بالعلوم العقلية أو العلوم الدخيلة، فتوسع المعارف والعلوم الدنيوية أصبح مضمونًا بسبب تضافر عدة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، ولنتحدث عنها واحدة واحدة:

- الناحية السياسية: راح الأخوة البويهيون الثلاثة؛ معز الدولة في بغداد، وركن الدولة في الرَّيّ، ومؤيّد الدولة في شيراز، يفرضون نظام لامركزية السلطة ويحبذون بذلك المنافسة الفكرية والتعددية العقدية والمذهبية والثقافية داخل الوسط الإيراني العراقي، وذلك حتى مجيء عهد السلجوقيين الذين راحوا يفرضون الأرثوذكسية السنية بدءًا من سنة 429هـ، 1038م. أما الخلافة الفاطمية فكانت تمثل لاهوتًا سياسيًا منافسًا للاهوت السني، ولكنها دعمت الاتجاه الإنساني والتعددي للثقافة.

- الناحية الاقتصادية: يلاحظ أركون أن طبقة التجار شهدت ازدهارًا كبيرًا في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، ولكن أوضاعها بدأت تتدهور في القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي، وإذا ما أردنا أن نربط ذلك بعصر النهضة فإن التجار والحرفيين كان لهم دور بارز في الثورة الصناعية، ففتح الحدود أمام التجار يعكس مدى الانفتاح الفكري لكل أمة، كما أن لرأس المال دور كبير في انتشار التنوير والقضاء على الأصولية، وهذا ما شاهدناه في تلك المرحلة.

- الناحية الاجتماعية: انتشار طبقة الكتاب أي سكرتارية الإدارة الحكومية، وكذا طبقة المتعلمين والمثقفين، وكلهم كانوا قد تربَّوا في الأدب، بالمعنى الكلاسيكي، أي الأخذ من كل علم بطرف، وهذه الفئة مدعومة من قبل محسنين أغنياء وأقوياء ذوي نفوذ، وهي التي قوَّت النزعة الإنسانية الدنيوية، وليس الدينية في الأوساط الحضرية العربية والإسلامية.

- الناحية الثقافية: انتشار العلم الإغريقي والفلسفة في الساحة العربية الإسلامية هو الذي أتاح تقوية النزعة الإنسانية المعلمنة في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، ووجود أدبيات غزيرة نلمح فيها علامات عديدة ترهص بولادة ذات إنسانية حريصة على الاستقلالية الذاتية والتمييز الحر...الخ، وقد شارك المفكرون المسيحيون واليهود في بلورة هذه الحركة الإنسانية الأدبية.

يستدل أركون بكل هذه النواحي على ميلاد نزعة إنسانية في الحضارة العربية الإسلامية، لكنها، ومن هنا تبتدئ الإجابة عن السؤال الثالث، سرعان ما ذبلت بحلول عهد السلجوقيين الذين استبدلوا كل ذلك بالأرثوذكسية الدينية التي رسخت، لزمن طويل، بحلول عهد العثمانيين بدءًا من عام 857هـ-1453م، تاريخ فتح القسطنطينية، واستمرت حتى إلغاء الخلافة عام 1924م. وقد عزز من هذه الأرثوذكسية ما سماه أركون بـ"أيديولوجيا الكفاح" أو الجهاد: لأن الرغبة في القضاء على النزعة الاستعمارية يجد مشروعيته في النزعة اللاإنسانية التي كان يحملها المستعمر، ولكنه كان يخفيها تحت شعار نقل الحضارة الحديثة إلى الشعوب المتأخرة، ولكنهم هم نسوا أيضًا أنهم يحملون نزعة لاإنسانية راديكالية فيما يخص علاقتهم بماضيهم وبالمعطيات الحالية لمجتمعاتهم وبالآمال المشروعة لشعوبهم، لقد نسوا أنهم يستخدمون الدين أداةً من أجل ترسيخ أو تأييد وظائفه الاستلابية.

ويرى أركون أن الملابسات الأيديولوجية والسلطوية التي لصقت بالدين هي التي أفقدت الأديان مقاصدها وإسهاماتها الإبداعية في شتى المجالات، وسيقوم هنا بوصف سوسيولوجي سريع للأطر الاجتماعية للمعرفة، ولأنواع السلوك أو التصرفات المتوافقة معها، مما يتيح لنا أن نميز بين أربعة اتجاهات:

1- الدول القائمة أو الأنظمة السياسية: وترتبط بها النخبة العسكرية والإدارية والطبقة السياسية القائدة والتوجه العام لكل هؤلاء مضاد للنزعة الإنسانية، وهدفهم يتلخص في شيء واحد هو كيف يمكن أن نأخذ السلطة وكيف يمكن أن نحافظ عليها؟ ومن علاماته تأميم الدين وتشكيل وزارة الشؤون الدينية، ونلاحظ في هذا الصدد أن سياسة الهيمنة الأيديولوجية تتغلب على سياسة الأمل.

2- معارضة ذات قاعدة دينية: وهي تجند مناضليها السياسيين وأتباعها في أوساط الشبيبة التي ولدت في الستينات والسبعينات، وهذه الشبيبة نمت وترعرعت داخل وسط اجتماعي ثقافي تهيمن عليه موضوعات أيديولوجيا الكفاح. كما أن سيطرة الدولة بشكل كامل واستبدادي على الفضاء العام للمجتمع تجبر هؤلاء المعارضين على تحويل الفضاء المقدَّس والمقدِّس إلى ملجأ وملاذ ووسيلة دون أن ينتبهوا إلى الثمن الروحي والأخلاقي لمثل هذه العملية.

3- الفئات المتعالية على المجتمع والمنعزلة عنه: تشكل فئات اجتماعية واقتصادية وثقافية مرتبطة بأسلوب ونمط حياة الطبقة المترفة في الغرب أكثر مما هي مرتبطة بالقطاعات الأخرى الممثلة لمجتمعها الخاص، ويلاحظ أنهم يستطيعون التوصل إلى الاندماج في الفئات العليا المتعالية، ويشكلون شبكة مكثفة وقوية من العلاقات الداخلية، وذلك لكي يحظوا بالحماية السياسية، أما على مستوى الخارج فإنهم يُقَوُّون إلى أقصى حد استثماراتهم وإيداع أموالهم في مجتمعات الغرب المحكومة من قبل دولة القانون. وهكذا يمكن لهؤلاء أيضًا أن يواصلوا نشاطاتهم المربحة، وأن يحتلوا مناصب عليا في الدولة دون أن يشعروا بالانتماء الحقيقي لها.

4- المتعلمون والمثقفون: نلاحظ أن المنعطف التاريخي الحالي متأثر جدًا بالإسلام السياسي الحركي وبالمطالب القومية وبالاحتجاجات والشعارات، لذا فإن قسمًا كبيرًا من المثقفين يفضلون تعليق الموقف النقدي، بل يتخلون عنه صراحة لكي ينخرطوا في معمعة أيديولوجيا الكفاح، لاعتقادهم أن الأولوية لها.

ولهذا السبب فرق أركون بين المسيحية التي كانت منخرطة مباشرة في التاريخ الأوروبي فأُجبرت بذلك على هضم واستيعاب المكتسبات الأكثر صحة ورسوخًا للحداثة، وبين الإسلام واليهودية والمسيحية الأرثوذكسية لأنها كانت منخرطة في نضالات الدفاع عن الذات أو حماية الذات حتى يومنا هذا. وبذلك نكون نحن أبناء عصر الانحطاط ولسنا أبناء العصر الكلاسيكي بمفكريه الكبار من أمثال المعري ومسكويه وابن سينا والتوحيدي، لأننا نسينا أو تناسينا التساؤلات التي طرحها هؤلاء الكبار، ويجب أن نستعيد ذكرى هؤلاء المفكرين الكبار وأن نستأنس بهم، ولكن ينبغي أن نعلم أن المضامين والمناهج ورؤى العالم والمسلمات والأنظمة المعرفية والفكرية والعلمية ومعايير التأويل وإطلاق الأحكام والعقائد الخاصة بالفضاء العقلي القروسطي لا يمكن دمجها داخل حداثتنا الفكرية والعلمية والقانونية والاقتصادية إلا بعد إجراء تعديلات ومراجعات كبيرة عليها، ولكن أيديولوجيا الكفاح أو الجهاد بصيغتها القومية والدينية لا تزال تحول دون إجراء هذه التعديلات أو المراجعات.

يريد أركون من خلال ذلك، كما يقول المترجم، أن ينقذ الجانب المطلق من الدين، وهو الذي يصلنا بالمطلق، مطلق الله، وهناك الجانب الأيديولوجي أو السياسي الراغب في السلطة والتوسع والهيمنة.[3] ومن أجل هذا فأركون يفصل بين دراسة الظاهرة الدينية ودراسة الطقوس والعقائد الدينية؛ فيجعل دراسة الظاهرة الدينية من اختصاص الأنثروبولوجيا، أما الطقوس والعقائد الدينية فهي من اختصاص علم الإتنوغرافيا والإتنولوجيا والسوسيولوجيا وعلم النفس واللسانيات وعلم التاريخ. وبهذا يصل أركون إلى التمييز بين الكشف والوحي، إذ إن الوحي يمثل النص الثابت، والكشف هو القراءة التأويلية للنص. يحاول أركون زحزحة الأجهزة المفهومية القديمة باتجاه فضاءات جديدة للفهم، وبالاكتشافات المستمرة لمختلف العلوم تجد هذه الفضاءات نفسها تغتني باستمرار كلما تطورت العلوم والاكتشافات. وبذلك نقضي على منطق السكونية والفهم الماضوي للدين، كما تُزال كل الأيديولوجيات الملتصقة به.

وتدور، في الفصل الرابع، فكرة هذا الفصل حول فصل الدين عن الأيديولوجيات الملتصقة به، وقد خصصه أركون للحديث عن مفهومين اثنين هما: السعادة والنجاة في الدار الآخرة. وإن حديث أركون عن هذين المفهومين يعود إلى أمرين اثنين: الأول هو الدور الذي لعبه هذان المفهومان في التراث الإسلامي بل في تراث البشرية، ومن خلال ذلك يعبر إلى الأمر الثاني وهو يدلل ويدعو إلى تحجيم دور الإسلام في الفكر الإسلامي. وحاول أركون أن يُحِلَّ مفهوم السياق الإسلامي بكل أبعاده التاريخية والاجتماعية محل كلمة إسلام، وذلك لأن ثمة أصوات سابقة، في المجتمعات المدعوة إسلامية، أقدم بكثير من الظاهرة القرآنية، بل خارجة تمامًا عن الظاهرة الإسلامية التي لم تفرض نفسها تدريجيًا بوصفها فضاءً مؤسساتيًا وثقافيًا إلا بعد حلول عهد الأمويين في دمشق سنة661م، ويقول: "وكان ذلك يعني أني تخليت عن تلك العقيدة التي تقول بوجود مسيرة تاريخية مُدَشَّنة وموجهة في كل الميادين من قبل الوحي القرآني والمؤسسات الإسلامية والقانون المثالي الإسلامي الأعلى".[4]

يوجه أركون هنا سهام النقد إلى الحركيين الأصوليين الذين حوَّلوا الإسلام إلى العامل المهيمن والحاسم والمرجعية القصوى والمصدر لكل ما يحدث في ما يسميه بـ"المدينة الإسلامية" التي يؤكد الأصوليون وجودها التاريخي ويدعون اليوم إلى إعادتها بشكل كامل سياسيًا. في حين يؤكد أركون أن كثيرًا من المفاهيم التي بلورت في السياق الإسلامي كالسعادة والنجاة يظل مفتوحًا على التيارات الفكرية والأعمال الخاصة بالفئات العرقية الثقافية أو الطوائف الدينية التي كانت موجودة عندما ابتدأت السلطة الخليفية تفرض نفسها، والتي، أي هذه المفاهيم، لم يكلف المسلمون أنفسهم بنقدها أو دراستها بل تلقفوها بدوغمائية مطلقة على أنها من إنتاج الإسلام وحده، لذلك يستبدل أركون مفهوم الإسلام بالسياقات الإسلامية، بل إن أركون يدعو إلى إعادة دمج أفق الفكر الإسلامي بصفته إطارًا تاريخيًا لاستقبال وترقية ونشر البنَى الأنثربولوجية لمخيال متأثر بما يلي:

- القيم والتصورات الرمزية المرتبطة بالمناخ السامي؛ من عبري وآرامي وسرياني وعربي وجاهلي، إذ إن النزعات التوحيدية والنبوية والخلاصية والأخروية تهدف إلى تحقيق السعادة والنجاة.

- النزعة المركزية المنطقية للفكر الإغريقي الذي اهتمت به كل العصور الوسطى من إسلامية ومسيحية ويهودية ورفعته إلى مكانة متميزة.

ومن ثم فهو يدعو إلى تجميع الأوصال الفكرية والروحية والثقافية للفضاء الإغريقي السامي أو توحيد هذا الفضاء بتراثه وجميع ثقافاته. ويضرب بالفيلسوف مسكويه على ذلك مثالاً ناجحًا كرَّس نزعة الأنسنة في الفكر الإسلامي لفترة معينة، القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي تحديدًا، أي فترة العصر الكلاسيكي، وذلك لأن مسكويه وفّق في كتابه تهذيب الأخلاق بين وجهات النظر من أجل التوصُّل إلى السعادة القصوى أو الفوز الأكبر، فوفَّق بين آراء أفلاطون ونظريات أرسطو والتعاليم الطبية لجالينوس وتفاسير بورفيروس...الخ، وهذا ما يلحظه أيضًا في الأدبيات الأفلاطونية الجديدة والغنوصية التي سهلت عملية التناغم أو الجمع بين النظرة الأسطورية الأفلاطونية وبين العقلانية المركزية لأرسطو، وهذا يعني داخل السياق الإسلامي الجمع بين البيان الديني المعمق وبين التركيب المنطقي لـ"الصَّحِّ"، وهذا يعني أن العقل القروسطي كان يعمل من أجل استقلاليته الذاتية، ويتجلى في أمثلة أخرى، إضافة إلى مسكويه والتوحيدي، أقصد ابن رشد وكتابه "فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، وفي الغزالي ومنهجه الروحاني. إلا أن هذا الفكر التنويري الفلسفي ذي النزعة الإنسانية قد بدأ يخبو حتى اختفى فجأة من ساحة الفكر بعد القرن الثالث عشر، ولم يبقَ في الساحة إلا الإسلام الطقسي الشعائري، ولم يعد لفكرة السعادة التي هي تأمل فكري متحرر من الإكراهات النفسية والفزيولوجية والجسدية والمناخية والاجتماعية والسياسية والكونية أي أثر ولم يبقَ إلا فكرة النجاة المرغوبة والمبحوث عنها عن طريق تقديم الطاعة الطقسية أو الشعائرية للفرائض الدينية التي أخضع الله لها كل مؤمن، وذلك لأن الإسلام قُلِّص واختُزل في كل بلد إلى تجلياته الفقهية والمعيارية المحددة من قبل كل مذهب واحد باستثناء المذاهب الأخرى، ويعزو أركون ذلك إلى أن المؤمنين يتعلقون بالإسلام الأَوَّلي؛ إسلام العصر الذي دشَّن تاريخًا جديدًا للبشرية؛ أي الإسلام الأصلي الحقيقي الذي يفترضون أنه محدد أو مُبلوَر في الكتاب والسنة النبوية، ولكنه مُسْقَطٌ على القرآن والسنة وليس موجودًا فيهما من الأساس.

ويحاول أركون، في الفصل الخامس الذي عنونه بــ: "اللوغوس المركزي والحقيقة الدينية في الفكر الإسلامي"، أن يخلِّص الفكر الإسلامي من العقلانية المركزية التي أنشأها أسلافنا وأوجبوا الاحتكام إليها واعتبروا ما عداها باطلاً. فابتدأه بالتنظير لنقطة مهمة وهي: إلى أي مدى يكون الشيء في الأدبيات الكلاسيكية لا يتخذ معناه من وجوده، وإنما من معناه المخلوع عليه في لحظة معينة من لحظات التاريخ.

ويرى أركون أن هناك مركزية عقلانية خاصة بالمجال العربي الإسلامي تقاطعت فيها مختلف العلوم كعلم المنطق واللغة وعلم اللاهوت وعلم الأخلاق...الخ، وقد دفع العقل ثمن هذا التنازل الذي قدمه للفلسفة، إذ رضي أن يكون الخادم المطيع لنص الوحي، وهكذا أصبحت وظيفته الوحيدة تكمن في تطويع الواقع وثنيه وإخضاعه للمعاني المثالية التي يعتقد أنه يتعرف عليها في آيات الله. ويضرب على ذلك مثالاً بأبي الحسن العامري من خلال كتابه "الإعلام بمناقب الإسلام" والذي كرَّس فيه تفوق الإسلام، وقد استخرج أركون المعايير التي استخدمها العامري لإبراز الإسلامِ حقيقةً مثلى، وهذه المعايير هي:

- المعيار الإبستيمولوجي أو المعرفي العميق: وقد استخلصه أركون من تصنيفات العلوم التي كانت سائدة في البيئة العربية الإسلامية آنذاك، وهذه التصنيفات ترسخ ذلك التعارض المعروف بين العلوم الفلسفية والعلوم الدينية، أو علوم حِكَمية وعلوم مِلِّية بحسب تعبير العامري، ويستخلص من كلام العامري أنه يرى أن للعلوم الفلسفية أولوية منهجية وللعلوم الدينية أولوية غائية أو نهائية.

- المعيار المنهجي: ويخص المجريات التقنية التي تنبغي بلورتها من أجل التوصل إلى الحقيقة المبتغاة، وقيمة كتاب العامري أنه يبين لنا كيف أن منهجية الأصوليين مدافَعٌ عنها ومطبقة بواسطة خيار فلسفي أوَّلي، والحاصل أن أركون استنبط أن العامري يمنهج منظومة الأصوليين بطريقة مشدودة إلى الماضي، كالقياس مثلاً، فهو منهجية تتحكم بالتاريخ عن طريق عدد محدود من التعاليم التي تنتمي إلى الماضي، ماضٍ معين، فللعقل سيادة منهجية يؤكد عليها العامري، ولكنه يؤكد عليها من أجل وضعها في خدمة عقيدة دينية معينة.

3- المعيار التاريخي الأخلاقي: يذهب أركون إلى أن الموقف الفلسفي يستعيد حقوقه إلى حد ما عن طريق علم التاريخ وعلم الأخلاق، ولكن العامري في نظر أركون يعتبر التاريخ الصحيح هو ذلك الذي يتحدد ويقال ويتم تصوره داخل سياج الخطاب المنطقي، وهو في الحقيقة يهيمن على التاريخ الواقعي المحسوس ويحاكمه. ولا يأخذ العامري، في نظر أركون، التاريخ الواقعي بعين الاعتبار إلا ليثبت مدى عظمة التاريخ الصحيح الذي ركّبه تركيبًا ذهنيًا داخل سياج مركزي عقلاني.

ويريد أركون، من خلال ما سبق، أن يوقظ المسلمين، ليس المسلمون وحسب، بل كل من كان على هذه الشاكلة، من غيبوبة رانت على عقولهم ردحًا من الزمان، وهي برمجة العقل ذي القدرات العالية داخل سياج مركزي يحد من قدراته اللامحدودة وينزله عن مرتبته الحقيقية ويجعله خادمًا مطيعًا، في حين يجب أن يكون هو السيد المطاع. ويستمر أركون في تفكيكه ليصل إلى العقيدة أو ما يسميه قانون الإيمان والتي يعرفها بـأنها "مجمل القناعات التي تتحكم بالحساسية والتصور والإدراك والتفكير والممارسة العملية."[5] ويلاحظ أركون أن مبادئ الاعتقاد الإسلامي لم تُحلَّل ولم تُشرَح لذاتها، وإنما تتدخل أثناء العرض بصفتها حقائق لا تنافس ولا تمس، وهي التي تخلع المشروعية على كل منافسة أو محاجة. وهذا ما فعله العامري الذي كان يمارس نمط قراءة جماعي أكثر مما هو فردي، وقد تغلب في ذلك الموقف الإيماني على الموقف العقلاني، ولكن أركون هنا يميز بين نوعين من القراءة للعقل الإسلامي:

الأول: عندما يتعلق الأمر بقراءة القرآن وحده فإن العقل هنا يتوصل إلى نضج أكبر، لأنه يأخذ بعين الاعتبار حقائق علم النفس، واللغة، والتاريخ، والاقتصاد، والفيزياء...الخ، وذلك لكي يوضح إرادة الله ومقصده الحقيقي بكل دقة، فالعقل هنا ليس مستعبدًا استعبادًا مطلقًا للإيمان.

الثاني: عندما يحاول العقل ذاته أن يقرأ الكتابات المقدسة فإنه يقرؤها لكي يسحبها في اتجاه الحقيقة القرآنية، أو لكي يكتشف فيها نوعًا من النقص أو عدم الكمال أو التأخر بالقياس إلى التعاليم والمؤسسات الموصوفة بالإسلامية.

يستخلص أركون من كتاب العامري آفاق الفكر الإسلامي في لحظة ذروته، وهي آفاق مفتوحة ومغلقة في آن معًا، مفتوحة أو منفتحة في كل ما يمشي في اتجاه القراءة الانسجامية والاندماجية، ولكنها منغلقة داخل الحدود المرسومة من قبل رسالة إلهية مرتبطة بتحقق تاريخي منذ أربعة قرون، أقصد الحضارة والثقافة الإسلامية. يرى آركون أن العامري مثل بقية المسلمين يمارس قراءة منقطعة، أكد على سيادة العقل المنهجية، ولكنه أكد عليها من أجل وضعها في خدمة عقيدة دينية معينة، وهنا يكمن سر الاعتباط والتعسف الذي يعامل به بقية الأديان الأخرى الخارجية على الإسلام.

ويختتم أركون كتابه في الفصل السادس بمحاولة وضع حل واحد مشترك لمشكلتين متناقضتين؛ المشكلة الأولى هي واقع تدريس الدين في الأمة العربية الإسلامية، والمشكلة الثانية هي الإفراط في العلمنة في المجتمعات العلمانية خاصة فرنسا. فتعليم الدين في المجتمعات العربية الإسلامية قديم يغذي العصبيات المذهبية والطائفية لا محالة، والإفراط في العلمانية وتجاهل الدين إلى حد إلغائه تمامًا من المقررات الدراسية في الدول العلمانية سيؤدي حتمًا بالكثيرين إلى اعتناق الدين التقليدي، ويبدو في ذلك قناعة من أركون أن الإنسان ينزع بطبعه إلى الدين، ويضرب على ذلك مثالاً بالاتحاد السوفياتي لما فرض الإلحاد، ماذا حصل عند سقوط الشيوعية؟ هو عودة المذهب الأرثوذكسي بقوة، أما الحل الذي يدعو إليه فهو ما يسميه بـ"الأشكلة الأنثربولوجية للدين" وهي تدريس الأديان بشكل مقارن ومتساوٍ حتى يدرك كل متدين مدى نسبية دينه، فلا يعتقد أنه هو وحده الذي يمثل الحقيقة المطلقة، وهذا ما يؤدي إلى التسامح والاعتراف بالقيمة الموضوعية لأديان الآخرين وعقائدهم. كما ينبغي على العلوم الاجتماعية أن تُجذِّر أكثر تساؤلاتها حول الذات الإنسانية أو الشخص البشري، لأنهما يمثلان الموضوع الأساسي والذات الدارسة للأديان. أما ما يخص الإسلام فيدعو أركون إلى إعادة التفكير في اللغة والثقافة العربية مع عدم فصلها عن الإسلام، فكل تراث العرب منذ خمسة عشر قرنًا ممزوج بالظاهرة القرآنية، بخلاف الثقافة الفرنسية مثلاً فإنها انفصلت عن المسيحية منذ قرنين. ويهدف أركون من خلال ذلك إلى غايتين اثنتين هما:

الأولى: الاهتمام بالبعد الديني للوجود التاريخي للبشر في كل العصور وعلى كافة التشكيلات أو الفئات الاجتماعية.

الثانية: إقامة مسافة نقدية بيننا وبين العقائد الأكثر رسوخًا وتجذُّرًا وتقديسًا.

إذا تحققت هذه الغايات والحلول نستطيع إعادة كتابة التاريخ، فتنتصر العلمنة وترفع الفلسفة الإنسانية باعتبارها قائدًا تاريخيًا للحضارة، إلا أن مركزية الفكر الأوروبي وحبه للهيمنة أدى إلى التفريق بين الأديان، فقد حظيت المسيحية مثلاً بإقبال الباحثين العلميين على دراستها بنوع من التفضيل الضمني أو الصريح لها على غيرها، فالمؤمنون الغربيون يستخدمون موهبتهم ومعرفتهم وهيبتهم الفكرية لكي يكرِّسوا تفوُّق المسيحية على جميع الأديان، ولكي يثبتوا فرادتها وقدرتها على التأقلم مع الحداثة. كما أن هناك رغبة مشتركة بين اليهودية والمسيحية في استبعاد الإسلام ليس لاهوتيًا فحسب، بل ثقافيًا وسياسيًا، كما حرصوا على تفريق أديان الوحي عن الأديان الآسيوية وألحقوا بالإسلام مكانة غريبة تدعو إلى الاستغراب، فهم تارة يلحقونه بأديان الوحي، وتارة بالأديان الآسيوية الكبرى، وتارة بالأديان الإفريقية، ويرى أركون أنه إذا ما أردنا أن نؤسس علمًا تاريخيًا جديدًا للأديان فلا بد من أن يُدمج في أحضانه ثلاثة أبعاد لا تنفصل للمعرفة وهي: البعد الأسطوري والبعد التاريخي والبعد الفلسفي، وهذا الأخير يعني إضافة النقد والقضاء على الدوغمائية والحد من العنف والتعصب، وهنا يُظْهِر أركون خيبة أمل حقيقية لأنه لا يوجد مدرسون كثيرون، حتى في البلدان الأوروبية والأمريكية الشمالية نفسها، قادرون على تعليم الدين بطريقة حديثة، مما يجعل من الصعب علينا أن نخرج من الجهل، المنظم والمرسخ مؤسَّسَاتيًا منذ عدة قرون، عن الأديان بشكل عام وعن أديان الوحي بشكل خاص. ومن ثم دعا أركون إلى إعادة تحديد العلمنة وإعادة استملاكها، وذلك بعزل سلبياتها وخاصة "الإقصائية" التي تقوم بها تجاه كل ما هو متعلق بالأديان حتى يعاد للأديان حقيقة مقاصدها ووظائفها التاريخية وإسهاماتها الثقافية وطاقاتها الإلهامية، ويعترف أركون أن هذه المكانة للأديان لم يعوَّض عنها حتى الآن من قِبَل أيِّ شيء آخر، فلا النزعة الأدبية التجريدية ولا العقل التلفزي التكنولوجي العلمي، لذلك يذهب أركون إلى أن كلمة علماني اخْتُرِعت في ظل الصراع على السلطة أكثر مما هو صراع على المعنى. ويتحدث أركون عن وجود فعاليتين اثنتين تتيحان لنا تغيير العلاقات الصراعية وتحويلها إلى علاقات ديناميكية ثقافية وفكرية واجتماعية، وهو ما يسميه: التداخل الثقافي والتفاعل الإبداعي، هذان المفهومان يتيحان لنا أن نشرع بنقد جذري لجميع أشكال التمييز في المجتمع بنوعيه: العرقي والديني، ومن ثم تحديد حقوق الشخص البشري وحقوق الفرد والمواطن ضمن منظور أكثر اتساعًا. وللوصول إلى ذلك يدعو أركون إلى عمل نقدي مكثف للذات على ذاتها لكي نعرف كيف نموضع فعالية الخلق والإبداع في السياقات الإسلامية بالقياس إلى الحداثة والعولمة، لكي نضع حدًّا للخطابات الامتثالية السائدة في الناحية الإسلامية؛ خطابات اتهام الآخر واعتبار الذات بمثابة الضحية لهذا الآخر باستمرار.


[1]- محمد أركون، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، بيروت، دار الساقي، ط1، 2001، ص 19

[2]- معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، ص 25

[3]- المصدر السابق، هامش المترجم، ص87

[4] - المصدر السابق، ص 186

[5]- المصدر السابق، ص 244