النسائي والاشتغال الأدبي


فئة :  مقالات

النسائي والاشتغال الأدبي

النسائي والاشتغال الأدبي(*)


عندما يُهيمن مفهوم على مستوى النقاش الفكري، ويُصبح موضوعاً للجدال المعرفي، فإنّ ذلك الحضور يحمل معه طبيعة الهويّة المعرفية للمفهوم، كما يُعبّر عن كون الظاهرة المعرفية حيث المفهوم محور النقاش، تعرف تحولات بنيوية سواء في مستوى منطق نظامها، أو في مستوى الوعي بها. لهذا، فإنّ ظهور أي مفهوم كيفما كانت طبيعته وسياق اشتغاله، لا يُعدّ عبثاً معرفياً، أو عبارة عن فائض لغوي، إنّما يأتي ليؤشر على تحول إمّا في الظاهرة، أو في طريقة اشتغالها، أو في الوعي بها.

1- النسائي وإشكالية التحديد

يُعدّ تعبير "الكتابة النسائية" من المفاهيم التي أثارت التباسات حادة، لكون استعمالها تمّ ـ خاصة في المراحل الأولى- في غياب التحديد المعرفي لها، وبات الاقتراب منها يمرّ عبر رأيين متعارضين حولها، ممّا جعل الفهم يخضع لطروحات كلّ رأي، وتصورات كلّ اتجاه. ولهذا، فقد تشرّب المفهوم طبيعة السجال الحاد بين الموقفين المتناقضين حوله، وأصبح يُحيل إلى حمولات التصورين أكثر من جوهر مبحثه المعرفي. لم يكن الإشكال مطروحاً فيما يخصّ علاقة المرأة بالكتابة، لأنّ تلك العلاقة موثقة في تاريخ الأدب، وتُعدّ فعلاً تاريخياً لا يمكن دحضه أو إعادة النظر في وجوده، لأنّه مُحصّن في الأشكال التعبيرية الرمزية عبر العصور، التي تظل شاهدة على أنّ المرأة عبّرت بالكتابة عن صوتها ورؤيتها للأشياء والعالم، وانخرطت في التعبير الرمزي منذ القديم، وجاء هذا التعبير وفق تجليات عديدة منها الشعري والنثري. وإذا كان التأريخ الأدبي قد انتقى بعض مظاهر هذه التجليات دون غيرها، فإنه لم يقصِ المرأة من الكتابة باعتبارها منتجة. لهذا، فإنّ اللبس لم يحدث في مستوى علاقة المرأة بالكتابة، إنّما في تأطير هذه العلاقة ضمن مفهوم محدد، يثير من اللبس أكثر من الوضوح، فيما يخصّ معنى الخصوصية التي يمكن أن تُشخص هذه العلاقة. وإذا كانت هناك خصوصية للكتابة النسائية، كما تعتبر الناقدة الأدبية الفرنسية "بياتريس ديديي"، "فإنّ الوعي التنظيمي لهذه الخصوصية ولخاصيتها الإيجابية يُعدّ جديداً"[1]. لهذا، فإنّ محور التفكير لم يكن بشأن علاقة المرأة بالكتابة، إنّما بهويّة مفهوم "الكتابة النسائية"، وشرعية هذا المفهوم في التداول المعرفي، ودلالته الإجرائية، ومدى وظيفية تعبير "النسائي" في العملية الأدبية. لذلك شكَل مفهوم "الكتابة النسائية" محور سجال كبير، تنوعت مظاهره وصيغه ومنطلقاته، وأنتج تضارباً حاداً في الموقف منه، بين من يقبل بهذا التعبير باعتباره يُدافع عن أدب تنتجه المرأة، وتُدافع من خلاله عن تمثلاتها لذاتها وللعالم، ومن يرفض هذا المفهوم، لكونه يصنف الأدب، ويحكم عليه انطلاقاً من منتجه (امرأة/رجل). أنتج هذا التضارب في التحديد المفهومي ـ بدوره- للكتابة النسائية مفاهيم متعددة، حاولت تحديد هذه العلاقة ضمن رؤية معينة، تتخذ في غالب الأحيان من الذاكرة الجماعية خلفية تؤثث مسارها. عندما نتأمل وضعية المرأة في النسق المفهومي في المجتمعات العربية نجدها تحضر في وضعية الموضوع، المفعول به والمنظور إليه. وهو وضعٌ يجعلها دائماً داخل الإشكالية، ومحور التساؤل والسؤال والبحث، على اعتبار أنّها موضوع للنظر والتداول والنقاش، ولكون مختلف التوجهات المفاهيمية التي تحدد وضعية المرأة قادمة من الذاكرة الجماعية التي توارثت هذه الصور، ورسختها بمقتضى ثقافة الاستهلاك اليومي والمعيشي، فإنّ عملية تفكيكها، بقصد تجاوزها نحو صور أكثر انفتاحاً على واقع المرأة في الحياة العامة، تبقى مسألة معقدة بعض الشيء، وتحتاج إلى تشغيل العقل، والتربية على التعامل مع الذاكرة بجرأة عقلانية. لذلك، فإنّ من يقبل بالمفهوم فإنّه يعتمد حمولات الذاكرة الجماعية التي تُغيب المرأة باعتبارها ذاتاً، ولهذا يتبنى مفهوم "الكتابة النسائية" باعتبارها مجالاً تعبيرياً عبره تُعيد المرأة موقعها في الحياة والمجتمع كذات قائمة بذاتها، ومن يرفض التعبير "النسائي" في علاقته بالكتابة، فإنّه يشتغل باتجاه تحرير التعبير من إرث الذاكرة، حتى لا يستعيدها عبر واجهة الأدب. ولأنّ السجال حول المفهوم بقي مُقيداً -لفترة معينة- بالموقفين المتضاربين، بعيداً عن الاشتغال في منطقة التقارب بين الرأيين، عبر تحديد المفهوم اصطلاحياً ودلالياً، فقد تفرع عن المفهوم تعبيرات عديدة عمّقت اللبس، مثل الكتابة النسوية، وأدب المرأة، وأدب الأنثى، إلى جانب تفريعات أخرى كانت تسعى إلى تبئير النقاش حول المرأة باعتبارها جوهر النقاش. ولأنّ المرأة تحضر موضوعاً مطلبياً في برامج الأحزاب، والإطارات الحقوقية والنقابية، والجمعيات والحركات النسائية في المجتمع المدني، فقد وجدت هذه الإطارات في هذا المفهوم إمكانية لتصريف تصوراتها حول موضوع المرأة، واعتماد المفهوم في الدفاع عن أحقية المرأة في التعبير الرمزي. هكذا، شيئاً فشيئاً، وجدنا أنّ المفهوم يخترق حقولاً عديدة، ذات طابع حقوقي وسياسي ونقابي، ويبتعد تدريجياً عن الحقل المعرفي الذي أنتج دلالته، أو الذي ينتمي إليه، وهو الحقل الأدبي.

أدت طبيعة هذا الاشتغال من خارج السياق الأدبي إلى جعل المفهوم يتبنّى تصوراً محدداً، ضمن ترتيب يجعل من المرأة محور الانشغال، باعتمادها موضوعاً للتفكير والسؤال، ويتخذ من تعبيرها الأدبي وسيطاً للتعبير عن قدرتها في التحرر من نظام الثقافة المألوفة، وإعلائها لصوتها المُعطل في التاريخ والمجتمع. بهذا التصور تُصبح المرأة موضوعاً والأدب أداة، وينشغل التفكير بالمرأة أكثر من الأداة. وهو تصورٌ ينطلق من إبداع المرأة للانتصار لصوتها المُغيب. ونتيجة لذلك فقد بات استقبال كلّ ما تنتجه المرأة يحظى بإعجاب واهتمام، فقط لكون منتجه امرأة، والتعبير الرمزي مطلب حقوقي للمرأة. انعكس هذا التصور لمفهوم "النسائي" على كيفية تصريف دلالته، والتي جعلته مرتبطاً بكل ما تنتجه المرأة.

2- النسائي مفهوم إجرائي

لقد تحوّل مفهوم "الكتابة النسائية"، بفعل اعتماده من قبل حقول خارج الحقل الأدبي، إلى مجرد وسيط لموضوع مطلبي حقوقي. وقد أفرغه هذا الاستعمال من دلالته السياقية الإنتاجية، التي تمنحه شرعية التداول، بعيداً عن إحداث الخلل في تصريف دلالة المفهوم. ساهم هذا الوضع في جعل تعبير "الكتابة النسائية" محط اصطدام كبير وتضارب في الرأي.

عندما يحدث مثل هذا اللبس المفهومي، وينتج عنه اصطدام بين الآراء، يصبح المدخل الشرعي لتجاوز الخلل وتقريب الهوّة الفاصلة بين الرأيين المتعارضين هو مدخل العلمية، وتحصين المفهوم بالمقاربة العلمية والثقافية، التي تبحث في السياق الثقافي لظهور المفهوم والأسئلة المرافقة له. وقد تمثل ذلك في إدخال مفهوم "الكتابة النسائية" إلى الدرس الجامعي والبحث العلمي، وإعادة وضع المفهوم في إطاره السياقي الذي أنتج شرطه التاريخي ودلالته المعرفية، ومنحه شرعيته، ونعني بذلك الحقل الأدبي، من خلال اعتماد نظرية الأدب. ولعل الأمر تجلى في تكوينات علمية أكاديمية بدأت بفتح وحدات التكوين والبحث في الدراسات النسائية، كما هو الأمر بالتجربة الأولى بجامعة محمد الخامس، كليّة الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، عندما تمّ فتح وحدة الدراسات النسائية سنة 1997، وانفتحت الوحدة على أسئلة المفهوم، وسياقاته الاصطلاحية والتاريخية والثقافية، واعتماد مقاربة النصوص وفق نظرية الأدب، ثم ما تلا ذلك من تخصصات في الموضوع نفسه، جعلت المفهوم يأخذ أبعاداً جديدة تجعل منه محور الدرس الأكاديمي، الذي بدأ يُحصنه من تبعات الحقول غير الأدبية، ويُحرره من ملحقات السياقات السياسية والحقوقية.

إنّ انتقال التفكير في مفهوم "الكتابة النسائية" من الحقول خارج الأدبية (قانونية، نسائية، حقوقية، مطلبية...) إلى الحقل الأدبي أعاد ترتيب عناصر المفهوم، جاعلاً من الأدب موضوعاً بعدما كان وسيطا/أداة، ومن المرأة فاعلاً للموضوع بعدما كانت موضوعاً. ولعل المسألة تُصبح مفهومة بالعودة إلى الاحتكام إلى نظرية الأدب التي لا تُجزّئ الأدب إلى نسائي وذكوري، لكونها لا تعتمد في منطقها على عناصر خارجية لتحقيق الأدبية، وإنما الذي ينتج أدبية الأدب هو النظام الداخلي، أمّا العناصر الخارجية فقد تكون داعمة، دون أن تكون حاسمة في المنطق الأدبي. وعليه، فكون الكاتبة امرأة لا يضمن بالضرورة عملاً أدبياً، وأن تُعبر المرأة/الكاتبة عن ذاتها، لا يكفي لتبني نصاً يستقيم فيه منطق الأدبية. المسألة تعود بالدرجة الأولى إلى معايير نظرية الأدب. إذا كان الحسم الأدبي من داخل العمل نفسه دون وصاية خارج أدبية، فكيف يمكن فهم ظهور مفهوم "الكتابة النسائية"؟ وهل هذا المفهوم عبث معرفي ولغوي؟ أم أنه صناعة إيديولوجية ورّطت الأدب في مزايدات إيديولوجية؟ وهل هذا المفهوم له شرعية أدبية، من شأن تمثله والاشتغال به أن يُساهم في تطوير الأدب ونظريته؟ وما جدواه بالنسبة إلى المرأة؟ هل يخدم قضيتها الوجودية (من الموضوع إلى الذات)؟ تلك عينة من الأسئلة التي تتبادر إلى التفكير عندما تُحصن المقاربة العلمية مجال اشتغال المفهوم، وتُعيده إلى شرطه التكويني وهو الأدب. ولعلها أسئلة تُوجه التفكير إلى سؤال وظيفية تعبير "الكتابة النسائية"، باعتباره مفهوماً حاصلاً في النقاش والتفكير، ويشكل موضوع دراسات وكتب، ومحور لقاءات ومؤتمرات ثقافية. وبالتالي، لا يمكن تجاوز المفهوم برفضه أو إقصائه من التداول، إنّما يمكن تحديد وظيفته المعرفية، من خلال تحليل وضعيته، وتأثير تلك الوضعية أولاً في الأدب، ثم في علاقة ذلك بالمرأة.

ننطلق من اعتبار الخطاب الرمزي من أكثر الخطابات تشخيصاً لأنماط الوعي. فعبر الخطاب الرمزي يستطيع الكاتب أن يُعيد بناء العالم وذاته، بواسطة اللغة الإبداعية الإيحائية التي تنزاح عن اللغة اليومية التواصلية ذات المعنى الواحد، وتسمح بإنتاج تمثلات للعالم والواقع، وعبر هذه التمثلات يساهم الكاتب/المبدع في إنتاج مفاهيم جديدة، ودلالات جديدة لمفاهيم مألوفة. وإذا كانت المرأة تحضر في الثقافات والمعتقدات ومنظومة الأعراف باعتبارها موضوعاً مفعولاً به، ومنظوراً إليه حسب التوجهات، وتركيبة الذاكرة الجماعية، فإنّ انخراط المرأة في الخطاب الأدبي مبدعة ومنتجة وفاعلة يسمح لها بالإقامة في منطقة التخييل، والانتقال من موقع الموضوع المفعول به إلى موقع الذات الفاعلة. لهذا، فإنّ أهم خطاب تتجلى فيه وضعية المرأة المنتجة للمفهوم أو لدلالته، والذي يسمح بمقاربة انتقال المرأة من الموضوع/المفعول به إلى الذات الفاعلة المنتجة والشريكة في تأثيث العالم بالدلالات والرموز والمفاهيم يتمثل في الخطاب الأدبي، نظراً لأنّ الأدب هو الحاضن بامتياز للتصورات والتمثلات، وحين تنخرط المرأة فيه وفق موقعها الجديد، فإنها تؤسس لتمثلات جديدة ومفاهيم غير مألوفة. كما أنّها تعيد بناء العالم والذات والمجتمع والإنسان بناء على منظورها الخاص وفق موقعها التاريخي الجديد، موقع الذات الفاعلة وليس موقع الموضوع المنظور إليه. يصبح "النسائي" هنا في علاقته بالكتابة مؤشراً على الموقع الجديد للمرأة من جهة، وطبيعة الخطاب الذي تقترحه على العالم والإنسانية من جهة ثانية. فإذا عادت المرأة موضوعاً يتمّ تصريفه حسب مقتضيات السياسة أو الإيديولوجيا أو القراءات الخاصة للدين أو المعتقدات الاجتماعية، فإنّ "الكتابة النسائية" تسمح بالتبئير على المرأة باعتبارها ذاتاً، وصاحبة موقع منتج للرؤية.

ماذا يحدث إذن عندما تنتقل المرأة من موقع الموضوع إلى موقع الذات الفاعلة؟ ما الدلالات الجديدة التي تنتجها عن المفاهيم المألوفة؟ وكيف تُشكل كتابتها منطقاً جديداً للوعي والإدراك؟ وهل تنتج المرأة لغة خاصة لبناء هذا الوعي الجديد بالمفاهيم؟ كيف إذن يستطيع إبداعها أن يحقق هذه المعادلة بين موقعها في الذاكرة الجماعية وموقعها في التخييل الإبداعي؟

تشكل مقاربة هذه الأسئلة إمكانية للاقتراب من مفهوم "الكتابة النسائية" باعتباره إجراء نقدياً-معرفياً، لا يتعلق بكتابة المرأة، إنّما بما تنتجه هذه الكتابة من مفاهيم جديدة. ومن أجل تشخيص مظاهر أجرأة المفهوم في النص الأدبي النسائي، يمكن الإشارة إلى مظهرين اثنين، من أجل تمثل مفهوم "الكتابة النسائية". يتجلى المظهر الأول في وضعية الرجل في بعض كتابات النساء. تعوّد التلقي الثقافي والاجتماعي والأدبي، بدعم من الإرث التاريخي، اعتبار الرجل خارج الإشكالية، لكونه مُعرّفاً بذاته ولذاته، ولهذا بقي البحث في وضعه وموقعه خافتاً، عكس المرأة التي ارتبط وجودها تاريخياً بالذات الإشكالية، ولذا تحولت عبر العصور في الثقافات والآداب إلى موضوع للبحث والسؤال، ممّا جعل الدراسات حول المرأة أكثر من الدراسات حول الرجل، وهذا ما حدا بالباحثة "إليزابيت يادينتر" إلى الاشتغال بسؤال الرجل، بعدما اكتشفت الصمت التاريخي الذي يحيط به، وتُرجع السبب إلى أنّ "الرجل معتبر كائناً بدون مشكل"[2]. ولهذا، يتجه البحث باستمرار تجاه المرأة، غير أنّ معرفتها أو تحديد إشكاليتها يمر عبر التصورات الجاهزة حولها، وليس عبر معرفتها بذاتها، ممّا يُعمَق الهوّة الفاصلة بين وعيها بذاتها ووعي المجتمع بها. لهذا، فمجمل التصورات التي تصل حول المرأة تكون من إنتاج المجتمع والثقافات، باعتماد الذاكرة الجماعية الموروثة. تستحضر مجموعة من النصوص النسائية خاصة الروائية منها الرجل إشكالية، وتقترح وجوده ضمن سؤال، بعيداً عن المألوف الذي يجعل منه ذاتاً خارج السؤال والإشكالية. نلتقي بهذا الإجراء في تجارب إبداعية عديدة، من بينها رواية "مسك الغزال"(1977) للكاتبة اللبنانية "حنان الشيخ"، التي تقدّم من خلال بناء روائي تسرده أربع نساء ينتمين لجنسيات لبنانية وأمريكية وخليجية، صورة للرجل العربي مُفارقة عن تلك التي تختزنها الذاكرة الجماعية، أو تحضر في الخطابات الاجتماعية المُتداولة، أو يتم تصريفها على شكل ممارسات وسلوكات. فقد استحضرت القصة في "مسك الغزال" الرجل العربي "معاذ" باعتباره ذاتاً خارج الإشكالية، يمتلك سلطة التصرف في المكان والزمن والجسد والاقتصاد، وتنعكس طبيعة هذه السلطة على وضعية الزوجة التي تأتي موضوعاً مفعولاً به، لا تمتلك الكلام والحكي، ولا تُعبّر عن قلقها تجاه تصرف سلطة الزوج في وجودها، غير أنّ خطاب "مسك الغزال" الذي نقصد به طريقة تشخيص القصة سردياً، فإنها تُربك رؤية القصة/الحكاية وتُفكك السلطة، وتُخرج "معاذ" من شرطه التاريخي الذي يجعل منه ذاتاً خارج السؤال، وتحوله إلى موضوع منظور إليه من قبل المرأة التي تنتقل إلى موقع الذات الفاعلة. وقد تجلى عنصر التحول في موقع الرجل من خلال علاقته الجسدية بالمرأة الأمريكية/سوزان التي جعلته يُعبّر عن ازدواجيته، وتناقض تصوراته حول المرأة والجسد والجنس واللذة. تقول الساردة الأمريكية: "قال إنّه البارحة خاف مني، وشعر بالقرف، تهت أتذكر البارحة، وما وجدت سبباً، هل لأني اشتريت حلية أخرى، هل لأني قلت له إني أفضّل حياة الصحراء على الحياة هنا، وجدتني أسأله بعصبية، إذ فضولي لألم بالذنب الذي اقترفته كان قوياً: "لماذا؟ قال إني أتصرف على هواي كالرجل"(ص 161). يُشخص خطاب الرجل/ معاذ حالة الازدواجية التي يحملها حول مجموعة من التصورات التي تُقدمها الكتابة لدى "حنان الشيخ" بسخرية تُدرج الرجل في إشكالية الوعي بذاته"[3].

تُعدّ مناقشة المرأة-الكاتبة لهويّة الرجل، وتفكيكها لنظام التصورات المتوارثة، عبارة عن دعوة إلى مراجعة منظومة المفاهيم التي تحدد نمط العلاقة من جهة بين المجتمع والمرأة والرجل، ومن جهة ثانية بين الرجل والمرأة، "لأنّ هذه المراجعة بالذات تفقد الرجال أحد الإحداثيات الأساسية التي تقوم عليها هويتهم كرجال"[4]. أمّا المظهر الثاني الذي يُشخص أجرأة مفهوم "الكتابة النسائية" فإنّه يتمثل في مفهوم كتابة الذات لدى المرأة، التي تأتي بصيغة القراءة أكثر من صيغة الكتابة. فإذا كانت المرأة تحضر بهويّة مقترنة بالدونية، تجعل منها ذاتاً تابعة ولاحقة، فإنّها لا تدخل مجال التعبير الرمزي، لكي توثق لهذا الضعف، لأنّها لا ترغب في ترسيخ هويّة ناقصة حسب مقتضيات المجتمع والذاكرة الجماعية، كما أنّها لا تُدرك هويتها إلا من خلال النسق المفهومي للتصورات التي صيغت حولها تاريخياً واجتماعياً وثقافياً، قد يحدث ذلك مع بعض النصوص الإبداعية التي تستهلك الطروحات السائدة نفسها حول هويّة المرأة، لكن فيما يتعلق بمفهوم "الكتابة النسائية" فإنّها تُحدد النصوص التي تأتي فيها ذات المرأة باعتبارها موضوعاً للقراءة، وليس للتدوين أي للكتابة. لهذا، يمكن الحديث عن بعض الاختلافات الجوهرية بين واقع السيرة الذاتية التي يتحقق فيها التطابق التام بين الكاتب والسارد والشخصية وبين السيرة الذاتية النسائية حيث التطابق يبدأ في التلاشي، مع انزياح المرأة عن ذاتها، وخلق مسافة ممكنة تجعلها قارئة لذاتها وليس كاتبة لسيرة الذات. وتسعى المرأة عبر هذا التوجّه في الكتابة إلى تفكيك منظومة التصورات، وتحليلها وقراءتها أكثر من العمل على البناء الذي يُعدّ مرحلة لاحقة لعملية القراءة. بهذا الاستعمال يُصبح مفهوم "النسائي" في علاقته بالكتابة إجراء نصيّاً، يشتغل في اتجاه التعبير عن التصورات الجديدة التي تقترحها المرأة إمّا بديلاً عن المألوف، أو شريكاً للمألوف في خلق التوازنات الممكنة لعالم سوي، يتقدم نحو المستقبل بشراكة حقيقية بين الرجل والمرأة في إنتاج دلالات الوجود. ولهذا فإنّ مفهوم "النسائي" في الشرط الأدبي، لا يُؤسس لحالة صراع أو اصطدام بين المرأة والرجل في واجهة الأدب، كما لا يُدعم خطاب الإلغاء للرجل من وجهة نظر المرأة، ولا يتوخى استثمار الكتابة لتوثيق المرأة باعتبارها موضوعاً وضحية، وقد يحدث أن تستهلك كتابات بأقلام نساء تلك الخطابات، لكنها تظلّ غير وظيفية بالنسبة إلى تحقق شرط "النسائي" في كتابة المرأة. الكتابة النسائية رؤية تُحدد انتقال المرأة من الموضوع المنظور إليه إلى الذات الفاعلة في المفاهيم ودلالتها، وهو انتقال لا يمكن التحقق منه إلا باعتماد خطاب المفاهيم الجديدة في كتابة المرأة.

ولأنّ هذا الاستعمال الوظيفي لمفهوم "النسائي" يُحقق مجيئاً مُختلفاً لكتابة المرأة، فإنّ هذا المجيء قد أنتج خطابات معرفية، بتنا نرى أهميتها اليوم في الدرس الأدبي-النقدي. إذ يسمح مفهوم "الكتابة النسائية" بالوعي بوضعية الذات في الكتابات السردية العربية، التي لم تعد تمتثل لمنطق السيرة الذاتية المتعارف عليها، لكون وضعية هذه السيرة باتت تأتي في علاقة بمفهوم قراءة الذات، وليس توثيقها وتدوينها، ولهذا انتقل التعيين النوعي لهذه الكتابة من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي والمحكي الذاتي. تعبر هذه التجنيسات الجديدة عن انتقال الكاتب في الشرط الثقافي العربي من موقع الذات المتحكمة في تصريف ما يُعتبر واقعاً وحقيقة إلى موقع الموضوع، من خلال إدخال حياته وأفكاره في الأدب لإعادة تأملها والتفكير فيها ومُساءلتها.


* نشر في ملف "النسوية الاسلامية"، بتاريخ 13 يونيو 2016، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، إشراف بسّام الجمل، تقديم أنس الطريقي.

[1]. Didier Beatrice. L ‘écriture-femme. P.U.F. 1981. p31

[2]ـ ياتيندر إليزابيت، أزمة الهويّة الرجاليّة، في حوار مترجم، ومنشور في جريدة الاتّحاد الاشتراكيّ، عدد425، 1994، ص 5

[3]ـ كرّام زهور، السرد النسائيّ العربيّ مقاربة في المفهوم والخطاب، منشورات مدارس، الدار البيضاء، ط1، 2004، ص 150

[4]ـ ياتيندر إليزابيت، حوار جريدة الاتحاد الاشتراكيّ، مرجع سابق.