النسويّة الملتوية: النساء في تنظيم داعش


فئة :  مقالات

النسويّة الملتوية: النساء في تنظيم داعش

المرأة في أسطورة الخلق

لا يمكن الحديث عن المرأة في السياسة المعاصرة دون العودة إلى الأصل والعودُ الأبدي إلى البدايات كما يقول "مارسيا إلياد". بدايات نشوء الكون والزمن الذي سيطرت فيه المرأة الآلهة الخالقة والمدبرة للحياة على طول وعرض الحضارات القديمة (الرافدينية، المصرية، والهندية، والإغريقية) حتى العصر الثامن قبل الميلاد، حيث حصل التحوّل الذكوري وفقدت المرأة مكانتها في الحياة وتنظيم السياسة، وعبر سلسلة طويلة من الممارسات، تم الحط من شأنها وبالتدريج تم تحويلها إلى مجرد رمز للرذيلة والإغواء والضعف، وبالتالي تحويلها إلى تابع للرجل وبحاجة إلى حمايته الدائمة لأهدافه الخاصة، وبشروطه المسبقة. ومن هناك أجبرت المرأة على لزوم البيت للرجل، بهدفٍ رئيس هو تربية الأطفال.

حصل التحول الذكوري وإبعاد المرأة عن "المجال العام" والسياسة بمساعدة الأسطورة الدينية "النشكونية" التي تسللت إلى أعماق الأديان المحورية

في الديانات المحورية (اليهودية، المسيحية، والإسلام)؛ وبعيداً عن البحث اللاهوتي الموسع وتتبع تأثير أسطورة الخلق فيها، نلاحظ أن الكتاب المقدس والقرآن الكريم يتفقان في خلق المرأة من الرجل، حيث يذكر الكتاب المقدس في عهده القديم أن حوّاء خلقت من ضلع آدم، فنحن نقرأ: "فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا. وَبَنَى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إلى آدَمَ". (سفر التكوين 21: 2-22)

ويخبرنا القرآن الكريم أن المرأة قد خلقت من الرجل، حيث نقرأ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء) سورة النساء، الآية 1، الجزء الرابع.

لكن يبدو - لي - أن هناك بعض الالتباس في صورة المرأة في المسيحية، حيث تبدو في الأولى متساوية في الخلق مع الرجل: "أما قرأتْم أنّ الذي خلقَ الإنسان َ في البدءِ ذكراً وأنْثى" (إنجيل متى، الإصحاح التاسع عشر، الآية 4). أما في الثانية، فهي غير متساوية بل جزء من الرجل، حيث يؤكد القديس بولص أن المرأة كانت قد خلقت من الرجل، ومن ثمة لأجل الرجل، ثم يخفف من وطأة هذه التبعية قائلاً: "إلّا أنه ليس الرجل من دون المرأة ولا المرأة من دون الرجل في الربّ". (القدّيس بولص، الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة، الآيات 8-12)([1]).

باختصارٍ شديدٍ، حصل التحول الذكوري وإبعاد المرأة عن "المجال العام" والسياسة بمساعدة الأسطورة الدينية "النشكونية" التي تسللت إلى أعماق الأديان المحورية التي أثرت كظاهرة اجتماعية متخطية للحدود، في كل أشكال السياسة العالمية اليوم.

وما صراع المرأة اليوم من خلال الحركات النسوية المتعددة والمختلفة إلاّ تعبير متعدد الأشكال والطرق لرفض الواقع الحالي ومحاولة إلى العودة -ربما- إلى الأصل والبدايات، أو على الأقل الحصول على وضع أكثر احتراماً لهن ومساواة حقيقية.

الداعشّيات: النساء في تنظيم داعش

جذبت ظاهرة الإرهاب العالمي المعاصر الكثير من الاهتمام في كافة الأوساط السياسية والأمنية والإعلامية والبحثية والأكاديمية. وحظي تنظيم داعش بجل هذا الاهتمام منذ حزيران / يونيو 2014م بعد أن أعلن التنظيم عن دولة الخلافة.

تشكل عودة النساء (الداعشيات) إلى بلادهن مشكلة كبيرة للدول، من حيث كيف ستتعامل معهن، وما هي أفضل السبل لإعادة إدماجهن في المجتمع مرة أخرى

وقد نتج عن بؤرة الجذب هذه، ظاهرة أخرى تمثلت في ما يعرف الآن بظاهرة "المقاتلين الإرهابين الأجانب" من الرجال والنساء والأطفال الذين التحقّوا بالتنظيم في سوريا والعراق حتى بلغ عدد هؤلاء حوالي (41, 496) مقاتلاً أجنبياً([2]) من (110) دولة في العالم، بينما ذكرت السلطات التركية أن العدد أكثر؛ حيث أشارت إلى أن العدد الإجمالي بلغ حتى منتصف حزيران 2017م (53781) شخصاً من (146) دولة في العالم، بناء على بلاغات من هذه الدول في حق أفرادها([3]).

وبشكل غير مسبوق في تاريخ الجماعات الإرهابية؛ استطاع تنظيم داعش جذب آلاف النساء من دول العالم، حتى بلغ العدد الإجمالي للنساء (الداعشيات) الأجنبيات الملتحقات بداعش حوالي (4.761) وما نسبته (13%) من المجموع الكلي للمقاتلين الأجانب، جاء أكثرهن من شرق آسيا ثم أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية([4]).

وأقصد بالداعشيات هنا، "النساء اللواتي التحقن بتنظيم داعش من خارج سوريا والعراق، بغض النظر عن أهدافهن وأسباب التحاقهن وأدوارهن في التنظيم".

وتشكل عودة النساء (الداعشيات) إلى بلادهن مشكلة كبيرة للدول، من حيث كيف ستتعامل معهن، وما هي أفضل السبل لإعادة إدماجهن في المجتمع مرة أخرى.

ولقد عاد (5600) مقاتلاً من (33) دولة إلى بلادهم، وأعداد أخرى غير معروفة، ما يشكل تحدّيا كبيرا لأجهزة الأمن في تلك الدول([5]).

لكن يبقى أن عدد "الداعشيات" العائدات غير معروف على وجه الدقة، خاصة من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نتيجة عدم الشفافية في نشر المعلومات.

اليوم، هناك جدل واسع وعميق، والكثير من المبالغات والرطانة وبشكل معولم؛ حول ظاهرة التحاق النساء بتنظيم داعش في سوريا والعراق.

ويتركز معظم هذا الجدل اليوم حول سؤال مركزي: هل تشكل ظاهرة التحاق النساء (الداعشيات) بتنظيم داعش تحديداً جزءا من "الحركة النسوية" المعروفة عالمياً؟ وهل يمكن أن نُفسر هذه الظاهرة من خلال "نظرية المساواة بين الجنسين" (Feminist Theory) بتنويعاتها وفروعها الرئيسة، باعتبارها نظرية تأملية (Reflectivist Theory) تكوينية مناهضة للتأسيسية في السياسة العالمية؟([6]).

وسنحاول الإجابة عن السؤال أعلاه؛ من خلال إلقاء نظرة سريعة على ظاهرة التحاق النساء بالتنظيمات الإرهابية، خاصة تنظيم داعش في سوريا والعراق "الداعشيات"، باعتبارها بؤرة تبادل تخصيب للأفكار والمناظرات بين التنويعات الرئيسة "لنظرية المساواة بين الجنسين" المعروفة عالمياً؛ ومن هنا اجترحت عنوان المقالة "النسوية الملتوية" في إشارة استباقية واستشرافية ونوع من التحليل الاستطرادي لصعوبة البحث، والالتواءات الكامنة فيه، وحاجته للبحث المتخصص المعمق والدقيق.

النساء في السياسة العالمية

لا يمكن دراسة ظاهرة النساء "الداعشيات" مهما كانت النظرة المعيارية لهن في ظل حقبة العولمة المعاصرة دون النظر إلى أربعة معايير رئيسة هي:

1- الأسباب التي أدت إلى التحاقهن بالتنظيم.

2- الدوافع التي حفزتهن على الالتحاق بالتنظيم.

3- الأدوار التي تلعبها في التنظيم.

4- الأهداف المعلنة للانضمام للتنظيم.

لقد جرى تدريس وتنظير العلاقات الدولية منذ مدة طويلة "وكأن النساء لا وجود لهن، وكأنه لا توجد نساء في السياسة العالمية التي يختص بها الرجال فقط، وكأن الرجال والنساء يتأثرون ويؤثرون بالسياسة العالمية بالطرق نفسها، وفي تلك الحالة لن تكون هناك حاجة إلى تجنيس (gendering) التحليل للسياسة العالمية"([7]).

ولم يصبح عمل المساواة بين الجنسين المعني بالسياسة العالمية عملاً شائعاً إلا في أواسط ثمانينيات القرن العشرين. وقد نشأ أصلاً من العمل في سياسة التنمية، والأبحاث المتعلقة بالسلام، ولكن في نهاية الثمانينيات نشأت أول موجة من أعمال المساواة بين الجنسين، والتي يمكن حصرها في أربعة تنويعات أو فروع رئيسة، وهي([8]):

الفرع الأول "النظرية الليبرالية للمساوة بين الجنسين"، وطرحت السؤال التالي: أين كانت المرأة في السياسة الدولية؟

اشتغلت هذه النظرية على إظهار مدى انخراط النساء في السياسة العالمية، والأساليب التي استبعدت فيها النساء من السلطة، ومن لعب دور كامل في الحياة السياسية. والعمل في المقابل على أن تتمتع النساء بالحقوق والفرص نفسها التي يتمتع بها الرجال.

والفرع الثاني من نظرية المساوة بين الجنسين هو "المساواة الاشتراكية /الماركسية".

حيث يجري التأكيد في المساواة الاشتراكية على الاضطهاد التاريخي للنساء، والنظام الأبوي لسيطرة الذكور، بينما تركز المساواة الماركسية على دور القوى المادية والاقتصادية بالدرجة الأولى في تقرير حياة النساء، وأن سبب عدم تحقيق المساواة للنساء يعود إلى النظام الرأسمالي، وإسقاط هذا النظام هو الطريق لتحقيق المساواة، بحجة أنه النظام الأكثر اضطهادا للنساء.

أمّا الفرع الثالث من نظرية المساواة بين الجنسين، فهو "ما بعد الحداثة" والقضية الرئيسة هنا هي الجنس (gender) كبنية اجتماعية للفوارق بين النساء والرجال، وليس على المرأة بحد ذاتها، ثم نوع الدور الذي يناط بكل من الرجل والمرأة في بنية السياسة العالمية وعملياتها وكيف ساهمت السياسة العالمية في إنتاج أنواع معينة من النساء والرجال.

إن الداعشيات، لا يمثلن أيّ عبور أو تمثيل لتنويعات النظرية النسوية والمساواة بين الجنسين المعروفة عالمياً

والفرع الرابع من نظرية المساواة بين الجنسين هو "المساواة الاستشرافية بين الجنسين".

والهدف المركزي هنا هو إعادة وصف للحقيقة من وجهة نظر نسائية، وتطوير نسخة أو رؤية أنثوية عن الحقيقة والعالم.

أكيد بأننا لا نستطيع (في هذا المقال) التتبع المعمق والدقيق لمسألة عبور الداعشيات للنظرية النسوية عبر تنويعاتها الأربعة أعلاه.

قد يجادل البعض - ولهم الحق في ذلك - بأن الداعشيات ربما يمثلن ما يطلق عليه جزافاً "النسوية الإسلامية".

لكنّ نظرة أولية يمكن أن تدفعنا إلى الجزم بأن الداعشيات، لا يمثلن أيّ عبور أو تمثيل لتنويعات النظرية النسوية والمساواة بين الجنسين المعروفة عالمياً، وإذا كان هناك أي جدال حول هذه المسألة فهو أمر ملتوٍ، وغامض جدّاً؛ لكثير من الأسباب نذكر منها: إنّ الأدوار الرئيسة "للداعشيات" التي ورثنها من "التحول الذكوري" الأول في التاريخ، هو تربية الأطفال ورعاية الرجال، ومعظمهن ذهبن لرغبتهن في ذلك - ربما - لنفس أسباب ذهاب الرجال، وبعضهن بسبب خداع أو ضغوط من أزواجهن، أو بسبب الداعية الكبيرة لداعش عبر آليات العولمة التكنولوجية بحياة مختلفة. وفي مسألة الخطاب والرسالة، لا نجد أمثلة تشير تحديداً إلى أنّ هدف الداعشيات كان البحث عن المساواة مع الرجل وتطوير النظرية النسوية.

وفي مسألة ممارسة القتال جنبا إلى جنب مع الرجل، وربما تكون هذه المسالة أكبر محدد لمسألة المطالبة بالمساواة عند "النظرية النسوية"، لوحظ أن هناك بعض "القناصات"، و"الانتحاريات"، مثال ذلك إحدى النساء، وهي تحمل طفلها فجرت نفسها في منتصف تموز 2014م في مجموعة من الجنود العراقيين، وهي تتظاهر بالهروب مع المدنيين من حصار الموصل، وفي أيلول 2016م قامت ثلاث نساء بمهاجمة مركز للشرطة في كينيا، وتم إفشال عمليات مماثلة في فرنسا، حينما حاولت 3 نساء تفجير كاتدرائية روتردام بسيارة مفخخة، وفي المغرب تم القبض على خلية من عشر نساء. وفي أوروبا بشكل عام لوحظ زيادة في عدد العمليات مقارنة مع السنوات السابقة، حيث بلغت نسبة العمليات التي تقف وراءها النساء في داعش 23% عام 2017.

لكن يجب أن نكون على حذرٍ شديدٍ تجاه مثل هذه الحالات ممارسة (الجهاد - القتال) التي تبدو لي معزولة ولا تشكل تغيراً في أيديولوجية داعش، بل تخضع لظروف خاصة، كما جاء في وثيقة تأسيس وحدة الخنساء الأمنية، مع الإشارة إلى أن حوالي 600 من عضوات هذه الوحدة في مدينة الرقة شاركن في ممارسة التعذيب للسجناء وتمتعن بذلك([9]).

 

المراجع:

1- أرندت، حنّة (2015)، الوضع البشري، ترجمة هادية العرقي، جداول للنشر والترجمة والتوزيع بيروت، الطبعة الأولى، ص 28

2- جان، جنيدي بيتمان (2004)، قضايا الجنس، عولمة السياسة العالمية، الفصل الخامس والعشرون، ص 1001

3- جون بيليس، ستيف سميث (2004)، عولمة السياسة العالمية، ترجمة ونشر مركز الخليج للأبحاث، الطبعة الأولى، ص 350-355.

4- ICSR. (2018). From Daesh to diaspora, Tracing the women and minors of the Islamic State available at: https://icsr.info/2018/07/23/from-daesh-to-diaspora-tracing-the-women-and-minors-of-islamic-state/.

5- The Soufan Center (TSC), RICHARD, BARRETT (2017).BEYOND THE CALIPHATE: Foreign Fighters and the Threat of Returnees, The data in this report is updated as of October 31, 2017, http://thesoufancenter.org/wp-content/uploads/2017/11/Beyond-the-Caliphate-Foreign-Fighters-and-the-Threat-of-Returnees-TSC-Report-October-2017-v3.pdf.p5-16.

[1]- أرندت، حنّة (2015)، الوضع البشري، ترجمة هادية العرقي، جداول للنشر والترجمة والتوزيع بيروت، الطبعة الأولى، ص 28.

[2]- ICSR. (2018). From Daesh to diaspora, Tracing the women and minors of the Islamic State available at: https://icsr.info/2018/07/23/from-daesh-to-diaspora-tracing-the-women-and-minors-of-islamic-state/.

[3]- The Soufan Center (TSC), RICHARD, BARRETT (2017).BEYOND THE CALIPHATE: Foreign Fighters and the Threat of Returnees, The data in this report is updated as of October 31, 2017, http://thesoufancenter.org/wp-content/uploads/2017/11/Beyond-the-Caliphate-Foreign-Fighters-and-the-Threat-of-Returnees-TSC-Report-October-2017-v3.pdf.p5-16.

[4]- ibid. ICSR. (2018). From Daesh to diaspora.

[5]- The Soufan Center (TSC), RICHARD, BARRETT (2017). BEYOND THE CALIPHATE: Foreign Fighters and the Threat of Returnees, The data in this report is updated as of October 31, 2017, http://thesoufancenter.org/wp-content/uploads/2017/11/Beyond-the-Caliphate-Foreign-Fighters-and-the-Threat-of-Returnees-TSC-Report-October-2017-v3.pdf, p5

[6]- جون بيليس، وستيف، سميث (2004)، عولمة السياسة العالمية، الفصل التاسع، ترجمة ونشر مركز الخليج للأبحاث، الطبعة الأولى، ص 350-355.

[7]- جان، جنيدي بيتمان (2004)، قضايا الجنس، في عولمة السياسة العالمية، الفصل الخامس والعشرون، ص 1001.

[8]- المرجع السابق، 369-373

[9]- The Soufan Center (TSC), p22-24