"الوحي من التنزيل إلى التدوين" للباحث التونسي حمّادي المسعودي


فئة :  قراءات في كتب

"الوحي من التنزيل إلى التدوين" للباحث التونسي حمّادي المسعودي

 

صدر كتاب "الوحي من التنزيل إلى التدوين" للأستاذ حمّادي المسعودي[1] في طبعته لأولى سنة خمس وألفين ضمن سلسلة بحوث جامعية، في طبعة مشتركة بين كلّية الآداب والعلوم الإنسانية القيروان (جامعة القيروان تونس) ودار سحر للنشر والتوزيع بتونس، وقد تكوّن الكتاب من مئة وأربعين صفحة توزّعت على مقدّمة وفصول ثلاثة وخاتمة إلى جانب قائمة المصادر والمراجع والفهرس العام.

جاءت المقدّمة في ستّ صفحات (من ص 7 إلى ص 11)، وفيها بيّن المؤلّف أهم الإشكاليات التي تعترض سبيل الباحث في شأن الوحي الإسلامي والمراحل التي قطعها حتّى استوى نصًّا مكتوبًا متداولاً بين الناس، فإذا بالصعوبات موصولة بمجالات مختلفة بعضها متعلق بطبيعة الثقافة التي نشأ فيها الوحي، فهي ثقافة قائمة بالأساس على البعد الشفاهي، يضاف إلى ذلك ما رافق عملية الجمع والتدوين من صعوبات السبب فيها تقني (أدوات الكتابة،.... ) حينا، وهو متعلق بالمنحى التجميعي الذي ساد عصر التدوين حينًا آخر، فإذا بالمسألة معقّدة في مستوى المصطلحات والمفاهيم، وفي مستوى بنية الثقافة العربية الإسلامية...

وقد حدّد الباحث في هذه المقدّمة تصوّره للمسألة وطرق تعامله مع المدوّنات التي اشتغلت على المسألة، فكان موقف الباحث منها واضحًا يتمثل في عدم "السير على منهاج القدامى من علماء القرآن وغيرهم وإنْ كنّا سنعوّل في الكثير من مواطن هذه الدراسة على نصوصهم التي ستكون عمدتنا في البحث ننقدها ونبحث في أبعادها ولن نولّي وجهنا صوب الدراسات الاستشراقية التي اهتمّت بدراسة الظاهرة القرآنية أيّما اهتمام إلاّ للبحث في مواطن الجدّة وطرافة المقاربة دون أنْ يسوقنا ذلك إلى التسليم بما توصّلوا إليه من نتائج [...  ولا نريد] السير على المنهج الذي رسموا". ص 11

فالبحث المنجز من هذا المنظور يهدف إلى إقامة قراءة جديدة لا تتجاوز الدراسات القديمة والدراسات الاستشراقية قبل النظر فيها، والإفادة منها دون الوقوع في اجترار مسلماتها ونتائجها. وبذلك عبّر الباحث عن وعيه بما تنطوي عليه الدراسات القديمة والدراسات الاستشراقية من مزالق، على أنّ الانفتاح عليها لن يمنعه من التفكير معها وضدّها، ولكي يؤسس للقراءة الجديدة التي يسعى إلى إرساء أركان حدّد الأستاذ حمّادي المسعودي للبحث محاور ثلاثة كانت لبّ فصول الكتاب، وهذه المحاور هي وضع القرآن في عهد الرسول: التداول الشفوي (من ص 13 إلى 58)

المحور الثاني: تدوين الوحي (من ص 59 إلى ص 90)

المحور الثالث: المكّي والمدني إشكالية التحديد والمضامين (من ص 91 إلى ص 130)

وهي محاور تتنزّل من عنوان الكتاب منزلة الجزء من الكلّ، فإذا بالفصول الثلاثة قائمة على منطق واضح فيه تدّرج الباحث من حدث التنزيل إلى حدث التدوين، ليحاول في آخر الفصل الثالث إعادة النظر في مسألة المكي والمدني، وهي مسألة تتعلق بالأساس بترتيب آيات القرآن الكريم وسوره.

ففي المبحث الأول تطرق الباحث إلى وضع القرآن في عهد الرسول: التداول الشفوي بالنظر في خصوصيات المشافهة والكتابة مبيّنًا أنّ للمشافهة أدوات تعبيرية خاصة بها تميزها من المكتوب، بما يجعل منها (المشافهة) لغة قائمة على الجسد (الحركات الجسدية، الصوت، الكلام والصمت،...) مقابل الكتابة التي تقوم بالأساس على الرسم والخط، ويعزى الاهتمام بهذه المسألة إلى طبيعة الوحي الإسلامي الذي نشأ خطابًا شفويًّا وانتهى نصًّا مكتوبًا، وبين الثقافتين مسافات شاسعة يقول في شأنها الباحث "إنّ التحوّل من الشفوي إلى المكتوب [تمّ فيه] إهمال إحدى هاتين الآليتين (الإشارة والعبارة)؛ أي أنّه لم يعبأ كثيرًا بأداة الإشارة". ص 17

لينظر بعد ذلك في إشكالية بعض المفاهيم القرآنية، ومن أهم تلك المفاهيم الكتاب وعلاقته بالقراءة والسماع وقضية الأحرف السبعة وما كان لها من مفهوم ودلالة وما قام بينها وبين مصطلح "القراءة" من تداخل مبيّنًا من خلال الوقوف على تلك المفاهيم أنّ بعضها لم يُفهم على حقيقته، من ذلك أنّ البحث في دلالات فعل "قرأ" ومشتقاته في النص القرآني قد "ارتبط [...] بفعليْ الاستماع والإنصات ومهما يكن مصدر القراءة صحيفة كان أو استظهارًا عن ظهر قلب فإنّ فعل القراءة مُوجّه إلى فرد أو أفراد مستمعين أو منصتين، وإذا ما عثرنا على الكثير من الآيات التي تدعو إلى الإنصات أو الاستماع إلى ما هو مقروء فإنّنا لا نجد دعوة إلى قراءة ما هو مكتوب". ص 33

وهو تصوّر جعل من القرآن/ الوحي خطابًا شفويًّا يستند في تأسيس معانيه ودلالاته إلى عناصر عديدة تتعلق بالجسد والصوت والحركات والهيأة. أمّا بخصوص الحروف السبعة فقد بيّن الباحث أنّها مسألة معقّدة يتداخل فيها مصطلح الحرف بالقراءة من جهة، ومن جهة أخرى تتعدد دلالات الحرف في كتب القدامى بين القول بأنّ المقصود بالأحرف السبعة الحروف المعجمة وبين القول هي الجهة والقراءة وبين القول هي اللغات واللهجات.... وقد قلّب الأستاذ حمّادي المسعودي النظر في مختلف الوجوه المتصلة بالمسألة ولاحظ أنّ القدامى وعوا في أغلب الأحيان بضرورة الفصل بين الأحرف السبعة والقراءات السبع- وفي ما بعد ميّزوا بين الأحرف السبعة والقراءات السبع والروايات السبع- من جهة، ومن جهة أخرى حرصوا على اعتبار الاختلاف في شأن الأحرف السبعة والمقصود بها شكلاً من أشكال التهوين على الأمّة، وهو ما جعل مقالة الأحرف السبعة مقالة غامضة تتأرجح دلالاتها بين الواقع والمتخيّل، فالتقليل من شأن الاختلاف في رواية القرآن الكريم والقراءات الموصولة به لا يجب أن يحجب عنّا أنّ تعدد القراءات واختلافها مصدره النبي محمّد "فهو الذي أقرأ صحابته الآية نفسها أو السورة عينها بأكثر من وجه وهو أمر يدلّ على أنّ الرسول قد وسّع قراءة القرآن" ص 41، وفي ذلك دلالة واضحة على أنّ للرواية الشفوية تأثيرًا واضحًا في النص القرآني بما يجعل منه نصًّا منغمسًا في الواقع غير متعال عنه.

أمّا الفصل الثاني الموسوم بـ"تدوين الوحي"، ففيه دار البحث على إشكاليات التدوين من خلال النظر في المسارات التاريخيّة بدءًا من عهد الرسول فعهد أبي بكر الصديق فعثمان بن عفّان منتهيًا إلى ما طرأ على المصحف الإمام من تغييرات شملت التنقيط وتجزئة القرآن ووضع علامات الإعراب. وقد كشف الباحث في ما يتعلق بالمسألة الأولى أنّ تدوين الوحي قد مرّ بمراحل عديدة، ففي عهد النبي محمّد تمّ تدوين أجزاء من القرآن الكريم بدءًا من المرحلة المكيّة أي قبل الهجرة. على أنّ التدوين لم يشمل إلاّ الجزء القليل من الوحي، وقد أرجع ذلك إلى طبيعة الرواية الشفوية ومنزلتها قبل الإسلام فهي عماد تقبّل المعرفة. فصحابة محمّد كانوا "يحفظون ما كان ينزل عليه من قرآن ويستوعبون ما كان يرويه لهم من أحاديث" ص 67 شأنهم في ذلك شأن رواة الشعر في الجاهلية، ولعل واقعة اليمامة وما نتج عنها من مهلك العديد من حفظة القرآن الكريم قد أدّى بعمر بن الخطاب وأبي بكر الصديق إلى التفكير في جمع القرآن في صحف، وهي عملية شُرع فيها في عهد أبي بكر، على أنّ التدوين في هذه المرحلة لم يختلف عن التدوين في عهد الرسول في مستوى طريقة الكتابة، فالمصحف الذي دوّنه زيد بن ثابت بتكليف من أبي بكر الصديق غاب فيه التنقيط وحركات الإعراب و"إنْ لاحظنا تطوّرًا في مستوى المواد التي كُتب عليها". ص 73

لقد عرفت عملية التدوين منعرجًا حاسمًا مع عثمان بن عفّان الّذي رام من خلال تدوين المصحف "درْء الخلاف بين المسلمين نتيجة انتشار الوحي بين صفوفهم بطرق مختلفة من النطق والقراءة في أمصار متباعدة أحيانًا" ص 73، بيد أنّ عملية التدوين في عهد عثمان بن عفّان كانت عملية شاقة انطوت على نقائص عديدة مأتاها الرغبة في تدوين القرآن كاملاً وترتيب سوره وآياته وتوحيد اللغة التي يجب القراءة بها (لغة قريش)، وهو عمل لم يؤد في نهاية المطاف إلى تجاوز الاختلافات التي بدت واضحة بين القراءات المختلفة للقرآن الكريم، والتي رسّختها "السّنة الشفوية في تداول الوحي". ص 84

فما قام به عثمان بن عفّان لم يحل دون تسرّب اللحن إلى آيات قرآنية عديدة، مما أدّى إلى إعادة النظر في المدوّنة القرآنية وتعهدها بالتغيير في مستويات عديدة منها تبديل الألفاظ ووضع علامات التنقيط... وعلامات الإعراب (الحركات)، ولعل ما قام به الحجّاج بن يوسف الثقفي من تغييرات في مصحف عثمان خير دليل على أنّ المدوّنة القرآنية التي جمعها عثمان معتقدًا أنّها النص الذي يجمع المسلمين حوله كان بحاجة إلى تصويبات، وقد لفت الباحث الانتباه إلى أنّ التغييرات التي قام بها الحجّاج بن يوسف الثقفي "اقتضاها المنطق الداخلي للنص أو السياق النّصي، وهي تغييرات عميقة مرتبطة بالدلالة تدلّ على تفقهه في معاني القرآن وعلى معرفته الدقيقة باللغة" ص 87، ومن أهم التغييرات المحدثة تلك التي اتصلت بتجزئة القرآن إلى أنصاف وأرباع وأخماس وأسداس وأسباع وأثمان وأتساع وأعشار وأجزاء وأحزاب..

إنّ تتبع مراحل الوحي وانتقاله من وضع المشافهة إلى وضع التدوين تبيّن أنّ القرآن الكريم لم يكن نصًّا مغلقًا سواء تعلق الأمر بحياة الرسول أو بعهود الخلفاء الراشدين، فعلى الرغم من التحول من وضع النقل الشفوي إلى الكتابة فإنّ أثر المشافهة ظل جليًّا في مستوى النص المكتوب الذي غابت عنه علامات التنقيط والإعراب...، وفي غيابها تأكيد واضح أنّ المعوّل عليه بالأساس المحفوظ في الذاكرة لا المدوّن في الصحف.

أمّا الفصل الثالث، ففيه تطرق الباحث إلى مسألة تعدّ من أهم الإشكاليات الموصولة بالنص القرآني لما لها من أهمية في فهم الأحكام القرآنية وعلاقة الناسخ بالمنسوخ... ونعني بها إشكالية المكّي والمدني (ترتيب السور والآيات في القرآن الكريم)، وقد تناول الباحث المسألة من زوايا مختلفة بدءًا بإشكالية المفهوم وما استخلصه القدامى من نتائج وصولاً إلى المحاولات الاستشراقية وما انطوت عليه من نقائص، ففي ما يتعلق بمباحث القدامى لاحظ أنّهم اعتمدوا مقاييس عديدة لتمييز المكّي من المدني اعتمادًا على المكان أو الزمان أو المضمون أو الشكل. وقد تتبّع تلك المقاييس وحللها وبيّن ما احتوته محاولات القدامى من تضارب تجلى في الإقرار بوجود آيات مدنية في القرآن المكي من جهة، والقول بوجود آيات مكيّة في القرآن المدني من جهة أخرى، على أنّ تحديد المكي وتميزه من المدني ليس بالأمر اليسير بالنظر إلى اختلاف المسلمين في تحديد جزء لا يستهان به من آي القرآن الكريم، وهو ما سعى البعض إلى تفسيره تفسيرات غير منطقية من قبيل القول بتكرار نزول الآيات أو القول بنزول النص وتأجيل الحُكم، مشيرًا إلى أنّ مسألة تكرار النزول مسألة غير مقبولة، ذلك أنّ الأقرب إلى الصحة أنّ ما اعتقد المسلمون في نزولها أكثر من مرّة هو في الأصل يعود إلى "تمثّل الرسول بها أمام صحابته مرّة ثانية [وهو] لا يعني أنّها نزلت مرّتين". ص 111

أمّا بخصوص الدراسات المعاصرة فقد خصص الباحث الجزء الثاني من الفصل الثالث للنظر في محاولات بعض المستشرقين التمييز بين القرآن المكّي والقرآن المدني، وهي محاولات ظلت تراهن على وحدة الأسلوب -لا سيما محاولة بلاشير Blachère - وقد قاد النظر في محاولات القدامى والمعاصرين الأستاذ حمّادي المسعودي إلى تقديم محاولة جديدة للتمييز بين المكّي والمدني عوّل فيها على دراسة القرآن انطلاقًا من الخصائص الأسلوبية والإيقاعية والمعجمية والتركيبية والدلالية مستخلصًا أنّ القرآن المكّي "قائم على الاختزال، وهو قصير الآيات والسور في الغالب، حافل بالفواصل القصيرة المتقاربة متمحّض في جلّه للبحث في العقيدة توحيدًا ونبوّةً وبعثًا وعقابًا وثوابًا [...] أمّا القرآن المدني [... فقد] نحا منحى التقليص في ظاهرة الفواصل الفاصلة واعتنى أكثر من القرآن المكّي بموضوع الشريعة حدودًا وفرائض". ص 130


[1] الأستاذ حمّادي المسعودي هو أستاذ التعليم العالي في اختصاص اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان (جامعة القيروان تونس)، وهو مدير مخبر "تجديد مناهج البحث والبيداغوجيا" بالجامعة التونسية، وهو متحصّل على شهادة دكتوراه دولة من الجامعة التونسية عن بحث بعنوان" فنّيات قصص الأنبياء في التراث العربي". ومن أهم أعماله المنشورة نذكر كتاب هيكل الليلة ومدلوله الفكري والحضاري في كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيّان التوحيدي وكتاب الحكاية العجيبة في رحلة ابن بطوطة وكتاب مُتخيّل النصوص المقدّسة في التراث العربي الإسلامي وكتاب فنّيات قصص الأنبياء في التراث العربي.