حوار مع الدكتور بسام الجمل


فئة :  حوارات

حوار  مع الدكتور بسام الجمل

حوار[1] مع الدكتور بسام الجمل

المتخيّل الدّينيّ، وعلوم القرآن، والدّراسات القرآنيّة

د. نادر الحمّامي: الأستاذ بسّام الجمل، يبدو أنّ انطلاقتك في البحث الأكاديميّ، كانت في مجال النّقد الأدبيّ بالنّظر إلى أنّ أوّل بحث جامعي أنجزته كان حول «الحماسة في شعر أبي تمّام»، فما الّذي غيّر وجهتك نحو البحث في الحضارة العربيّة الإسلاميّة؟

د. بسّام الجمل: لقد اشتغلت حول أبي تمّام في إطار شهادة الكفاءة في البحث، ثمّ انتقلت إلى مجال الدّراسات الحضاريّة، وكان السّبب وراء ذلك درس من دروس التّبريز الّتي تابعتها بكلّيّة الآداب بمنوبة؛ وهو تحديداً درس الأستاذ عبد المجيد الشّرفي، الّذي كشف لي عدّة مجالات وآفاق واسعة للبحث، رأيت فيها مهجتي ووجدت نفسي مشدوداً إليها شدّاً، وقد جعلني ذلك أفكّر كثيراً في الانتقال، واقتنعت بعد ذلك بجدواه وقيمته الفكريّة والمنهجيّة، وأذكر أنّني في درس من دروس التّبريز، وقد كان ذلك في منتصف التّسعينيّات من القرن الماضي، اخترت الاشتغال على عرض يخصّ كتاب «أسباب النّزول» للواحديّ النّيسابوريّ (398هــــ-468هــــ)، وقد بحثت في الآيات الّتي اهتمّ الواحدي بأسباب نزولها، وقدّمت ذلك العرض ونسيت الأمر، لأجد نفسي في بداية الألفيّة الثّانية أختار الاشتغال في مستوى أطروحة الدّكتوراه حول هذا الموضوع، وكان هذا ما حملني على أن أغيّر اتّجاهي المعرفيّ.

د. نادر الحمّامي: هل كان مجرّد تغيير اتّجاه معرفيّ أم إنّه كان عن وعي مسبق؟ فتلك الحدود الفاصلة بين الشّعر والنّقد الأدبيّ من جهة، والتّفسير وأسباب النّزول من جهة أخرى، قد تكون واهية أحياناً، إذا ما نظرنا إلى التّقاطعات بين المصنّفات القديمة على اعتبار أنّها نتاج البنى الذّهنيّة ذاتها، وهو ما سيؤثّر لاحقاً في التّقاطع بين المتخيّل والرّمزيّ الّذي ينتمي كلاسيكيّاً إلى مجال الأدب والشّعر لينتقل إلى مجال ما يُضمّن على أنّه جدّيّ وصلب مثل الدّين.

د. بسّام الجمل: هذه الاختصاصات المعرفيّة متولّدة من ذهنيّة واحدة تقريباً، وهي في إطار منسجم العناصر، ولذلك فالتّقاطع موجود وقائم بالضّرورة، فالفصل بين العلوم إجرائيّ، وهو من باب التّخصّص فحسب، ولكن في العمق المعرفيّ هناك منوال واحد يقع الاشتغال عليه. هذا ما يسّر لي الانتقال في البحث إلى الدّراسات الحضاريّة، ولعلّ ذلك يعود إلى سبب آخر أيضاً، وهو أنّ الدّراسات الحضاريّة تنفتح على مجال رحب من الإبداع والتّفكّر المحسوب والدّقيق، مع ضوابط واسعة، وقد أردت الاشتغال في مجال يسمح لي أكثر بالتّفكّر في قضايا التّراث والتّاريخ والمؤسّسات الثّقافيّة والاجتماعيّة والأبنية المعرفيّة، وقد وجدت ذلك كلّه حاضراً بقوّة في الدّرس الحضاريّ في الجامعة التّونسيّة، فانجذبت إليه رغم شغفي الكبير في مرحلة الأستاذيّة بمجال النّقد الأدبيّ، وأنا لا أزال أحتفظ في مكتبتي، إلى الآن، بعدد كبير من الكتب الّتي كنت أهتمّ بها في مجال النّقد الأدبيّ ونقد الشّعر، مثل كتابات تودوروف (tzvetan todorov) (1939-2017) وغيره، ولكن وجدت نفسي أثري معرفتي وأوسّع فيها بالانتقال إلى مجال الدّراسات الحضاريّة، وقد أفادني ذلك كثيراً، ففي المعرفة لا شيء يضيع، وربّما نقرأ اليوم شيئاً نظنّ أنّه ليس ذا قيمة أو أنّه غير مفيد أو غير مهمّ، ولكن نتبيّن مع مرور الوقت والأيّام أنّه كان مهمّاً جدّاً وأنّ كلّ ما نقرأ يظهر ويطفو يوماً ما على السّطح من خلال ما نكتب وما نفكّر فيه.

د. نادر الحمّامي: أشرت إلى اسم مهمّ وهو تودوروف، الّذي ترجم أعمال الشّكلانيّين الرّوس إلى اللّغة الفرنسيّة، ومهّد بذلك لنشأة البنيويّة الّتي كانت ركيزة من ركائز الدّرس الأنثروبولوجيّ؛ والمطّلع على بحوثك حول المتخيّل الدّينيّ، يرى أنّك تحاول دائماً الوصول إلى قسم تأليفيّ يركّز على الآليّات أو الأسس العامّة، ومن هنا كان الأثر الأنثروبولوجيّ الرّمزيّ في مقاربتك لنصوص التّراث، وأنت تراها مقاربة محصّنة علميّاً تنأى عن مقاربات أخرى تعتبر أنّها قاصرة مثل المقاربة الإيمانيّة أو التّمجيديّة أو الوضعانيّة أو التّاريخانيّة أو غيرها من المقاربات، لذلك نلمس هذه القيمة الكبرى الّتي تعطيها إلى الأنثروبولوجيا وبالخصوص الأنثروبولوجيا الرّمزيّة الّتي تقف وراء المؤسّسات والمصنّفات.

د. بسّام الجمل: لقد كان ذلك هاجسي في أغلب ما كتبت، وحين أختار عيّنات للدّراسة التّطبيقيّة أحاول دائماً أن أنفذ من خلالها إلى وجود أبنية أو نسق ما، وأن أختبر تلك الأبنية من خلال نماذج تطبيقيّة، فعندما اشتغلت على سيرة فاطمة مثلاً، انطلقت منها بوصفها عيّنة لأختبر من خلالها العلاقة الجدليّة المعقّدة والمركّبة بين التّاريخ والمتخيّل الدّينيّ؛ أي كيف تقوم تلك العلاقة، وما هي أسسها وخلفيّاتها ومبرّراتها، وهل هي تنطلق من التّاريخ إلى المتخيّل، أم من المتخيّل إلى التّاريخ أم إنّها تسير في الاتّجاهين معاً. وفي سبيل تفهّم هذه القضيّة استفدت كثيراً ممّا كتبه جاك لوغوف (jacques le goff) (1924-2014) حول المتخيّل في العصر الوسيط الأوربيّ (l'imaginaire médiéval)؛ وقد حاولت في كتابي «ليلة القدر في المتخيّل الإسلاميّ» أن أخلص إلى التقنيّات والآليّات الّتي وظّفت في إنتاج المتخيّل الإسلاميّ، ومع ذلك فأنا لا أقدّم فيها قائمة نهائيّة مغلقة، فهي تبقى متاحة للإضافة والتّعديل والتّنسيب ولمزيد تجويد النّظر فيها، وقد كان ذلك دأبي في مقالات أخرى...

د. نادر الحمّامي: نذكر ههنا مقالك «في المتخيّل الدّينيّ» الّذي كان ضمن الأعمال المهداة إلى الأستاذ عبد المجيد الشّرفي، ولعلّه كان زبدة ما درستَ حول المتخيّل، وأنّه من أهمّ ما كتبتَ في النّقد النّظريّ؛ لأنّه يبيّن الوظائف الكبيرة للمتخيّل الدّينيّ، وأنت تراجع نفسك بنفسك من خلال البحث في تلك الوظائف وكيفيّة إنتاج المعنى من خلالها.

د. بسّام الجمل: صحيح، وما كان لي أن أكتب ذلك المقال لو لم أمرّ ببحوث تطبيقيّة، وقد يظنّ البعض أنّ البناء النّظري يأتي في البداية، ثم تأتي الأعمال التّطبيقيّة بعده، إلّا أنّني أؤكّد عكس ذلك تماماً، فنحن نختبر المادّة المعرفيّة وبعد ذلك نحاول أن نؤصّل لها نظريّاً؛ فما كان لي أن أقدّم تعريفاً للمتخيّل الدّينيّ لو لم أشتغل على نماذج تطبيقيّة وعيّنات متنوّعة، أذكر من بينها مثلاً رمزيّة اليد اليمنى في المتخيّل الإسلاميّ أو ليلة القدر أو فاطمة، وقد كتبت مقالات عن المسيح الدّجال، وأخرى في حركيّة العقائد الدّينيّة. وقد أسلمني ذلك كلّه إلى أن أفكّر وأكتب مقالاً نظريّاً حول المتخيّل الدّينيّ، وقد رتّبته على أقسام أساسيّة، وما لاحظته أنّنا لا نجد تعريفاً جامعاً مانعاً للمتخيّل الدّينيّ، وإنّما نجد إشارات تعريفيّة للمتخيّل عموماً، من قبيل ما كتبه جيلبار دوران (gilbert durand) (1921-2012) من أنّ «المتخيّل هو الرّأسمال الرّمزيّ للإنسان العارف (homo sapiens)»، وما قاله كاستورياديس (cornelius castoriadis) (1922-1997) من أنّ «المتخيّل هو القدرة على أن ترى في الشّيء ما ليس هو» كما نجد إشارات لدى ميرسيا إلياد (mircea eliade) (1907-1986) عن المتخيّل الدّينيّ في تاريخ الأديان. وقد أردت أن أستنبط تعريفاً ينطبق على مختلف الأديان التّوحيديّة وغير التّوحيديّة وعلى الفلسفات الدّينيّة التّأمّليّة. ولهذا، قلت إنّ المتخيّل الدّينيّ هو مجمل المنتجات السّيميائيّة اللّغويّة وغير اللّغويّة الّتي يصطنعها الإنسان الدّينيّ للكلام عن العالم المتعالي والمحايث من أجل الإجابة عن أسئلة البدايات والدّنيويّات والأخرويّات، بعضها أو جميعها. وقد كنت حذِراً في هذه الصّياغة؛ لأنّ هاجسي الأوّل كان أن يصلح هذا التّعريف، إن صلح، كي ينطبق على أوسع العائلات الدّينيّة الّتي نعرفها، سواء منها الأديان الميّتة أو الأديان المتطوّرة الرّاقية الموجودة اليوم، وهذا جعلني أحدّد أيضاً أهمّ خصائص المتخيّل، وكنت دائماً حريصاً على أن أنوّع الأمثلة وألّا أكتفي بالمجال الإسلاميّ، فقدّمت إحالات على الدّيانات المسيحيّة والبوذيّة والهندوسيّة وغيرها، حتّى أنسّب الأمور وأختبر الخصائص؛ لأنّ هناك بين الأديان قاع واحد أو مشترك دينيّ، وهي الفكرة الّتي أكّد عليها هانس كونج (hans küng (1928-2021) كثيراً. وقد بحثت من ثمّ عن أهمّ الوظائف الّتي ينهض بها هذا المتخيّل الدّينيّ والأصول المولّدة له، وأعتقد أنّ هذا أهمّ ما حقّقته في هذا المقال.

د. نادر الحمّامي: هذا المقال يبحث في الأصول المولّدة للمتخيّل الدّينيّ مثل «مقولة الكسل» و«مقولة التّلطيف»، ويقدّم إضافة فعليّة إلى البعد التّعريفيّ الّذي كان غائباً في الدّراسات حول المتخيّل. وقد أجريتَ فيه الكثير من المقارنات مع أديان أخرى انطلاقاً من المجال الإسلاميّ، ما يوحي بكونيّة المتخيّل الإسلاميّ، واندراجه ضمن المتخيّل الجمعي (اللّاشعور الجمعي) الّذي تحدّث عنه كارل غوستاف يونغ (carl gustav jung) (1875-1961) كثيراً. ألا ينفي هذا البعد الكونيّ خصوصيّة المتخيّل الإسلاميّ؟

د. بسّام الجمل: كلّ دين يرى أنّ الدّين الّذي سبقه ينتمي إلى مجال السّحر، ويرى أنّ عقائده باطلة وأنّها مجرّد بدع وهرطقات، لذلك فالخصوصيّة تبقى قائمة دائماً بين الأديان. ونجد أنّ ماكس فيبر يقول: «إنّ كلّ دين جديد لا يُكتب له النّجاح إلّا بغياب شرطين هما الدّين المُهيكل والدّولة»؛ أي أنّ كلّ دين جديد إذا نجم في مجال جغرافيّ تغيب فيه الكنيسة، بوصفها مؤسّسة وتغيب فيه الدّولة، فإنّه ينجحُ، والإسلام في العقود الأولى من القرن السّابع الميلاديّ نجم في إطار هذين الغيابين؛ أي غياب دولة في ظلّ نظام قبليّ متعدّد المظاهر، وغياب دين مهيكل أو «ممأسس». ومع أنّني حاولت دائماً أن أتجاوز مسألة الخصوصيّة، فإنّ ذلك لا يعني أنّني لا أعترف بها، فهي تبقى قائمة، ولكن الأديان جميعاً تشترك في المتخيّل، وقد طرح كاستورياديس هذه المسألة في كتاب (l'institution imaginaire de la société) ورغم أنّه ماركسيّ فقد أكّد أنّ المتخيّل هو محرّك التّاريخ، وأنّ الأبنية الاقتصاديّة والأبنية التّحتيّة لم تعد هي الّتي تبني التّاريخ، وهذا قول مهمّ جدّاً، ويدعو إلى التّفكر والتّفهّم والمتابعة النّقديّة، كما أنّه تساءل حول سرّ وجود الإله المتعالي وإيمان الإنسان به، وخلص إلى اعتبار أنّ الإنسان كائن دينيّ، وأنّه لم يعد حيواناً رامزاً أو كائناً متكلّماً كما في النّظريّة الأرسطيّة، وإنّما هو كائن يعتقد ويحبّ الاعتقاد مهما كان نوعه دينيّاً أو غير دينيّ، وأنّ وراء كلّ دين بناء اجتماعيّ كامل. ولذلك فأنا دائماً ما أقول هذا وأؤكّد عليه في أغلب ما أكتب، فالاجتماعيّ هو ما يحتضن الدّينيّ وليس العكس، بخلاف ما تدّعيه النّظريّة الكلاسيكيّة الإسلاميّة أو غير الإسلاميّة من زعم بأنّ الدّينيّ هو الّذي يحتضن الاجتماعيّ، وأنّه هو الّذي يوجّهه، وهذا غير صحيح، فيكفي أن ننظر مثلاً في مفهوم الخلافة الإسلاميّة كما ظهر لدى الماوردي ومن لحقه لنتبيّن عكس ذلك؛ أي إنّ الاجتماعيّ هو الّذي احتضن الدّينيّ. لذلك، علينا اليوم أن نقلب تلك المعادلة القديمة من أجل أن نحدّ من صلاحيّات رجال الدّين ومن مهامّهم، وحتّى نحدّ ممّا يسمّيه السّوسيولوجيّون «مجال التّصرّف في المقدّس».

د. نادر الحمّامي: لقد تحدّثت عن كاستورياديس الفرنسيّ من أصول يونانيّة، وكتابه المهمّ في هذه المسألة، ولعلّنا نجد لديه الهاجس المعرفيّ ذاته الّذي نجده لدى رودولف أوتو (rudolf otto) (1869-1967) حول فكرة المقدّس، مع اختلاف الإجابات بينهما، وربّما نجد ذلك أيضاً فيما توصّل إليه الرّومانيّ الشّهير في تاريخ الأديان ميرسيا إلياد. ألا ترى أنّ هذه البحوث حول المقدّس وحول الدّينيّ بقيت كلّها تدور في فلك البنيويّة، ولم تستطع تجاوزها بالبحث في المشترك بين الأديان الّذي ربّما قد ينفي الصّبغة الفرديّة؟

د. بسّام الجمل: ينبغي أن نضع هذه المؤلّفات في إطارها، فجلّ ما كتبه ميرسيا إلياد كان في الخمسينيّات والستّينيّات من القرن الماضي، وتلك الفترة كانت تمثّل عصر البنيويّة بامتياز، استناداً إلى ما ترسّخ من خلال السّرديّات البنيويّة مع دي سوسير (ferdinand de saussure) (1857-1913) والأنثروبولوجيا البنيويّة مع ليفي ستروس (levi strauss) (1908- 2009)، فكلّهم فكّروا بهذه الطّريقة البنيويّة الّتي تقوم على ثنائيّة الطّبيعة والثّقافة بشكل من الأشكال. وأنا أعتبر أنّ البنيويّة أدّت وظيفتها في تاريخ المعرفة وتاريخ الأفكار، وقد ظهرت بعدها مناهج أخرى، مثل الأنثروبولوجيا الرّمزيّة فيما كتبه غيلنر (ernest gellner) (1925-1995)، على سبيل المثال، في كتابه «مجتمع مسلم»، وما كتبه كليفورد غيرتز (clifford geertz) (1926-2006) في «تأويل الثّقافات» في بداية السّبعينيّات من القرن الماضي. ولعلّ قيمة الأنثروبولوجيا الرّمزيّة تكمن في أنّها لا تستنطق النّصوص، بل تعتبرها صامتة، لذلك قام هؤلاء بأعمال ميدانيّة، وقد أقام غيرتز، على سبيل المثال، عدّة سنوات في المغرب وأندونيسيا، وكان يتّصل بأهل الإيمان وبأصحاب العقائد وبالأولياء وبمن يزورون مقامات الصّالحين في المغرب.

د. نادر الحمّامي: وقد أقام هؤلاء الدّليل على أنّ الدّين والتّديّن هو من إنتاج المجتمع، وهذا ما ركّز عليه أيضا عالِم الاجتماع والإثنولوجيّ (ethnologue) يوسف شلحت (joseph chelhod) (1919-1994) في كتابه الوحيد الّذي كتبه في الأصل بالعربيّة حول «المقاربات الاجتماعيّة للظّاهرة الدّينيّة»، فما ينبغي التّفكير فيه أساساً هو أنّ المجتمع هو الّذي يصنع أشكال تديّنه.

د. بسّام الجمل: ولهذا، فغيرتز نفسه يقول إنّ علماء الأنثروبولوجيا الرّمزيّة يرون الإسلام من تحت وليس من فوق؛ أي إنّهم لا يرونه من خلال النّصوص لأنّ النّصوص لا تتكلّم، فإذا أردت أن تفهم الدّيانات في مجالها الحيّ والمركّب وفي اتّصالها بأحوال العمران وفي تلبّسها بنفسيّات البشر، فينبغي أن تعايش هؤلاء؛ أي أن تمارس تلك التّجربة عن قرب وبشكل مباشر، حتّى تفهم لماذا يقوم المتديّنون بالاحتفالات الدّينيّة مثلاً، فلا شكّ في أنّ هناك أسباباً معيّنة تكمن وراء ذلك، وهؤلاء قد لا يجيبونك حين تسألهم عنها لأنّهم لا يعرفونها، وإنّما هم يمارسون تلك الاحتفالات من باب التّقليد الدّينيّ الرّاسخ والعادات الّتي درجت على اتّباعها المجموعة الّتي يعيشون ضمنها. ولكن علماء الأنثروبولوجيا يقومون بقراءة تلك الاحتفالات الدّينيّة الجمعيّة، ويستنتجون أنّ دورها الأساسيّ هو تبديد قلق الإنسان الدّينيّ وغير الدّينيّ.

د. نادر الحمّامي: القلق في دراساتك يرتبط بأمرين وجوديّين أساسيّين، كأنّهما أصل هذه الأديان، هما سؤال المصير وسؤال البدايات، وهما سؤالا الدّين الحقيقيّان.

د. بسّام الجمل: نعم، وأنا أرى أنّ المتخيّل سيبقى قائماً، باعتباره أساساً للأديان مادام هناك زمان وما دامت هناك حقيقة الموت؛ لأنّ أسئلة الإنسان الكبرى هي هذه، ولأنّ الإنسان في بحث متواصل عن المعنى وراء ما لا يستطيع أن يفسّره من ظواهر، لذلك فوجه الاختلاف بين الأديان والعلم أنّ العلم قد يجد من الظواهر ما لا يستطيع الإجابة عنها، ولكن الأديان في المقابل تقدّم إجابة مطمْئنة حول جميع تلك الظّواهر، والإنسان يرتاح لذلك تماماً، ويقتنع أنّ تلك الإجابات توفّر له المعنى، وهذا ما يطلبه؛ لأنّ رغبته من الوجود هي أن يعيش في عالم منظّم، وأن يقف على المعنى من ورائه، وإذا تحقّق له ذلك فهو يكفيه.

مداخل للنّظر في علوم القرآن

د. نادر الحمّامي: لذلك لم يعد هذا المتخيّل زائفاً كما تعتبر الفلسفة الوضعانيّة، وطالما أنّه ينتج المعنى وعلى أساسه تتشكّل المجتمعات فهو جدير بالدّراسة. ولعلّ ما قادك إلى دراسة المتخيّل هو الفصل الأخير من أطروحتك، الّذي طرحت فيه «علاقة المتخيّل بأسباب النّزول»، فكأنّك مزجت بين المتخيّل وعلم من علوم القرآن، ومن ثمّ كان اعتبارك أنّ أسباب النّزول صناعة، كيف تبيّن ذلك؟

د. بسّام الجمل: ينبغي تنسيب الأمر في أخبار أسباب النّزول، لأنّ الصّناعة لا تنطبق على كافّة الأخبار، ولكن لا شكّ في أنّ هناك أخباراً مصنوعة، وما كان لي أن أخوض في هذا المبحث لو لم ألاحظ أمراً لافتاً للانتباه، وهو أنّ عدد أخبار النّزول يختلف من مصدر إلى آخر، وأحياناً في مصادر يتزامن أصحابها في التّاريخ، لذلك طرحت السّؤال عن سبب هذا الاختلاف، هل يعني أنّ الرّازيّ مثلاً ذكر تفسيراً لم يكن يعرفه الطّبري والمفروض أن يكون الطّبريّ تاريخيّاً هو الأقدر على معرفة هذه الأسباب. وعدد أسباب النزول يزيد وينقص حسب العصور، فليس هناك خطّة أو مسار معيّن يمكن استنطاقه أو تتبّعه، وكان قد ألحّ عليّ السّؤال: ألا يمكن أن تكون العديد من أخبار أسباب النّزول إنتاجاً بعديّاً؛ أي إنّها ظهرت بعد انتهاء الوحي المحمّديّ وانتهاء عصر الدّعوة؟ وهو ما جعلني أنكبّ على دراسة الأخبار في مظانّها في كتب التّفسير وفي مجاميع الحديث النّبويّ وفي الكتب المختصّة بعلم أسباب النّزول وفي كتب السّيرة النّبويّة، وأن أدرس هذه الخطابات دراسة لغويّة وأقارنها بمدلول الآيات، وأن أقارن بين النّصوص وبين السّياقات المختلفة للخبر الواحد، وقد أسلمني ذلك كلّه إلى وجود عدّة أخبار من أسباب النّزول موضوعة، وقد وضعها الرّواة لمقاصد شتّى، اجتماعيّة وسياسيّة، جداليّة وفرقيّة ومعرفيّة، لأنّ هناك أمراً مهمّاً جدّاً، وهو أنّ هذه المادّة المتعلّقة بأسباب النّزول توفّر ما لا يوفّره النّصّ الأصليّ؛ أي تاريخ الوحي الّذي لا يمكن أن نقرأه بترتيب السّور والآيات مثلما استقرّ عليه الأمر في القرآن وفي المصحف. ولذلك، فقد كنت أكرّر القاعدة حتّى مع طلبتي، وأقول لهم إنّه كلّما سكت النّصّ الدّينيّ تكلّم أهل التّفسير وأهل القصص والأخبار، ولعلّهم كانوا يريدون سكوت النّصّ؛ لأنّ السّكوت يتيح لهم إمكانات واسعة لقول ما لم يصرّح به النّصّ، ولذلك فهذه الصّناعة لها قرائن، وقد تتبّعتها ووقفت على وظائفها وأهمّ دلالاتها.

د. نادر الحمّامي: هذا الفهم هو ما جعلك تضيف فصلاً في نهاية أطروحتك سمّيتــه «علوم القرآن في الإبســتميّة المعاصرة: أيّ أفق لتحديثهـا؟»، وقد حدّدت ضمنه ثلاثة مواقف قمت بتسليط النّقد عليها؛ الموقف الأوّل سمّيتـــه «موقف الاســـتمرار والاجترار»، وهو موقف يقوم على ترديد ما استقرّ عليه النّظر والعمل في السّياق المعرفيّ القديم، ومثّلت عليه بما كتبه صبحي الصّالح «مباحث في علوم القرآن». أمّا الموقف الثّاني، فهو الّذي أهمل النّظر في علم أسباب النّزول إهمالاً تامّاً وقد نقدت ذلك لدى غوستاف فايل (weil gustav) (1808-1889) في كتابه «مقدّمة تاريخيّة نقديّة للقرآن»، ومن بعده لدى نولدكه (theodor nöldeke) (1836-1930) في أطروحته حول «تاريخ القرآن»، أمّا الموقف الثّالث الّذي توسّعت في تناوله، فكان الموقف الّذي دعا إلى تجاوز الموقفين السّابقين؛ التّمجيديّ والوضعيّ (positiviste)، وقد اهتممت فيه بنصر حامد أبو زيد (1943-2010) من خلال كتابه «مفهوم النّصّ»، إلى جانب علي أومليل (1940) ومحمد عابد الجابري (1935-2010). وقد اعتمد أبو زيد على أسباب النّزول لبيان أنّ آية ما نزلت في سياق مخصوص، وتحدّث عن عموم السّبب وخصوص اللّفظ، فهل تعتبر ذلك منهجاً صارماً ودقيقاً بحيث يمكن تطبيقه بوضوح؟

د. بسّام الجمل: إنّ ما قاله نصر حامد أبو زيد مهمّ جدّاً؛ لأنّه عوّل على منهج تحليل الخطاب، وركّز على هذا الجانب، ولكن نحن نعرف أنّ هناك مسلّمة في علوم القرآن قديماً، وهي أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب؛ فالآية قد تنزل في سبب مخصوص، ولكن ذلك السّبب يمكن تجاوزه لتنطبق الآية على الحالات الّتي تضارعه، وفي هذا الاتّجاه سار القدماء. لقد أراد نصر حامد أبو زيد أن يدرس أخبار أسباب النّزول في بنيتها اللّغويّة أساساً، لذلك كان مدخله تحليل الخطاب، وقد صدر كتابه في بداية التّسعينيات وكان مهمّاً جداً في سياقه. وهذا التوجّه مرتبط بما كان معروفاً في الاستشراق الكلاسيكيّ الألماني الّذي درس علوم القرآن (qur'anic studies) من منظور آخر مغاير هو المنظور الفيلولوجيّ، مع نولدكه ومع ريجيس بلاشير (régis blachère) (1900-1973) من بعده، وهو يتمثّل في محاولة فهم النّصّ بالاكتفاء بالنّصّ وحده دون النّظر إلى العلوم الثّواني الحافّة به، ولذلك قلت إنّ هذا التّوجّه همّش تلك العلوم.

د. نادر الحمّامي: ولكن ذلك بقي نظريّاً؟

د. بسّام الجمل: نعم، لقد حاول نولدكه أن يطبّق ذلك، ولكنّه واجه صعوبات وقد أقرّ بها، وحتّى تلاميذه الّذين أعادوا صياغة تاريخ القرآن، مثل أوتو برتزل (otto pretzl) (1893-1941) وردولف أوتو وغيرهما، وقد حاولوا جميعاً أن يتداركوا ما فات أستاذهم الّذي عمل على تقسيم الوحي إلى أربع فترات؛ ثلاث منها مكّية، وفترة مدنيّة، وقسّم سور المصحف إلى أربع مجموعات كبرى، وهي: الوحي المكّيّ الأوّل والوحي المكّيّ الثّاني والوحي المكّيّ الثّالث، وبحث في السّمات المشتركة، وبين أنّ غرض التّوحيد مثلاً يغلب على المرحلة المكّيّة الأولى في حين يغلب على المرحلة المكّيّة الثّانية الكلام عن الثّواب والعقاب والجزاء، بينما تغلب الأحكام التّشريعيّة على المرحلة المدنيّة... ولو نتّأمل في ما قام به نولدكه، فسوف نلاحظ أنّه لا يختلف كثيراً عمّا ذكره ابن النّديم (ت 384هـ) في «الفهرست»، أو ما ذكره المسعوديّ (283هــ-346هــ) في «مروج الذّهب» عندما تكلّم عن ترتيب سور المصحف ترتيباً تاريخيّاً من خلال مصحف الإمام علي. فهذا موجود في كتب التّراث ولكنّ الاستشراق الكلاسيكيّ ادّعى ذلك في إطار محاولة دراسة النّصّ القرآنيّ اعتماداً على النّصّ ذاته دون سواه. ولكن هذا الاكتفاء بالنّصّ واجه صعوبة في الممارسة العمليّة ما جعل الدّارسين غالباً ما يذهبون للاستعانة على النّصّ بكتب السّيرة وكتب الحديث وغيرها.

د. نادر الحمّامي: هذا هو مكمن الاختلاف في دراسة العلوم القرآنيّة، وهو ما سنأتي إليه لاحقاً. ولكن هدف الاستشراق، إضافة إلى الدّاعين إلى مراجعة نقديّة للتّراث مثل أبو زيد والجابري، من وراء دراسة أسباب النّزول، يتلخّص في أمرين هما؛ تجديد الفكر الدّينيّ أوّلاً، والبحث في مقاصد القرآن لمقاومة العنف، ثانياً، وهي أهداف نبيلة ولكنّ الأمر يختلف علميّاً. ولعلّ الخطأ الّذي وقعت فيه هذه الدّراسات كلّها هو أنّها بقيت في إطار الإبستميّة القديمة في جانب مهمّ وهو وحدة السّورة، وقد بحث أصحابها عن ترتيب تاريخيّ للقرآن، واعتمدوه على هذا الأساس، ولم يتخلّصوا جميعهم من هذه المعضلة، ونحن نعلم أنّ هناك تداخلاً بين المكّيّ والمدنيّ، وأنّ التّرتيب الموجود في المصحف ليس هو التّرتيب التّاريخيّ، فهل من حلّ لتجاوز مسألة وحدة السّورة؟

د. بسّام الجمل: هناك إشكال كان قد طرحه محمّد أركون منذ عقود، وهو يقول إنّ النّصّ الّذي وصل إلينا اليوم، وبالهيئة الّتي استقرّ عليها يجعلنا أمام أمر مستحيل، وهو أن نعرف تاريخ الوحي؛ إذن فقد ضاع هذا الأمر إلى الأبد، وليس بالإمكان استرجاعه، ولكنّ الباحث لا يجب أن يقف عند هذا الحدّ وهذا شرط أساسيّ. لقد أشرت منذ حين إلى ما يريد أن يصل إليه نصر حامد أبو زيد أو الجابري في ما كتبا، ولكن أعتقد أنّ البحث الحقيقيّ هو ألّا يضع الباحث نتائج بشكل مسبق، ثمّ بعد ذلك يضع خطّة كي يصل إلى تلك النّتائج، فالباحث الحقّ في تقديري هو الّذي يطرح السّؤال ويخوض مغامرة البحث دون أن يعرف بشكل مسبق ما هي النّتائج المفترضة الّتي سيصل إليها، لذلك فعلى الباحث أن ينطلق دائماً من فرضيّات بحث، ويطرحها للمناقشة والسّؤال، وربّما يصل من ثمّ إلى استنتاجات ونتائج لم يكن قد توقّعها في البداية، ولذلك عندما يخرج الجابريّ على النّاس بكتابه في تفسير القرآن بأجزائه الثّلاثة، ويقول إنّ لآيات المصحف كلّها أسباب نزول، فهذا غير صحيح، وقد بيّنت في أطروحتي أنّ تسع أعشار آيات المصحف ليس لها أسباب نزول؛ وذلك يمثّل الأغلبيّة السّاحقة للنّصّ. وحتّى لدى السّيوطيّ، نجد أنّه يذكر أنّ نصف عدد آيات المصحف لها أسباب نزول، وهو الوحيد الّذي ذكر ذلك، ولكنّ البحث يثبت أنّ عدد الآيات الّتي لها أسباب نزول معروفة أقلّ بكثير ولا يتجاوز العشرة بالمئة آخذاً بالاعتبار ما ورد لدى المفسّرين جميعهم، ولا أدرى إن كان الجابريّ قد اطّلع على هذا الكتاب الّذي صدر سنة 2005 وقد نشر كتابه في تفسير القرآن سنة 2009 تقريباً. ولهذا أرى أنّه لا يمكن اليوم أن نضع للنّاس تفاسير قرآنيّة لا تأخذ في الاعتبار هذه المعطيات، فلا يمكن أن نستمرّ في تفسير القرآن بالمنهجيّة القديمة، وأن نعتبر أنّ مرويّات أخبار أسباب النّزول مقدّمة من مقدّمة التّفسير، فقد كان هذا الأمر مقبولاً في إبستميّة العصر الوسيط الإسلاميّ، ولكنّه لم يعد مقبولاً اليوم؛ لأنّ منهجيّة التّفسير الّتي خطّها الطّبريّ واستقرت معالمها بداية من القرن الثّالث الهجري هي الّتي فرضت نفسها على كلّ التّفاسير اللّاحقة، ولكن اليوم يمكن أن نضع التّفاسير القرآنيّة حسب الأغراض؛ أي أن نأخذ الآيات الّتي موضوعها الأحكام مثلاً، ونجمعها في حزمة واحدة، ويمكن أن نفعل الأمر نفسه بالنّسبة إلى الآيات الّتي فيها تراتيل أو تسابيح، أو أن نجمع الآيات المتعلّقة بالسّيرة إلى بعضها مثلاً.

د. نادر الحمّامي: أحياناً تكون النّوايا طيّبة، ولكن نحن ننظر إلى المسائل من الزّاوية العلميّة، وأذكر هنا مثالاً كثير الورود عند بعض من يتبنّون فكر الحداثة وجدل التّنزيل وعلاقة المجتمع القرآنيّ بمجتمع الدّعوة وعلاقة البشريّ بالإلهيّ إلى غير ذلك... المثال البارز على ذلك هو ما يسمّى موافقات عمر أو اجتهاداته، وقد اعتمدها نصر حامد أبو زيد لبيان أنّ الأحكام متغيّرة، وأنّ فيها ما هو بشريّ، ولكنّه لم ينتبه إلى أنّ هذه الموافقات أو الاجتهادات الّتي نجدها في كتب التّفسير وفي كتب علوم القرآن قد تكون محض صناعة، وأنّها قد تدخل في باب فضائل عمر، ولذلك ففي أحيان كثيرة قد لا تكون هذه النّوايا الطّيّبة علميّة في النّهاية، وهذا مشكل حقيقيّ.

د. بسّام الجمل: صحيح، وحتّى موافقات عمر فهي مكتوبة في الكتب الّتي تحتفي بفضائل عمر ومناقبه، فعندما نفتح كتاباً من كتب الحديث أو غيرها سنجد أنّ هناك باباً في الآيات الّتي وافقت الجُمل الّتي قالها عمر، والتي وافق فيها كلامه الوحي، وقد بيّنتُ هذا في كتابي حول «الإسلام السّنّيّ»، ولعلّ هذا قد يكون مطعناً في صدقيّة الوحي. والسّؤال ههنا هو كيف يذكر القدامى أمراً يمكن أن يطعن في الوحي أو يبيّن سلبيّة الرّسول في تقبّل الوحي؟ هذا مرتبط بالذّهنيّة القديمة الّتي تراكم الأخبار وترويها على علّاتها ولا تتحرّى فيها، وأحياناً هناك أخبار تنفلت من رقابة المؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة. لابدَّ أن نستحضر أيضاً، أنّ هناك دائماً إنتاجاً بعديّاً، فالنّصّ عندما يستقرّ يتمّ الخوض فيه ويُركّب عليه الكثير من الأخبار لغايات شتّى؛ سياسيّة ودينيّة واجتماعيّة ونفسيّة واعتقاديّة... هذا وارد وممكن، وهو أمر منتظر لأنّ النّاس يمارسون النّصّ، وهم خاضعون لمؤثّرات متداخلة ومعقّدة ومركّبة، ومن يفسّر النّصّ هو متأثّر بانتمائه المذهبيّ وبانتظارات قرّائه وبآفاقهم الذّهنيّة وبإكراهات الواقع التّاريخيّ وبالضّوابط الّتي استقرّ عليها ذلك النّصّ وبأحوال العمران والمعيش، وحتّى بمزاجه الذّاتيّ. هذه أمور مهمّة جدّاً تتسرّب إلى التّفسير، ولا يغرّنا ذلك التّشابه الّذي تبدو عليه التّفاسير القديمة، فهي في الظّاهر كذلك، ولكن عندما نمعن فيها النّظر ونتفحّصها جيّداً، فإنّنا نفطن إلى الكثير ممّا تسرّب إليها.

د. نادر الحمّامي: ألا يمكننا مقاربة علوم القرآن بمعزل عن القرآن نفسه، نحو تأسيس إبستميّة معاصرة جديدة لمقاربة علوم القرآن، هذه العلوم الّتي تشكّلت في كتب منفردة وكتب جامعة؟ بمعنى أن نتعامل معها، كأنّها من باب التّاريخ أو مجرّد الأخبار، وأن ندرسها باعتبارها حكايات مرتبطة بانتظارات أصحابها وبناهم الذّهنيّة أكثر من ارتباطها بالنّصّ. ولأنّ التّفسير يبحث دائماً عمّا يريده مفسّر النّصّ، فالمصنّف يخرج من المجتمع وليس من النّصّ الّذي يفسّره، وهكذا يمكن القول اعتماداً على نظريّات التّلقّي والانتظار أنّ علوم القرآن قائمة بمعزل عن القرآن.

د. بسّام الجمل: هذا يقتضي استحضار البيئة الّتي أفرزت هذه العلوم؛ ذلك أنّ النّواة الأولى لأخبار أسباب النّزول كانت مرويّات شفويّة تذاع في مجالس القصّاص والإخباريّين بين صلاتي المغرب والعشاء في عصر التّابعين وما بعد التّابعين، حيث كان ينتصب شخص يقصّ على النّاس أخبار أسباب النّزول في شكل قصصيّ سرديّ إنشائيّ، وربّما كان يستغلّ في ذلك سينوغرافيا المكان والفضاء والظّلمة، ليروي لهم ما لذّ من قصص العجيب والغريب. لقد كانت هذه نواة التّشكّل الأولى لأخبار أسباب النّزول، وهذا ما تؤكّده أدبيّات السّيرة النّبويّة، ولهذا نفهم سبب وجود جزء كبير من أخبار أسباب النّزول في كتب السّيرة، ولهذا السّبب نجدها أيضاً في كتب الحديث على اختلافها.

د. نادر الحمّامي: هل أنّ السّيرة كانت هي نواة التّفسير أم أنّ التّفسير هو الّذي شكّل ما وصلنا من السّير بداية من ابن إسحاق؟

د. بسّام الجمل: إن بدايات السّيرة النّبويّة انطلقت من محاولة الإجابة عن سؤال حيّر المسلمين القدامى، وخاصّة جيل التّابعين، هذا السّؤال متّصل بمغازي النّبي، وقد طرح يوسف هوروفيتس (josef horovitz) (1874-1931) هذه المسألة في كتابه «المغازي الأولى ومؤلّفوها»، وقال إنّ السّؤال الّذي طرحه المسلمون القدامى هو لماذا انهزم المسلمون في أُحد؟ ولماذا لم يتدخّل الله لنصرة المسلمين مثلما تدخّل لنصرتهم في معركة بدر؟ ههنا بدأ الخوض في السّيرة، وتاريخ كتابة السّيرة النّبويّة، كما يقول محمّد حميد الله (1908-2002)، قد بدأ من المغازي أوّلاً، ثمّ بعد ذلك وقع الانتباه إلى سيرة النّبيّ؛ ميلاده وطفولته وشبابه وزواجه بخديجة واشتغاله بالتّجارة وعلاقته بالوحي وبالمفارق وتبليغ الرّسالة. لقد تمّ الاهتمام بذلك كلّه بعد الخوض في المغازي، بصفة متزامنة تقريباً مع جيل التّابعين؛ لأنّ الّذين كانوا شهوداً على الوحي من جيل الصّحابة كانوا قد ماتوا واندثروا. ولم يكن الجيل الثّاني؛ أي التّابعين، يعرف حيثيّات التّنزيل، لذلك كانت المباحث الّتي خاضوا فيها تعنى بالأسباب؛ من قبيل التّساؤل عن سبب نزول آية ما في شخص ما وفي سياق محدّد وفي إطار زمانيّ ومكانيّ بعينه؛ ذلك أنّ القرآن بوصفه خطاباً لا يقدّم إجابات عن ذلك كلّه، فالنّصّ الدّينيّ ليس كتاب تاريخ في النّهاية. ولهذا التمس التّابعون مادّة من خارج النّصّ، وما هداهم إلى ذلك هو أنّهم تعاملوا مع الآيات تعاملاً مخصوصاً نتج عنه، شيئاً فشيئاً، تراكم في الأخبار الّتي راجت في إطار المجالس بشكل شفويّ، ومن طبيعة الخبر الشّفويّ أنّه متغيّر ومتحوّل في بنيته السّرديّة وفي مضمونه وحجمه ومداه وعدد رواته وفي صيغه، وهو لا يستقرّ إلّا حين يتمّ تدوينه. وتذهب أكثر الأقوال إلى أنّ الطّبريّ أملى تفسيره المتضمّن لأخبار أسباب النّزول في حدود سنة (270هــــ). وقد توصّلتُ، من خلال دراستي للخطاب الشّفويّ المدوّن في كتاب «جامع البيان»، إلى أنّ الطّبريّ كان قد أملى تفسيره على تلاميذه من مصادر مكتوبة، ولكن هناك جانب شفويّ موجود، وما فعله الطّبري هو أنّه ثبّت الأخبار الّتي كانت رائجة شفويّاً، ولعلّه في تفسير آية من الآيات يجد نفسه أمام مئة خبر شفويّ، فيقتصر على ذكر عشرة منها على سبيل المثال، ويُهمل البقيّة ليكون مآلها النّسيان والاندثار. ولهذا، فالذّاكرة لا تحفظ إلّا المكتوب ولا تهتمّ بالجزئيّات، وحتّى الدّراسات العلميّة الحديثة تؤكّد أنّ الذّاكرة تنسى، بعد مضيّ أربعين سنة تقريباً، الكثير من الجزئيّات وتلغيها وتخرجها من دائرة اهتمامها.

د. نادر الحمّامي: هل السّيرة هي الّتي خدمت التّفسير أم أنّ التّفسير هو الّذي خدم السّيرة؟

د. بسّام الجمل: لقد كانت السّيرة من موادّ تفسير القرآن، فهي أسبق من حيث تاريخ العلوم، ولذلك نجد موادّ التّفسير في مرويّات السّيرة، تنظّم بطريقة معيّنة وفق متطلّبات الخطاب، فأخبار أسباب النّزول والنّاسخ والمنسوخ واللّغة... كلّها مداخل ومقدّمات يتمّ توظيفها من أجل التّأويل، وما يأتي في المرحلة الأخيرة هو التّفسير أو الوصول إلى المعنى الممكن الّذي يُعتقد أنّ الله أراده من قوله وتنزيله، فهي علوم آلة وأدوات فحسب.

مقاربات في الدّراسات القرآنيّة

د. نادر الحمّامي: هذه العلوم الآلة قد تمّ توظيفها في كتب علوم القرآن بمباحثها الجزئيّة، ذلك أنّ الدّراسات القرآنيّة، الّتي أصبحت مبحثاً مهمّاً وخاصّاً ومستقلّاً منذ إنجيلها الأوّل «تاريخ القرآن» لتيودور نولدكه في القرن التّاسع عشر (1860)، لم تستطع أن تتجاوزها. فقد بدأ الكتاب في قسمه الأوّل بإطلالة حول سيرة النّبيّ ومصادر معرفته ومصدر الوحي، ولم يتخلّص بذلك من السّيرة والتّفسير وكتب الحديث. ولكن هذا الارتباط تقلّص شيئاً فشيئاً مع مرور الزّمن، لتستقيم الدّراسات القرآنيّة (qur'anic studies) باعتبار أنّها تدرس المصحف أساساً وتراه نصّاً كما في المقاربات الأدبيّة والفيلولوجيّة، وتبحث فيه في إطار العصور القديمة. ونظراً إلى أنّ هذا يمثّل قسماً من اهتماماتك البحثيّة، ألا ترى أنّ الدّراسات القرآنيّة لم تتخلّص من تلك المباحث الفيلولوجيّة والتّاريخيّة على اختلاف توجّهاتها، رغم تطوّرها منذ ذلك الوقت إلى اليوم؟

د. بسّام الجمل: ينبغي أن نضع هذه المسألة في إطارها المعرفيّ، وأن نميّز بين طورين كبيرين في الاستشراق، هما الاستشراق الكلاسيكيّ مع نولدكه وبلاشير بالأساس، ثمّ الاستشراق الجديد الّذي أنتج دراسات مهمّة خاصّة في سبعينيّات القرن الماضي مع وانسبرو (john wansbrough) (1928-2002)، ولكنّ الإشكال في المجال الثّقافيّ العربيّ أنّ كتاب نولدكه الّذي كتب في 1860 لم يترجم إلى العربيّة إلّا بعد أكثر من قرن (144 سنة)، وهذا يعبّر عن فجوة تخلّف كبرى، وهو ظاهرة محيّرة جدّاً وتعكس حجم التّأخّر المعرفيّ للعرب والمسلمين. وقد كتب في الدّراسات القرآنيّة، إضافة إلى وانسبرو، باتريشيا كرون (patricia crone) (1945-2015) ومايكل كوك (michael cook) (1940)، رغم أنّ هناك مآخذ كثيرة على هذين الأخيرين، ولكن هناك أيضاً مقالات مهمّة صدرت في مجلّات متخصّصة منذ بداية السّبعينيات، مثل ما كتبه جيمس بيلامي (james a. bellamy) (1925-2015)، وهو غير معروف كثيراً، وهناك تحقيقات فيلولوجيّة مهمّة جدّاً كتبها هذا الرّجل. وأعتقد أنّ الدّراسات القرآنيّة في الاستشراق الجديد هي الّتي تستحقّ التّوقف عندها، لأنّها لم تعد تدرس النّصّ الدّينيّ في كلّيّته، وإنّما تأخذ بعض الآيات والألفاظ وتهتمّ بالمعجم. ولكن هذا المرور من نولدكه إلى وانسبرو لم يحدث هكذا فجأة، بل تخلّلته محطّات أخرى كانت بمثابة الجسر الواصل بين هذين الطّورين، مثل ما كتبه ألفونس منجانا (alphonse mingana) (1878-1937) (syriac influence on the style of the kur'an) سنة 1927، وقد درس الأصل السّريانيّ للألفاظ القرآنيّة، وما كتبه آرثر جيفري (arthur jeffery) (1892-1959) (the foreign vocabulary of the qur'ân) سنة 1938، وهي كتابات مهمّة جدّاً ولكنّها لم تلق عناية من الدّارسين المتخصّصين، وأهملت لعدّة عقود، ولم يقع الالتفات إليها إلّا مؤخّراً، حتّى إن كتاب آرثر جيفري لم تقع ترجمته إلى اليوم، وربّما ذلك يعود إلى أنّه من الكتب صعبة التّرجمة، فهو يأخذ الكلمة ويتتبّعها في مختلف اللّغات؛ الأثيوبيّة والحبشيّة والسّريانيّة والآراميّة والعبريّة، وهذا ما يجعل ترجمته صعبة جدّاً، ويطرح شرطاً أساسيّاً

في الدّراسات القرآنيّة المعاصرة، وهو أن يكون الباحث متمكّناً من اللّغات الأجنبيّة، والحال أنّنا اليوم في المجال العربيّ المعاصر نفتقد إلى باحثين متخصّصين في السّريانيّة والآراميّة وفي اللّغات الساميّة عموماً، ولا يمكن للمتخصّص في الدّراسات القرآنيّة أن يخوض في هذا المجال ما لم يكن مطّلعاً على هذه اللّغات ومتمكّناً منها.

د. نادر الحمّامي: لذلك انطلق نولدكه في تخصّصه من اهتماماته اللّغويّة، فقد كان باحثاً في اللّغات السّاميّة.

د. بسّام الجمل: هناك شروط معرفيّة ضروريّة، ينبغي أن يكتسبها الدّارس أو المتخصّص في الدّراسات القرآنيّة، وهي أن يكون له اطّلاع علميّ واسع ومعرفة باللّغات، وعليه أن يكون عارفاً بها كتابةً ومتقناً لها قراءة، حتّى وإن لم يكن يتكلّمها. ومع ذلك يبقى المشكل الحقيقيّ في الدّراسات القرآنيّة هو غياب جسور للتّواصل المعرفيّ بين مختلف الباحثين، فما يكتبه يوسف الصّدّيق (1943) وما تكتبه جاكلين شابّي (jacqueline chabbi) (1943) وما يكتبه فرد دونر (fred donner) (1945) ينعدم فيه التّواصل المعرفيّ بين هؤلاء، ولا نجد استفادة اللّاحق من السّابق، فيوسف الصّدّيق على سبيل المثال، يخوض في المعجم الدّخيل، وأساساً، في المعجم اليونانيّ، لكنّه لا يستحضر ما قاله آرثر جيفري في هذا المجال.

د. نادر الحمّامي: إذا كانت هناك هذه النّزاعات الفيلولوجيّة حول البحث في أصول بعض الكلمات في اليونانيّة أو السّريانية أو الآراميّة أو غيرها، فهل هي من منطلق أنّ تلك الكلمات تمتلك أصولاً فعليّة في تلك اللّغات، أم إنّ الأمر لا يعدو أن يكون سوى دفاعاً مسبقاً عن نوع من الاشتراك الحضاريّ أو التّثاقف أو حتّى الصّراع والجدل بين الثّقافات؟ وهل عدم وجود جسور بين الباحثين في هذا المجال يعود إلى أنّ كلّ باحث يشتغل في جزيرة معزولة عن الآخر، أم أنّه محكوم بدافع عدم الاتّفاق لاعتبار أنّ الأصل في لغة بعينها من هذه اللّغات وليس في لغة غيرها؟

د. بسّام الجمل: يؤكّد البحث الفيلولولجيّ دائماً على وجود عائلات لغويّة يقوم بينها تقاطع مردّه إلى التأثّر والتّأثير المتبادلين فيما بينها، وهناك سلسلة نسب لكلّ كلمة في اللّغة العربيّة في لغات أخرى كالعبريّة أو السّريانيّة أو الآراميّة. والدّراسات القرآنيّة، في اشتغالها على المصحف، تنطلق من فرضيّات أنّ القرآن الأصليّ له نسخ سريانيّة آراميّة مثلاً، أو أنّ الكلمة القرآنيّة لا يمكن أن تُفهم إلّا بالعودة إلى معناها في اللّغة اليونانيّة أو غيرها. ولكنّ الصّعوبة الحقيقيّة تكمن أنّها تشترط وجود أدوات مادّيّة من مصاحف قديمة ورقوق يمكن أن تشتغل عليها، مثل مصاحف صنعاء أو مجموعة منجانا في جامعة بيرمنغهام في إنجلترا، وهي مصاحف قديمة جدّاً ويقع التّعامل معها علميّاً باعتماد الكربون عدد 14، الّذي يقدّم تاريخ الرّقّ ولكنّه لا يقدّم تاريخ الخطّ، وهذا مشكل، أضف إلى أنّه يحمل هامش خطأ يقدّر بتسعين سنة تقريباً، ولكن هذه التّحاليل العلميّة للمخطوطات القديمة تبقى مهمّة جدّاً، وتؤكّد دائماً على وجود فرضيّة بحث تقول إنّ هذا النّصّ القرآنيّ له أصل معيّن.

د. نادر الحمّامي: ربّما هذا ما قاد الدّراسات القرآنيّة مؤخّراً إلى الحديث عن «قرآن الحجر» (le coran de prière) للبحث عن المادّيّ الّذي لا يتوفّر في معظم الأحوال.

د. بسّام الجمل: نعم، فالعبارة القرآنيّة موجودة في المنقوشات أو النّقوش في الجزيرة العربيّة، كتلك الّتي وجدت في اليمن، كما في الرّقوق والمصاحف القديمة، ولكنّ الإشكال في الدّراسات القرآنيّة اليوم هو أنّ هذه الاختلافات الّتي تشقّ أعمال الباحثين لم تحظ بإجماع النّخبة العلميّة، فهي تبقى فرضيّات عمل، لذلك اختلف الدّارسون في تقييم ما قام به لوكسنبرغ (christoph luxenberg) على سبيل المثال، فانتصر له البعض وانتقده البعض الآخر، ولعلّ الأمر نفسه كان قد وقع مع وانسبرو، ولو بشكل آخر، ورغم ما طاله من انتقاد فإنّنا نشهد اليوم وقوفاً على قيمة ما كتبه حين بحث في القصص القرآنيّ وأعاد ترتيب الآيات من سور مختلفة واستخرج نسقاً في القرآن حول قصّة النّبيّ شعيب. ونلاحظ اليوم، أنّ هناك عودة إلى تلك الكتب بغرض الاستفادة منها بعد أن استُهجنت ولقيت نقداً كبيراً وشديداً من قبل الدّارسين.

د. نادر الحمّامي: وخاصّة من قِبل المدرسة الألمانيّة ممثّلة في أنغليكا نويفرت (angelika neuwirth) (1943) وتلامذتها الّذين يؤكّدون، في نوع من المقاربة الأدبيّة، على وحدة سور القرآن وأنّ فيها مقدّمة وجوهراً وخاتمة. وبالعودة إلى مسألة الفيلولوجيا، فقد كنتَ قدّمت محاضرة مهمّة حول ما سمّيته التّنازع بين القراءة والفيلولوجيا، فماذا تقصد بهذا التّنازع؟

د. بسّام الجمل: هذا التّنازع، وهو الّذي سمّيته أيضاً في عنوان فرعيّ ضمن المداخلة بـ«قلق في التفسير»، يضعنا أمام تساؤل؛ هل نأخذ اليوم بالقراءات الجديدة للعبارة القرآنيّة أم نأخذ بالتّحاليل الفيلولوجيّة أم نجمع بين الأمرين؛ فهناك عدّة كلمات في المصحف قدّم في شأنها دارسو القرآن أو المستشرقون الجدد قراءات أخرى موجودة في مصاحف قديمة، كان قد ذكرها آرثر جيفري، ولكنّها غير معتمدة في القراءات الرّسميّة المعترف بها (السّبع والعشر والأربعة عشر) من ذلك الآية الّتي تتحدّث عن «حَصَبِ جهنّم»، فهو يقول لا شكّ في أنّ هناك خطأ ما، فلماذا لا نستعمل عبارة «حَطَبِ جهنّم»، ومن ذلك أيضاً الآية الّتي ورد فيها «تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً»، يقول عندما نستحضر صورة المصحف قبل الإعجام؛ أي قبل وضع النّقاط والحركات الإعرابيّة، فيمكن أن تُقرأ «تَسْمَعُ لَهُمْ ذِكْراً» خاصّة أنّ آيات أخرى في سور أخرى تستعمل هذا التّركيب وهذا التّلازم بين السّمع والذِّكر، إلى غير ذلك من الأمثلة الّتي تدعونا إلى إعادة النّظر في عدد من الألفاظ القرآنيّة.

د. نادر الحمّامي: هل يعني ذلك استغلال التّفسير لتصحيح رسم المصحف، ولتصحيح الفيلولوجيا في نهاية الأمر؟

د. بسّام الجمل: صحيح، وحتّى التّحاليل الفيلولوجيّة تصبّ في هذا الاتّجاه؛ لأنّ هناك كلمات أو عبارات أو ملفوظات قرآنيّة اختلف المفسّرون في الوصول إلى معناها اختلافات كبيرة جدّاً، ويحصرها لوكسنبرغ في حدود 300 كلمة. إذن كيف يمكن أن نحلّ هذا الإشكال؟ لا أعتقد أنّه يُحلّ بمجرّد تأويل تلك الألفاظ في إطار اللّغة العربيّة وحدها، فهذا لا يكفي، بل إنّه يولّد الاختلاف أكثر ممّا يولّد الوقوف على معنى دقيق ومتّفق عليه حسب سياق الآية ومقام التّلفّظ فيها. لذلك، ينبغي العودة والنّظر في أصول الكلمة ومعانيها في لغات أخرى تنتمي إلى العائلة اللّغوية نفسها، وإخضاعها إلى المقارنة، على غرار ما قام به مانفرد كروب (manfred kropp) (1947) الّذي نظر في المعجم الحبشيّ في القرآن وعاد إلى نسخ الكتاب المقدّس المحرّرة بالحبشيّة أو الأثيوبيّة القديمة ليقارنه بها، وعلى غرار ما قام به يوسف الصّدّيق من تحليل المفردات القرآنيّة بالعودة إلى أصولها اليونانيّة؛ وذلك في مجمل ما كتب وفي ترجماته لمقاطع من القرآن وفي كتابه «هل قرآن القرآن؟». وقد نجد في مستوى الآية نفسها التّحليلَ السّريانيّ الآراميّ يقول شيئاً والتّحليل الفيلولوجيّ يقول شيئاً آخر، وقد قارنت بين ما قاله يوسف الصّدّيق وما قاله لوكسنبرغ، فوجدت أنّ يوسف الصّدّيق يقول، على سبيل المثال، إنّ كلمة «الكوثر» تعني الطُّهر في اليونانيّة كما تُنطق في اللّهجة العامّيّة بطريقة مشابهة لنطقها باللّغة العربيّة (catharsis)، وأنّ ما يدلّ على اعتبارها دخيلة هو أنّنا لا نجد في العربيّة فعلاً ثلاثيّاً صحيحاً على وزن «فوعل» فلا نقول «كَوْتب» أو «خَوْرج» وكانت تلك حجّته اللّغوية، ونجد في الآية نفسها وفي الكلمة نفسها لوكسنبرغ يقرأ {إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ} [الكَوثَر: 1] أي أعطيناك «فضيلة الثّبات» وهذا معنى الآية في السّريانية والآراميّة، كما يقرأ كلمة «انحر» في {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكَوثَر: 2] (انجر) في استحضار لصورة المصحف قبل الإعجام، وهذا ضروريّ فالقراءة الفيلولوجيّة دائماً تقوم على مبدأ استحضار صورة الخطّ الحجازيّ القديم قبل وضع النّقاط والحركات الإعرابيّة.

د. نادر الحمّامي: ألا ترى معي أنّ هذه المنهجيّة المعتمِدة على المعنى الّذي قد يُؤدَّى من الكلمة بعد قوننة (canonisation) المصحف مع ابن مجاهد في القرن الرّابع وتأسيس نظام القراءات السّبع، محدودة، لأنّها أهملت ما يسمّى القراءات الشاذّة؟ فلو أنّنا جمعنا تلك القراءات الشاذّة، وهو ما حدث مؤخّراً في كتاب «المصحف وقراءاته» الّذي أصدرته مؤسّسة مؤمنون بلا حدود، لوجدنا أنّها ربّما تكون هي الأصل، ولكن نظام القراءات السّبع هو الّذي وضعها في دائرة الشّاذّ.

د. بسّام الجمل: صحيح، والدّارس اليوم مدعوّ إلى استحضار هذه القراءات الّتي سمّيت بالقراءات الشّاذّة، وليس عليه أن يفاضل بين القراءات، فيقول إنّ هذه القراءة صحيحة والأخرى غير صحيحة، فكلّها قراءات قابلة للدّرس، وينبغي أن نُخضعها للمقارنة والمقايسة بغضّ النّظر عن تصنيف القدامى لها على أنّها شاذّة. لذلك ينبغي استحضار ما كتبه ابن جنّي (ت 392هــــ) في «المحتسب في القراءات» وإخضاعه للدّرس ومقارنته بغيره، إلى جانب استحضار القراءات الموجودة في المصاحف القديمة الّتي وصلتنا نتف منها أو عنها في كتب التّاريخ الإسلاميّ العامّ وكتب الحوليّات؛ فالمقارنة أو المقايسة مهمّة جدّا، وينبغي الاهتمام بها في مجال الدّرس بغضّ النّظر عن مجال التّعبّد.

د. نادر الحمّامي: أليس وضع النّصّ القرآنيّ في إطار عامّ آخذ بالقراءات الشّاذّة وثنائيّة التّأثّر والتأثير في إطار اللّغات الأخرى، قادر على أن يخلخل مرتكزات نظريّة كاملة قائمة في الدّراسات القرآنيّة تقارب المصحف على أنّه نصّ (the quran as text) «القرآن نصّاً»، وهي في كثير من الأحيان عاجزة عن الوصول إلى نتائج مهمّة؟

د. بسّام الجمل: هذا المشغل من أوكد اهتمامات الدّراسات القرآنيّة اليوم، وأذكر أنّ ندوات مهمّة عقدت في ألمانيا خاصّة، درست القرآن، باعتباره نصّاً، في محيطه التّاريخيّ. ولكن هناك اتّجاه آخر في الدّراسة يقول بوجوب أن نكتفي بالنّصّ وأن نتعامل معه كما هو وأن نحلّل الخطاب الدّينيّ كما وصلنا ولا نحفر أو ننبش في ماضي الكلمة لأنّ ذلك سيفضي بنا إلى متاهات واختلافات كبرى؛ وذلك ما توصّلت إليه آن ماري بواليفو (anne-sylvie boisliveau) في أطروحتها (le coran par lui-même). وهناك اتّجاه ثانٍ يقول، بعكس ذلك، علينا أن ننبش في تاريخ الكلمة وفي نسبها وفي تسلسلها وفي وجودها في اللّغات الأخرى؛ لأنّ ذلك من شأنه أن يوفّر إمكانيّات أخرى للفهم، ولذلك فالتّحرّي الفيلولوجيّ ليس البحث عن فائض في المعنى، بل هو استعادة معنى ما ربّما يكون قد ضاع أو تُنوسي، وتلك إمكانات تبقى متاحة دائماً.

د. نادر الحمّامي: ألا تعتقد أنّ المنهج الّذي يدعو إلى التّعامل مع النّصّ كما هو باعتباره نهائيّ الدّلالة، من منطلق الكفّ عن الصّراعات الأيديولوجيّة والعقائديّة والدّينيّة، يلتقي مع مقولة «التّوقيف» القديمة في السّياق ذاته من ناحية ترتيب السّور ووحدة السّورة، الأمر الّذي يناقض المبادئ الكبرى للدّراسات القرآنيّة ذاتها، ما يجعل هذا المنهج كأنّه يناقض نفسه في النّهاية؟

د. بسّام الجمل: نعم، لأنّ مقولة «التّوقيف» تقابل مقولة «العمل»، فهي تلغي إمكانيّة التّدخّل البشريّ في النّصّ تماماً، وبالتّالي فهي تغلق النّصّ وتسيّجه وتمنع الخوض فيه، فالتّوقيف هو أن يقال إنّ هذا التّرتيب حصل بالتّوقيف من الله على هذا النّحو أو على ذاك الشّكل، وهذا الرّأي موجود وراسخ بقوّة ومستمرّ في التّاريخ. ولكنّ التّحرّي الفيلولوجيّ لا يأخذ بهذه المسلّمة لأنّه لا يضع شروطاً أو ما قبليّات للبحث، وإنّما هو ينطلق من فرضيّات بحث، قد نختلف في شأنها وفي تقييمها، وهي تبقى قابلة للتّنسيب وللمراجعة المستمرّة وللتّفهّم المتكرّر. لذلك، فالنّخبة العلميّة اليوم لم تقطع في هذا الأمر، فهو مجال بحثيّ حيّ بصدد التّكوّن والتّطوّر والمراجعة النّقديّة المتواصلة.

د. نادر الحمّامي: على الرغم من أنّ البحوث كثيرة في هذا المجال، إلّا أنّ المسار لا يزال طويلاً.

د. بسّام الجمل: ولهذا يشتغل بعض الدّارسين، أحياناً، على كلمة واحدة من آية، كما فعل ستيفان فيلد (stefan wild) (1937)؛ وقد وقع الاشتغال، مثلاً، على كلمتي «جبت» و«طاغوت» بكثرة، وظهرت حولهما دراسات كثيرة، منها ما هو غير معروف، مثل دراسة هبة عطاء الله المهمّة حول «أصل كلمتي جبت وطاغوت في القرآن»، والتي صدرت منذ سنة 1970، ولكن لا أحد يحيل عليها، رغم أنّها منشورة منذ ذلك الوقت؛ فقد بحث كلّ من لوكسنبرغ ويوسف الصّدّيق وغبريال صوماع (gabriel sawma) في الكلمتين، ولكن لا أحد من هؤلاء عاد إلى دراسة عطاء الله، وقد اطّلعت عليها ووجدت أنّها تقدّم تأويلاً معرفيّاً يمكن أن نستفيد منه، وأن نناقشه أيضاً. والأصل في التّحرّيات التّيمولوجيّة أنّها تقلب المنهجيّة السّائدة في الدّراسات الكلاسيكيّة؛ ففي القديم كان المفسّر، عندما تعترضه كلمة ولا يفهم معناها، إمّا أن يقول إنّ الغموض في هذه الكلمة ليس من الله، وإنّما هو قصور في القارئ، فيقرأ النّقص المعرفيّ في ذاته، ويحاول أن يقترب من مراد الله حتّى يفهم ذلك المعنى، وإمّا أن يفتح المعاجم اللّغويّة ويعود إلى «لسان العرب» ويقول هذه الكلمة تدلّ على كذا وابن منظور يقول فيها كذا، والحال أنّ هذا المنهج مقلوب رأساً على عقب؛ لأنّ «لسان العرب» متأخّر عن نزول النّصّ الدّينيّ وابن منظور نفسه يستشهد بالآيات، فيقول إنّ كلمة ما تدلّ على هذا المعنى وأنّ القرآن يستعملها في هذا السّياق، وتلك منهجيّة مغلوطة تماماً وينبغي التّخلّي عنها. إنّ هذا الحقل المعرفيّ مهمّ جدّاً ويغري بالبحث فيه، ولكن فيه صعوبات كبيرة منهجيّة ومعرفيّة، فلا بدّ من توفّر المحامل المادّيّة الضّروريّة الّتي يستند إليها البحث مثل الرّقوق والنّقوش وغيرها. وحتّى من ذهبوا إلى صنعاء، فقد واجهوا صعوبات في العثور على الرّقوق القديمة وتفحّصها؛ ذلك أن غيرد روديجر بوين (gerd-rüdiger puin) (1940) قد أخذ معه المجموعة الّتي تمّ اكتشافها منذ سنة 1972 في الجامع الكبير بصنعاء، وذهب بها إلى ألمانيا واحتفظ بها، وقد أمدّ بعض الدّارسين بنسخة منها مؤخّراً، خاصّة الجماعة الّتي اشتغلت على «المصحف وقراءاته»، تلك الصّعوبات يتعرّض إليها المتخصّصون في الحفريّات في الجزيرة العربيّة أيضاً، فليس من السّهل التّنقيب في التّراث المادّيّ ومعالجة النّقوش والجمل المنحوتة على الصّخور.

د. نادر الحمّامي: لا يمكن أن أختم هذا الحوار دون طرح سؤال آخر؛ أذكر أنّ محمّد أركون قد تساءل، في مقال له يعود إلى أواخر السّبعينيات، حول مدى إمكان القول بوجود متخيّل في القرآن، وهذا يخرج بنا عن المقاربة التّاريخيّة والفيلولوجيّة، لينفتح على تساؤل آخر حول مدى إمكان مقاربة النّصّ القرآنيّ، بوصفه نصّاً، مقاربةً أنثروبولوجيّة ورمزيّة. فهل ترى أنّ هذه المقاربة ممكنة في إطار الدّراسات القرآنيّة؟

د. بسّام الجمل: الدّراسات القرآنيّة تجمع بين الأمرين، لأنّ النّصّ القرآنيّ إفراز بيئته ووسطه. ويمكن أن نقرأ المعطيات الّتي أحاطت بالنّصّ من خلال ذلك النّصّ نفسه، رغم الثّغرات المعرفيّة الّتي تبقى موجودة وقائمة في كلّ بحث، كما يمكن أن نقرأ النّصّ من خلال مقارنته بالنّصوص الأخرى الّتي حفّت به أو زامنته، وإن طواها النّسيان أو تمّ استبعادها. وفي الإمكان دائماً أن ندرس النّصّ في محيطه التّاريخيّ وفي زمنيّته وفي إبستميّته المعرفيّة، رغم الصّعوبات. لذلك، فعلى الدّارس أن يخوض في تلك المباحث متسلّحاً بعدّة معرفيّة دقيقة وصارمة، وألّا ينطلق من قبليّات إيمانيّة أو أيديولوجيّة، وإنّما عليه أن يخوض مغامرة البحث دون أن يعرف، بشكل مسبق، إلى أيّ مدى يمكن أن توصله وإلى أيّة محطّة سيؤول به مسار الخوض في هذه المسائل، والنّتائج الّتي يتمّ التّوصّل إليها في هذه المباحث تبقى دائماً نسبيّة وقابلة للمتابعة والتّجاوز والمراجعة. وأنا أشدّد في هذه المناسبة على أن تكون جسور التّواصل متاحة بين الباحثين في هذا الميدان، وهذا لا يكون إلا عبر مؤسّسات ومخابر بحث وهياكل بحث متخصّصة في الدّراسات القرآنيّة في المجال العربيّ وفي خارجه، وأن تقوم أسباب التّعاون بين الجميع؛ لأنّ البحث العلميّ ليست له هويّة.

د. نادر الحمّامي: هكذا نأتي إلى ختام هذا الحوار، ولعلّ المسائل الّتي طُرحت فيه تمثّل إشارات مهمّة يلتقطها الدّارسون والباحثون في مجال الدّراسات الحضاريّة للاستفادة منها ولمواصلة فتح باب النّقاش حولها. الأستاذ بسّام الجمل، شكراً جزيلاً لك على ما تفضّلت به.

[1] - أجري هذا الحوار في 26 نيسان/أبريل 2018