الوشم والأثر كتطريز عشق وانتماء على جسد، إيمانويل لفيناس وعبد الكبير الخطيبي


فئة :  مقالات

الوشم والأثر كتطريز عشق وانتماء على جسد،  إيمانويل لفيناس وعبد الكبير الخطيبي

الوشم والأثر كتطريز عشق وانتماء على جسد،

إيمانويل لفيناس وعبد الكبير الخطيبي

ملخص:

في كثير من المرات يتحول جسد الإنسان إلى صفحة يخط عليها الواشم بإبرته ما تحمله النفس من مشاعر دفينة ترتبط بلحظات حاسمة غيرت مجرى حياته، هي مشاعر تأخذ شكل وشم وأثر قد يذكر صاحبه بحب لا يكف عن الحضور والغياب، وأحياناً أخرى يرسم له حدود انتمائه وهويته الموشومة كما أخبرنا بذلك عبد الكبير الخطيبي لمَّا تحدث عن الآخر الأمازيغي الموشوم، وحتى إيمانويل لفيناس عندما حدثنا عن مفهوم الأثر العنوان الأكبر للعشق الإلهي الذي يرتسم على وجه الآخر الكفيل برسم ملامح الهوية اليهودية. إن الوشم هو النقش الدائم على الجلد لما هو غالي أكثر من النفس، لذلك كان عبارة عن كتابة بالدم تحاول أن تؤبد الزائل وتجعل العابر مقيما، لحفظ ذكرى تأبى المحو والنسيان ليطبع الوشم والأثر هالة من القدسية، وهذا ما أكده لنا لفيناس بحسه الفلسفي وبنبضاته اليهودية العبرانية؛ وذلك عندما حدثنا عن عشق من طراز خاص. إنه عشق وجه يرتسم عليه أثر إله، يناديني بجاذبية وسحر لا يقاوم بأن أكون مسؤولا نحوه بلا حدود الاسم الآخر للإيمان بلا حدود، ذلك أن النداء الذي ينير الوجه عندما تلتقي الذات الآخر هو الذي يحدد جماليته وسحره، فهو نداء سيد العدالة والحب ولا يسطع إلا في فقر وعري البشرة ليبحث عن من يلبي النداء، لأكون مسؤولا بلاحدود عن هشاشة وضعف الوجه الذي يحرم القتل والعنف ليطالب بالعدالة، السلم والحب.

مقدمة

قال سلطان العاشقين الحلاج: "ركعتان في العشق لا يجوز وضوؤهما إلا بالدم"، نفهم من خلال هذا القول أن الكائن الغرامي لا يؤكد حبه إلا إذا سال دمه ليحفظه بوشم يأخذ شكل كتابة بالدم لما أراد أن يخلد ويصبح أبدي في جسده، ومن هذا المنطلق كان رهاننا في متن هذا النص الإمساك بناصية الجسد أو الجلد بتعبير أدق لتتبع أثر الوشم كذاكرة وانتماء ورمز عشق أبدي، فنحن نروم أن نستريح في مملكة الحب والانتماء لنحط الرحال على أرضية العشق والوجد، لنتحدث عن وشم وأثر يحفظ ماديا ومعنويا ذكرى تأبى المحو والنسيان، فمن سمات الوشم والوسم هو الرسوخ والبقاء رغم غياب من توشم الجلد لأجله، ليبقى راسخا في مخيال العاشق بالنسبة إلى الكائن الغرامي، ويظل محفوظا في المخيال الشعبي بالنسبة إلى الثقافات كما هو الحال في المجتمعات الأمازيغية، ومن هنا كان علينا أن نسبر أغوار الجلد الآدمي الذي ترتسم عليه تضاريس الحياة، وتخط عليه أعمار الإنسان من الطفولة إلى الشباب إلى الكهولة والشيخوخة، ويطرز عليه أثر وشم يخلد ذكرى حب يحفظ له سرمديته ليظل الحب باقيا بقاء الوشم على الجسد، وهنا تكمن أهمية هذه الدراسة، فكما يقول المتصوفة: "لا مرام سوى الغرام"، لأنه إذا كان أرسطو قد عرف الإنسان بكونه كائنا عاقلا وأحيانا ناطقا، وديكارت وكانط عرفاه بالحرية والوعي والإرادة، وهيغل أكد بأنه كائن له دين، وأرنست كاسيرر عرفه بأنه حيوان رامز، ودوستوفتسكي عرفه بكونه الكائن اللغز، سنعرف الإنسان هنا بكونه كائن محب؛ لأننا نريد أن نسير على خطى إيمانويل مونييه الذي استبدل أنا أفكر بأنا أحب ليطرح كوجيطو الحب، وجان لوك ماريون الذي جعل من الحب العنوان الأكبر لمشروعه الفينومينولوجي ليؤصل في ما بعد لفينومينولوجيا الحب والسخاء، ولفيناس الذي حدثنا عن حب دون ثمن ودون مقدار الذي هو في صميمه حب بلا حدود والذي سيكون الاسم الآخر لإيمان بلا حدود؛ لأننا نطمح إلى تحقيق نوع من السرمدية والأبدية بالحب والعشق الذي سيأخذ شكل وشم وأثر، فكما قال جلال الدين الرومي العشق حياة خالدة، فيه يرتحل القلب إلى عالم المعاني والدلالات والرموز، ويفر من الهيكل الترابي الفاني ليبتغي تلك البهجة الجارحة والحارقة، الكفيلة بأن تنير عالم الإنسان المظلم والكئيب.

وعليه: كيف سيجسد الوشم الحظور الشبحي للمعشوق الغائب، ليحفظ له أبديته رغم الغياب، أو كيف سيصبح الوشم رمزا لحظور الآخر (المعشوق) في ذات العاشق؟ هل الكتابة من خلال الوشم كفيلة بأن تهز عرش نرجسية الذات لتفككها؟ أيستطيع الوشم أن يجعل من نفسه عنوان للهوية ورمزا للانتماء؟ كيف سيستبدل الخطيبي المفهوم المركزي في التفكيك ونقصد أثر لفيناس ودريدا بالوشم؟ ماهي نقاط الوصل والفصل بين أثر لفيناس ودريدا ووشم عبد الكبير الخطيبي؟ هل يأخذ الوشم نفس الحمولة الدلالية للأثر؟ ما الأثر؟ كيف يشتغل الأثر على الجلد ومن ثم النص؟ كيف سيصبح جلد ولحم الجسد نصا قابلا للقراءة والتأويل؟

من خلال جملة الأسئلة المطروحة التي تنتظم حول إشكالية واحدة، وهي إشكالية الوشم والأثر وبالنظر إلى موضوع الدراسة، فإننا نعتمد المنهج التحليلي، والذي سنروم من خلاله القيام بدراسة تحليلية لتصور كل من لفيناس والخطيبي حول مفهوم الأثر والوشم.

1- عشق مرتسم على هامش وشم

في كثير من المرات يتحول الجسد إلى صفحة مزينة برموز وأشكال وألوان؛ وذلك عندما يدق عليها الواشم بإبرته ما تحمله السريرة المضمرة للمستوشم من انفعالات عنيفة وحساسية فاترة تشرح الحالة النفسية التي يمر بها؛ ذلك أن صاحب الوشم يتكلم كلاما صامتا بجسده من خلال علامة الوشم المرسومة على بشرته، فـ "الوشم والوسوم: تعني العلامات"[1]، وأيضاً هو كتابة بالنقط وهذا هو العنوان الفرعي الذي أورده الفيلسوف المغربي عبد الكبير الخطيبي في كتابه الاسم العربي الجريح الذي أكد فيه أن الوشم هو بمثابة الهجرة من دليل إلى آخر وانتقال واسع للرسوم يشبه الحفر على الصخر والخط على الورق والنسيج لزربية وتطريز على قماش والنقش على حلي فاخر؛ فالوشم يرسم ملامح هوية مذهلة تطبعها ألوان متعددة، [2] لذلك أراد الخطيبي استبدال الحرف العربي بالوشم الأمازيغي الذي يفتح أفق متعة الكتابة بوخز الحديد لتزيين الجلد، نحن نقول أوشمت الأرض؛ أي أظهرت النبات قليلا وتزينت به، وأوشمت السماء أي برق منها البرق ليمنحها لمعانا وسحراً، كذلك الوشم هو كتابة تعمم على الجسم بحسب العضو[3] ليمنحه جمالا وانتماءً.

إنه ثوب من الرسوم الذي لا يخضع لقوانين اللغة يحوي بلاغة هادية تفجر الدليل اللغوي، وتدفعه إلى ما هو أبعد من ذاته، فالحرف المخطط ليس حرفاً بأتم معنى الكلمة؛ لأنه يتموضع بين الكتابة والموسيقى ليكتب على الجسم في حركية معينة للإيماءة والكتابة الأبجدية والتصويرية، وهو يدخل ضمن الهوة الفاصلة بين الصوت والمكتوب. إن الوشم شهادة على كتابة هي الآن مندثرة تثبت حضورها بحسب تخطيط شبه جامد في مفارقة طال نسيانها واشتد اختصارها، [4]لأنها أثر لما هو غائب حاضر.

وبالوشم تتحدد هوية الإنسان أو تشطب منه ذلك أنه في المجتمعات الأمازيغية نجد أغلب النساء تزين أجسادهن أوشام بأشكال مختلفة لترسم لهم حدود انتمائهن، بينما في مجتمعات أخرى بالوشم يتم شطب هوية الإنسان وانتزاعها منه؛ وذلك ما حدث في ألمانيا إبان سيادة النظام النازي، أين وضعت وشوم تأخذ شكل رقم في الذراع الأيسر للمعتقلين اليهود الذين فقدوا هويتهم؛ لأنهم تحولوا في أعين أنفسهم وجلاديهم إلى أرقام تسير نحو الموت.

كما أن الوشم هو عبارة عن تخطيط وإيقاع قصة عشق وهذا ما نلمسه في قول الخطيبي: "إن التخطيط يثير لعبة متعددة الأصوات، مقابل التوسع السطري للكلام، وهو إيقاع لا نظم له بطبيعة الحال، لأن النظم يتصل باللغة، إنه إذاً إيقاع المعنى في درجة الصفر، كل ما فيه متشبث، بصعوبة، بالانقسام التناظري للجسم، والآثار التي تجري ضمن شهوة براءة متقنة، لذة قصة غرامية مختفيه في هذا الكتاب، إذ إن الدافع هو الذي يسمح لنا بكتابة امرأة موشومة، على ظهرها آثار أضافر دموية، إلى الحد الذي تعلقت فيه هذه الصورة (...) بين العاشق والمعشوق، كقصة العشق الموجودة في هذا الكتاب."[5]

إن الوشم هو النقش الدائم على الجلد لما هو عزيز ونفيس فهو كتابة تحاول أن تؤبد الزائل وتجعل العابر مقيما. إنه كتابة بالدم تسعى إلى أن تحفظ ذكرى ما هو مقدس كما كان سائدا في أستراليا، والتي تمثل الرمزية الطوطمية إحدى أوجهها، حيث كان المتعبد يقوم برسم رمز طوطمه الذي يأخذ شكل حيوان أو نبات في أغلب الأحيان، لإثبات نوع من الشراكة بينه وبين طوطمه في السمات ولتأكيد هذه الشراكة يستخدم الدم ليكون الاتحاد ماديا ومعنويا لذلك تحيط بالوشم هالة من القدسية.

في الوشم أحيانا يتحد الألم بالأمل بالمتعة خاصة إذا كان من أجل حبيب، ألم يكتب سيد العاشقين جلال الدين الرومي: "في الحب شيء من عظمة الله، وأنفاس الشياطين، وعذابات الأنبياء، وغموض الآلهة"، فأن يحب الإنسان معناه أن يتعذب ويسعد ويحرم، فأساس الحب هو الحرمان من الذات لأن العاشق في رغبة وشغف مستمر للآخر ليتألم من الشوق والغياب، فالحرمان هو العذاب الذي يُحدث "ثقباً في الكينونة" ما يؤدي لوقوع شرخ داخل الذات "فأنْ يحب المرء معناه أنْ يُحرم"[6] إنه التخلي عن كل انتماء لأصل لأن الإشباع يدمره بينما الحرمان يعمره والإنسان لا يصير إنسانا إلا من خلاله، ومن خلال الوشم تحمل أثر الآخر داخلك أينما حللت.

كما أن الوشم يحمل رسائل شبابية كثيرة، رسائل الحب والفرح والحزن التي هي عبارة عن ردود فعل مؤرخة على الجسد تذكر صاحبها بلحظات غيرت مجرى حياته؛ وذلك عندما يقوم العاشق برسم صورة أو أكثر الأعضاء التي تجذبه في وجه حبيبه كالعين مثلاً أو أول حرف من اسم حبيبه، أو اسمه بالكامل على ذراعه أو صدره ليثبت ويؤكد حبه الأبدي له ومدى تعلقه به. إنه نوع من التخليد المادي والمعنوي للحبيب حتى يظل حبه باقيا بقاء الوشم على البشرة والذي يعجز الزمن عن محوه، إنه أثر يعبر عن قوة العلاقة والمشاعر التي تربط الرجل بالمرأة، إذ هو بمثابة وعد ولاء ورغبة في الادخار لما هو ثمين أكثر من النفس ذلك أن الوشم يحمل كثير من المعاني النبيلة والجميلة، فهو تأكيد عن توحد الوجدان في من نحب، ففي الوسم لغة دون أحرف تقول فيها لمن تحب: "أنا أحبك إلى آخر يوم في عمري عبر وشمي الذي يحمل حبي الأبدي".

ومع لفيناس سوف نتحدث عن عشق من طراز خاص إنه عشق وجه أنثوي يرتسم عليه أثر إله، يناديني بجاذبية وسحر لا يقاوم بأن أكون مسؤولا نحوه بلا حدود الاسم الآخر للعشق بلا حدود؛ ذلك أن النداء الذي ينير الوجه عندما تلتقي الذات الآخر هو الذي يحدد جماليته، فهو نداء السيد الآمر في تعاليه ولا يتوقف عن المناداة في فقر وعري البشرة يبحث عن من يلبي النداء، ليكون مسؤولا بلاحدود عن هشاشة وضعف الوجه، ومن هنا لا يمكن أن نظل صامتين إزاء ندائه[7]، الذي يحرم القتل وينبع من وجه إنساني سواء كان رجلا أو أنثى، فلفيناس لا يمنح أولوية للذكورة على الأنوثة كما هو كان سائداً في الأدبيات اليونانية الكلاسيكية، بل يعتبر الأنثوي شرطا لذكورة الوجود والرجل لولاها لما شعر برجولته إذ دونها ذكورته لن تكتمل.

إن هذه الرؤية التي تحتفي بالأنثوي ترتكز على أساس ديني يهودي يسبق التقليد الديني المسيحي زمانياً، ويتمثل في مشاركة الأنثوي في التراث اليهودي ممثلا في العهد القديم الذي حدثنا عن زوجات الآباء وشقيقاتهم وبناتهم فجميع مفاتيح التاريخ المسيحاني L’histoire messianique كانت في يد الأنثوي[8]، التي لعبت دوراً محورياً في التاريخ اليهودي، سواء أكانت زوجة أو أما أو أختا للأنبياء، لذلك يؤكد لفيناس بأن الأنثوي بخطواته الصاخبة في أعماق وسُمك الواقع والتاريخ جعل العالم صالحا للسكن، فالمنزل هو المرأة هكذا أخبرنا التلمود[9]، لذلك كانت أساس هندسة المنزل ومن ثم الوجود.

إن الأنثوي هو مسكن الرجل ومأواه محل كل علاقة حميمية مع الآخر، ليصبح ملاذ الرجل مثل أرض اللجوء والميعاد التي تتقوم بمفاهيم الجود والكرم والضيافة والانفتاح، الأمر الذي سيؤسس لبداية الخروج من الذات للانفتاح على ما هو غير قابل للتملك، فعلى وجهها يرتسم أثر الإله في ثنائية من التجلي والانسحاب ليقودني إلى الما وراء[10] حيث اللغز والسر، فالفردوس منقوش على وجه حواء المختوم ببراءة لا تتغير وعذرية لا تغتصب، ومن هنا صار وجهها الممر إلى ما وراء الماهية، حيث الأبدية والخلود، فالأنثى لا تنتمي لعالم الضوء والتعري، بل تنتسب إلى عالم الانسحاب والتخفي لأنها حاملة لأثر اللانهائي.

ففي وجه الأنثوي يحظر اللانهائي ليذكرني بمسؤوليتي لذلك كانت ميزة وجه الأنثوي الأساسية الحياء والتخفي ففي وجهه يسطع أثر الإله ومن هنا كان، "جمال الأنثوي يكمن في عفتها وتعاليها"[11] فوجهه يتألق دائما بالعفة والطهارة في صورة أثر.

2- عشق لأثر إله يرتسم على وجه

إذا أردنا الحديث عن مفهوم الأثرTrace يتوجب علينا إدراج مفهوم آخر، وهو الزمن فالأثر هو وسم الزمن الماضي في الحاضر؛ حيث تلعب الاستعارة دورا محوريا في ملاحقة الأثر وتتبعه، غير أن الاشتغال على هذا المفهوم لم يكن حكرا على لفيناس وحده فقد ابتكر أفلاطون والأفلاطونية المحدثة قبله طريقة بتتبع الأثر أسموها تتبع أثر الكائنات الحية Ichnologie[12]، أما فلسفيا فهو البحث الفلسفي عن المفقود والضائع ولفيناس نفسه ابتكر نوعاً جديداً من تتبع الأثر يكون فيها الموجود هو الآخر والفلسفة هي طريق الآخر إلى الإله[13]تكون فيه الأنا مثقلتاً بالمسؤولية نحو الآخر المثقل بالأثر.

ومن هنا وجب التعامل مع الوجه ليس مثل باقي الموضوعات المادية الأخرى، فعندما ننظر إليه وجب أن نتجنب تأمل لون العينين أو تقاسيمه لوصفها فيما بعد؛ لأننا بهذه الطريقة سنختزله إلى مجرد موضوع مادي بحت قابل للرؤية[14]، لأنه من خلال تأملنا للون العينين قد ندخل في علاقة إيروسية عاطفية مع الآخر، والمطلوب هنا علاقة إتيقية في المقام الأول وتيولوجية في المقام الأخير.

فعند لقائنا لوجه قد نصطدم بدلالة جديدة تفرض عَلَيْنا من الخارج على شكل صدمة تهز أعماق وكيان الذات، فلا نكف عن إحالة الأنا العاشقة إلى هذا الآخر الذي نعرفه منذ زمن ليس بالقريب وهو الزمن الذي يسبق زمن الأنا كأنارخيا، إنه زمن الآخر المطلق، اللانهائي، الإله الذي لا يحضر إلا كأثر لماض سحيق يرتسم على الوجه، والأنا تعرفه منذ أن تعلمت التأمل إلى وجوه الغير[15] في عري وفقر وهشاشة البشرة، أين يسطع أمر تحريم القتل ممثلا في الكلمة الأولى للإله: "لا تقتل أبداTu ne commettras pas de meurtre ليطالب بتحمل المسؤولية نحو الآخر الاسم الآخر للحب، فنداء الحب يبدأ من أمر تحريم العنف ليحملني مسؤولية غير متناهية نحو الآخر، لكنني لا أستطيع لمسه أو التقدم نحوه فهو سيظل متعال إلى الأبد[16].

ذلك أن نداء الحب لا يظهر إلا في عري الوجه وتجرده من الشكل ونظارة بشرته ليعبر عن الصدق Sincérité والصراحة Franchise والوثوقية Véracitéخلف الشكل، ليصطفيني الإله من خلال تحميلي مسؤولية تبدأ عند قربي من الآخر، إنه نداء وقول يسبق اللغة فهو الصمت وهنا تكمن قوته[17]، هو صمت صاخب بلا أحرف تضيق فيه الدلالة وتنغلق فيه اللغة، مناقض تماما لما قاله سقراط سابقا "تكلم لأراك" فهو القوة التي تهز كيان الأنا دون عنف، لتحررها من أنانيتها ونرجسيتها لتدخل في علاقة إتيقية مع الآخر الذي يرتسم على وجهه أثر اللانهائي، هي علاقة حب سرمدي يتجاوز كل ما هو مادي عابر؛ لأنه عشق يبدأ بتأمل عري وهشاشة وفقر وضعف بشرة الوجه، هو عشق يبدأ بعشق وجه إنساني وينتهي بعشق إلهي يرتسم كأثر على وجه نهجر إليه وننسى فيه أنفسنا.

إنه هجران لعبور لا نهاية ولا بداية له، فهو لا أثر لأثر تنفصل فيه الذات عن نفسها لتتحد بالآخر اللانهائي وهنا نستطيع أن نلمس توجه لفيناس الصوفي اليهودي؛ فهذه المفاهيم لا نعثر عليها إلا في الترسانة المفاهيمية للتصوف القبالي؛ ذلك أن لفيناس أراد أن يعيد تأسيس الأنا من خلال فكرة اللانهائي الذي لن نستطيع أن نتصل به إلا من خلال المرور عبر معمودية وجه الآخر، ليجعل اللانهائي ينبض داخل الذات الإنسانية لتتحد بالذات الإلهية من خلال مفاهيم من قبيل الحب والهذيان والألم، وحتى الزهد والتضحية والإيثار في سبيل الآخر، وهو ما يوضحه لفيناس بقوله: "العلاقة الإتيقية وجها لوجه، تتفرع بدورها إلى علاقة يمكن أن نسميها تصوف[18]".

ذلك أن الأثر المطموس في تجاعيد الوجه يعكس حضور اللانهائي الذي لا يمكن تتبعه إلا من خلال أثره، مثل لعبة الصياد الذي يلاحق أثر الطريدة الهاربة؛ فهو بقية لحضور له تألق وبريق مبهم يمثل عمل الماضي في الحاضر الذي يتعالى على كل حاضر[19]، كما أن الأثر لا يكتسب معناه إلا من خلال كونه يحيل إلى معنى باطني يختبئ خلف المعنى الظاهري، وهو أيضاً ليس علامة؛ لكن في الوقت ذاته نجده يلعب دور العلامة، فالشخص الذي يتحرى عن جريمة ما يتتبع آثار المجرم الغير إرادية كعلامة تحيل إلى جرمه، كذلك نجد الأركيولوجي أو المؤرخ دائماً يبحث في الحضارات بالعودة إلى آثارها السابقة؛ ذلك أن كل شيء يعود إلى نظام يفصح عما يأتي بعده[20]، الأمر الذي يحدث شرخاً أو صدعاً في نظام المحايثة يشبه في كثير من الأحيان شرارة النار التي تحدث نتيجة احتكاك حجر بحجر آخر.

بالعودة إلى مفهوم الوجه عند لفيناس، نجده لا يأخذ دلالته إلا كأثر لغائب ولماض معين وهو ما أسماه بول فاليري سابقاً "ماض سحيق، ماضٍ لا يكف عن التقدم"، إذ هو الماضي السرمدي، بل هو عين الخلود الذي يتجاوز اقتدرات الذاكرة العاجزة عن استيعابه؛ لأنه يرفض أن يكون حضورا بسيطا للذات؛ لأن الأثر لا يحصل على معناه الكامل إلا من خلال العبور إلى ما وراء الوجود.[21]

كما أنه كتابة ولغة دون أحرف وكلمات، فهي تسمع ولا تنطق ترتسم على الوجه الذي يعكس خطاب الإله، الذي ينادي من أجل المرور إلى ما وراء العالم، حيث لا توجد معرفة[22]، فحال لفيناس هنا كحال أغلب المتصوفة لأنهم يودون استبدال العقل والمعرفة بالقلب والعرفان والكلمة بالصمت.

إن الكتابة على الوجه كيفية للموت بالحروف والكلمات نتيجة موت صوت المتكلم، وهنا سوف تظهر لنا الصلة الحميمة والقوية بين إتيقا لفيناس وتفكيك دريدا؛ فلفيناس يمنح أولوية لقول الوجه على الكلمة المنطوقة، لأن الكتابة في نظره تجسد الحضور الخفي للإله يهوه الذي لا يكف عن الحضور والغياب في وجه الآخر كأثر، ليهز عرش الأنا وهو ما استمر مع دريدا في كل مؤلفاته وبخاصة في كتاب علم الكتابة De la grammatologie أين منح أولوية للكلمة المكتوبة على حساب الكلمة المنطوقة، مثلما فعل لفيناس الذي كان يعتقد أن فعل الكتابة هو من يجعلنا ننفتح على الآخر الغريب؛ وذلك عندما أجعل أفكاري قابلة للقراءة من طرفه.

ذلك أنَّ دريدا قد استعار أغلب مفاهيمه المركزية من لفيناس كالحضور المرجأ الذي لا يأخذ دلالته إلا كأثر، وفي هذا الصدد يقول: "لا يمكن أن نفكر في الأثر-ومن ثم الإرجاء-انطلاقا من الحاضر أو من حضور الحاضر. إنَّه ماض لم يكن حاضرا أبدا: وهذه هي الصيغة التي وصف من خلالها إيمانويل لفيناس Emmanuel Levinas وفق سبله- التي لم تكن بالتأكيد سبل وصف علم النفس-الأثر ولغز الغيرية المطلقة: الغير. في هذه الحدود ومن هذا المنظور على الأقل، يتضمن فكر الإرجاء كل النقد الذي وجهه لفيناس للأنطولوجيا الكلاسيكية، وهكذا ينظم مفهوم الأثر- شأنه شأن مفهوم الإرجاء، وعبر هذه الآثار المختلفة واختلافات الآثار بالمعنى الذي قدمه نيتشه وفرويد ولفيناس"[23]، فهم من أهم فلاسفة الهدم الذين امتلكوا اقتدار إحداث هزة داخل مملكة الأنا والوعي واللوغوس للاحتفاء بما هو مسكوت عنه؛ وذلك بتفعيل مفهوم الأثر داخل الخطاب الميتافيزيقي الغربي لإعادة التفكير في الحاضر كما هو؛ ذلك أنَّ الأثر هو شبح لحضور يتشتت ويتنقل ويرتد إلى لا مكان فالانمحاء بنيته الأساسية، ومحو الأثر المبتكر للاختلافات هو ذاته رسمه في النص الميتافيزيقي، ليصبح الحاضر بمثابة أثر يمحي أثر، فهو حي وميت في الآن ذاته يتصنع الحياة من خلال الكتابة، وهو نص دون صوت تفك شفرته بشكل مختلف[24] لأنه ميت.

إنه الحاضر المرجأ ((الأثر))Trace الذي يأبى الظهور في الحاضر؛ لأنه ممزق، متصدع، متحرك، مرجأ، حضور غير حاضر لأنه يحب أن يتخفى ليشكل الانمحاء لبنيته، فلمجاوزة الميتافيزيقا كان على دريدا أن يرسم في النص أثرا يكون بمثابة الوشم في الجسد، هذا الأثر يحيل إلى نص آخر وليس إلى شكل من أشكال الحضور[25] ليهدم لفيناس ودريدا تصوراتنا التقليدية عن الزمن الحاضر والماضي والمستقبل ويطرحان ماضي يتداخل بالحاضر من خلال الأثر ليشدني إلى المستقبل للتحرر من إكراه ما هو حاضر. إنّه أثر لإله غائب عائد من خلال الآخر، فالدين سيعاش كعودة لمنسي ومكبوت.

إن اللانهائي لا يحضر إلا في صورة بصمة فوقية أي أثر يعمل على تشويش نظام الحاضر والمحايثة بطريقة لا تقبل إعادة البناء والترميم، لتصبح الكينونة عبارة عن ترك آثار للعبور والانصراف والتبرؤ من عالم الديمومة والحضور في لعبة من التجلي والتخفي.[26]

وهذا ما أشار إليه أفلوطين سابقاً في تاسوعاته عندما بسط لنا نظريته حول الفيض الذي يظهر في العلاقة الجدلية بين الواحد L’Unأي اللانهائي والعالم ليتحدد المعنى الفريد للأثر، بالانتقال من الأجزاء الكبرى إلى الأجزاء الصغرى، وهو ما يطلق عليه اسم الإيكونوغرافيا L’iconographie أي المبحث المتخصص في دراسة الصور والرسوم والتماثيل، وبخاصة في التراث في المسيحي المليء بالأيقونات التي تتبع بالرسم والصورة حياة السيد المسيح، فهنالك مبدأ أساسي يسبق الكائنات ويولدها؛ لأن الكينونة ككل هي أثر هذا الواحد.[27]

3- الهوية الموشومة

إن ما كان يسمى أثرا عند لفيناس ودريدا سيصبح اسمه وشما عند عبد الكبير الخطيبي، وهذا ما يبرر عنونته لأهم كتبه بالذاكرة الموشومة، الذي فضل التفكير على هامش المشهد الفلسفي العربي – الغربي حاله كحال لفيناس ودريدا اللذين عملا على تفكيك أوثان المركزيات للاحتفاء بما هو مهمش ومنسي ومسكوت عنه في الثقافة الغربية، الأمر الذي استأنفه الخطيبي بطريقته وبنبضاته العربية-الأمازيغية وحتى الفرنسية من خلال كتابة موشومة شاعرية فظل فيها الوشم على الحرف والهامش على المتن والآخر عن الذات. إنها كتابة صامته لكنها صاخبة تنطق بالوشم المنسي والمختبئ أقل وصف مناسب لها هو أنها كتابة فسيفسائية يمتزج فيها الأدب بالفلسفة والأنثربولوجيا والسيميولوجيا وعلم الاجتماع وحتى الأمثال الشعبية ليخوض من خلالها نقدا مزدوجا وحربا شعواء على جبهتين ونقصد الميتافيزيقا الغربية والميتافيزيقا الإسلامية، فيقوم بخلخلة مضاعفة للمركزيات، ليكشف التعدد الذي يلون الجسد العربي من أجل أن نقول نعم أبدية لآخرنا الذي ينتسب إلى ذواتنا، ومن ثم الآخر المختلف فنمد يدنا إلى هذه اليد الصديقة التي تجتذبنا.

ومن هنا حدثنا عن اسمنا العربي الجريح الذي هو الاسم الآخر لأصلنا المريض، وهذ ما نلمسه في عنوان كتابه: "الاسم العربي الجريح"، فقد قدم وصفا للذات العربية، والتي يتخذ من ذاته هو أي الذات الكاتبة، أنموذجا لوصفها ومن ثم الحديث عنها وهذا ما يوضحه بقوله: "وما دامت الذات (الكاتبة) ذات حساسية بجرح الهوية والاسم الذي يمزقها، فإنها تتجه نحو نص مرح منشبك بالنفس الحيوي والكوني لجسدها، أي قدرتها على التنفس، والضحك، والجماع. إذن تنتسب الذات إلى جرحها في عنف من غير هستيريا، كأنها تتهيأ لكل تأرجح بين اللامعنى والدليل الخالص"[28]. فالخطيبي يحاول أن يعلم الذات العربية المثقلة بجرح الأصل اللاهوتي والهوية المنكسرة كيف تحيا من جديد بعد أن تعرفت عن ذاتها من جديد وقبلت الانفتاح على آخرها الذي ينتسب إليها إنه الآخر الموشوم أو الآخر الأمازيغي؛ ومن هنا سعى لربطها بالنصوص التأسيسية في ثقافتها ثقافة الوشم والأمثال الشعبية، كما أن هذه الاستعادة لن تتم إلا من خلال النص، باعتباره أفقا يسمح باستعادة هذا الجزء الذي ينتسب إلى الذات العربية، والذي هو عامل مهم في تكوينها فكما يقول: "إن الذات تنزع لنفسها هذا الخارج الذي يؤسسها ويفسخها"[29]، فأي محاولة لإنكار وتدمير الآخر بسبب الكبرياء الجريح، قد يقود بشكل او بآخر إلى تدمير الذات، الأمر الذي سيحدث هدما في التكامل الذي نأمل حدوثه؛ لأن الآخر الذي نبغضه قد ينتسب إلينا ونحن لا نعلم، كأن يكون ضميرنا المعذب، والذي يأخذ شكل خصم جواني يريد أن ينتزع مكانه في ذاكرتنا؛ لأنه ببساطة يحب هذا المكان، لذلك فكل محاولة لتدميره، تعتبر محاولة لتدمير شجرة الإنسانية الرمزية في بعدها الكوني، لذلك ينبغي التفكير فيما وراء الصدمة والإنكار، لنبحث عن فرصة لقاء عالمي جديد[30] بلا أقنعة، فمثلما يقول الخطيبي: "فإذا لم أكن أراك وجها لوجه، فما يمكن يا ترى أن أقبض عليه في نظرتك إن لم يكن على شبح من ذاتي، والذي لا يفتأ يؤرقني؟"[31]، فالآخر هو مرآة وطيف وظل وشبح الأنا الأبدي، بل هو هويتها المتصدعة والمؤجلة، هذا ما يعلمنا إياه الخطيبي، فهو يعلمنا درس الانزياح من مركزنا لنمسك الآخر من داخلنا؛ ذلك أن الهوية هنا أساسها الاختلاف والحركية الدائمة؛ لأنها تفر دائما من سطوة الأصل المتحجر المريض.

لا بد أن نفسح المجال لفكر يتخلى عن الذاتية الحمقاء ليتمسك بالاختلاف، فهو يسعى لتفكيك مفهوم الوحدة التي تمثل الاسم الآخر للانغلاق، ففي مدخل كتابه المهم النقد المزدوج، أكد بأنه يحاول أن يتوجه نحو المجتمعات العربية بنقد تفكيكي لتطبيق مفاهيم تسمح بنمو الفكر الحر. ومن هنا سيدعونا إلى نقد مزدوج ينصب علينا كما ينصب على الغرب لإحداث صدع داخل الهويات المنغلقة، كما يهدف إلى تقويض اللاهوت والقضاء على كل الإيديولوجيات التي تقول بالأصل والوحدة المطلقة[32]، وهذا ما يذكرنا بمفهوم اللاأصل أو الأنارخيا عند لفيناس، وهو المفهوم الذي أتى به ليفكك من خلاله مفهوم الأصل الغربي المتحجر والمتزمت الذي لا يقبل ما يغايره ليستدعي ماضي اليهود السحيق، وفي المقابل العربي سنجد الخطيبي يسعى لتفكيك مفهوم الأصل الغربي ليستدعي ماضي الأمازيغ العتيد.

لذلك نجده غير ما مرة يحتفي بهامش الثقافة العربية، وهذا ما نلمسه في دعوته الصريحة إلى ضرورة تدريس اللغة الأمازيغية باعتبارها لغة ذاكرة وثقافة وتراث، وتدريس اللغة العربية باعتبارها لغة رسمية، لأن السلم المدني والاجتماعي في نظره يمر عبر السلم اللغوي، وهذا أمر بديهي بالنسبة إلى كل إنسان يفكر في قضية العنف والتسامح؛ ذلك أنَّ السلم اللساني يخفف من مسائل الإقصاء[33]، كما أنه يغني الوجود ويضفي عليه ألواناً متعددة؛ ففي التعدد بريق وطاقة للمعرفة، ولا سيما عندما يصبح مركز ثقل محدد للهوية، وإلى جانب تأكيده على ضرورة الانفتاح على الآخر الموشوم الذي ينتسب إلى ذواتنا يدعونا أيضاً إلى الانفتاح على الآخر الغربي المختلف من خلال اللغة عندما يحث على ضرورة تعلم الإنجليزية كلغة دولية ولغة علم وتقنية، إلى جانب العربية والأمازيغية فاللغة وسيلة التواصل والإبداع[34].

وهنا يمكن أن نتساءل على منوال الخطيبي هل العرب ممكن أن يغيروا وجههم؟ وبعبارة أدق هل يمكن أن يغير العرب وجه تفكيرهم؟ لأنه حسب الخطيبي وجب لوجه الفكر أن يعيد التفكير في فكر الكائن والصحراء والهيام الصوفي والخنوثة، فهذا المكبوت في فكرنا العربي وجب أن يحتضنه النقد المزدوج في مجتمعاتنا التي يسودها الفقر والذل؛ لأننا نتحاور مع الأشباح، في حين نحن ندافع عن النقد المزدوج والاختلاف الكفيل بأن[35] يصنع الحياة.

ذلك أننا نحتاج لفكر تكون له جرأة التخلي عن الصورة الضيقة التي رسمناها لذواتنا وللآخرين لننفتح على أفق ودروب جديدة ومتعددة مع الحفاظ على مكتسبات الماضي التي تسمح لنا بتحديد ملامح شخصيتنا، لنلمس ملامح الهوية المنسوجة في طيات التاريخ؛ فعندما يمتلك الفنان مثلاً أسرار حضارة قديمة سيحبها أكثر ويقدرها حق قدرها، لتصبح معجزة الفن لديه تتجلى في مدى اقتداره على الزركشة على الماضي مع الابتكار، فمن خلال مجموعة المجوهرات أو الحلي يمكن أن نكتشف لدى أصحابها نمط العيش المجسد على المشية والوضعية والوقفة[36] التي كانت سائدة في مجتمعاتهم ولا زالت قائمة، وهذا ما سندركه عندما نتأمل الحلي الأمازيغية التي ستفصح ألوانه ونقشه عن نمط المعيشة السائد.

وما يقال عن الحلي سيقال على كل الفنون العتيقة كفن المعمار بالتراب ونسج خيوط الزربية والرسم على الخزف، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الفن الإسلامي لم يقض على الموروث الأمازيغي للمغرب، وهذه هي الثنائية الخصبة التي يجب الاشتغال عليها، فتارة تغني الموروث بترتيب الأشكال(كما الخزف والزربية) وتارة أخرى تُحيّدُ تصدع الهوية الثقافية المغربية؛ ذلك التصدع الذي يهدد أسس المجتمع، [37] ذلك أن الفن مؤشر مهم في الحضارة يحفظ بقاءها ورغبتها في الخلود، إذ لا بد أن يكون تلاقح بين الفنون لكي لا يكون الفنان حبيس المحلية والاجترار.

كما أن التراث المغربي غني سواء أكان في شكله الشفوي كالغناء والموسيقى أو منقول كالتحف الفنية العظيمة أو ثابت كالمعمار والآثار أو حركي كالرقص وفنون التصوير، إذ هو إرث نفيس يرجع إلى أسلافنا الأولين لكن لا ينبغي أن نحافظ عليه في المتاحف فقط، بل يجب أن نجعله هدفا للمعرفة والإبداع الذي يربطنا بالماضي، لكنه ماض متحول يرتبط بالحياة والحاضر وهذه هي مهمة المثقفين، إذ لا بد أن يخلد التراث الثقافي شكلا وصورة.[38]

ومن هنا كانت أهمية كتاب الاسم العربي الجريح مثل أهمية كتاب الدم في الثقافة الحديثة؛ فقد قدم الخطيبي قراءة للجسم العربي من خلال موروث الثقافة الشعبية المغربية بوعي نقدي، أثناء نقده التصور اللاهوتي للجسم العربي ونقد المقاربات الإثنولوجية التي تتعامل مع الثقافة الشعبية تعاملا خارجيا ومتعاليا من ناحية ثانية لتفصل الجسم المفهومي عن الحقيقي والمعيش عن الملموس[39].

تقوم قراءة الخطيبي للجسم العربي على الإقرار بالفرق، والذي هو إقرار بالتعدد، إذ لا يمكن الكشف عن غور جرح الاسم العربي دون الأخذ بعين الاعتبار فكرة تعدد اللغات التي تصوغ الجرح وحديث المركز عن الهامش والوحدة عن التعدد والغياب عن الحضور؛ ذلك أن الفرق هو الفاعل المحرك بالنسبة إلى الخطيبي فهناك فرق طبقي ولغوي وتاريخي وجغرافي، وهي فروق لانهائية عمدت الثقافة السائدة على قمعها[40]، في حين أن كل ما يعمل على قمع الفرق هو اتجاه لاهوتي متزمت.

إن الاختلاف الذي يسعى الخطيبي لإثارته هو الفاعل الحقيقي في الثقافة، والذي لطالما نومناه ونسيناه ويتمثل في ثقافة حديث الأمثال والوشم وكتاب الروض العاطر للشيخ النفزاوي، وهي ثقافة المهمشين والمهملين في مجتمعاتنا، ومن هنا تأتي ضرورة تفكيك المركزية المتزمتة للأصل المهترئ وخلخلة المعرفة الساكنة؛ لأن تقويض الأرضية اللاهوتية مطلب يسبق كل المطالب لتكف الفلسفة عن التعالي، فتعانق الأرض والحياة الجسد برغباته وأهوائه[41].

وهنا سيستدعي الخطيبي الكتابة الموشومة لتمزيق الوجود، فهي بمثابة توهج ذاكري يؤسس للاسم الشخصي الذي يريد أن يكتب من جديد في شكل جريح، فبين الجرح والاسم الشخصي تدوين للجسد الأورفيوسي؛ ذلك أن الخطيبي يبحث عن تلك الدلائلية الشبقية. لذلك استدعى الكتابة كوشم ليطبقه على الجسم العربي، بعد أن كان القرآن والدليل النبوي المحمدي هما النظرية الجذرية للدليل في الكلام والكتابة، فالله في الإسلام مختف إذ يحكمه نظام الغيب، لكنه في نفس الوقت يكوكب الكون ومعه الإنسان بأدلة مرئية (مناظر براكين صور الله) مسموعة وواضحة التي هي إشارة الحضور والغياب[42].

ونجد أيضاً الحرف كأثر إلهي يملأ الفنون التزيينية الإسلامية، في حين أنه يوجد الوشم كدليل سابق على حرف الإسلام، فهو الأثر المكبوت الذي يمزق تخيلنا، وهذا ما يشير إليه النص الشبقي للنفزاوي، والذي يحمل رسما موشوما ولذة محرمة في قصة الطائر الناطق، في هيئة كتابة مرحة[43].

فقد استدعى الخطيبي ما كان مقصيا في الثقافة العربية الإسلامية، ونقصد الجسم الذي عملت الثقافة الشعبية على تلبيسه بفضاء رمزي من أجل حفظ الأمثال واللغة والشعوذة؛ فالجسم هو المركز الذي تبدأ فيه كلمة وتعيد بدءها. إنه الجسم الحقيقي الذي نسعى إلى طرحه بدلا من الجسم المفهومي، فالنوع الأول يتكلم من خلال مجموعة من الأمثال جسم ولا يهم أن يكون مؤنثا أو مذكرا؛ لأنه قد يجمعهما معا.[44]

لذلك تحدث الخطيبي عن حديث الأمثال وقام بحفريات داخل الذاكرة العربية ليبحث عن الوشم الكفيل بأن يلون الجسد العربي، فزمننا قد غابت فيه الأمثال، وهي إن وجدت لا نعرف كيف نستعملها، فقد حلت محلها جمل غبية ومعتوهة تعتمد البلاغة نهارا وليلا في الصحف والإذاعة والتلفزة، في شكل حديث إمبراطوري عقيم يولد الفراغ، ويمسح أشكال التخيل ليدمجنا في كلية المؤسسة الاجتماعية[45].

من هنا تحدث عن كتابة من نوع خاص هي كتابة مرسومة تأخذ شكل مغامرة تخط وتلون على جسد "ولهذا فإن الوجود الموشوم، والمكتوبLECRIT الموشوم يمكنهما أن يتأسسا داخل الإشكالية، ولنقل أن تفكيكا مماثلا للمعرفة الغربية يستجيب لرغبتنا، إذ إن ثقافتنا للغرب تستدعي ابتعادا مماثلا عن المركز. ويسمح لنا عمل دريدا بإعادة النظر في وضع الثقافات الأقل تمركزا حول اللوغوس"[46]، وهو الموقف الذي يثبت لنا الصلة الحميمية بين الخطيبي ودريدا هي صلة توثق لصداقة فكرية وروحية في الآن، هي صداقة عنوانها الأكبر الاختلاف ومفهومها المحوري هو الأثر والوشم.

خاتمة:

إذن ومن خلال ما سبق ذكره في متن هذا النص، نصل إلى مجموعة من النتائج يمكن رصدها في النقاط التالية:

- لقد كان الوشم في كثير من المرات رمزا للهوية والانتماء كما كان سائدا في المجتمعات الأمازيغية، وهذا ما أكده لنا الخطيبي في أغلب مؤلفاته؛ وذلك عندما أراد استبدال مركزية الذات العربية بمركزية الآخر الأمازيغي، ويستبدل معها الحرف العربي بالوشم الأمازيغي.

- إن الوشم أيضا أثر وعلامة حب وعشق ترتسم على جلد الكائن الغرامي، تروي لنا قصة حبه المكتوبة بالدم؛ فالوشم كما سبق وبيَّنا هو عبارة على كتابة بالدم لما أراد أن يصبح مؤبد، فيصبح العابر قاراً والغائب حاضراً والبعيد قريباً؛ ذلك أن الوشم يمكن أن نعتبره شكلا من أشكال الانفتاح على الآخرية؛ وذلك عندما تقوم الذات الواشمة بحمل الآخر الموشوم على جلدها في رمز، يحفظ أثر حبيبها الذي لا يكف عن الحضور كظل عابر.

- إن ما كان يسمى وشما عند الخطيبي، وهو المفهوم المركزي في فلسفته هو ما يسمى أثر عند لفيناس ودريدا، فالأثر عند لفيناس هو رمز للانتماء اليهودي والعشق الإلهي؛ وذلك عندما يرتسم على الوجه الإنساني، ليمنع ويحرم فعل القتل أي العنف، ليطالب بالسلم والحب.

 

قائمة المصادر والمراجع:

1- قائمة المصادر:

أ- باللسان العربي:

- عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج، الرباط، منشورات عكاظ، 2000

-عبد الكبير الخطيبي، السياسة والتسامح، ترجمة عز الدين الكتاني الإدريسي، المشروع القومي للترجمة.

- عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، ترجمة محمد بنيس، بغداد، بيروت، منشورات الجمل، 2009

-عبد الكبير الخطيبي، ما وراء الصدمة، الكرمل(فصلية ثقافية)، العدد: 12، 1984

ب- باللسان الفرنسي:

- Emmanuel Levinas, Totalité et Infini (Essais sur L’extériorité), Original edition: Martinus Nijhoff,1er édition, 1971

- Emmanuel Levinas, Difficile liberté (Essais sur le Judaïsme), éditions Albin Michel, 1963 et 1967

- Emmanuel Levinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence, original édition: Martinus Nijhoff, 1978

- Emmanuel Levinas, En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger, Paris, Libraire philosophique, 4emeédition,j.Vrin, 2010

- Emmanuel Levinas, Ethique et Infini (Dialogues avec Philipe Nemo), Librairie Arthème Fayard et radio-France, 1er édition, 1882

2- قائمة المراجع:

أ- باللسان العربي:

- إلزا غودار، أنا أو سيلفي إذن أنا موجود(تحولات الأنا في العصر الإفتراضي)، ترجمة سعيد بنكراد، الدار البيضاء، المركز الثقافي للكتاب، ط1، 2019

- جاك دريدا، هَوامشُ الفُلسَفَة، ترجمة منى طلبة، بيروت، القاهرة، تونس، دار التنوير، 2019

- عفيف البهنسي، النقد الفني وقراءة الصورة، القاهرة، دار الوليد.

- عمر مهيبل، من النسق إلى الذات، (قراءات في الفكر الغربي المعاصر)، الجزائر العاصمة، بيروت، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2007

ب- باللسان الأجنبي:

- Alexander Schnell, En face de l’extériorité, Levinas et la question de la subjectivité, Paris, Libraire philosophique J.Vrin, 2010

- Jean_Luc Marion, Figures de la phénoménologie (Husserl, Heidegger, Levinas, Henry, Derrida), Paris, Libraire philosophique J. Vrin, 2012

- Xavier Tilliette, Levinas et l’image de la trace, in: Levinas de l’Ȇtre à l’Autre, sous la coordination de Joëlle Hansel, Paris, press Universitaires de France, 1er édition, 2006

[1]- عفيف البهنسي، النقد الفني وقراءة الصورة، القاهرة، دار الوليد، ص138

[2]- عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، ترجمة محمد بنيس، بغداد، بيروت، منشورات الجمل، 2009، ص ص 56-57

[3]- مصدر نفسه، ص ص 63-64

[4]- مصدر نفسه، ص67

[5]- عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، مصدر سابق، ص70

[6]- إلزا غودار، أنا أو سيلفي إذن أنا موجود(تحولات الأنا في العصر الافتراضي)، ترجمة سعيد بنكراد، الدار البيضاء، المغرب، المركز الثقافي للكتاب، ط1، ص ص 197-198

[7]- Emmanuel Levinas, Totalité et Infini (Essais sur L’extériorité), Original edition: Martinus Nijhoff,1er édition, 1971.p.p.218-219

[8]- Emmanuel Levinas, Difficile liberté (Essais sur le Judaïsme), éditions Albin Michel, 1963 et 1967, p.p.56-58

[9]- Emmanuel Levinas, Difficile liberté (Essais sur le Judaïsme), op.cit, p.58

[10]- Alexander Schnell, En face de l’extériorité, Levinas et la question de la subjectivité , Paris, Libraire philosophique J. Vrin, 2010, p.p.68-69

[11]- Alexander Schnell, En face de l’extériorité, Levinas et la question de la subjectivité, op.cit, p.p.76-77

-[12] Xavier Tilliette, Levinas et l’image de la trace, in: Levinas de l’Ȇtre à l’Autre, sous la coordination de Joëlle Hansel, Paris, press Universitaires de France, 1er édition, 2006,p.137

[13]- Ibid, p.p.137-138

[14]- Emmanuel Levinas, Ethique et Infini (Dialogues avec Philipe Nemo), Librairie Arthème Fayard et radio-France, 1er édition, 1882, p.p.79-80

[15]- Jean_Luc Marion, Figures de la phénoménologie (Husserl, Heidegger, Levinas, Henry, Derrida), Paris, Libraire philosophique J. Vrin, 2012. p.p.166-167

[16]- Ibid, p.172 

[17]- Emmanuel Levinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence, original édition: Martinus Nijhoff, 1978 , p.p.31-32

[18]- Emmanuel Levinas, Totalité et infini, op.cit,p.221

[19]- Emmanuel Levinas, Autrement qu’ être ou au-delà de l’essence, p.27

[20]- Emmanuel Levinas, En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger, Paris, Libraire philosophique, 4emeédition,j.Vrin, 2010,p.278

[21]- Emmanuel Levinas, En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger, op.cit, pp.276-277

[22]- Emmanuel Levinas, Totalité et infini, op.cit, p.p.3-4

[23]- جاك دريدا، هَوامشُ الفُلسَفَة، ترجمة منى طلبة، بيروت، القاهرة، تونس، دار التنوير، ط1، 2019، ص54

[24]- جاك دريدا، هَوامشُ الفُلسَفَة، مرجع سابق، ص ص 56-58

[25]- عمر مهيبل، من النسق إلى الذات، (قراءات في الفكر الغربي المعاصر)، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، الجزائر العاصمة، بيروت، ط1، 2007، ص44

[26]- Emmanuel Levinas, En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger, op.cit, p.p.279-280

[27]- Ibid, p.p.280-281

[28]- عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، مصدر سابق، ص ص 18-19

[29]- مصدر نفسه، ص27

[30]- عبد الكبير الخطيبي، ما وراء الصدمة، الكرمل(فصلية ثقافية)، العدد: 12، 1984، ص ص 102-104

[31]- مصدر نفسه، ص 103

[32]- عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج، الرباط، منشورات عكاظ، 2000، ص ص 11-12

[33]- مصدر نفسه، ص ص22-23

[34]- مصدر نفسه، ص 23

[35]- مصدر نفسه، ص 32-34

[36]- عبد الكبير الخطيبي، السياسة والتسامح، ترجمة عز الدين الكتاني الإدريسي، المشروع القومي للترجمة، ص39

[37]- مصدر نفسه، ص42

[38]- عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج، مصدر سابق، ص24

[39]- مصدر نفسه، ص ص 5-6

[40]- مصدر نفسه، ص7

[41]- عبد الكبير الخطيبي، الإسم العربي الجريح، مصدر سابق، ص ص 8-9

[42]- مصدر نفسه، ص ص 24-25

[43]- مصدر نفسه، ص ص26-27

[44]- مصدر نفسه، ص ص 28-29

[45]- مصدر نفسه، ص 43

[46]- مصدر نفسه، ص57