بؤس المؤرخ


فئة :  مقالات

بؤس المؤرخ

 بؤس المؤرخ([1])


في قراءته لكتابي الأخير "بؤس التاريخ"، أبدى المؤرخ التونسي، محمد الطاهر المنصوري، ملاحظة وجيهة حينما كتب: "المسألة ليست مسألة بؤس التاريخ، بقدر ما هي بؤس المناهج المعتمدة. التاريخ العربي لا يزال في أغلبه يُكتب بالحبر الأبيض، وليس فيه سواد". بؤس التاريخ أم بؤس المؤرخ؟ هما وجهان لعملة واحدة. التاريخ هنا بمعنى الكتابة؛ الكتابة التاريخية، وكتابة التاريخ، وهذا ما لا يستشعره عدد كثير من المشتغلين في هذا الحقل، من أصعب أجناس الكتابة على الإطلاق. إذ نادرا ما يتوفَّق الباحث في التاريخ في إنتاج نص متين وسلس، يقرأه المؤرخ وغير المؤرخ. والسبب في ذلك، هو أن عمله مرتبط في الأصل بالوثائق وتحليلها بأدوات لا تخلو من ضبط وتفصيل، ثم تأويلها انطلاقا من مقولات ومفاهيم مقتبسة من العلوم الاجتماعية المجاورة. وكل مراحل هذه "العملية التاريخية"، كما يقول ميشال دو سيرتُو، تثقل كاهل المؤرخ، فيستسلم للكسل الفكري، مجتنبا الأسئلة المقلقة ومكتفيا في أغلب الأحيان بتحليل ما يتوفر عليه من وثائق، ويهمل الأهم، أي توليد الأفكار بتقديم تفسيرات وتأويلات.

هذا القصور هو الذي يفسر الملل والانحباس اللذين يأخذان بتلابيب القارئ، كلما تصفَّح كتابا من كتب التاريخ، فتظل المعرفة التاريخية معرفةً صرفة لا يلجها إلا أصحاب الاختصاص، ممن ألِفوا تحمُّل جفاف الكلمات والعبارات. لن أعود هنا إلى ما سبق أن قلتُه في الكتاب المذكور، من ضعفٍ في التأطير والتكوين، وضعفٍ في استعمال اللغات الحية، وضعفٍ في المتابعة النقدية، وما ينتج عن ذلك من هُزالٍ في تحرير الرسائل والأطروحات والمؤلفات من حيث المنهج، ورؤية الزمن، وبناء الموضوع، وعشوائيةٍ في تناول التاريخ، وتسرُّبٍ لأحكام القيمة ذات الشحنة الدينية أو القومية في الدراسات والمحاضرات، والتي تُفسد مفهوم "الحياد القيمي أو الأخلاقي" الذي صاغه السوسيولوجي ماكس ڤيبر في مطلع القرن العشرين.

ما أود التنبيه إليه هو أن الكتابة التاريخية اليوم في العالم العربي تعيش حالة من العقم، و"الإفلاس المنهجي"، كما قال المؤرخ المصري رؤوف عباس، وذلك لسببين رئيسين:

يتمثل السبب الأول، في غياب الصلة بمراكز البحث العالمية التي من شأنها أن تُطلع المؤرخ العربي على اتجاهات البحث الجديدة في كبريات الجامعات، والاستفادة من مناهجها ورؤاها التفسيرية.

أما السبب الثاني، فيكمن في سيادة الأعمدة الموروثة عن المدرسة الوضعانية:

- الأحداث: الارتباط بتفاصيل الوقائع السياسية والمناورات الدبلوماسية والصراعات العسكرية.

- الأفراد: التركيز على الدور الذي يلعبه الأفراد في مجرى التاريخ.

- الكرونولوجيا: البحث عن الأصول وتتبع الوقائع بحسب التسلسل الزمني.

إبستيمولوجيا، إذا رغبنا في استحضار تجربة الكتابة التاريخية في أوروبا خلال القرن التاسع عشر وبداية العشرين، كان المؤرخون يرون أن كتابة التاريخ كتابةً توصيفية بالاعتماد الحصري على الوثيقة، كافية لإضفاء صفة العلمية على التاريخ. حصل هذا مع المؤرخ الألماني ليوبولد فون رانكه، ومَن دار في فلكه من المؤرخين الألمان والفرنسيين والإنجليز في سياق ما عُرف آنذاك بالمدرسة الوضعانية. لكن سرعان ما تلاشت هذه القناعة لـمّا برز على الساحة عالم الاجتماع إميل دوركهايم وتلامذته الذين نفوا عنه هذه الصفة، لأنه يعرض الأمور ولا يفسرها، مؤكدين على مد الجسور بين علوم الإنسان، لتفسير التاريخ تفسيرا إشكاليًا، سوسيولوجيًا، يبحث في الجماعات والظواهر الاجتماعية والمؤسسات، ويرتب الماضي ترتيبا موضوعاتيا لا كرونولوجيا.

كان إميل دروركهايم، في تصدير العدد الأول من مجلة "السنة السوسيولوجية" عام 1896، قد كتب ما يلي: "لا يمكن للتاريخ أن يصير علما إلا إذا فسَّر، ولا يمكن للعلم أن يفسر إلا إذا قارن... والحال أن التاريخ إذا قارن لن يختلف عن علم الاجتماع". وإذا كان المؤرخ الوضعاني فوستيل دو كولانج، صاحب أول كرسي للتاريخ الوسيطي بجامعة السوربون، قد ردد مرارا كون أن "السوسيولوجيا الحقيقية هي التاريخ"، فإن جواب دروكهايم أكد على أهمية التحليل السوسيولوجي، إذ قال: "لا جدال في ذلك، شريطة أن يُكتب التاريخ بطريقة سوسيولوجية".

ومن جهة أخرى، يجد هذا الوضع تفسيره أيضا في صعوبة إنجاب خلفٍ في مستوى التطلعات. كتبٌ كثيرة صارت ترى النور في المدة الأخيرة في مختلف الأنحاء بفضل تيسُّر النشر، لكنها لا تقدم إضافة تذكر، بل إن معظمها مهلهل البناء ومكتوب بلغة رديئة وأخطاء فادحة، حتى أنها تبدو أقرب إلى المسودَّة منها إلى العمل المكتمل.

لقد أنجبت الجامعات في مختلف العواصم والمدن العربية، في العقود التي تلت الحصول على الاستقلال، جيلا من المؤرخين الكبار يصعب ذكر أسمائهم جميعا؛ فهم معروفون لدى جماعة الباحثين، وإسهامهم في تحقيق المخطوطات، وترجمة أمهات المؤلفات، والرد على الطروحات الاستعمارية، وتفكيك بنيات السلطة السياسية، كان مؤسِّسا، ومثمرا أيضا بالنسبة إلى الجيل الذي تلاه، والذي قدَّم بدوره إسهاما كبيرا في تحليل البنيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، سواء على مستوى منطقة من المناطق أو بلد من البلدان.

اليوم، وبالرغم من الجهود الجبارة التي يقوم بها عددٌ من الدارسين هنا وهناك، يسود استياءٌ عريض. الجميع يتحدث عن تراجع البحث التاريخي. التراجع حاصل فعلا بالقياس إلى التراكمات التي تحققت في السابق على مدى هذين الجيلين، من حيث كثافة الأبحاث وإتقان اللغات وسعة الاطلاع على ما يُنتج في أقسام التاريخ بالجامعات الفرنسية والبريطانية والأمريكية. لكن هذه التراكمات تبقى نسبية، إذ إن عددا منها ظل يحوم حول قضايا وموضوعات تستجيب لمواقع سياسية ومواقف إيديولوجية، أكثر مما تواكب مسارات التحول الحاصل في المعرفة التاريخية. وهكذا، انكب الكثير من الباحثين على دراسة قيام الدول وانهيارها عقب انتشار الإسلام خارج أرض الحجاز، والامتداد العثماني، والعلاقات مع أمم أوروبا، ونشأة القوى الوطنية، والكفاح ضد الاستعمار، وغيرها من الموضوعات التي تكررت كثيرا من دون مقاربة نوعية قادرة على الكشف عن المسكوت عنه، والجرأة على قول ما يُفعفِع اليقينيات.

مفاهيم كثيرة تحتاج إلى مراجعة بعيدا عن كل تشنج أو حكم مسبق. وهذه المراجعة لا تتأتى بالإصرار على التنقيب في الوثائق والمخطوطات، لأن هذه الأخيرة لا تقدم مهما كثرت وتعددت سوى إرهاصات لإعادة بناء الواقع التاريخي. ومعنى ذلك، أن المسألة هي مسألة مفاهيم بدرجة أساسية؛ لأن هذه المفاهيم هي التي تمكن من الحديث بلغة مغايرة عن لغة الوثائق وكتب الأخبار والارتقاء إلى درجة التفسير والتأويل.

ولذلك، تبقى أسئلة كثيرة مطروحة على المؤرخين العرب في مختلف الجامعات. أسئلة شائكة حقا، لكن تفادي الخوض فيها يُبقي المعرفة التاريخية على حالها:

- لماذا الإصرار على استعمال كلمات، مثل "الجاهلية"، و"الفتوحات"، و"الجهاد"، و"الأمجاد"، وغيرها من الكلمات ذات الدلالة الدينية أو القومية؟

- متى تنتهي القرون الوسطى في المغرب والمشرق، ومتى تبدأ الأزمنة الحديثة؟ وهل من المنطقي الكلام عن العصر الحديث في مرحلة لا وجود فيها لحسِّ الحداثة؟

- كيف يمكن معالجة صدمة اللقاء مع الغرب بدءًا بحملة نابوليون على مصر (1798) وانتهاءً باتفاقية سايكس بيكو التي قسمت الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا (1916)، ومرورا باحتلال الجزائر (1830)، بمنظور يتنبَّه لعتاقة البنيات الداخلية، أكثر مما يلقي اللوم على العوامل الخارجية؟

- لماذا نفتقر لدراسات تركيبية على مستوى تاريخ المغرب، أو تاريخ المشرق، أو حتى تاريخ المغرب والمشرق معا، برؤية مقارِنة تنير القارئ، وتمكنه من فهم الأمور لا الحكم عليها؟

- هل من سبيل للتخلص من هذه العقدة المزدوجة: ماضٍ مجيد، وعالم مسيحي كنا أقوى منه؟

وحتى على مستوى التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، لم تستطع الدراسات، التي تناسلت في المدة الأخيرة، تجاوزَ المستوى الوصفي. في حالات كثيرة، يجتهد المؤرخ منقبا في الأرشيف، ومحلِّلا ومدقِّقا لتفاصيل شائكة، ليقدم في نهاية المطاف عملا خاما، قد يستعمله عالم الاجتماع مثلا، فيقوده إلى تفسيرات واستنتاجات غايةً في الأهمية. هذا ما عبَّر عنه إيمانويل لوروا لادوري بالقول: "المؤرخ مثل المنجمي. يغوص عميقا في الأرض ليُخرج مادةً يستغلها علماءٌ آخرون، من سوسيولوجيين واقتصاديين". ما يقوله هذا المؤرخ الفرنسي يحدث بالفعل في عالمنا العربي. باحثون كثر في ميدان الأنثروبولوجيا، محليون وأجانب، استفادوا استفادة جمة من المونوغرافيات المنجزة حول مختلف القرى والحواضر، وقدَّموا بالاستناد إليها أعمالا مرموقةً. ولذلك، لا سبيل إلى تطوير المعرفة التاريخية من دون الاحتكاك بالعلوم الاجتماعية. لقد أصاب الأنثروبولوجي البريطاني إفانس بريتشارد لما قال: "أمام التاريخ خيارٌ واحد، إما أن يصير أنثروبولوجيا اجتماعية أو لا شيء".

حقل التاريخ شاسع وخصيب، وإمكانيات الخلق والإبداع قائمة. يكفي التوفر على الأدوات المعرفية اللازمة لإحداث نوع من التوازن بين ما تقوله الوثائق، وما يقتضيه الفهم من تفسير وتأويل، للتمكن من تجاوز مستوى الوصف والارتقاء إلى مستوى التفسير. أما الموضوعات، فهي متعددة، ويمكن ابتكارها أو إعادة زيارتها. ومنها:

- الاهتمام بالتاريخ الاقتصادي، بدراسة مظاهر اللاَّتراكم، حيث ظل الاقتصاد قبل البنيات الحديثة التي أدخلها الاستعمار اقتصادا زراعيا معاشيا، مهدَّدا بدورات الجفاف والجوع، في وقت كانت فيه أوروبا قد سارت على درب الميركانتيلية ثم الرأسمالية الصناعية التي اكتسحت العالم كله.

- الاهتمام بالتاريخ الاجتماعي بتسليط الضوء على البنيات القبلية والنخب الحضرية وأثرها على نظام المجتمع وممارسة السياسة، وتفكيك التمفصلات المهيكلة لنظام المجتمع: الديني والسياسي، المادي والرمزي، المركزي والهامشي.

- الاهتمام بتاريخ الحياة الاجتماعية والثقافية، بتسليط الضوء على طبيعة العلاقات بين الناس، وأشكال المعيش اليومي من مأكل وملبس ومسكن، والسلوكيات الجماعية والعقليات، باستخدام أدوات التحليل الأنثروبولوجي.

- الاهتمام بالتاريخ السياسي من منظور سوسيولوجي وأنثروبولوجي، من حيث معالجة السلطة والمؤسسات السياسية كشكل اجتماعي وثقافي، ودراسة دور الدين في المسار السياسي، وتناول قضايا الزمن الراهن، مثل أحداث "الربيع العربي" بعُدَّة منهجية تتيح للباحث إمكانية فهم البنية من خلال الحدث.

- الاهتمام بالذاكرة الجماعية آليةً من آليات تمثل الماضي واستحضاره، ومسارات تشكل هذا التمثل من الناحية الاجتماعية والسياسية والثقافية، والأخذ بعين الاعتبار الفرق الحاصل بين الشهادة التاريخية والكتابة التاريخية، خاصة فيما يتصل بسياقات التاريخ المعاصر، حيث تنشط الاستعمالات السياسية للماضي.

هذه هي الموضوعات التي من شأنها أن تمنح حق المواطنة التاريخية للمهمَّشين والكادحين والفلاحين والعمّال والنساء، وكل الفئات التي لم يكن باستطاعتها التعبير بشكل أدبي عن حياتها ومواقفها وإحساساتها. ثم إن الغوص في هذه الموضوعات يستلزم الجمع بين الصرامة العلمية وحسن الصياغة الأدبية، بين مستلزمات البحث الأكاديمي والسعي إلى مخاطبة جمهور واسع من القراء. فالقوة المعرفية التي تمتعت بها مدرسة الحوليات في فرنسا والصيت الكبير الذي خلفته عبر أنحاء العالم، خلال القرن العشرين، لا يتجلى فقط في اقتحام موضوعات جديدة مثل تاريخ الأغذية والزراعة، وتاريخ الجسد والمرض، وتاريخ الطبائع والسلوكيات، وتاريخ المخيال والأحلام، وتاريخ التمثلات والحساسيات، التي تنبض بالأنثروبولوجيا نبضًا، بل أيضا في القدرة على الكتابة بلغة سلسة، قريبة من المتخصصين وغير المتخصصين. هذا ما مكَّن المؤرخين في الغرب من التواصلِ مع الجميع عبر الكِتاب، ولكن أيضا عبر مختلف وسائل الإعلام، المكتوبة والمسموعة والمرئية، وجعلِ التاريخ قضية انفتاح وفضول وإحساس.


[1] نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 36