الإصلاح الديني في التجربة التاريخية الأوروبية


فئة :  مقالات

الإصلاح الديني في التجربة التاريخية الأوروبية

يردِّد المؤرخون والمهتمون بالتاريخ الديني لأوروبا مقولة مفادها أنّ العصر الوسيط ظاهرة كاثوليكية، بينما العصر الحديث ظاهرة بروتستانتية. ومسألة العصر أساسية لفهم هذا الأمر، لأنّها تحيل إلى سياق تاريخي كثيف يفسر كيف حصلت عملية إصلاح المنظومة الدينية، خلال القرن السادس عشر، وكيف أفرزت واقعًا تاريخيًّا كان له كبير الأثر في التأسيس لأفكار جديدة أكثر جرأة، خاصة في المرحلة اللاحقة المعروفة بعصر التنوير.

يستدعي تفكيك هذا السياق إبداء مجموعة من الملاحظات.

ملاحظة أولى: ارتبط الإصلاح الديني بتحولات اجتماعية وفكرية وسياسية شاملة أدخلت أوروبا في الأزمنة الحديثة في إطار ما يصطلح عليه بالنهضة. وقد لعبت المدينة دورًا كبيرًا في هذه التحولات. فالمدينة شكلت فضاءً جديدًا يسعى إلى التحرر من قبضة الإقطاع والكنيسة، وذلك بواسطة طبقة اجتماعية حاملة لمشروع التغيير، ألا وهي البورجوازية التي اشتغلت في التجارة، وانفتحت على العالم عن طريق الكشوفات الجغرافية، ورفعت شعار العقل. كما شهدت المدينة نشأة الجامعات إثر تلاحم المدارس التي صارت تبتعد عن اللاهوت وتدرِّس معارف جديدة ذات صلة بالقانون والفلسفة وأيضًا الفيلولوجيا التي مكنت من تتبع التحريفات الحاصلة في الإنجيل بالرجوع إلى النص الأصلي المكتوب باللغة الإغريقية. ومعلوم أنّ أولى الجامعات كانت قد ظهرت في باريس وأكسفورد في نهاية القرن الثاني عشر، لتتعدد بعد ذلك في مختلف مدن أوروبا الغربية والوسطى.

وشهد القرن السادس عشر حركة أدبية وفكرية تعرف بالإنسانوية، حيث برز مجموعة من المثقفين، أمثال الهولندي ديدي إيراسم، والفرنسي فرانسوا رابلي، والإنجليزي توماس مور، منحوا قيمة إنسانية للفرد ورأوا فيه طاقة قادرة على التحرر من الموروثات الجماعية، وعلى الخلق والإبداع في مجالات الفكر والفن. وكانت هذه الحركة الأدبية قد ارتكزت على الرصيد الفكري الإغريقي القائم على تحكيم العقل، واستندت إلى تقنية المطبعة التي ساهمت في بلورة هذه الثقافة الجديدة ونشرها. ورافق هذه الحركة، أيضًا، ارتقاء اللهجات المحلية، إذ تُرجم الإنجيل إلى الألمانية والإنجليزية والفرنسية، وغيرها من اللغات الناشئة[1].

ومن جهة أخرى، ساعد على ظهور حركة الإصلاح الديني ميلاد الدولة القومية التي تعاظم فيها نفوذ رجال القانون على حساب رجال الدين، فيما يتصل بمستشاري ملوك أوروبا، كما يتضح ذلك مثلاً في البلاط الإنجليزي لما اتجه مستشارو هنري الثامن، وفي طليعتهم توماس كرانمر، إلى تحكيم مسألة سيادة الدولة في الصراع مع البابا كليمانتي السابع عام 1534.

ملاحظة ثانية: انطلاق الإصلاح من داخل الكنيسة. ذلك أنّ المصلحين الدينيين كانوا رهبانًا أولاً وقبل كل شيء. لكنهم رهبان من طينة جديدة، لأنّهم تابعوا دراسات جامعية، وتلقوا تكوينًا جديدًا يقوم على القانون والفلسفة والفيلولوجيا. وهذا ما أهَّلهم لفهم اللاهوت برؤية جديدة تدعو إلى المراجعة والإصلاح. فضلاً عن أنّهم استطاعوا الحصول على كراس لتدريس هذا اللاهوت في عدد من الجامعات. نذكر منهم الإنجليزي جون فيكليف (ت 1384) الذي كان أستاذًا بجامعة أكسفورد، والتشيكي جون هوس (ت 1415) الذي شغل منصب عميد كلية اللاهوت بجامعة براغ، والألماني مارتن لوثر (ت 1546) الذي درَّس بجامعة فيتنبورغ، والفرنسي جون كالفن (ت 1564) مؤسس جامعة جنيف. ومعلوم أنّ هؤلاء المثقفين والمصلحين كان لهم تأثير بالغ في الكثير من الطلاب والرهبان في كليات اللاهوت التي اشتغلوا فيها.

ملاحظة ثالثة: إسهام الإصلاح في التحول الاقتصادي الذي مكَّن أوروبا من ولوج الرأسمالية. وسنخصص النقطة الأخيرة من هذا العرض لمسألة العلاقة بين البروتستانتية والرأسمالية بالرجوع إلى كتاب السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية".

لقد شكل الإصلاح الديني، الذي قسَّم أوروبا المسيحية إلى كاثوليكيين وبروتستانتيين، تجربة "فريدة" من الناحية التاريخية، كما يقول المؤرخ البريطاني يان كامرون، "إذ لم يسبق لحركة دينية، احتجاجية أو إصلاحية، منذ العصر القديم أن كانت على درجة كبيرة من الانتشار والصمود، على درجة كبيرة من النقد العميق، على درجة كبيرة من الهدم وإعادة البناء"[2].

1. أزمة الكنيسة

في العصر الوسيط، كان نظام العلاقات داخل الكنيسة، من البابا إلى القس، يتماشى مع نظام الفيودالية القائم على صلات التبعية، من الأمير إلى الفارس. كانت الهرمية هنا وهناك ملزمة ونسقية، إذ وجَّهت الكنيسة سياسة الأمراء وعقليات الناس، وهيمنت على الجميع هيمنة شاملة. لكن في نهاية العصر الوسيط، عندما أخذ الإقطاع في التفكك والبورجوازية في الارتقاء، مع النماء الكبير للمدن، بدأت تتغير الموازين الاجتماعية والثقافية والدينية. ويظهر ذلك في تعدد المدارس والجامعات، والتركيز في التعليم داخل المدن على القانون والفلسفة والحساب، وفي التجارة مع الشعوب غير الأوروبية والانفتاح على التعدد الثقافي. ويتجلى هذا التغير أيضًا في تنامي الدولة القومية. فقد كان لتعاظم سلطة الملوك منذ القرن الثالث عشر أثرٌ كبير في إضعاف سلطة الأساقفة.

في الواقع، تشير هذه المعادلة إلى مسألة في غاية الأهمية، إذ كلما اتجهت السلطة المدَنيّة والسياسية في شخص الملوك والأمراء نحو تدعيم بنياتها الإدارية والسياسية والعسكرية، وسارت بالتالي باتجاه التخلص من قبضة الكنيسة، تعمَّقت أزمة هذه الأخيرة. ونلمس هذا المسار عمليًّا خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر. قبل هذا التاريخ كانت هذه المعادلة تقوم على أساس احتكار الكنيسة لسلطة الإخضاع (autoritas)، أي إخضاع الجميع للنفوذ الديني، من الأمير إلى الفلاح. وفي المقابل، لم يكن الأمراء يمارسون سوى سلطة الأمر (potestas).

وبذلك كانت الكنيسة تتمتع بسلطة كاملة، مثلت مصدر الشرعية، أما الملوك فكانوا يمارسون سلطة الأمر والتدبير الإداري. وهذا تمييز أساسي بين "سلطة مؤسِّسة" و"سلطة تنفيذية"، كانت تخضع بموجبها الثانية للأولى. لكن هذه المعادلة أخذت في التغير في نهاية القرون الوسطى مع تنامي الـمَلكيات على أرض الواقع في مواجهة الفيوداليات المحلية، في سياق نشأة الدولة القومية، من جهة، ومع الانبعاث التدريجي للقانون الروماني، وما وفَّره من إطار قانوني لأنموذج الحكم، والذي سار شيئًا فشيئًا باتجاه استعادة عظمة الدولة، من جهة ثانية.

وهكذا انطلق مسلسل نقد المنظومة الكنسيَّة وسارت الأمور مع مرور الزمن باتجاه المناداة بإسقاط الوساطة الدينية التي كانت تلعبها هذه المنظومة بين الفرد وخالقه. هنا "يكمن الدرس الكبير الذي لقَّنته البروتستانتية للكنيسة، كما تقول جانين كيلي، والذي كانت له نتائج هائلة على المستويين السياسي والديني، إذ تمكنت السلطة السياسية من التحرر نهائيًّا من وصاية الكنيسة"[3].

ومن مظاهر هذه الأزمة، أيضًا، العقم الفكري الذي ساد في الأوساط العليا لهرم الإكليروس، إذ كان الأساقفة قد انغمسوا في مطارحات لاهوتية لا فائدة منها. هذا بالإضافة إلى الجهل المطلق لعموم الرهبان المسيِّرين للكنائس والأديرة ذات الاحتكاك المباشر مع عامة الناس.

وكانت أزمة الكنيسة قد انكشفت على مستوى قمة الهرم قبل أن تأخذ بعدًا عامًّا. ففي نهاية القرن الرابع عشر عاشت المؤسسة المسيحية تفككًا كبيرًا، يعرف في تاريخ أوروبا بِـ"الانشقاق الغربي الأعظم". ويتعلق الأمر بانقسام الكنيسة الغربية، في الفترة المتراوحة ما بين 1378 و1417، إلى سلطتين بابويتين. فإلى جانب بابا مدينة روما بإيطاليا، كان هنالك بابا آخر في مدينة أفينيان بفرنسا. ولم تستطع الكنيسة حل هذه المشكلة إلا في سنة 1417 حينما اعترف المجمَّع الديني، المنعقد بمدينة كونستونس في ألمانيا، ببابا واحد هو مارتان الخامس.

وفي مرحلة ثانية، اتسعت الأزمة بسبب ما أصبح يسود الكنيسة من مظاهر الترف الخارق والفساد الروحي. ففي بداية القرن السادس عشر، كان البابا الإسكندر السادس في واقع الأمر أميرًا أكثر منه أسقفًا. هذا ما دفع ببعض الباحثين إلى نعت البابوية بِـ "المونارشية"[4]. ومع البابا يوليوز الثاني شرع الفاتيكان ابتداءً من عام 1505 في بناء بازيليك كنيسة القديس بطرس في مدينة روما، التي استنزفت أموالاً باهضةً، وهو ما دفع بالبابا إلى الأمرِ ببيع الغفران إلى المسيحيين في كل كنائس أوروبا الغربية، إذ روَّجت الكنيسة المركزية في كل هذه الأنحاء لِوهْمٍ مفاده أنّ المسيحيين يمكنهم الحصول على المغفرة الإلهية من الذنوب والآثام التي يرتكبونها بواسطة تقديم مبالغ مالية معينة إلى كنائسهم المحلية، التي كانت تُرسَل إلى كنيسة روما. ومعلوم أنّ هذه الصكوك كانت قد اتخذت أشكالاً متعددة، منها ما كان من شأنه أن يمحو ذنبًا معينًا أو جميع الذنوب الماضية، وحتى الذنوب الممكن ارتكابها في المستقبل.

ونتيجة لهذا الأمر بدأت الأصوات ترتفع داخل الأوساط الدينية المستنيرة، وتندد بهذا السلوك، وتدعو إلى ضرورة مراجعة المؤسسة الدينية. وزاد من تعميق هذه الأزمة البابا ليون العاشر (1475-1521) الذي تولَّى أمر الفاتيكان عام 1513 وعمره لا يتجاوز الثمانية والثلاثين سنة، إذ كان من الصعب على الابن المدلل لأسرة الميديسيس الفلورانسية الثرية فهم ما يجري بالساحة الدينية، في وقت عمِلت فيه ثقافة النهضة على خلق مناخ فكري جديد اتسعت فيه دائرةُ استخدامِ العقل ونقدِ القوالب الجاهزة، إذ لم تمس الآدابَ والفنون فحسب، وإنّما أيضًا اللاهوتَ وطرائق ممارستِه.

وهكذا، انطلقت حركة الاحتجاج على الكنيسة والبابا والفساد الروحي بشكل عام. وخاض هذه المغامرة عددٌ من الدعاة إلى التغيير الديني، ليس فقط أولئك الذين خلَّدهم التاريخ أمثال الإنجليزي جون فيكليف، والتشيكي جون هوس، والألماني مارتن لوثر، والفرنسي جون كالفن، بل عددٌ لا يحصى من الرهبان والمثقفين المجدِّدين في كليات اللاهوت والكنائس والأديرة بمختلف مدن وقرى أوروبا الغربية والشمالية، الذين وَهَبُوا أرواحهم من أجل إرساء دعائم ثقافة دينية جديدة.

2. الإصلاح الأول: التشيكي جون هوس

اتخذت الحركات الإصلاحية منذ نهاية العصر الوسيط أشكالاً مختلفة، جماعية وفردية، دعت إلى التخلي عن الطقوس الكنسية الزائدة. لكنها تعرضت لقمع شرس من طرف الكنيسة المركزية والقوى الإقطاعية. إلا أنّ الأفكار التي عبَّر عنها المصلحون في وقت متأخر من هذا العصر، كانت أكثر أهمية بالنظر إلى الدور الذي لعبته في التمهيد لأفكار القرن السادس عشر البروتستانتية، وإن كان مصيرُهم جميعًا هو الإحراق أحياءً على يد الكنيسة. ويمثل هذه المجموعة، من دعاة الإصلاح الأوائل: الإنجليزي جون فيكليف، والإيطالي جيروم سافونارلي، وبالأخص التشيكي جون هوس الذي يعتبر أنموذجًا للراهب المثقف الذي وقف في وجه البابا ونادى بإصلاح الكنيسةِ وطقوسِها.

كان الراهب التشيكي جون هوس الذي توفي عام 1415 أنموذجًا لما أسماه الباحثون بِـ "الإصلاح الديني الأول"، إذ تمكن بفضل معرفته الواسعة في ميادين اللاهوت والفلسفة واللغات الكلاسيكية من تولي منصبِ عميدٍ بكلية اللاهوت بمدينة براغ. واستطاع كسب شعبية كبيرة لدى عامة الناس بسبب استعماله للهجة العامية التي سهَّلت عليهم فهمَ أفكاره الجديدة.

يمكن التعامل مع فكر هوس واحتجاجاته على الكنيسة الرسمية من خلال مرحلتين رئيسيتين. ففي المرحلة الأولى، التي أنجز فيها ترجمةً للإنجيل إلى اللغة التشيكية، وسلسلةً من التآليف حول المشكلات الدينية مثل "عبادة الصور"، و"حياة المسيح"، وعددٍ من الشروحات حول النصوص المقدسة، كان قد عبَّر عن مجموعة من الانتقادات بخصوص هذه النصوص والممارسات الدينية. أما المرحلة الثانية فقد انطلقت ابتداءً من سنة 1408، إذ أقدمَ على التنديد بشكل صريح بامتيازات الإكليروس. وأهم ما يميز هذه المرحلة على المستوى الفكري الجرأةُ التي أبان عنها في كتاباته المنتقدة للكنيسة، وفي طليعتها: كتاب "نداءٌ إلى البابا"، وكتاب: "قراءةُ كتب الدعاة لا إحراقها"، الذي دافع فيه عن أفكارِ الإصلاحي الإنجليزي جون فيكليف.

نادى جون هوس في كتاباته بتحديد البدع بالنظر إلى ما هو واردٌ في الإنجيل، وليس بالنظر إلى ما تسِير عليه الكنيسة الرسمية. وفي سنة 1412، لما روَّجت الكنيسة لتجارة الغفران التي كان البابا في حاجة إليها لتمويل حربِه ضد ملك نابولي، انتفض بقوة ضد ما أسماه بتجاوزات الكنيسة، وأعلن عصيانه لبلاط روما. فقد قال أمام مبعوثي البابا: "أنا مستعد للامتثال للبابا إذا كانت أوامره توافق أوامر المسيح، لكن إذا حصل العكس فلن أمتثل ولو أقيمت المحرقة أمامي"[5].

هكذا إذن، اشتد الصراع بين الطرفين، إذ صعَّد جون هوس من انتقاداته تجاه الكنيسة المركزية وصكوك الغفران، ونادى بالعودة إلى تعاليم المسيح الأصلية والالتزام بمبادئ العدالة الاجتماعية. وشكَّل كتابُه الأخير، "الكنيسة"، إشارةً قوية على الطلاق المعلن بينه وبين البابا، إذ ميَّز فيه بين كنيسة روما المادية، وكنيسة المسيح الروحية، ودعا الناس إلى السير على النهج الأصلي للكنيسة.

في نهاية المطاف، تمكنت الكنيسة الرسمية من التخلص من جون هوس. فقد ألقت القبض عليه وحاكمته وأحرقته حيّاً في السادس من يوليوز عام 1415 بمدينة كونستونس جنوب ألمانيا. وبذلك اختفى هوس من الساحة الدينية، لكن أفكاره الجريئة بقيت حيّةً في أوساط عامة الناس وحتى النبلاء في بلدان عديدة من أوروبا الوسطى، وخاصة في تشيكيا وألمانيا والنمسا وهنغاريا، ممهدة الطريق لداعيةٍ آخر وجد أمامه ظروفًا سياسية وثقافية مواتية لشن هجومٍ فكريٍّ كاسحٍ على البابا، وإنجاح مشروعه البروتستانتي، ألا وهو مارتن لوثر.

3. تحرير الكنيسة: مارتن لوثر وجون كالفن

أثرت أفكار جون هوس، تأثيرًا كبيرًا، في مذهب الألماني مارتن لوثر (1546-1483). كان لوثر يردد كثيرًا قولة شهيرة: "لقد أحرقوا هوس، ولم يحرقوا الحقيقة"[6]. لكن لوثر نجح فيما فشل فيه هوس. فإذا كان هوس قد راهن على عامة الناس ليلقى مصيره على المحرقة، فإنّ لوثر وجد إلى جانبه أمراءَ ألمان وبورجوازيةً حضرية في أتم الاستعداد لحمايته، ووجد في متناوله الإمكانيات الهائلة التي وفرتها المطبعة من أجل نشر دعوته.

مرَّ لوثر من محطتين. محطةٌ فكرية نظرية، ومحطةٌ عَمَلية تمثلت في مواجهة كنيسة روما. انطلق لوثر في بلورة مذهبه الإصلاحي من إشكالية وجودية، ألا وهي: "كيف السبيلُ للوصول إلى الحقيقة الإلهية؟" وللإجابة على هذا السؤال، ركز على الإنسان، أولاً وقبل كل شيء. يقول في كتابه الرئيسي "حرية المسيحي" (1520): "الحسنات لا تصنعُ الإنسانَ العادل، لكن الإنسانَ العادل لا يقوم إلا بالحسنات. وبالمثل، فإنّ السيئات لا تصنع الإنسانَ السيئ، لكن الإنسانَ السيئ لا يقوم إلا بالسيئات"[7].

يتعلق الأمر بقضية مركزية في النسق اللوثيري، ذلك أنّ ما يقوم به المرءُ لا يمكنه أن يعوض المرءَ نفسه. وبالتالي يبقى المطلوب، في المقام الأول، هو العمل على تغيير الإنسان وتحريره من التصور الديني السائد، القائم على ما يجب أن يفعله الإنسان، لا على ما يجب أن يكون عليه هذا الإنسان. وهذه في حقيقة الأمر فلسفةٌ عميقة جدًّا، وجدت طريقها إلى كبار فلاسفة أوروبا في العصر الحديث. فالاستقامة، برأيه، لا ترتبط بالخضوع لتعاليم الكنيسة وما تحث عليه الناس من الاعتراف بالذنب وشراء الغفران وتوزيع الصدقات، وإنّما بالسير على طريق العدل الرباني. وفي ذلك، بطبيعة الحال، تركيزٌ على قضية الإيمان المباشر بين الفرد والإله، وضربٌ للوساطة الدينية التي كانت تقوم بها الكنيسة.

وتعد فردانية الإيمان القضية الرئيسية التي تفسر كل مكونات المذهب اللوثيري. وهذه الفردانية هي التي ضربت المبادئ الثلاثة الكبرى التي يرتكز عليها النسق الكنسي، وهي:

-       تمييز الكنيسة بين رجال الدين وغيرِ رجال الدين.

-       احتكار الكنيسة لتأويل النصوص المقدسة.

-       امتياز تعيينِ الكنيسة للرهبان والقساوسة والأساقفة، وعقدِ المجمَّعات الدينية.

وفي مقابل هذا النسق، بلور مارتن لوثر تصورًا جديدًا يقوم على المبادئ الآتية:

-       كل مسيحي راهبٌ، وله الحق في خدمة خالقه.

-       كل مسيحي مؤهلٌ لتأويل النصوص المقدسة.

-       كل مسيحي مسؤولٌ عن الكنيسة وله الحق في تدبير شؤونها.

انطلاقًا من هذه القناعات، بدأ لوثر في شن حملة احتجاجية على ممارسات الكنيسة الرسمية وعلى البابا نفسه، مستندًا في ذلك، من جهة، إلى دعم الأوساط البورجوازية المتحررة والأرستقراطية المستنيرة، ومن جهة أخرى إلى فصاحته في إقناع الأساقفة والرهبان وطلاب كليات اللاهوت من أجل التخلص من وصاية أسقف روما.

وشكلت قضية الغفران حجر الزاوية في سلسلة الانتقادات التي وجهها لوثر للبابا ضمن رسالة بعث بها إلى أسقف مدينة مايونس، إذ عاتبه على سياسة صكوك الغفران التي خُصِّصت مواردها لتمويل عمليات تشييد كنيسة القديس بطرس وتزيينها، والتي استنزفت أموال الناس، معتبرًا أنّ المسيحيين لهم الحق في العفو الإلهي دون اللجوء إلى شراء الغفران.

وإلى جانب موقفه من بيع الغفران، جدَّد لوثر الكنيسة الألمانية، من خلال:

-       الدعوة إلى معابد بسيطة خالية من الزخارف والصور والتماثيل.

-       إقامة القداس باللغة الألمانية.

-       تغيير النشيد الديني الذي أصبح يعرف بالكورال اللوثيري.

-       إباحة زواج الرهبان، كما فعل هو شخصيًّا إذ تزوج من راهبةٍ وأنجب منها ستةَ أطفال.

وبلغ الصراع أوجه بين الطرفين في عام 1517 حينما حرَّر لوثر بيانًا من خمسة وتسعين عرضًا، نُشر أول الأمر باللاتينية، ثم فيما بعد بالألمانية. في هذا البيان، ندَّد بالخروج عن النص المقدس وفساد الكنيسة وتجارة الغفران. وعقب نشر هذا البيان، الذي أحدثَ غليانًا ثقافيًّا حقيقيًّا في أوروبا، رفض لوثر المثول أمام البابا ليون العاشر، مستندًا إلى حماية أمير بلاد الساكس، فريديريك الحكيم.

ويرى بعض المؤرخين أنّ لوثر استفاد على نحو كبير من الإمكانيات الهائلة التي قدمتها المطبعة بوصفها أداةً رئيسية لنشر أفكاره الإصلاحية على نطاق واسع في أوساط عموم الناس، إذ ساهمت هذه التقنية الجديدة في نجاح هذه الأفكار في بلدان عديدة داخل أوروبا. فقبل عصر النهضة كانت قد ظهرت في جهات أوروبية كثيرة أفكار خارجة عن الخط الرسمي للكنيسة المركزية، لكن هذه الكنيسة كانت تفلح في قمعها. أما لوثر، كما هو الشأن بالنسبة إلى جون كالفن، فقد وجد في متناوله هذه التقنية الفعالة لشن هجوم ثقافي غير مسبوق على كنيسة روما ونشر أفكاره الإصلاحية. وبذلك انطلقت ما يمكن تسميته بلغة عصرنا حملةٌ إعلامية بين البروتستانتيين والكنيسة الرسمية.

تمكن لوثر بفضل المنشورات من إثارة الرأي العام. فالأفكار الجديدة لم تنشر عن طريق الكتب فحسب، وإنّما أيضًا بفضل منشورات تشبه الملصقات والصحف الحالية. في هذا الصدد يقول لوسيان فيفر وهيرفي مارتان في مؤلَّف هام جدًّا تحت عنوان: "ظهور الكتاب": "في الواقع كانت الملصقات من وراء كل مرحلة كبرى في الإصلاح"[8]. ففي نضاله ضد البابا أقدم لوثر في 31 أكتوبر 1517 على إلصاق البيان المندد بسياسة الكنيسة المركزية على باب كنيسة فيتنبورغ، وهو ما شكل انطلاقةً حقيقيةً للاحتجاج على الخط الرسمي للمسيحية. وفي مرحلة موالية، ألصق لوثر وأتباعه البيانات المنددة بصكوك الغفران في كل ألمانيا، إذ في أقل من شهر انتشرت أفكار لوثر في كل ألمانيا. وأقبل الناس في ألمانيا على النص المندد بتجارة الغفران على نحو كبير أدهش لوثر نفسه، وأوضح له في الوقت نفسه أنّ البلاد لم تكن تنتظر إلا إشارة للجهر بما تُكِنُّه من سخط تجاه الكنيسة، وهذه الإشارة لم تكن ممكنة من دون الاستناد إلى المطبوعات.

وزاد من حدة هذه الحملة الإعلامية التي وفرتها المطبعة الحملةُ المضادة التي حاولت الكنيسة المركزية القيام بها، وذلك في شخص ملك إسبانيا شارل الخامس. في سنة 1521 طبعت الكنيسة منشورات وألصقتها على جدران المدن، تندد بأفكار لوثر وتطالب بإحراق كتبه. والحال أنّ هذه المنشورات قد عَرَّفت الناس بوجود كتب ممنوعة. فكانت النتيجة أن سارع هؤلاء بدافع الفضول إلى البحث عن هذه الكتب المثيرة للصراع للتعرف على محتوياتها.

لقد استطاع لوثر تفجيرَ الوحدة الدينية في أوروبا الغربية ونشرَ البروتستانتية في مجموع التراب الألماني، في مرحلة أولى، ثم في البلدان السكندينافية في مرحلة ثانية، حيث تبنى ملوكُ كل من الدنمارك والسويد والنرويج المذهب اللوثيري، بصفة تدريجية، دون قلاقل اجتماعية، وتخلَّوا رسميًّا عن الديانة الكاثوليكية.

وإذا كان الإصلاح اللوثيري قد نبع من الكنيسة ذاتها وفي جو من التفكك السياسي، جعل لوثر يستند إلى الأمراء الانفصاليين، وينجح بالتالي في مشروعه الديني في كل ألمانيا، فإنّ الإصلاح الكالفيني نبع من الجامعة، في جو سياسي كانت تغلب عليه سلطة المونارشية الفرنسية ومعاداتها للتجديد الديني، وهو ما يفسر انتشار اللوثيرية في مجموع التراب الألماني، وبقاء الكالفينية سجينة المنفى وعلى هامش البلد الأم، فرنسا.

وكما هو الشأن بالنسبة إلى لوثر، كان المصلح الفرنسي جون كالفن (1564-1509) يتمتع بتكوين متعددٍ في اللاهوت والقانون والفلسفة اليونانية. من الناحية اللاهوتية هنالك تقاربٌ واضح بين مذهبي لوثر وكالفن. فقد تأثر كالفن بأفكار لوثر بشكل كبير لاسيما فيما يخص التركيز على فردانية الإيمان، والتقرب من الخالق دون الحاجة إلى وساطة الكنيسة. أما الاختلاف بين المذهبين فيكْمُن في التفاصيل المرتبطة بممارسة الدين وطقوس العبادة، وأيضًا فيما يتصل بمجسَّمات الكنيسة، إذ لم يقتصر على التخلي عن التماثيل والصور التي تزين أماكن العبادة كما فعل لوثر، بل دعا حتى إلى التخلي عن الصليب نفسه.

ويوضح كتاب "المؤسسة المسيحية"، الذي نشره كالفن بمدينة بال السويسرية عام 1536، هذا المذهب بصورة قوية. ويمكن النظر إلى المذهب الكالفيني من خلال المبادئ الآتية:

-       وجودُ إله مطلق لا يمكن للعقل البشري إدراكُه والإمساكُ به.

-       استقلالُ الفرد بذاته في علاقته مع خالقه.

-       ارتباطُ نجاةِ الإنسان من عذاب الآخرة بفعل الخير وتأكيد عظمة الخالق.

لم يكن كالفن يرغب، في بداية الأمر، في خلق انشقاق داخل الكنيسة الفرنسية على النحو الذي نلمسه في ألمانيا، وإنّما فقط في إصلاحها، وجعلها تسير على طريق النص الأصلي للإنجيل. لكن النهج الذي دعت إليه الدوائر الكالفينية والمتمثل في تحكيم النص المقدس على أوامر البابا لم يُرض السلطة المونارشية، إذ لم تتردد في ملاحقة الدعاة الجدد واضطهادهم. وتشكل "قضية الإعلانات ضد القداس"، التي سبَّت البابا بشكل علني، والتي أُلصقت على جدران مدينة باريس، وحتى على أبواب إقامة الملك فرانسوا الأول في 17 أكتوبر 1534، الحدثَ الذي أشعل فتيل الصراع بين دعاة الإصلاح الديني والدولة الفرنسية.

ومعلوم أنّ رد فعل فرنسا كان عنيفًا، إذ اعتقلت الكثيرَ من أنصار كالفن وأحرقت منهم أربعين فردًا. فعلى خلاف ألمانيا وهولندا وإنجلترا، حيث أشرفت الدولة بطريقة أو بأخرى على الإصلاح الديني، ظلَّ ملوك فرنسا أوفياء للكاثوليكية، وشددوا الخناق على البروتستانتيين. وتفسر سياسة التشدد هذه كيف تحولت الدعوة إلى البروتستانتية ومناهضتها من قبل السلطة إلى صراعاتٍ دموية حقيقية تعرف باسم "الحروب الدينية" التي امتدت ما بين عامي 1562 و1598، والتي فجرت الصراع الأوروبي بين المذهبين البروتستانتي والكاثوليكي على أرض فرنسا، وعلى حساب أهاليها، وتسبَّبت في مآس جماعية، لاسيما من جهة البروتستانتيين الذين قُتلوا بالآلاف.

لقد أدت سياسة التشدد التي نهجتها المونارشية الفرنسية تجاه الفكر البروتستانتي، إلى فرار كالفن وعدد من أنصاره إلى الخارج. وشكلت مدينة استراسبورغ محطةً أولى في طريق الهجرة إلى مدن أخرى، بسويسرا خصوصًا، التي احتضنت بشكل لافت للنظر دعاةَ الإصلاح الفرنسيين. من هذه المدن بَالْ، ونيوشاتل، ولاسيما جُنيف، التي احتضنت عددًا كبيرًا من الدعاة الكالفينيين ونشرت كُتبَهم حتى أصبحت تعرف بِـ "مدينة كالفن" أو "عاصمة الكالفينية".

وكما هو الشأن بالنسبة إلى لُوثر، استفاد جون كالفن وأتباعه من الإمكانيات الهائلة التي قدمتها المطبعة. تمثل ذلك في المطبوعات والمؤلفات التي دعت إلى إصلاح الدين وتحريره من قبضة الكنيسة. وعلى الرغم من مراسيم المنع البابوية ومحاكمات المصلحين الدينيِّين والحراسة المشددة التي مارستها السلطات بواسطة كليات اللاهوت، تسرَّبت هذه المطبوعات والمؤلفات إلى فرنسا عن طريق معارضِ ألمانيا والباعةِ الجائلين، وخلقت أقليةً بروتستانتية لم تستطع ممارسةَ عقيدتها الجديدة إلا في نهاية القرن السادس عشر، مع الملك هنري الرابع، إثر مرسوم نانْت الموقع عام 1598.

وإذا كانت أفكار كالفن قد ظلت حبيسة المنفى، ولم تلق نجاحًا كبيرًا في فرنسا، فإنّها وجدت، في المقابل، طريقها للانتشار الواسع في بلدان كثيرة من أوروبا، وخصوصًا في سويسرا وهنغاريا وهولندا وإنجلترا واسكتلندا. ففي إنجلترا بوجه خاص، حيث أشرفت المونارشية على الإصلاح الأنجليكاني على نحو رسمي مع الملك هنري الثامن، والملكة إليزابيث الأولى، تبنَّت الكنيسة الإنجليزية العقيدة الكالفينية، وأخذت بكتاب صلواتِ كالفن وأفكاره.

4. البروتستانتية والرأسمالية

تحيل هذه الإشكالية إلى العلاقة المعقدة بين الدين والاقتصاد. فهل التغيرات التي حصلت في البنية الاقتصادية (نشأة الرأسمالية مع الكشوفات الجغرافية واتساع التجارة العالمية) هي التي كانت من وراء تطور الأفكار المرتبطة بالدين؟ أم أنّ تطور المواقف تجاه الدين هو الذي كان من وراء تقدم الاقتصاد ودخوله في النسق الرأسمالي؟

تتضارب الآراء بهذا الخصوص بشكل كبير. وعمومًا يصعب التسليم بالطرح الماركسي الذي يرى في الدين أحد مكونات البنية الفوقية، ويضعه بالتالي في تبعية لمتغيرات البنية التحتية، الاقتصادية والاجتماعية. يرى المؤرخ الفرنسي جون دوليمو في كتابه "نشأة الإصلاح وانتشاره" أنّ صحة النظرية الماركسية تستلزم، من حيث المبدأ، أن تظهر البروتستانتية في إيطاليا التي شهدت تطورًا كبيرًا في ميدان المال والأعمال في هذه الفترة، بالإضافة إلى أنّ البابا ليون العاشر الذي حصل في عهده الغليان الديني ينحدر من أسرة الميديسيس المعروفة بنشاطاتها التجارية والبنكية. والحال أنّ ليون العاشر هو الذي أصدر قرار العزل في حق مارتن لوثر. ثم إنّ معظم رجال الأعمال في القرن السادس عشر، سواء منهم الجينويين أو الفلورانسيين، الذين هيمنوا على التجارة والمال حتى مطلع القرن الموالي، ظلوا أوفياءَ للكاثوليكية.

وعلى عكس الطرح الماركسي، يرى الاتجاه الذي سار على درب ماكس فيبر، صاحب الكتاب الشهير "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، أنّ الفكر البروتستانتي الكالفيني، الذي أباح الرِّبا هو الذي مهد الطريق أمام تطور الرأسمالية. وقد دافع عن هذا الرأي عددٌ من الباحثين الذين تناولوا الرأسمالية لا من الوجهة الاقتصادية فحسب، بل أيضًا من الوجهة السوسيولوجية. في مقدمتهم الاقتصادي والمؤرخ البريطاني ريتشارد هنري توفني، صاحب كتاب "الدين ونشأة الرأسمالية" (1926)، والاقتصادي الإيطالي أمينتوري فانفاني مؤلِّف "الكاثوليكية والبروتستانتية والرأسمالية" (1935).

وفي الاتجاه نفسه، يرى الاقتصادي الألماني فيرنير سومبارت في دراسته "اليهود والرأسمالية"، أنّ اليهود الذين كانوا يملكون الأموال ويمارسون الربا، هم الذين دفعوا بالرأسمالية إلى الأمام، إذ حصل التقاء بين التصورين اليهودي والبروتستانتي. هذا ما جعل بعض الباحثين يتكلمون عن البروتستانتية باعتبارها "يهودية جديدة"[9].

لقد ظهر نقاش حقيقي في أوساط رجال الدين والبورجوازية، من أجل تجاوز القاعدة الموروثة عن العصر الوسيط، والمتمثلة من جهة في "السعر العادل" كون أنّ بنية الاقتصاد الوسيطي تقوم على الاستهلاك وليس على الإنتاج والاستثمار؛ والمتمثلة من جهة أخرى في "عقم المال"، كونه "لا يلد". وسعيًا إلى إباحة الربا وإنماء المعاملات التجارية والمالية الجديدة، التي لم تكن ضروريةً بالنسبة إلى التجار والمرابين فحسب، بل أيضًا لرجال الكنيسة أنفسِهم، توصَّل رجال العصر الحديث، وفي طليعتهم كالفن، إلى تخريجةٍ في غاية الأهمية وهي ضرورة الأخذ بعين الاعتبار "حصة المجازفة" في التعامل المالي. وهذا ما جعله يبرِّر حق صاحب رأسِ المال المانحِ للقرض في الحصول على الفائدة.

ويفسر هذا الموقف الجديد تجاه النقد التطورَ الكبير الذي شهدته بعض المدن في القرن السابع عشر من الناحية المالية، وتحولَّـها إلى محطات بنكية هامة في أوروبا كما كان عليه الأمر في أمستردام وجنيف. لقد خلقت البروتستانتية تصورًا جديدًا للثروة، إذ أنّ القدرة على الامتلاك والاجتهاد في العمل والنجاح في شؤون المال والأعمال شكَّلت في نظر البروتستانتيين واجبًا دينيًّا، وعلامةً من علامات الرضا الإلهي. وهكذا، تماشيًا مع منطق ماكس فيبر، دفعت البروتستانتية الاقتصادَ الأوروبي باتجاه الرأسمالية وأسهمت في تطويرها وتقديم الأفكار الضرورية لتبريرها.

ومهما يكن من أمر، فإنّ ما يثير الانتباه هو هذا التلاقي بين "أصولية" البروتستانتية، كما يقول جورج كزاليس، وليبرالية الرأسمالية[10]. فالرجوع إلى الأصل الذي نادى به المذهب اللوثيري- الكالفيني، أي تحريرُ الدين المسيحي من الطقوس الزائدة والعودة به إلى الأصل، ومن ثم تحريرُ الفرد من وصاية الكنيسة وضغوطاتها وجعلُ الإيمان قضية فردية، كان قد وجد وسطًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا مواتيًا، إذ كانت الطبقة البورجوازية الصاعدة تسعى في مشروعها الاجتماعي والثقافي إلى الغاية نفسها، أي تحرير الفرد من إرث الإقطاع وجعل المبادرة الاقتصادية قضيةً فردية. ففي هذا المشروع المشترك المتمثل في التحرر من قيود الماضي، التقت "الأصولية" و"الليبرالية" من أجل فتح آفاق جديدة أمام المجتمع برمته.

ومن جهة أخرى، خلقت هذه المتغيرات الدينية مسارًا فكريًّا حقيقيًّا باتجاه الفردانية والعقلنة والعلمانية. ويتجلى هذا الأمر في العناصر الآتية، والتي نختتم بها هذه المحاضرة:

أولاً، إنّ البروتستانتية بإسقاطها للرهبنة أضعفت السلطةَ الاجتماعية الوسائطية التي كانت تمارسها الكنيسة على البشر، ودعمت فردانيةَ الصلة بين الفرد والخالق، ومن ثم أسهمت في بلورة حقوق الفرد التي تأكدت فيما بعد مع الثورات البورجوازية.

ثانيًا، إنّ إسقاط القداسة عن السلطة الدينية سهَّل عمليةَ إسقاط القداسة عن السلطة السياسية، إذ بدأت هذه الأخيرة تأخذ طابعًا دنيويًّا، وهو ما ساعد في وقت لاحق على الدعوة إلى الفصل بين الدين والدولة.

ثالثًا، إنّ البروتستانتية، وما أفرزته من أفكار مختلفة عما كان سائدًا في الأوساط الدينية التقليدية، فتحت للناس طريقَ تعدُّدِ الأفكار والآراء.

مراجع:

-   حبيدة (محمد)، تاريخ أوروبا: من الفيودالية إلى الأنوار، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة بحوث ودراسات رقم 42، الرباط، 2010.

-  فيبر (ماكس)، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية (1901)، ترجمة محمد علي مقلد، منشورات مركز الإنماء القومي، 1990.

-   CAMERON (E.), The European Reformation (1991), second ed., Oxford University Press, 2012.

-    CARBONNIER-BURKARD (M.), Calvin, une vie, Paris, Desclée de Brouwer, 2009.

-  CASALIS (G.), Le Protestantisme, Paris, 1976.

-    DELUMEAU (J.), Naissance et affirmation de la Réforme (1973), 6e éd., Paris, 1991.

-   KUHN (F.), Luther, sa vie, son oeuvre, Paris, 3 vol., 1883-1884.

-     LE GOFF (J.), « Le christianisme médiéval », dans Histoire des religions, t. 2, Paris, Gallimard, coll. La Pléiade, 1972.

-   ROPS (D.), La Renaissance et la Réforme, Paris, 1955.

-    TAWNEY (R. H.), La religion et l’essor du capitalisme (1926), nouvelle éd., Paris, 1951.


[1] حول الإنسانوية ودورها المحوري في عصر النهضة، راجع محمد حبيدة، تاريخ أوروبا: من الفيودالية إلى الأنوار، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة بحوث ودراسات رقم 42، الرباط، 2010، ص ص 85-91

[2] E. Cameron, The European Reformation, second edition, Oxford University Press, 2012, p. 1.

[3] J. Quillet, Les clefs du pouvoir au Moyen Age, Paris, 1972, p. 123.

[4] F. Rapp, L’église et la vie religieuse en Occident à la fin du Moyen Age, 4e éd., Paris, 1991, p. 47.

[5] G. Casalis, Le Protestantisme, Paris, 1976, p. 29.

[6] نفسه، ص 46

[7] نفسه، ص 21

[8] L. Febvre et H. Martin, L’apparition du livre, Paris, 1958, p. 435.

[9] J. Delumeau, Naissance et affirmation de la Réforme, Paris, 1991, p. 305.

[10] G. Casalis, Le Protestantisme, Paris, 1976, p. 104.