باقية ببقاء أسبابها!


فئة :  مقالات

باقية ببقاء أسبابها!

خطب أبو بكر البغداديّ في شهر رمضان من عام ثلاث وثلاثين وأربعمائة وألف هجريّا في أنصاره محرّضا على أعداء الدولة الإسلاميّة، وداعيا كلّ شباب المسلمين إلى أن يهبوّا لنصرة "الدولة الإسلاميّة" وإلى علماء المسلمين إلى أن يطّلعوا على برامجها دون تعتيم أو تشويه. ولعلّ الشعار الأبرز الذي تردّد في خطبته هو شعار "باقية" الذي هتفت به حناجر المنتمين إلى هذا التنظيم وأضحى رمزا للدّولة الإسلاميّة، إلاّ أنّه بعد سنوات من تمدّد هذا التنظيم تراجعت قوّته وضعفت أحلافه وبدا القضاء عليه وشيكا، بل شبه نهائيّ. فهل يعني ذلك نهاية "الدّولة الإسلاميّة" وفشل المشروع السنّي الأصولي في مواجهة أعدائهم؟

إنّ أوّل المداخل التي يمكن أن تفسّر الاتّجاه نحو الأصوليّة هو فشل النظام الدولتي من الناحية السياسيّة وعجز النخب عن رسم آفاق إصلاحيّة

لعلّ الإجابة عن السؤال لا تمرّ حتما عبر بحث النتائج، وإنّما بالبحث في الأسباب التي تقف وراء انتشار مثل هذه الدعوات وتحوّلها من مجرّد تنظيم محدود القوّة إلى دولة لها مجالها الجغرافيّ ونفوذها على أرض العراق وسوريا.[1]

إنّ أوّل المداخل التي يمكن أن تفسّر الاتّجاه نحو الأصوليّة هو فشل النظام الدولتي من الناحية السياسيّة وعجز النخب من الناحية الثقافيّة والتربويّة عن رسم آفاق إصلاحيّة، سواء أكانت تحت مسميات ليبراليّة أو شيوعيّة أو قوميّة، فكلّ تلك المشاريع الإيديولوجيّة اختزنت تبريرا للاستبداد وممارسة للعنف بجميع أشكاله الماديّة والرمزيّة.

يمكن أن نستفيد من "هابرماس"[2] ونحن نقارب أثر القمع الذي تعرّضت له الحركات الإسلاميّة منذ ظهورها. فالعقل الشموليّ هو الذي وسم الأنظمة السياسيّة والثقافيّة في العلم العربيّ الإسلاميّ وجعلها تهدر كلّ فرص للتواصل مع هذه الحركات قصد تأسيس عقل تواصلي يحدّ من عنفها، ويمنع انفلات تصوراتها الإيديولوجيّة وتحوّلها إلى مشاريع توحّش وعنف تكفيريّ[3]. فالقمع الذي تعرّضت له الحركات الإسلاميّة جعل أسباب التواصل منقطعة بينها، وبين الأحزاب الحاكمة. وحرمانها من المشاركة في الحياة السياسيّة عمّق الوعي لدى أنصارها بأنّ معاداة تلك التنظيمات يجسّد في الحقيقة عداء للإسلام عامّة، فقد أسهمت عقليّة المظلوميّة في زراعة وهم الاعتقاد بأنّ تلك التنظيمات تحمل حلولا سحريّة للشعوب العربيّة الإسلاميّة. ولذلك ساد الاعتقاد بين دعاتها أنّ الأنظمة الحاكمة متحالفة مع القوى الاستعماريّة والنخب الليبراليّة أو الشيوعيّة "الكافرة"، وهي متآمرة مع تلك القوى من أجل منع قيام مشروع إسلاميّ يمكّن المسلمين من تحقيق أحلامهم التاريخيّة باستعادة مجدهم والنصر على أعدائهم. لقد ظلّ هذا الوعي محرّكا للاعتقاد بأنّ الخلاص سيكون على يد الجماعات الإسلاميّة، وأنّ العائق الوحيد الذي يقف حائلا دون ذلك هي الأنظمة الاستعماريّة التي تنوب الأجنبيّ في معاداة الإسلام وقهر دعاته. لعلّ هذا الشعور هو ما جعل الجماعات الإسلاميّة تجد أسباب نجاحها في الوصول إلى السلطة على أنقاض النظم الدولتيّة التي تكوّنت بعد الاستقلال وقامت على الولاء للحزب الواحد والزعيم المنقذ واعتمدت إيديولوجيّة علمانيّة مشوّهة، وإن اختلفت أشكال الوصول إلى السلطة بين أحزاب رضيت بالنظام الديمقراطيّ وأوجدت مبررات للقبول به، فأطلقت على نفسها لقب "الإسلام الديمقراطيّ"، أو تيارات رفضت الأنظمة الديمقراطيّة، وظلّت تبحث عن تحقيق مشروعها بصيغة "الدولة الإسلاميّة" التي لا دولة شرعيّة سواها.

أثبتت الليبراليّة المتوحّشة قصر نظرها إلى المصير الإنسانيّ المشترك وأضحت دوائرها السلطويّة تفكّر في الهيمنة والتوسّع

إنّ إعادة إنتاج الفشل السياسيّ بالعجز عن إيجاد حلول لأزمات المجتمعات العربيّة والعجز الثقافيّ عن خلق عقل نقديّ يقطع مع التصوّر الثنائيّ للعالم ويستبعد اختيار العنف من برامجه، يمكن أن يعيد إنتاج الأسباب الموضوعيّة لانتعاشة الجماعات التكفيريّة العنيفة، ويمكن أن تتحوّل تلك التنظيمات من أطرها القديمة إلى أطر جديدة تجد صيغا مبتكرة للعنف. فتاريخ الإنسانيّة حافل بالإبداعات في أشكال العنف وأساليبه. وليس غريبا أن تتحوّل وسائل العنف عند الجماعات الأصوليّة إلى اعتداء على المرافق العامّة كالمطارات والملاعب والجامعات وتدمير لكلّ أشكال التحديث وتهديد لحياة الملايين من البشر في جميع أنحاء العالم؛ فقد استعرضت هذه الحركات أشكالا مبتكرة من العنف مثل تفجير الطائرات والاعتداء على القطارات ودهس الجماهير أثناء احتشادهم والطعن بالسكاكين وإطلاق الذئاب المنفردة لتزهق أرواح البشر على الشواطئ وفي الفنادق والحافلات... وليس غريبا أن تكون وجهات العنف المقبلة المرافق العامّة وشبكة المياه والسدود ومولدات الكهرباء ...

إن تلك الأشكال هي مجرّد فرضيات تجسّد ما يمكن أن يصير عليه العنف حين يعجز البشر عن اجتثاث أسبابه والقضاء على منابعه. وإنّ أسوأ السيناريوهات المحتملة يمكن أن تؤول إلى حروب بيولوجيّة أو أسلحة جرثوميّة فتّاكة..

لقد أثبتت الليبراليّة المتوحّشة قصر نظرها إلى المصير الإنسانيّ المشترك وأضحت دوائرها السلطويّة تفكّر في الهيمنة والتوسّع غير عابئة بما يمكن أن يؤدّي إليه توحّشها من توحش مضاد، وما يمكن أن ينتج عن عنفها الاقتصاديّ من عنف باسم الدين. فالفوارق تتزايد بين دول حققت لنفسها كلّ أسباب التطوّر والغلبة حتّى ساد الاعتقاد عند بعض مفكريها بنهاية تاريخها واستكمال نضجها، ودول تتزايد مشاكلها السياسيّة والاجتماعيّة، رغم ثرواتها الباطنيّة وإمكانياتها البشريّة ويتعمّق الإحساس عند شعوبها بالعجز والإحباط والوهن لتؤول في بعض الأحيان إلى مشاريع على هامش التاريخ تستعيد النظم القروسطيّة وأشكال القمع القديمة. ولعلّ العيّنة العراقيّة خير شاهد على ما يمكن للاستعمار الجديد الذي لا همّ له سوى استنزاف النفط من أثر على البنية الاقتصاديّة والاجتماعيّة. فسيكولوجيّة العنف البشريّ حافلة بأشكال القتل وقصص العنف البشريّ ضدّ بني البشر. "ولقد حقّق البشر وضعهم الحاليّ كسادة للمخلوقات، لأنّهم أكثر الحيوانات اجتماعيّة على الأرض، ولكن لأنّهم حيوانات اجتماعيّة، فإنّهم يظلّون متطلّعين إلى الآخرين من البشر، ليستمدّوا منهم إشارة بدء أي فعل يفعلونه –سلبا أو إيجابا- وعلى ذلك، فإنّ المفتاح إلى الجريمة يكمن في تاريخ البشر كوجود اجتماعيّ."[4] وبتطوّر التقنيات ووسائل القتل صار الإنسان أكثر قدرة على ابتكار وسائل جديدة للعنف في إطار تفاعله مع واقعه الاجتماعيّ.

لقد هلّل كثير من العراقيين ممّن عانوا طوال فترة حكم "صدّام حسين" من الدكتاتوريّة والحروب التي خاضها نظامه ضدّ الإيرانيين[5]، واعتقد الليبيون أنّهم سيعيشون في نظام ديمقراطيّ يوفّر لهم الحريّة ويطبّق النظام الديمقراطيّ فيه بطريقة عصريّة، ولكنّ تحوّل المجتمع من وطأة الأنظمة الدكتاتوريّة إلى طور الاستعمار، فطور الحرب الطائفيّة أو النزاعات القبليّة والفوضى، وفي هذه الأجواء التي تضعف فيها سلطة الدولة تجد الحركات التكفيريّة العنيفة أرضيّة خصبة لتوسيع نشاطها ونشر أفكارها وتدريب مقاتليها. فقد هيّأ الاحتلال الأمريكي للعراق واتباع سياسة طائفيّة الأرضيّة الملائمة لانتشار الأصوليّة وتحوّلها إلى مشروع دولة إسلاميّة. أمّا في ليبيا، فقد أدّى سقوط النظام إلى حالة من الفوضى جعلت التنظيمات الإرهابيّة تجد مجالا واسعا للنشاط وعتادا من السلاح للتوسّع والانتشار في مجتمع قائم على بنية قبليّة أساسها الغنيمة وعقليّة الغلبة[6]. ولهذا، فالصراع لا يزال قائما بين التنظيمات التكفيريّة العنيفة والجيش من أجل البحث عن نواة صلبة للدولة ولغة السلاح مقدّمة على لغة الحوار.

لقد عجزت تلك الشعوب بحكم ميراث الصراعات الطائفيّة المدعوم من أطراف إقليميّة ودوليّة عن إيجاد صيغ للتوافق وإبعاد شبح الحرب الأهليّة. فقد تجلّى للعيان ضعف النسيج الوطنيّ واستفحال البنية القبليّة التي حالت دون إيجاد صيغ للتوافق حول الاستفادة من الثروات الباطنيّة، بل إنّ تلك الثروات قد تحوّلت إلى وبال على شعوبها حين صار كلّ الطامعين فيها يتقاتلون على أرضها إمّا بشكل مباشر أو عن طريق حروب بالوكالة تخوضها تنظيمات تكفيريّة عنيفة. وليس التدخّل العسكريّ للقضاء على تلك التنظيمات نهاية للأزمة وقضاء على أسبابها. فبناء مفهوم جديد للمواطنة يحقّق الصلح بين المواطنين ويوقف التدخّل الأجنبيّ بجميع أشكاله ليس بالأمر اليسير وهو يحتاج إلى جهود مضنية من أجل اقتسام المصالح وصلح الأطراف المتقاتلة على أرض العراق. والوضع الليبيّ بدوره يحتاج إلى إرادة سياسيّة تقود إلى حكم فيدراليّ يوزّع الثروة بين القبائل على قدر توزيعه السلطة، وهي الصيغة المثلى التي تمكّن من التوافق بين الأطراف المتنازعة وإيقاف الصراعات الداخليّة وسحب البساط من تحت التنظيمات التكفيريّة العنيفة، وهو ما يمكن أن يوّفر أمنا ليس لليبيين فحسب، وإنما لجيرانهم في مصر وتونس والجزائر.

إنّ المشاريع الأصوليّة باقية ببقاء أسبابها وزائلة بزوالها، ولذلك فالمسلم اليوم يقف أمام أزمة حقيقيّة

وليست الصيغ السياسيّة وحدها الكفيلة بالقضاء على الإرهاب، فالنظم التربويّة ووسائل الإعلام أضحت بدورها مسؤولة عن إعادة تشكيل الشخصيّة الوطنيّة. فالفكر التكفيري العنيف متّصل لا محالة بأطر الأصوليّة التي يستغلّ أتباعها الفضاءات الدينيّة كالمساجد والكتاتيب والمدارس القرآنيّة ووسائل التواصل الحديثة من أجل نشر ثقافة الموت وعقليّة التخاصم بدل قيم الحياة والتواصل مع الآخر والتنافس من أجل الخلق والإبداع. فإصلاح التعليم بات مرتبطا بتوجيه طاقات المتعلّمين نحو الخلق والإبداع بدل عقليّة التباكي على الماضي ومحاولة استرجاعه بقوّة السلاح. فهذا المتخيّل من شأنه أن يعطّل العمل الإبداعيّ والفكر النقديّ ويحوّل البشر إلى كائنات دوغمائيّة لا همّ لها سوى إكراه الناس على أن يؤمنوا ويتهيّؤوا ليوم القيامة. "ومن هنا استخفاف الأصوليين المتطرفين بالحياة البشريّة؛ فهم يستطيعون أن يقتلوا آلاف الأشخاص بكلّ طمأنينة وراحة ضمير لأنّ هؤلاء كفّار في نظرهم، وبالتالي فلا قيمة لهم على الإطلاق. إنّهم يقعون خارج الحقيقة المطلقة، المقدّسة، المتعالية."[7]

خلاصة القول إنّ المشاريع الأصوليّة باقية ببقاء أسبابها وزائلة بزوالها، ولذلك فالمسلم اليوم يقف أمام أزمة حقيقيّة عمادها نموّ ديمغرافيّ ضاقت به أسباب العيش الكريم وكثرت به البطالة. وانسداد أفق لا يحمل له الساسة أو المثقفون حلولا عمليّة. وفشل إيديولوجيّ ذريع لكلّ التجارب الدولتيّة بما في ذلك الأنظمة التي شهدت تحولات ديمقراطيّة. وبرامج تعليميّة في حاجة إلى التحديث وإعلام على هامش المجتمع. وشعوب فشلت مشاريع صمتها وولائها كفشل مشاريع ثورتها واحتجاجها. وما الحركات الأصوليّة سوى عنصر داخل هذه الشبكة المعقّدة تتفاعل تفاعلا جدليّا مع ضعفها وقوتها.

[1] يقول عبد الباري عطوان واصفا جغرافيّة الدولة الإسلامية في بداية تمدّدها وأوج قوّتها: "فهذه هي المرّة الأولى، ومنذ مئات السنين تقريبا، يستطيع تنظيم السيطرة بالكامل على مساحة جغرافيّة في حجم دولة بريطانيا تي أقامت أكبر الإمبراطوريات في التاريخ الحديث. فالدولة الإسلاميّة تقوم، وحتى كتابة هذه السطور على نصف العراق ونصف سورية.." عبد الباري عطوان، الدولة الإسلاميّة الجذور، التوحّش، المستقبل، ط1، بيروت، دار الساقي، 2015، ص9

[2] انظر مثلا: أبو النور حمد أبو النور حسن، يورغن هابرماس الأخلاق والتواصل، ط1، بيروت، دار التورير، 2012، ص ص 131- 144.

[3] العقل التواصليّ لديه "فاعليّة تتجاوز العقل المتمركز حول الذات، والعقل الشموليّ المنغلق الذي يدّعي أنّه يتضمّن كلّ شيء، والعقل الأداتي الوضعيّ الذي يفتّت ويجزّئ الواقع ويحول كل شيء إلى موضوع جزئيّ حتّى العقل نفسه". المرجع نفسه، ص 135

[4] كولن ولسون، التاريخ الإجرامي للجنس البشري، (ترجمة رفعت السيد علي)، ط1، القاهرة، جماعة حور الثقافيّة، 2001، ص 151

[5] قدّرت بعض المصادر أن عدد القتلى العراقيين 340 ألفا وأنّ عدد القتلى الإيرانيين 730 ألفا. وأنفقت العراق على شراء الأسلحة والمعدات 159 مليار دولار وبالمقابل أنفقت إيران 69 مليار دولار.

انظر: عبد الحليم أبو غزالة، الحرب العراقيّة الإيرانيّة 1980- 1988، ط2، وكالة الأهرام للنشر والتوزيع، 1998، ص 6

[6] انظر مثلا: المنصف ونّاس، الشخصيّة الليبيّة ثالوث القبيلة والغنيمة والغلبة، ط1، تونس، الدار المتوسطية للنشر، 2014، ص ص 27- 40

[7] هاشم صالح، معضلة الأصوليّة الإسلاميّة، ط2، بيروت، دار الطليعة، 2008، ص86