بنية سوق المعلومات في عصر الإنترنت


فئة :  مقالات

بنية سوق المعلومات في عصر الإنترنت

بنية سوق المعلومات في عصر الإنترنت: بين الديكارتية المجحفة والداروينية المقلوبة

أيمن البوغانمي

الملخص:

يسعى هذا المقال إلى تقديم وصف لتطور سوق المعلومات في عصر الرقمنة، ويقول إن انتشار الإنترنت قد أدى إلى فقدان هذه السوق لقواعدها المنظمة ولحراس مداخلها. وقد أدى تحرير سوق المعلومات لمنافسة محمومة غير مسبوقة بين مختلف العناصر المكونة لها، في حين تسببت دمقرطة العرض عليها في تدمير العلاقات الهرمية التي كانت تحكم هذه السوق، مع إنشاء تماه بين منتجي المعلومات ومستهلكيها. فلقد كانت هذه الديناميكيات التي تقف التكنولوجيا وراءها مصدر أحلام كبرى تمثلت عناوينها في إنهاء التضليل وإنشاء مجتمع المعرفة، ولكن أثبتت الأيام أنها في الحقيقة سلاح ذو حدين؛ فالتضخم الكمي للمعطيات قد رافقه تراجع نوعي في محتواها.

إن هذا المنزلق، إذ يغازل الغرائز الأكثر وضاعة في نفس الإنسان، فإنه ليس بناجم عن مؤامرة محبوكة أو خطة مرسومة؛ ذلك أن الانحرافات الحالية، إنما هي أعراض جانبية من طبيعة التطور والحرية والديمقراطية. ولعل المأزق يتبدى حين لا تؤدي دراسة هذه الانحرافات إلى اكتشاف حلول واضحة لمقاومتها، وهو ما يضفي على الخلاصات مسحة من التشاؤم بحكم أن الانحراف الذي يؤدي إليه سوق المعلومات ودمقرطة العرض عليها متأصل في المنطق الداخلي الذي يحكمها؛ ما يعني أن التهديد الأكبر للتطور والديمقراطية ينبع من تعاظم تحقق مكموناتها بفضل ما تسمح به اليوم التكنولوجيا.

مقدمة:

حين تُطرح قضية الإعلام نقدياً، يذهب الكثيرون إلى اتهام وسائله ومؤسساته بالتضليل المتعمد والتواطؤ المحض خدمة لمصالح نخبوية لا تحبّذ انتشار الوعي وظهور الحقيقة. ولا شك في أن في هذه التهمة لها ما يبررها وما ينفيها في الوقت نفسه. لها ما يبررها لأن وسائل الإعلام مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ببنى السلطة ومراكز النفوذ. ولكن لهذه التهمة أيضاً ما ينفيها، خاصة وأنها تقوم على التعميم الذي لا يميّز بين الفويرقات، فلا يفصل بين غث أو سمين، ومعلوم أن في التفاصيل تسكن الشياطين.

لو أن مشكلة الإعلام اقتصرت على من يقف وراءه من قوى شريرة لهان الأمر وليسر التحدي. فلا شك في أن تعدد المشهد الإعلامي يكفي لضمان بقاء الأفضل، ومن ثم الإطاحة بتلك القوى الشريرة في إطار سوق حرة للأفكار على الطريقة الليبرالية[1]. أو لعل النقاش الديمقراطي يؤدي، كما ذهب إلى ذلك هابرماس وأتباعه، إلى نشأة مجال عام يغلّب العقل التواصلي وينتصر للمصلحة العامة من الواضح أن الأمر أكثر تعقيداً.

لئن كانت التهمة الموجهة للإعلام[2] في عمومه، توفّر سرديّة مغرية، فإنها قاصرة على استيعاب أصول التضليل والمنطق الذي يحكمه. ويمكن اختصارها في ما نعبر عنه بمفارقة دمقرطة المعلومة. وتعني أن تعميم تكنولوجيا إنشاء المعلومة ونشرها لا يؤدي، كما قد يذهب إليه الحدس، إلى بقاء الأفضل وتفوق الحقيقة، بل إلى هيمنة الأرذل وانتشار الأتفه. ويقترح هذا المقال تحليل بعض الآليات التي تفسر هذه المفارقة المرتبطة ببنية سوق المعلومات في زمن الرقمنة وفي عصر الإنترنت، وهو يبدأ بتنزيل الموضوع في سياقه فلسفياً وتاريخياً. أما فلسفياً، وهو موضوع العنصر الأول، فنقترح الانطلاق من مبدأ الحق في الشك، الذي بدأ مع ديكارت، لبيان تبعات تعميمه في ظل غياب الصرامة المنهجية وواجب المسؤولية. أما تاريخياً، فإن النقطة الثانية تسوق، في اختصار شديد، قراءة كلية لتدرج الإنسانية في القدرة على إنتاج المعلومات وحفظها ومراكمتها ونقلها. لقد مكنت هذه القدرة من إنشاء سوق للمعلومات تهيكل تاريخياً، بالإضافة إلى ما يحكمه من عرض وطلب، حول رغبة مختلف أشكال السلطة في السيطرة على مداخله بما يمكنها من صياغة المجال العام، بل وصناعة الرأي العام. ومن ثم، فإن الحق في الشك كان مقيداً بالضرورة بالصعوبات التقنية المتعلقة بسوق المعلومات باعتبار أن ارتفاع القدرة على تداول الآراء المختلفة قد اقترن بزيادة رغبة السلطة في التحكم في مداخل سوق المعلومات وما يتدفق في جداولها من معطيات.

لقد كسرت الإنترنت تلك الإرادة؛ وذلك بتحرير سوق المعلومات ودمقرطة العرض فيها. إنه المحور الذي يتناوله الجزء الثالث من هذا المقال. وفيه تمهيد للجزء الرابع الذي يطرح المفارقة الرئيسة التي أدت إليها الإنترنت في إعادتها لصياغة سوق المعلومات. فلئن أطلق مسار تحريرها ودمقرطة العرض فيها العنان لأحلام تفوّق الحقيقة وانتشار التسامح، فإن الواقع أقرب لإثبات العكس. حيث إن التكنولوجيا الجديدة تنزع لخدمة مختلف أشكال الانغلاق والغلط في إطار ما يمكن التعبير عنه بداروينية مقلوبة ليس البقاء فيها للأفضل، بل للأرذل. وتقديم بعض التفسيرات العامة لهذه الظاهرة هو غاية العنصر الخامس والأخير من هذا المقال.

1. الحق في الشك وتبعات تعميمه:

إذا كانت الحداثة قد بدأت مع روني ديكارت، فإنها قد قامت على تجربة في الشك. وإذ يركّز الفلاسفة ومؤرخو الأفكار على دور الشك الديكارتي، باعتباره منهجاً ووسيلة، في تفسير النهضة العلمية والحضارية التي تلته، فإنهم يقرون في الوقت نفسه بأن مشروعية هذا المبحث قائمة على اعتراف ضمني بتعميم الحق في الشك، ولاسيما في ظل تأكيد الفيلسوف الفرنسي على اشتراك الجميع في المنطق السليم. ومن دون الشك، لا مجال لتصحيح الأخطاء وتطوير العلوم والمعرفة.

في المقابل، يغفل الكثيرون عن واحدة من أبرز تبعات التجربة الديكارتية، ألا وهي أن الحق في الشك لا يختلف جوهرياً عن غيره من الحقوق؛ أي إن ممارسته تفترض المسؤولية، وهي من ثم تتضمن واجبات يضيع الحق بانتفائها. ودليل ذلك، أن إمعان ديكارت في توسيع دائرة الشك توقف حين اصطدم بالكوجيتو، بما مكّنه من تجنب العدمية التي يؤدي إليها الشك حين يكون غاية في حد ذاته، أو حين يصبح وسيلة لتفكيك كل أشكال السلطة بغض النظر عن مشروعية وجودها.

ذاك هو الفخ الذي يقع فيه اليوم أصحاب سردية القوى الشريرة التي يفترض أنها تقف وراء الإعلام. وكأن اطمئنانهم لهذه التهمة يعفيهم من مسؤولية فحصها وبيان حدودها، وهو ما يفسر سهولة تفوقهم على خصومهم، ولاسيما في المنابر الإعلامية؛ إذ إنهم يطالبون كل من عارض مواقفهم بالانطلاق من معتقدهم بوجود تلك القوى، ثم يقلبون مسؤولية البرهنة من خلال المطالبة بإثبات نفيها. وكما هو معلوم، فإن إثبات النفي مستحيل منطقياً. ومثال ذلك أنه من السهل إثبات وجود الأسد، في حين أنه من المستحيل إثبات عدم وجود الغول. فعدم الوجود قناعة لا يمكن أن تتعدى التسليم بالسردية العلمية التي تنفي بعض الممكنات الذهنية. وتلك عقيدة، على قوتها، مستباحة، إذ يكفي لخصومها التذكير بأن العلم كثيراً ما أخطأ في الماضي، كي يستفيدوا مما كان أكده الفيلسوف البريطاني دافيد هيوم من عجز المعرفة الإمبريقية عن إثبات الحقيقة. وهذا العجز أكبر حين يكون قائماً على النفي، من قبيل عدم مشاهدة الغول.

يقول أحد الفلاسفة: إن سردية خاطئة، حين تتميز بالبساطة، عادة ما تكون أكثر فعالية من أية سردية صحيحة حين تقترن بالتعقيد. ولا شك في أن اتهام الإعلام، جميعاً ومن دون تمييز، بالعمل على تضليل الرأي العام يوفر شرط البساطة. ولكن شعبيته تعود أيضاً لتطور علاقة الناس بكل أشكال السلطة سلبياً. فليس الإعلام وحده من يقع تحت طائل القول بتحالف المصالح من أجل تضليل الرأي العام. كل أشكال السلطة، سياسية كانت أو اقتصادية أو حتى علمية، تجد نفسها فريسة للديناميكية التي أطلقها ديكارت والتي شهدت دمقرطة شاملة انتقل بموجبها الحق في الشك من خدمة الموضوعية والعلم إلى تأجيج الذاتية وتغذية الخرافة، وهو ما يعني أن معضلة العصر تكمن في أن القوة التي تدفع نحو الصرامة العلمية والتكنولوجية والتقييم الموضوعي الدائم للمعارف الأكاديمية هي التي تشجع على انتشار التبسيط وغلبة العقائد الساذجة في المجال العام.

وتندرج نظرية المؤامرة ضمن أشكال النقد الراديكالي للهيمنة. كما أنها تمثل، بالنسبة إلى أصحابها، استجابة لمبدأ الاستقلالية في التفكير في عالم يرفض التلقين ويكره التقليد. ومن ذلك ما يفاخر به المعلمون، على اختلاف مستوياتهم واختصاصاتهم، من أن غايتهم الأساسية هي تدريب الناشئة على امتلاك الحس النقدي من أجل تطوير آرائهم الخاصة.

إن نظرية المؤامرة تقدّم خدمة لعقول تبحث عن المعنى في زمن غلبة التقنية وتراكم التفاصيل؛ إذ تضفي الانسجام على معطيات كثيرة مشتتة تربط بينها وفق حبكة منطقية لا انقطاع فيها. وفي ذلك استجابة لتعطش أصحابها للفهم وتجاوز لزخم المعلومات وحدة وتيرتها. وفيه أيضاً ثأر من المختصين ذوي النزعات النخبوية، أولئك التكنوقراط المتخلين عن المعاني الكلية لفائدة ميكانيزمات جزئية ليست إلا عنصراً من منظومة الهيمنة التي تجعل منهم أداة أو ضحية للقوى التي تقف وراءهم.

تزداد فعالية السرديات الساذجة بزيادة نزوعها نحو أحادية الأسباب، ولا بأس إن أدى ذلك إلى إبدال تعقيد الواقع ببساطة التمثل ما دامت السردية المعتمدة تقوم على الشك الذي هو أمارة الذكاء وتدعي إزاحة الهيمنة. وتلك هي غاية المعرفة اليوم. فقد أقر روّادها بأنها لم تعد ترمي إلى إدراك الحقيقة، لأن الحقيقة بكل بساطة غير موجودة[3]. لقد أصبح دور المعرفة تحقيق أثر إيجابي في الواقع. وعليه، فلا شك في أن مكافحة الهيمنة وتفكيك البنى الخفية للسلطة، باعتبارها غاية محمودة، تكفي لضمان الشرعية والمقبولية لنظرية المؤامرة[4].

ولئن كان الحق في الشك، بالمعنى الحديث، يضمن مشروعية ولوج السرديات الساذجة مجال العام، بل وهيمنتها عليه أحياناً، فإن نظرية المؤامرة ليست بالجديدة. فمن طبع السلطة بمختلف أنماطها أن تكون موضوعاً للاتهام. ولكن السياق الحالي يتميز بارتفاع مهول لفعالية التشكيك بما يعطيه مصداقية متعاظمة تخدم الركن المظلم من العقلانية[5]. ولئن كان هذا الركن يهدد اليوم بغزو باقي عناصر الوعي، فإن ذلك لا يعني أن جيل الحاضر أكثر غباء من سابقيه. كل ما في الأمر أن التكنولوجيا الحديثة قد غيرت بنية سوق المعلومات لغير صالح الصرامة والموضوعية؛ ذلك أن تحرير هذه السوق ودمقرطة مسار العرض فيها يسمح اليوم بنقل أنماط التضليل من ضيق بوتقة الخاص إلى رحاب المجال العام. ولكن قبل بيان أسباب هذا التغيير الراهن، لا بد من التعرض لنبذة تاريخية قصيرة عن ظروف نشأة سوق المعلومات والدور الحاسم الذي لعبته قديماً القدرة على السيطرة على مداخلها الرئيسة في تشكيل المجال العام.

2. رهان السيطرة على مداخل سوق المعلومات:

لقد تنظمت سوق المعلومات تاريخياً حول ما يمكن تسميته بحراس مداخلها. ففي عالم تضيع فيه أكثر المعلومات الّتي ينشئها الإنسان في حياته، يسهل التحكم في فحوى الأخبار الّتي تستحق الذكر والبقاء. وبما أن روافد المجال العام من المعطيات كانت في ماضي الزمان أشبه ما تكون بالقنوات الجافة أو بالجداول المترقرقة، أعاق يسر السيطرة عليها تطوّر حرية التعبير. ويمكن في هذا الإطار التمييز بين ما قبل الكتابة وما بعدها، ثم ما قبل طابعة غوتنبيرغ وما بعدها.

قبل اختراع الكتابة، كانت الذاكرة الإنسانية تشكل الحافظة الأساسية للمعلومة. وعلى الرغم من أهمية هذا المحمل البيولوجي لبقاء الإنسان وتطوره، فإن نجاعته كانت محدودة في نشر المعطيات أفقياً، عبر المناطق الجغرافية المختلفة، أو عمودياً، من خلال الأجيال المتعاقبة. وهو ما يفسر ارتباط التاريخ بظهور الكتابة التي سمحت بمراكمة المعلومات تدريجياً. فأنشأت ما يمكن وصفه بجداول صغيرة تتدفق كي تنشئ المجال العام أو تثريه.

على الرغم من أهمية هذه الثورة، التي لا ندين لها بأقل من نشوء التاريخ كما نعرفه اليوم، فإن سلاح المعلومات ظل في عمومه حكراً على خاصة الخاصة. فقبل ظهور الطباعة كانت الجداول التي تصل إلى العامة منحصرة تقريباً في المؤسسات الدينية؛ وذلك لأسباب تقنية أساساً. فأساليب انتقال المعلومات على نطاق واسع خارج قنواتها كانت منعدمة. ومن ثم، فإن تداول الخبر كان حكراً على الأقلية، حتّى أن أكثر أصحاب السلطة لم يكونوا يكلّفون أنفسهم عناء السعي للتحكم في مسالك انتقال المعلومات إلا في هذه المستويات. فلا داعي لتجفيف ينابيع إذا كانت مياهها تتبخر قبل الوصول إلى السفح.

في سياق كهذا، لم يكن للسرديات غير الرسمية أي حظ في اختراق المجال العام إلا إذا توافرت فيها شروط بساطة الحبكة وإثارة المحتوى والمطابقة مع الأفكار المسبقة. فالانتقال الشفوي لا يتحمل التركيب والبنى الحجاجية المعقدة، أو حتّى مخالفة المألوف. ولعل إحدى السرديّات تصل إلى مستوى من الانتشار، فتصبح عقيدة ممتدة.

حينها فقط، تسترعي اهتمام أصحاب السلطة، فإذا رأوا أنها تخدم سلطانهم، فإنهم يشجعون استمرار انتشارها، بل وقد يتبنونها. أما إذا رأوها مخالفة لمصالحهم، فإنهم يبذلون الجهد في اجتثاثها خشية من تكرسها بما يهدد أركان حكمهم. ومثال ذلك أن علاقة الإمبراطورية الرومانية بالديانة المسيحية خلال قرونها الأولى قد تهيكلت حول هذه الثنائية.

لقد تغيرت المعادلة بعد انتشار الطباعة، إذ امتلأت جداول المعلومات وأصبحت تتدفق في المجال العام، فتعاظمت لدى السلطة الرغبة في تنظيمها إدراكاً منها بأن ارتفاع منسوب هذه الجداول قد يؤدي إلى إغراق المجال العام، أو على الأقل إلى ظهور أشكال من الوعي السياسي الّتي لا تخدم مصالحها. فجاء نموذج الحاكم المطلق كردة فعل من جنس التطوّر الحاصل. إذ ارتقى من خلاله الاستبداد في تفاعل مع سياقه الجديد فرضاً لإغلاق نوافذ المعلومات وانتقاء لما يحق له التدفق نحو المجال العام وما لا يحق.

وهكذا تهيكلت سوق المعلومات حديثة النشأة منذ البداية حول مداخلها والرغبة في السيطرة عليها. ولم تكن هذه الرغبة حكراً على السلطة، بل إنها كانت منتشرة لدى الكثير من عناصر النخب الأخرى؛ ذلك أن مقاومة إرادة الهيمنة لدى السلطة المطلقة قد احتاجت لشرعية الحقيقة، فظهرت فكرة الحق في المعلومة، ولكنها لم تظهر على أساس فتح مختلف نوافذها وإطلاق العنان لجداولها تجري في المجال العام حيث يشاء أصحابها. لقد جاءت على أساس اعتماد الحقيقة كمعيار لتنظيم الدخول لسوق المعلومات، وذلك باعتبار ما لهذه القيمة من جاذبية أخلاقية.

ولم يكن أكثر أصحاب السلطة ليقبلوا بالتنازل عن مصلحتهم كمحدد أساسي لطبيعة المعادلة. ولكن أمام التغيير المتزايد في موازين القوى، اضطر بعضهم لإعادة صياغة هذا المعيار، فكان الحديث عن المصلحة العامة وسيادة الدولة حلاً وسطاً لتعزيز الشرعية من خلال تحرير نسبي للمعلومة دون التخلي عن إمكانية الحد من تدفق أنهارها. وكانت المحصلة أن تهيكلت سوق المعلومات حول شكلين من أشكال الرقابة، يعتمد الأول سلطة الحاكم الّتي قد تزيد أو تنقص حسب معادلة توازنات القوة، ويقوم الثاني على قيمة الحقيقة الّتي ظلت الفيصل المنشود بين مختلف العناصر. وقصة تدافعهما أو تقاطعهما طويلة، تعبر عنها رمزياً علاقة السياسيين بالصحفيين في مراوحتها بين العداوة والصداقة، أو لعلها مراوحة بين الكفاح والسفاح.

إن الخلاصة الكبرى هي أكثر ما يعنينا هنا، لا تفاصيلها. ومفادها أن سوق المعلومات كانت قد تهيكلت تاريخياً على أساس ما ميّز مصادر تزويدها من شح متفاوت الدرجات[6]. وهو المعطى الّذي تغيّر تدريجياً بانتشار الصحافة وتطوّر وسائل الاتّصال السمعي والبصري. وكانت كل مرحلة جديدة تأتي بروافد إضافية، فتزيد في الحاجة إلى السيطرة على مداخل هذه السوق، ولكنها تجعلها أكثر عسراً. واستمرت هذه المعادلة الصعبة حتّى جاءت المرحلة الأخيرة بظهور الإنترنت وباقي منجزات التكنولوجيا المعاصرة الّتي دكت أسوار الرقابة على مداخل سوق المعلومات[7] من خلال آليتين هما تحرير انتشار المعلومة ودمقرطة عرضها.

3. تحرير سوق المعلومات ودمقرطة العرض فيها:

يرجع نجاح الإنترنت أساساً لاستجابتها للقيمتين اللتين هيمنتا على مخيلة القرن العشرين، وهما الحرية والمساواة. فعلى عكس كل سابقاتها، مثلت الشبكة العنكبوتية التكنولوجيا الّتي حولت هاتين القيمتين إلى حقيقة ملموسة في مجال المعلومات. ذلك أن انتشار وسائل الاتصال السمعي والبصري كان قد مكّن من دمقرطة الطلب دون العرض. فانتشار المذياع منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، ثم التلفزيون منذ خمسينياته وستينياته، وسّع دائرة المتلقين بنسق لم تكن الصحافة المكتوبة لتدركه. ولكن في المقابل، سارعت أغلب الدول لوضع يدها على العرض من خلال أشكال متفاوتة من الاحتكار الرسمي، أو على الأقل الرقابة على محتوى الإعلام السمعي والبصري.

وعلى الرغم من التحرير التدريجي الذي شهده هذا المجال، والذي نقل العرض من الندرة إلى الوفرة ثم إلى التخمة[8]، وذلك من خلال ظهور القنوات الخاصة وتزايد دور الإشهار كمصدر لتمويلها، فإن طبيعة المذياع والتلفزيون فرضت نخبوية بنيوية في العلاقة بين العرض والطلب. صحيح أن تنوع العرض، الذي تحول إلى قيمة مهيمنة عوضت تدريجياً قيمة الحقيقة كمعيار لتقييم المشهد الإعلامي[9]، قد خلق منافسة جعلته يتأثر بطبيعة الطلب. ولكن هيكلة ذلك الطلب ظلت قائمة على سلبية الجمهور المتلقي الذي تقف قدرته على التأثير عند حجم متابعته لإحدى القنوات أو بعض البرامج دون سواها، في ظل خروج المشهد الإعلامي عن السيطرة وما عرفه العرض فيه من تضخم[10] ومن منافسة محمومة أدت إلى الفوضى.[11]

وتكمن أهمية هذه المرحلة من التأثير السلبي للجمهور على العرض في كونها تسمح بتحميل المتلقي لجزء من المسؤولية عما نزع إليه الإعلام من تفضيل للإثارة والترفيه على حساب العمق وجودة المحتوى؛ أي إن محتوى الإعلام يعبر أولاً وقبل كل شيء، على الميول المهيمنة عند المتلقي.

وقد تأكد هذا التوجه العام، حين قلبت الإنترنت كل المعادلات القديمة التي كانت تحكم سوق المعلومات، خاصة من خلال تحويلها الجمهور من سلبية التلقي إلى إيجابية الإنتاج. ذلك أنها فتحت حق التعبير في المجال العام للجميع تقريباً، بل إنها سمحت بإدماج المجال الخاص، بمختلف أشكال التعبير غير الرسمي التي تشكله، في المجال العام.

لا حصر لتبعات هذه الثورة. وأولها كسر كل أشكال الرقابة على تداول المعلومات المكتوبة كما تنظم منذ نشأته مع الكتابة، ثم الطباعة وما تلاها من وسائل حفظ المعلومة وانتقالها؛ أي إن الإنترنت أنهت هيمنة كل الأوصياء المتحكمين في مداخل المجال العام، سواء أكانوا أقاموا وصايتهم على شرعية القوة أم على قوة الشرعية. وهم عموماً أصحاب السلطة الماديّة أو المعنويّة من قبيل الأمراء ورجال الدين والصحفيين والأساتذة والعلماء وقادة الرأي الذين كانوا يسمحون بدخول السرديّات إلى سوق المعلومات أو يحجبونها عنه. ومثال ذلك أن صحيفة محلية أو وطنية قد تتلقى رسالة مجهولة المصدر عن تورط أحد الأعيان في الجريمة المنظمة أو في فضائح جنسية مثيرة. إنها قصة تروق لأي صحفي. ولكن أي صحفي يعلم خطورة نشرها، ولاسيما إذا عدم وسيلة إثباتها. ومن ثم، كان هذا الشكل من الرقابة القبلية يسمح بالتحكم في مد المعلومات وفحواها، حتّى في سياق الديمقراطية وحرية التعبير.

أحياناً ما كانت بعض المعلومات المحجوبة تفلت من شقوق الحواجز الشرعية، ولكن مدى انتشارها كان محدوداً لأسباب تقنية؛ فهي شبيهة بانتشار المعلومات قبل ظهور الطباعة، بل وحتى الكتابة؛ أي إنها تحتاج إلى بساطة السرد وإثارة المحتوى والمطابقة مع الأفكار المسبقة؛ ذلك أن فقدانها للشرعية يجعل تداولها على محامل مكتوبة أمراً استثنائياً، لأسباب كثيرة ليس أقلها ما يتضمنه ذلك من مخاطر على أصحابها. ومن ثم، كان الاعتماد أساساً على التناقل الشفوي؛ أي إن المحمل البيولوجي كان يلعب الدور الأساسي في حفظها. وبحكم ضعف الذاكرة الإنسانية كان أكثرها يضيع تدريجياً. ويفقد ما يبقى منها كل تركيب حجاجي أو تعقيد تفصيلي. فلا يبقى منها إلا ما يتوافق مع الأحكام المسبقة المنتشرة أصلاً حسب خصائص كل مجتمع. كما أن أثرها كان ضعيفاً في عمومه، وذلك بحكم اقتصارها على مجالات ضيقة هي أقرب للخاص منها للعام، وبسبب بطء نسق انتقالها. فأكثرها يصل إلى المسامع بعد أن تكون صلاحيتها قد انتهت أصلاً.

يعني تحرير سوق المعلومات ودمقرطة العرض فيها انهيار كل الحواجز الّتي كانت تقف أمام أكثر المعطيات، فلا تمنحها فرصة الدخول للمجال العام. فما لا يمكن نشره بالطرق التقليدية طباعة أو إذاعة، يجد اليوم حظه على الإنترنت[12]، وهي تطبيقة اخترعها، كما هو معلوم، عام (1989م) تيم بارنارسلي وروبارتكايو، حيث وفّرا واجهة مشتركة لعدد كبير من قاعدات المعلومات الموجودة بما حولها إلى شبكة تحاكي بيت العنكبوت، فحصل التواصل بين مختلف عناصرها.

ومن ثم، يكفي لأي شخص أن يكون له حاسوب فردي وخدمة تواصل على هذه الشبكة، حتّى يتسنى له الوصول إلى المعلومات المتاحة. وأهم من ذلك أنه يمكنه من خلالها إيصال أي معلومة يريد في سياق أفقي متحرر من الهرمية.[13]

لقد كان هذا التطوّر مصدر أمل لإنشاء مجتمع المعرفة على أساس أن الأفراد يملكون القدرات الكفيلة بالتقييم دون حاجة لأي وصي على المجال العام. ومن ذلك إعلان تيم بارنارسلي عن ميلاد مجتمع المعرفة، وكسر احتكار المعلومة، ووضع حد للبروباغاندا، ونهاية الزيف والأخبار الكاذبة، وبداية عصر الانفتاح والتسامح، وإسقاط كل أشكال التسلط[14].

لقد كانت العقود الثلاثة الماضية كفيلة بإثبات تهافت هذه الأحلام، فبدلاً عن عهد المعرفة والانفتاح والتسامح الّذي بشرت به، ظهر عهد ما بعد الحقيقة والشعبوية والتنافي، وهي نزعات غير جديدة. ولكنها تستفيد اليوم من ديناميكية تحرير سوق المعلومات ودمقرطة العرض فيها. إنها ديناميكية أطلقت العنان للنزعات الأقل عقلانية. فأغرقت المجال العام لغير صالح الصرامة العلمية والحقيقة الموضوعية.

وتشير أكثر المؤشرات إلى خطأ الحماسة المفرطة لكسر كل أشكال الانتقاء القبلي للمعلومة؛ ذلك أن تحميل مختلف أشكال الوصاية على مداخل المجال العام المسؤولية المطلقة على الجهل مغرق في التبسيط، إذ يتناسى أن المعلومة ليست إلا مادة خاماً، وأن الارتقاء بها إلى مستوى المعرفة يحتاج إلى كفاءة لا تتوافر لأكثر الناس، فضلاً على أن هذه الحاجة للكفاءة تزداد بقدر زيادة تراكم المعلومات[15]. فلئن كان توافر المعلومة يخدم الجميع مبدئياً في كل ما يرتبط بالحياة اليومية، من قبيل الاستجابة لرغبات الاستهلاك، فإن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال قدرة الجميع على الارتقاء بهذا المنجز العملي إلى مستوى تمثل المعنى وفهم التبعات والاقتراب من الحقيقة. والحقيقة أن العكس هو الصحيح، وهو ما دفع بعض المفكرين لاقتراح آليات جديدة من شأنها إعادة إنشاء شيء من الرقابة في المجال العام اعتماداً على مبادئ المصلحة العامة والتعددية الفعلية والانفتاح الديمقراطي والتداول المستنير[16].

4. حين تكون التكنولوجيا في خدمة الانغلاق:

إذا كان مليارات الناس يضخون يومياً المعطيات ضخاً على سوق المعلومات، فإن حجم تراكمها يتجاوز قدرة الأفراد على الاستيعاب أو المتابعة، بل حتّى على التمثل والخيال. ومن ذلك أن ما تنتجه الإنسانية اليوم من معلومات محفوظة على مختلف الشبكات الإلكترونية في سنة واحدة يفوق ما كانت الإنسانية قد راكمته خلال آلاف السنين التي فصلت ظهور الكتابة عن اختراع الإنترنت. في ظل هذه التخمة ليست الحقيقة، مع الأسف، المستفيد الأكبر باعتبار أن تضخم كم المعلومات يؤدي إلى إثراء كل السرديات وإلى تشنيج المنافسة بينها. وفي هذا السياق يكون اعتماد المناهج العلمية رديفاً لإرهاق عقلي ونفسي لا يتحمله أكثر الأفراد. ومن ثم، تكون ردة فعل كل واحد منهم البحث عن أرض صلبة تعصمه من أمواج المعلومات المتناقضة. وعادة ما يجدها في ما يرتاح له من تمثلات شمولية بسيطة تمنحه معاني كلية صالحة لأكثر المسائل التي يتعاطى معها.

إن مثل هذه التمثلات أكثر إراحة للنفس وأقرب إلى الفهم من النظريات العلمية الصارمة. ومن ثم، يفضلها عموم الناس في ظل عدم استعداد جلهم لاستثمار ما يكفي من جهد ووقت لاستيعاب ما تأتي به مختلف العلوم. ثم إن نجاعة السرديات الكلية في إسدال ستار الرضا على العقل أكبر بكثير مما توفره الآليات العلمية من تفسيرات جزئية تحيل في تفاصيلها على التعقيد التقني، وتشير في مجملها إلى غياب المعاني الكلية. بل إن هذا الانحياز للاختصاص يوحي بوجود إرادة نخبوية تتعمد تعقيد الأمور من أجل إعادة فرض الوصاية، أو حتى إخفاء الحقيقة من خلال التعتيم عليها بالتقنية.

إن نزوع متوسط العقل للبحث على الارتياح المعرفي من خلال المعاني الواضحة والسرديات الشمولية يجعل من تحرير سوق المعلومات، ودمقرطة العرض فيها، وسيلة لتقوية الانحياز الذهني للمواقف المسبقة[17]، بل إن هذه المواقف، حتى حين تندرج ضمن الأشد سذاجة والأقل عقلانية، تجد نفسها محمولة بديناميكيات سوق المعلومات الجديدة التي نشأت مع الإنترنت. فالكثرة تعني في ما تعني زيادة الحجج الّتي تؤكد تلك المواقف بغض النظر عن محتواها. ومهما كانت الفكرة الّتي يتبناها الفرد شاذة، فإنه يجد اليوم على شبكات التواصل الاجتماعي ومختلف محركات البحث ما يدعمها بما لا تكفي سنين عمره للاطلاع على تفاصيله. ومثال ذلك العودة القوية الّتي يشهدها العالم لمن يؤمنون بتسطح الأرض رفضاً لحقيقة كرويتها. ومن المؤكد أن هذه العقيدة، كغيرها، لم تختف أبداً بشكل كامل[18]. ولكن انحسارها أمام انتشار العلم وهيمنة النخب على قنوات نقل المعلومة حكم على أصحابها بالعزلة إلى أن تغيّر الوضع حين دُكّت حصون الوصاية على مداخل المجال العام؛ إذ إن وسائل التواصل الاجتماعي قد سمحت لأصحاب هذه العقيدة بكسر الحواجز الّتي تحيط بهم. فأسسوا جماعة نشطة يتقاسم أفرادها أعباء إثراء أدبياتها، فكانت النتيجة سيلاً من المعطيات والحجج الّتي قد لا تقنع الخصوم، ولكنها تعزز إيمان الأنصار[19]، وكل فرد منهم يزداد اقتناعاً كلما ازداد اطلاعاً.[20]

وقد يعلم هذا القارئ أو غيره في كل المجالات وبشتى الآراء، أن العالم متعدد وأن ما تحويه الإنترنت لا يقتصر على ما يؤيد آراءه. ولكنه يعدم الوقت والجهد والرغبة للاطلاع على شيء آخر. ولماذا يقدم على ذلك ما دام مقيماً في حدائق عالمه، بين أهله وناسه، يحميه سور قناعاته الّذي لا يسمع من ورائه إلا زخماً أعجمياً مفزعاً، يعزز الشعور لديه بأنه محق، وبأن الآخر المختلف إنما يزوّر الحقيقة ليفتن القلوب والعقول.[21]

ثم إن هذا الآخر يفقد على الإنترنت جزءاً من كيانه الإنساني الذي يجعله يفرض التنوع على من يحيطون به. ففي الواقع لا تستطيع أن تلغي وجود جارك أو زميلك في العمل لمجرد أنه يختلف معك أو يسخر من آرائك. كل ما تستطيع فعله هو العمل على ضبط طبيعة العلاقة حسب استعدادات الأطراف المتداخلة ومصالحها. أما على الإنترنت، فما يسمى بالصديق، لنقل على فيسبوك مثلاً، هو كائن لا يفصل بينه وبين العدم إلا كبسة زر من هذا الطرف أو ذاك. ومن الطبيعي أن يسلّط ذاك المصير أولاً على المختلف؛ فهو الذي لا يروق سماعه[22]، بل إنه الغبي الأحمق؛ لأن الذكي عندي هو من يفكر مثلي.[23]

وليست العوالم المغلقة بالجديدة؛ ذلك أن الطيور على أشباهها تقع منذ أن وجدت الطيور. واقتداء بمثالها، يبحث الأفراد عن أشباههم الّذين يحتمون بهم من كل من يهدد راحتهم. ما تقوم به الإنترنت يتمثل في تعزيز هذا النزوع الطبيعي للانعزال بآليات الذكاء الاصطناعي. فخوارزميات محركات البحث وشبكات التواصل الاجتماعي تعمل كمصفاة تقوم بانتقاء أولي لما تفترض أن يشد اهتمام المستخدم[24]، وذلك وفق منطق التقارب بالاعتماد على استخداماته السابقة وآرائه المعلنة[25]. ولئن كانت هذه التقنية ترمي أساساً لمساعدة المستخدم إزاء الكم المهول من الاحتمالات الّتي لا مجال للحسم بينها أو حتى مجرد فحصها، فإنها تنتهي إلى تعزيز الانحياز الطبيعي للمواقف المسبقة بوسائل تكنولوجية تصل نجاعتها إلى عزل الناس وفق آراء لا مجال للتفاعل الإيجابي في ما بينها[26]. وإذ ينحصر النقاش في دوائرها المغلقة، يتعاظم أثر الانحياز آلياً، فينقص الاستعداد للانفتاح على الآخر.[27]

إنها عودة الوصاية والرقابة على دخول المعلومات. كل الاختلاف يكمن في أن البوّابات القديمة، المعتمدة على السلطة الماديّة والمعنويّة، كانت تحول بين جداول المعلومات وتدفقها في بحيرة المجال العام. أما بوّابات التكنولوجيا الجديدة، فإنها تعتمد على منطق التقارب حماية لدوائر الأفراد أن تغمرها محيطات المعلومات وأمواجها الهدّارة[28]، وهو ما يطال بعض المفكرين بتغييره من خلال إدماج مبدأ التعدد في خوارزميات محركات البحث.[29]

إن اعتماد مثل هذه الحلول ممكن تقنياً، ولكنه عسير اقتصادياً، وذلك بحكم طبيعة المنافسة على سوق المعلومات؛ فالتكالب على ما يسمى بالعقول المتوافرة، أي زمن الاستخدام الذي يخصصه المستهلكون، هو الذي غيّر المعايير. ومن ذلك أن الحفاظ على الأمن العام وحماية السرديّات الجامعة وغيرها من حجج الانتقاء القديم قد تراجعت لفائدة راحة الفرد والاستجابة لرغباته بغض النظر عن محتواها.[30]

وتلك نقطة ضعف قيمة التعددية كمبدأ بديهي وكضرورة حاسمة في صياغة أي مشهد إعلامي[31]، فضلاً عن سوق المعلومات شديد الانسياب الذي تمثله الإنترنت. وبما أن كل واحد فينا يحب أن تتأكد معتقداته، تكون النتيجة عموماً تثبيته في أفكاره المسبقة.[32]

5. الداروينية المقلوبة:

تكمن المشكلة في أن الابتعاد عن المسلمات قد يكون خطوة في الاتجاه الصحيح، ولكنه قد يكون أيضاً خطوة نحو مزيد من الانحراف، ذلك أن لأصحاب المسلمات مزيّة تفاضلية عن غيرهم من مستخدمي الإنترنت وباقي وسائط الاتّصال الاجتماعي، لا مجال لإنكارها، فهم ليسوا لقمة سائغة تتقاذفها معلوماتها المغلوطة وإشاعاتها المبثوثة وتأويلاتها المحبوكة على قياس نظريات المؤامرة مثلاً. أما أصحاب المواقف المهتزة، فلا قبل لهم بسيل حججها الّتي تبدأ بخلق الارتياب من كل سرديّة ذات مرجعية رسمية أو علمية أو معتمدة على أية سلطة مهما كانت شرعيتها[33]. والارتياب غير الشك. فالشك يدفع للسؤال من أجل اختبار أقوى الحجج. أما الارتياب، فإنه ينطلق من أضعفها من أجل إنشاء حالة من عدم الارتياح، بما يهيئ العقل، بعد ذلك، لتبني سرديّة بديلة قد لا تملك أدنى شروط الموضوعية، بل إن حججها تكون في أغلب الأحيان أضعف من الرواية الّتي نقضتها. وتنحصر قوتها في حبكتها القصصية وطبيعتها الكلية الّتي تضفي معاني شمولية على الظواهر المختلفة والمتشتتة، وهي عناصر تنتج شعوراً بالرضا من خلال الانكشاف التدريجي الّذي يشعر المرء من خلاله بأن كل قطع الصورة قد وقعت في مكانها. وبقدر تكاثر قطع الصورة، بقدر ازدياد الحاجة لمثل هذه الملاجئ الذهنية.

ومثال ذلك، ما يحيط الأحداث الإرهابية من تأويلات تدور جلها حول سؤال: من المستفيد من الجريمة؟ فتخلص إلى نتائج عبقرية بالمعنى الروائي، منها أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر (2001م) من فعل المخابرات الأمريكية. وقد راكمت هذه النظرية وغيرها عشرات الحجج ذات النفس العلمي والتحليل العقلي. وتشمل الفيزياء والجيولوجيا والتاريخ وتحليل الخطاب وغيرها[34]. وليست أية حجة منها ذات بال بالمعنى العلمي للكلمة[35]. ولكن يكفي تراكمها وتنسيقها في إطار سرديّة متكاملة لخلق الارتياب وإطلاق العنان للخيال الذي يتحول بموجب هذا المنطق من خدمة العقل إلى السيادة عليه.

وليست نظرية المؤامرة أو حتّى تسطح الأرض بأكثر العقائد شذوذاً. فمنها أيضاً القول بكذب رواية نزول الإنسان على سطح القمر، أو ادعاء الاتّصال بعوالم فضائية أو روحية تتحكم في عالمنا الأرضي، أو الإيمان بانتشار جواسيس يعملون لفائدة مخلوقات ما ورائية. قد تبدو هذه الرؤى هامشية لا أثر لها على الرأي العام. ولكنها تؤشر لضعف الحصانة الذهنية لدى الكثير من الأفراد.

وبما أن عدد المستفيدين من تحرير سوق المعلومات ومن دمقرطة العرض فيها في ازدياد مطرد، فإن ذلك يؤدي آلياً إلى ارتفاع عدد أولئك الذين قد يتحولون إلى تبني عقائد هدّامة، منها التطرف والإرهاب، ومنها ما يعادله خطورة، وإن كان أقل منه مشهدية ودرامية، من قبيل الإيمان بخطورة استخدام التلاقيح على الأطفال.[36]

وتزداد المشكلة تعقيداً إذا أخذنا بعين الاعتبار المنطق العام الذي يتهيكل وفقه عرض المعلومات على الإنترنت. فالقول بأنه عرض حر في إطار المساواة، على سلامته النظرية، مجانب للدقة عملياً.

إذ لا يأخذ بعين الاعتبار شكل المنافسة بين مكونات الشبكة العنكبوتية. فالقول بالمساواة لمجرد إتاحة المجال لكل الآراء يتجاهل مستوى المشهدية التي تتمتع بهذا بعض المضامين دون غيرها. والمشهدية مسألة حاسمة. ولو كانت غير ذلك لما كان للإشهار أي معنى.

حين نأخذ معيار المشهدية بعين الاعتبار، يكون من اليسير فهم اختلال التوازن في بنية عرض المعلومات على سوقها الإلكترونية الجديدة. فالمحتوى العلمي والخبر المفيد والتحليل العميق، كلها عناصر متوافرة على الإنترنت. ولكنها تجد نفسها في منافسة خاسرة مع محتويات أخرى تفوقها من حيث الكم والجاذبية. أما الكم فإن تضخمه في هذا المستوى نتيجة لما يتمتع به أصحاب بعض المعتقدات من محفّزات للنشاط المكثف على الإنترنت. ومثال ذلك أن الذي يؤمن بكروية الأرض، لا يبذل أي مجهود للتعريف بإيمانه. فتبني المواقف الرسمية لا يعطي تلك شحنة هووية التي تدفع لتعريف الذات بالتميز. وصاحبه أقرب لعدم الاكتراث باعتبار أن المسألة محسومة لديه. وفي المقابل، يعتقد من يتبنى مواقف شاذة بأن شذوذ رأيه نتيجة لهيمنة قوى مضللة لا بد من محاربتها من خلال الصدع بما يضنه حقيقة.

هذا في ما يخص الكم المعروض. أما في ما يتعلق بالجاذبية، فلا ينبغي تجاهل حقيقة بسيطة مفادها أن عرض المعلومات، إنما يستجيب للطلب عليها. وقد كان الطلب، إلى سنوات قليلة، مقيداً بكلياته. ومن ذلك أن أصحاب الآراء اليسارية أو اليمينية عادة ما يختارون اقتناء صحف ومشاهدة قنوات تلفزيونية قريبة من مواقفهم السياسية. ثم إنهم بعد ذلك لا يتحكمون في اختيار تفاصيل محتويات ما تعرضه عليهم. أما اليوم، فإن أي متصفح لموقع كيوتيوب يستطيع أن يختار ما يشاهد انطلاقاً من العناوين. ومن هنا، فإن عرض المعطيات لم يعد ينتظم من خلال مواقف كلية، بل حسب الحاجات الظرفية والمواقف الجزئية؛ أي إنه يستجيب لرغبة المستخدم في الاختيار بين عناوين لا يملك الوقت للاطلاع عليها كلها. وتلك الرغبة كثيراً ما تكون مرتبطة بلحظة الاختيار بما يجعلها تتأثر بالعنوان. وهو ما يمنح أسبقية كبيرة لعناوين الإثارة التي تستجيب لنزعات إنسانية بعيدة عن العمق الفكري أو السمو العقلي[37]. ومن ذلك، أن عنواناً يشير إلى صفع سياسي أو سبه من قبل أحد المواطنين أقدر على استدراج المستخدم من عنوان يقترح تحليلاً اقتصادياً لارتفاع قيمة الدولار أو انخفاضه. يعني هذا الكلام أن انطباع الحرية والمساواة الذي تحيل عليه الإنترنت يخفي ما تؤدي إليه بنية عرض المعلومات على السوق الجديدة التي أنشأتها من انحياز لمحفزات ناشر المعلومة على حساب حاجات متلقيها[38]. فالإنترنت، على الرغم من كل الآمال المعلقة عليها، لم تحسم اختلال التوازن بين مقدم المعلومة ومتلقيها.

ربما تكون الإنترنت، بإيهامها المتلقي بأنه منتج للمعلومة، قد زادت في إضعاف موقفه. ذلك أن القيمة المتزايدة للمعلومة تتناقض مع سعرها المتناقص. فإذا كان المواطن يحصل عليها مجّاناً ومن دون عناء أو فوارق في الزمن، فما هي أوراق الضغط الّتي يملكها للمطالبة بجودة المحتوى وصدق الخبر وعمق التحليل[39]. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ يمكن المغامرة بالقول بأن بنية سوق المعلومات الجديدة وهيكلة العرض فيها تخدم الرديء على حساب الحسن، وتغذي الغث من لحم السمين. فهي تنزع اليوم لخدمة الأحكام المسبقة والمعتقدات الشاذة والأخبار الهامشية والتتفيه المنمق. إذ يعطي غياب ضوابط الحوار ومقاييس الموضوعية في هذا السوق الأسبقية للجهل على حساب المعرفة وللأوهام على حساب العلم وللإشباع على حساب التحصيل. فتوازن القوى على سوق المعلومات المتحرر ذي العرض الديمقراطي لا يخدم أي أشكال السلطة، سواء أكانت مؤسساتية مرتبطة بالقوة أم ذاتية متعلقة بأصحابها وكفاءاتهم. والعلماء مثلاً لا يملكون الوقت ولا الرغبة ولا حتّى الإرادة لمقارعة الحجج المتهافتة والمتراكمة الّتي يتفنن خصومهم في لحنها. فيلقون المنديل ويغادرون حلبة صراع لا يخشون لكماتها، بل يزدرون غياب الحبال الّتي تحميها والقواعد الّتي تنظمها. ذاك منطق سليم بالمعنى العلمي. ولكنه استقالة صريحة من مسؤوليات المواطن والمثقف.

إن الطبيعة تأبى الفراغ. وطبيعة منظومة الإنترنت لا تعرفه أصلاً. فأمام تراجع الآراء المحكّمة يرتفع حضور الأوهام. وتنتهي هذه المسيرة باحتكار الحجج الأضعف للمجال العام في إطار انتقاء دارويني مقلوب. فالبقاء فيه ليس للأقوى، إلا إذا أولنا القوة لا على أساس الجودة، بل وفقاً للاستجابة لأكثر النزعات سلبية في الإنسان. تلك النزعات هي الحكم الفيصل اليوم. وعلى أساسها تعمل المنظومة الّتي توهم البعض أنها ستقضي على الجهل والدكتاتورية والرقابة. فإذا هي تنتهي إلى إنتاج شعبوية ذهنية تقوم على أساس ربط المتاح بما يطلبه الجمهور.

يصعب ديمقراطياً رفض ما جاءت به الإنترنت من تحرير لسوق المعلومات ومن دمقرطة للعرض فيها على اعتبار أن ذلك قد أنهى التمييز الاجتماعي والرقابة الهرمية التي كانت تتحكم في المداخل المؤدية إلى الرأي العام[40]. ولكن لا بد من الوعي بأن هذا المسار، إذ يخدم مبدئياً قيم الحرية والمساواة، فإنه يدفع نحو منزلق خطير تمتلك فيه المعتقدات الخائطة والأفكار الهدّامة والمواقف المغرقة في التبسيط حق الولوج للمجال العام، بل وفرصة الهيمنة عليه. وفي ذلك تهديد لمناخ النقاش العقلاني، خاصة في ظل سهولة انحراف حرية التعبير إلى التبجح بالجهل.

إن في تراجع تكلفة إنتاج المعلومة ونشرها وتراكم المعطيات وتوفرها عند الطلب خدمة للميول الأكثر قبحاً في نفس الإنسان، إذ تعني في ما تعني تحفيز الحاجة الطبيعية لتأكيد المواقف ودعمها من خلال إعطائها شكلاً عقلانياً وترسانة حجاجية، بل ومنطلقات ديكارتية. ويبقى السؤال: ما هو الحل؟

لا شك في أن توصيف المشكل أيسر من اقتراح الحلول. ولكن لا شك أيضاً في أن للتعليم دوراً حاسما في الإجابة عن هذا السؤال. ومن أولوياته في ظل السياق الجديد ضمان الحد الأدنى من الحصانة الذهنية حماية للفرد من نفسه في مسيرة تحرره المتزايدة. فالحس النقدي والقدرة الذاتية على التوقي من منزلقات التضخم الكمي على حساب الانتقاء النوعي هي الأسلحة التي تبقى بعد دك كل الحصون.

وأمام التضخم المهول الذي شهده كم المعلومات المتاحة، من الواضح أن استيفاء المعرفة قد أصبح ضرباً من العبث. فاستحالته تنضاف إلى انعدام جدواه. حين كانت المعلومات شحيحة أو سجينة متون الكتب، كانت لقدرة العقل البشري على الإحاطة بأكبر قدر ممكن منها معنى جوهري، إذ أنها الطريقة الوحيدة لاستدعائها حين الحاجة إليها.

أما اليوم، فمن الضروري التساؤل عن طبيعة وعن قدر المعرفة الّتي يحتاجها العقل، لا لاستدعاء المعلومات لأن أكثرها متاح بمجرد ضغط زر أو لمس شاشة[41]، ولكن للحفاظ على الحس النقدي وعلى ملكة التمييز وعلى وازع التناسق وتجنب التناقض وعلى الرغبة في الاقتراب من الحقيقة في سياق تكنولوجي يشجع على الاستسلام للمسلمات أو على الارتماء في أحضان الشك الراديكالي والنسبية المطلقة حيث لا معنى ولا حقيقة.

 

 

قائمة المراجع:

Baker, Edwin, Media Concentration and Democracy: Why Ownership Matters, Cambridge UniversityPress, New York, 2007.

Blomberg, Stephen, Harrington, Joseph, "A Theoryof Flexible Moderates and Rigid Extremists with an Application tothe US Congress", American Economic Review, 90, 2000, pp. 605-620.

Bobbio, Norberto, Liberalism and Democracy, Verso, London, 1990.

Boudon, Raymond, Pourquoi les intellectuels n’aiment pas le libéralisme, Odile Jacob, Paris, 2004

——, L’Art de se persuader, Fayard, Paris, 1990

Bronner, Gérald, La démocratie des crédules, Presses Universitaires de France, Paris, 2013

——, L’Empire des croyances, Presses Universitaires de France, Paris, 2003.

Castells, Manuel, Communication Power, Oxford University Press, Oxford, 2009.

Compaine, Benjamin, Douglas, Gomery, Who Owns the Media?, Lawrence Erlbaum Associates, Mahwah NJ, 2000

De Bens, Els, "Media BetweenCulture and Commerce: An Introduction", in, Els de Bens (ed.), Media Between Commerce and Culture, Intellect, Bristol, 2007.

Ellis, John, Seeing Things: Television in the Era of Uncertainty, I. B.Tauris, New York, 2000

Freedman, Des, The Politics of MediaPolicy, Polity Press, Cambridge, 2008.

Friedrich, J."Primary Detection andMinimization Strategies in Social Cognition: A Reinterpretation of Confirmation BiasPhenomena", Psychological Review, 100, 2, 1993, pp. 298-319.

Ganascia, Jean-Gabriel, Le Mythe de la Singularité, Seuil, Paris, 2017.

Garnham, Nicholas, Emancipation, the Media, and Modernity, Oxford University Press, Oxford 2000.

______, "The Media and the Public Sphere", in Craig Calhoun(ed.), Habermas and the Public Sphere, MIT Press, Cambridge, 1992, pp. 359-376.

Gitlin, Todd, Media Unlimited: How the Torrent ofImages and Sounds Overwhelms Our Lives, Henry Holt, New York, 2002.

Hargittai, Eszter "Content Diversity Online: Myth or Reality? ", inPhilip M. Napoli (ed), Media Diversity and Localism: Meaning andMetrics, Lawrence Erlbaum, Mahwah NJ, 2007, pp. 349-362.

Heath, Chip, Gonzalez, Rich, "Interaction with Others Increases Decision Confidence but notDecision Quality: Evidence against Information Collection Views of Interactive DecisionMaking", Organizational Behavior and Human Decision Processes, 61, 1995, pp 305-318.

Heller, David, "Taking a Closer Look: Hard Science andthe Collapse of the Word Trade Center", Garlic and Grass, 6, 2005. - http://www. garlicandgrass. org/issue6/Dave_Heller. cfm.

Hindman, Matthew, The Myth of Digital Democracy, Princeton University Press, Princeton, 2009

Krivine, Jean-Paul, "Vaccination: les alertes et leursconséquences", Science et Pseudo-Sciences, 291, 2010, pp. 117-118.

Lumby, Catherine, Gotcha: Life in a Tabloid World, Allen and Unwin, St Leonards, 1999.

Machill, Marcel, Markus, Beiler, Zenker, Martin, "Search-Engine Research: A European-American overview and Systematization of an Interdisciplinary and International Research Field", Media, Culture & Society, 30, 5, 2008, pp. 591-608.

Mansell, R., Wehn, U. Knowledge Societies: InformationTechnology for Sustainable Development, Oxford University Press, New York, 1998.

McLennan, Gregor, Pluralism, Open University Press, Buckingham, 1995

McNair, Brian, Cultural Chaos: Journalism, News and Power in a Globalised World, Routledge, London, 2006

Mole, Phil, "Les théories conspirationnistes autour du 11 septembre", Science et Pseudo-Sciences, 279, 2007, PP. 4-13.

Pariser, Eli, The Filter Bubble: What the Internet Is Hidingfrom you, Penguin Press, London, 2011

Rogers, Richard, Information Politicson the Web, MIT Press, Cambridge, 2004.

Sack, Warren, Kelly, John, Dale, Michael, "Searching the Net for Differences of Opinion", in Todd Davis and Seeta Gangadharan (eds.), Online Deliberation: Design, Research and Practice, CLSI Publications, London, 2008, pp. 95-104.

Shtulman, Andrew, Valcarcel, Joshua, "Scientific Knowledge Suppresses but Does not SupplantEarlier Intuitions", Cognition, 124, 2, 2012, pp. 209-215.

Sunstein, Cass, Republic. com 2. 0., Princeton University Press, Princeton, 2007

_______, "TheLaw of Group Polarization", in James Fishkin and Peter Laslett(eds.), Debating Deliberative Democracy, Blackwell, Oxford, 2003, pp. 80-101.

_______, Infotopia: How Many Minds Produce Knowledge, Oxford University Press, Oxford, 2006

Verhulst, Stefaan"Mediation, Mediators and New Intermediaries: Implications for theDesign of New Communications Policies", in Philip M. Napoli (ed.), Media Diversity and Localism: Meaning and Metrics, Lawrence Erlbaum, MahwahNJ, 2007

Williams Bruce A., Delli, Michael"Monica and Billall the Time and Everywhere: The Collapse of Gatekeeping andAgenda Setting in the New Media Environment", American Behavioral Scientist 47, 9, 2004.

Zittrain, Jonathan, The Future of the Internet and How to Stop it, Yale University Press, New Have 2008.

[1] . Norberto Bobbio, Liberalism and Democracy, London, Verso, 1990, pp. 21- 24.

[2] . Nicholas Garnham, "The Media and the Public Sphere", in Habermas and the Public Sphere, edited by Craig Calhoun, Cambridge, MIT Press, 1992, pp. 359-376.

[3] . Nicholas Garnham, Emancipation, the Media, and Modernity, Oxford, Oxford University Press, 2000, pp. 98-107.

[4] . Raymond Boudon, Pourquoi les intellectuels n’aiment pas le libéralisme, Paris, Odile Jacob, 2004.

[5] . Gérald Bronner, La démocratie des crédules, Paris, Presses Universitaires de France, 2013, pp. 19-20.

[6] . StefaanVerhulst, "Mediation, Mediators and New Intermediaries: Implications for the Design of New Communications Policies", in Media Diversity and Localism: Meaning and Metrics, edited by Philip M. Napoli, Mahwah NJ, Lawrence Erlbaum, 2007, p. 117

[7] . Benjamin Compaine and Gomery Douglas, Who Owns the Media?, Mahwah NJ, Lawrence Erlbaum Associates, 2000, p. 575

[8] . John Ellis, Seeing Things: Television in the Era of Uncertainty, New York, I. B. Tauris, 2000

[9] . Els De Bens, "Media Between Culture and Commerce: An Introduction", in Media Between Commerce and Culture, edited by Els de Bens, Bristol, Intellect, 2007, p. 11

[10] . Todd Gitlin, Media Unlimited: How the Torrent of Images and Sounds Overwhelms Our Lives, New York, Henry Holt, 2002

[11] . Brian McNair, Cultural Chaos: Journalism, News and Power in a Globalised World, London, Routledge, 2006

[12] . Catharine Lumby, Gotcha: Life in a Tabloid World, St Leonards, Allen and Unwin, 1999, p. xiii.

[13] . Manuel Castells, Communication Power, Oxford, Oxford University Press, 2009, p. 55

[14] . R. Mansell and U. Wehn, Knowledge Societies: Information Technology for Sustainable Development, New York, Oxford University Press, 1998

[15] . Bruce A. Williams and Michael Delli, "Monica and Bill all the Time and Everywhere: The Collapse of Gatekeeping and Agenda Setting in the New Media Environment", American BehavioralScientist, 47, 9, 2004, p. 1209

[16] . Cass Sunstein, Republic. com 2. 0. , Princeton, Princeton University Press, 2007, p. 193

[17] . Raymond Boudon, L’Art de se persuader, Paris, Fayard, 1990

[18] . Andrew Shtulman and Joshua Valcarcel, "Scientific Knowledge Suppresses but Does not Supplant Earlier Intuitions", Cognition, 124, 2, 2012, pp. 209-215

[19] . Cass Sunstein, Republic. com 2. 0. , op. cit. , p. 17

[20] . Stephen Blomberg and Joseph Harrington, "A Theory of Flexible Moderates and Rigid Extremists with an Application to the US Congress", American Economic Review, 90, 2000, pp. 605–620.

[21]. Chip Heath and Rich Gonzalez, "Interaction with Others Increases Decision Confidence but not Decision Quality: Evidence against Information Collection Views of Interactive Decision Making", Organizational Behavior and Human Decision Processes, 61, 1995, pp. 305-318

[22] . Stefaan Verhulst, "Mediation, Mediators and New Intermediaries: Implications for the Design of New Communications Policies", op. cit., pp. 125-126

[23] . Matthew Hindman, The Myth of Digital Democracy, Princeton, Princeton University Press, 2009

[24] . Ibid, pp. 80-93

[25] . Eli Pariser, The Filter Bubble: What the Internet Is Hiding from you, London, Penguin Press, 2011

[26] . Cass Sunstein, "The Law of Group Polarization", in Debating Deliberative Democracy, edited by James Fishkin and Peter Laslett, Oxford, Blackwell, 2003, pp. 80-101

[27] . J. Friedrich, "Primary Detection and Minimization Strategies in Social Cognition: A Reinterpretation of Confirmation Bias Phenomena", Psychological Review, 100, 2, 1993, pp. 298-319

[28] . Eszter Hargittai, "Content Diversity Online: Myth or Reality?", in Media Diversity and Localism: Meaning and Metrics, edited by Philip M. Napoli, Mahwah NJ, Lawrence Erlbaum, 2007, pp. 349-362; Marcel Machill, Beiler Markus and Martin Zenker, "Search-Engine Research: A European-American overview and Systematization of an Interdisciplinary and International Research Field", Media, Culture & Society, 30, 5, 2008, pp. 591-608

[29] . Warren Sack, John Kelly and Michael Dale, "Searching the Net for Differences of Opinion", in Online Deliberation: Design, Research and Practice, edited by Todd Davis and SeetaGangadharan, London, CLSI Publications, 2008, pp. 95-103

[30] . Des Freedman, The Politics of Media Policy, Cambridge, Polity Press, 2008, p. 79

[31].  Gregor McLennan, Pluralism, Buckingham, Open University Press, 1995, p. 7

[32].  Gérald Bronner, L’Empire des croyances, Paris, Presses Universitaires de France, 2003

[33] . Richard Rogers, Information Politics on the Web, Cambridge, MIT Press, 2004, p. 163

[34] . Phil Mole, "Les théories conspirationnistes autour du 11 septembre", Science et Pseudo-Sciences, 279, 2007, pp. 4-13

[35] . David Heller, "Taking a Closer Look: Hard Science and the Collapse of the Word Trade Center", Garlic and Grass, 6, 2005. - http://www.garlicandgrass.org/issue6/Dave_Heller.cfm.

[36] . J. P. Krivine, "Vaccination: les alertesetleursconséquences", Science et Pseudo-Sciences, 291, 2010, pp 117-118.

[37] . Cass Sunstein, Infotopia: How Many Minds Produce Knowledge, Oxford, Oxford University Press, 2006

[38] . Jonathan Zittrain, The Future of the Internet and How to Stop it, New Haven, Yale University Press, 2008

[39] . Edwin Baker, Media Concentration and Democracy: Why Ownership Matters, New York, Cambridge University Press, 2007, p. 116

[40] . Ibid, pp. 7-16

[41] Jean-Gabriel Ganascia, Le Mythe de la Singularité, Paris, Seuil, 2017, p. 31